الفصل السابع والعشرون.

الفصل السابع والعشرون.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾.

(إِنَّ هَؤُلاَءِ):

ويثور أمامنا سؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر الآثم والكفور بصيغة المفرد.. ولكنه قد تحدث هنا عنهما بصيغة الجمع، فقال: ﴿ إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ﴾، ﴿ يَذَرُونَ﴾، ﴿ خَلَقْنَاهُمْ﴾ إلخ..ويمكن أن يقال: إن الآثم والكفور، وإن كان مفرداً، لكنه أريد منه الاستغراق للأفراد على سبيل البدل، ليكون النهي شاملاً لكل فرد منهم، فلا يتوهم متوهم: أن النهي إنما هو عن إطاعتهم فيما اجتمعت كلمتهم عليه، وليس نهياً عن إطاعة بعض الأفراد في بعض الأمور، فهو إذن مفرