الفصل الثامن والعشرون.

الفصل الثامن والعشرون.

قوله تعالى: ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾.

(نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ):

وبعد أن أشار الله سبحانه إلى أن الآثم والكفور يحاولان تعطيل مسيرة الهداية الإلهية، وتحدث عن بعض حالاتهما، وعن شخصيتهما غير المتوازنة، وعن دواعيهما الشهوية والغريزية، التي تؤثر عليهما في مختلف جهات السلوك. أعطى البرهان الصريح والصحيح على صحة ما ذكره سبحانه عن هذين الصنفين.. فقال: ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾..فخلق الله تعالى لهم دليل على معرفته بهم، وبحقيقة ذواتهم، وبدخائلهم، وبكل شيء يرتبط بهم، لأنه في موقع الهيمنة، والمالكية، والخالقية، والإشراف، والإمساك بكل ذرات وجودهم.

فهو إذن لا يخبرنا عن ظنون وحدسيات استفادها من تقييم ودراسة حركاتهم الظاهرية، ومقارنتها مع بعضها البعض. كما نفعل نحن البشر، حين نحكم على إنسان بالشجاعة، أو بالكرم، أو بالعدالة والتقوى، استناداً إلى مجموعة تصرفات وحركات.. جعلتنا نحدس بوجود تلك الصفات فيه، مع أنه لا شيء ينفي لنا احتمال أن يكون في الأمر خدعة أو رياء، وقد يتهم الولد أباه بالقسوة والغلظة عليه، والبغض له، بسبب معاملة له تهدف إلى تربيته تربية صالحة.. ولا يعرف أن قلبه يفيض حناناً وحباً له، حتى وهو ينهال عليه بالضرب الموجع..والخلاصة: أن من بنى شخصيتك، ومارس تكوينك، وركَّبك وصوَّرك، لهو الأعمق معرفة بك، ولذلك تحدث الله سبحانه هنا عن الخلق، لا عن الهيمنة، ولا عن المعرفة والعلم..وقد عبر بكلمة (نحن) ليظهر مقام عزته، وكبريائه من جهة. وليفهمنا أيضاً تسخير كل شيء وانقياده وخضوعه له.. فإذا ما كان لغيره تعالى نصيب من التكوين، فإنما هو بالله، ومن الله، وبإذن منه تبارك وتعالى..

(وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ):

ولم يكتف بالإخبار عن مجرد الخلق على سبيل الإجمال.. بل هو تعالى قد أتبع ذلك بالإشارة إلى التدخل في رسم كل تفاصيل وجودهم من الداخل، وبين لنا مستوى ربط كل شيء بالآخر. وحدد مدى تماسك وانشداد كل إلى كل.. فقال: ﴿ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾: والمراد بالأسر: الربط بقيد، وقد يكون هذا الربط ضعيفاً، وربما يكون شديداً..وقد بين الله تعالى لنا: أنه قد ربط كل جهات وجودهم بأمور تضبطها، وتخولها السير بالاتجاه الصحيح، لو أراد لها الإنسان أن تواصل سيرها في ذلك الاتجاه..ومن الواضح: أن ضابطة ورابطة كل شيء بحسبه، وبحسب ما يحتاج إليه، فمنها التكويني، والروحي، والأخلاقي، والفكري، والمفاهيمي، والاعتقادي.. بل ومنها ما هو اجتماعي، وعاطفي، وما إلى ذلك، مما يكون له تأثير في جعل مسيرة الإنسان في الحياة بالاتجاه الصحيح..فالله إذن.. قد قوَّى وأحكم تكوين هذا الإنسان، ورسم وجوده بصورة قويمة، وربط كل جهات وجوده بضوابط وروابط صحيحة قادرة على إنشاء علاقات سليمة له بكل ما يحيط به، وما يعنيه، وما يطمح إليه..ولم يقتصر تعالى على ذكر هذا الربط والأسر وحسب، بل هو قد تجاوز ذلك ليؤكد على قوته وإحكامه، وفي هذا دلالة ظاهرة على أن ثمة تعمداً للتوجيه نحو المعرفة الدقيقة، بكل تفاصيل وجود هذا الإنسان، وتعريفه بدرجة الهيمنة عليه، بهدف إقناعه بأن عليه أن لا يتنكّر لهذه العلاقة العميقة له مع الله سبحانه، وأن يستفيد من التوجيه الإلهي، الذي لا بد أن يكون أصدق توجيه؟!..كما أن عليه أن يبقى في دائرة تلك الضوابط التي جعلها الله تعالى له، لكي تحفظه من السقوط، وتصونه من الزلل والخطل..

إن التخلي عن تلك الضوابط، التي هي ضوابط وجوده كجسد، وروح، وشهوة، وغريزة، وعاطفة، ومجتمع.. و.. إن ذلك تدمير لمواقع القوة في داخل وجوده، وتمزيق لحقيقته، وتشويه لفطرته، وقطع للعلاقة مع تلك الضوابط.. سيؤدي بلا ريب، إلى الوهن والضعف، ثم إلى التمزق والتلاشي، بعد أن كان في غاية الإحكام والقوة، والانشداد والضبط..إن سعي الإنسان للقفز فوق هذه الضوابط والنواميس - بدلاً من الاعتراف بها، والانقياد لها - لهو جريمة كبرى، ما بعدها جريمة، يرتكبها في حق نفسه..

(وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً):

ثم أشار الله تعالى إلى استمرار وثبات، هذا التفضل الإلهي على البشر جميعاً، أفراداً وجماعات بالخلق، وبشد الأسر، حتى إذا أراد الإنسان أن يتمرد، وأن يسعى في إتلاف هذه الطاقات والقدرات، أو إحداث الوهن والضعف في ذلك الأسر المشدود، من خلال قطع علاقته بتلك الروابط ليصبح في مهب الريح.. - إذا أراد الإنسان ذلك - فإنه سوف لن يغير شيئاً في واقع السياسة الإلهية في الخلق، ولن يؤدي إلى الحرمان من شد الأسر. بل سوف يبقى ذلك رهناً بمشيئته سبحانه..أضف إلى ذلك: أن شد الأسر معناه: أن مجرد إفاضة الخلق على العباد، ليس هو آخر صلة لله بعباده.. بل الصلة تبقى وتستمر من أجل شد الأسر الذي أشار الله تعالى إليه بقوله: ﴿ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُم﴾..ثم تمتد هذه العلاقة وتزداد تجذراً، وعمقاً بامتداد الزمن، وبمقدار ما يتعرض له الإنسان من نجاحات وانتكاسات، فيما يرتبط بشد الأسر، أو بإضعافه..وبذلك يكون سبحانه قد أفهم الكفور والآثم، أنه بكفره وطغيانه لا يقدر على قطع علاقته بالله، ولا يستطيع أن يضعف هيمنة الله عليه، وأن يبطل مالكيته له. فهو دائماً في قبضته، وهو مقهور لإرادته.

وخروج العبد عن زي العبودية لا يعني أن ثمة تفوقاً وغلبة لإرادة العبد على الله، بل هو يعني: أن الله سبحانه يعامله بما أخذه على نفسه، فيما يرتبط بمعاملة المسرفين والجاحدين..

الأسر الإلهي:

وغني عن البيان: أن أسر الله للإنسان يختلف عن أسر الناس لبعضهم بعضاً، فإن أسر الناس لبعضهم معناه أن الآسر يقهر إرادة المأسور فقط، بهدف منعه عن ممارسة حريته، وسلب اختياره.. ولكن أسر الله للناس داخل في أصل تكوينهم، وفي واقع خلقهم وخلقتهم، ثم هو في نفس الوقت يعطيهم الخيار والاختيار..فمعصية الإنسان لله لا تعني تحرره من السيطرة الإلهية، ولا إلغاء الهيمنة المرتكزة إلى مقتضيات الخالقية والتكوين. بل هو خروج من طرف واحد وهو العاصي نفسه، دون أن يسقط إرادته تعالى عن التأثير. وإن عاملك الله باللطف والرأفة..

أما عصيان الناس لبعضهم بعضاً، ورفضهم للأسر، فهو يستبطن الخروج عن إرادة الآسر بكل المعاني المفروضة والمقترحة، وهذا هو الفرق بين عصيان المخلوق لخالقه، وعصيان الإنسان للحاكم والمتسلط عليه..

(وَإِذَا):

وكلمة (وَإِذَا) الشرطية تستعمل في مقام الجزم والحتم بحصول الشرط، وقد استخدمت هنا، للإلماح إلى أن هذا التبديل جزمي وحتمي، بمجرد حصول الإرادة التكوينية الإلهية..

(بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ):

وقد دل على ذلك تأكيده بالمفعول المطلق، وهو قوله تعالى: (تَبْدِيلاً).. بالإضافة إلى أن نفس خالقيته تعالى لهم، وشده لأسرهم، تدل دلالة صريحة على قدرته على هذا التبديل، وعلى أنه يفعله حتماً، إذا تعلقت مشيئته سبحانه به، خصوصاً مع بيان أن التدخل الإلهي لا يقتصر على مجرد الخلق، بل هو تدخل مستمر في جميع التفاصيل والمكونات لحقيقة المخلوق وكنهه، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾..

(بَدَّلْنَا):

وأما لماذا اختار تعالى خصوص تبديل أمثالهم، ولم يشر إلى مواجهتهم بالعقوبات، بسبب طغيانهم فلم يقل: نعاقبهم، نهلكهم، ننتقم منهم، نقهرهم، نجبرهم؟ فلعل السبب في ذلك: هو أن هذه السورة تريد أن تؤكد على أن الله تعالى قد رعى مسيرة هذا الإنسان في هذه الحياة، ولم يرض منه بالعبث في هذا الكون، بل أراد منه أن يعمره، وأن يصل به إلى الأهداف الإلهية السامية بالطرق الطبيعية والصحيحة..ثم أشار تعالى إلى أنه لن يتساهل مع أولئك الذين يريدون عرقلة هذه المسيرة، عن طريق الإثم والإصرار على الكفران المتكرر، مهدداً إياهم بأنه قادر على تبديلهم بأمثالهم، وذلك لكي يفهمهم:

1. عموم قدرته تعالى، من حيث إنه قادر على التصرف بهم، كما أنه قادر على التصرف بمن هم أمثالهم.

2. إن التبديل العام يأتي من موقع البصيرة، والحكمة، والهيمنة.. وهذا يعطي: أن ثمة قدرة على الإهلاك، والانتقام؛ إذا اقتضت الحكمة والرحمة ذلك..

3. إن ذلك يستبطن إعلامهم بأن مشروعهم التخريبي لن ينجح..

4. إن عدم نجاح مشروعهم يرجع إلى عجزهم، وإلى امتداد قدرة الله سبحانه..

5. إن هذا معناه الخيبة لآمالهم، وسقوط طموحاتهم، وبث اليأس في نفوسهم، الأمر الذي يفرض عليهم أن لا يتحمسوا لطمس معالم هذا الدين، وعدم ممارسة الضغوط على الدعاة إلى الله سبحانه، والعاملين في سبيل بث الهدى في الناس..

6. وهو أيضاً من موجبات عذابهم، وبعث الألم في نفوسهم، ومواجهتهم بعذاب الحرمان من اللطف والهداية، والسلام، والسكينة، وعذاب الخيبة والفشل.. والعيش في ظل شقاء الضلالة، والكفران، والإثم، وعذاب الخزي في الدنيا والآخرة..

ثم إن مجرد أن يحيق بهم ما كانوا به يستهزؤون، وخسرانهم لأنفسهم، سيزيد في آلامهم، وسيضاعف من عذابهم أيضاً..وحين يرون نعم الله تعالى تظهر على من كانوا يحتقرونهم، ويذلونهم، وينأون بأنفسهم عنهم، فإن ذلك سيشكل مرتبة أخرى من مراتب عذاب الحسرة والندامة، والحسد، وما إلى ذلك.. تماماً كما وعد الله سبحانه: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾(1).

(أَمْثَالَهُمْ):

ويبقى السؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر تبديل الأمثال، ولم يذكر تبديلهم هم أنفسهم..ولعل بالإمكان الإجابة عن ذلك بالقول: إنه تعالى أراد أن يعطي قاعدة تشمل الناس جميعاً، من خلال كلامه عن تبديل الأمثال، فإن التبديل إذا كان ممكناً في النظير والمثيل، فإنه سوف يكون ممكناً في نظيره ومثيله الآخر..

وقد قرن هذا البيان بالدليل الحسي، وهو أن الخالق لهم من العدم، لا يمكن أن يعجز عن تبديل ما خلق، كما أن الذي أحكم وشد أسرهم، لا بد أنه عالم ومتصرف في تفاصيل حقيقتهم، وواقف على كنه وجودهم. ومن كان كذلك، فإنه قادر على تبديل أمثالهم..ولو أنه تعالى اقتصر على ذكر تبديل خصوص الآثم والكفور، فلربما يتخيل متخيل: أن ثمة ضعفاً في هؤلاء الناس أقدره على هذا التصرف فيهم، وذلك لا يعني عموم قدرته إلى من عداهم..فجاء هذا التعميم المستند إلى ذلك الاستدلال، ليشير إلى سهولة مثل هذا التبديل العام، فضلاً عن سهولة تبديل الآثم والكفور الذي قطع روابطه مع الضوابط والمعايير الشرعية، والتكوينية، والفطرية.. الخ.. فأصبح على درجة من التراخي والضعف، تجعل تبديله أيسر من تبديل من عداه..

(تَبْدِيلاً):

وقد جاء التأكيد بكلمة (تَبْدِيلاً) التي هي مفعول مطلق، ليدل على أن هذا الكلام لا يجري على سبيل المبالغة، أو المجاز، أو الكناية عما هو أدنى من ذلك، بل هو مقصود بكل تفاصيله، وهو جار على سبيل الحقيقة.

فلا معنى لتوهم أن يكون المراد تبديل الأوضاع والأحوال المعيشية مثلاً، كتبديل الغنى بالفقر، والصحة بالمرض، وتبديل العادات، أو السياسات.. بل المراد التبديل الحقيقي، الذي يطال أصل الخلقة والكيان الإنساني كله..

وهذا يستبطن التهديد لهؤلاء الناس: حتى لا يتمادوا في غيهم، ولا يستسهل الآخرون طريقتهم..


1- سورة محمد الآية 38.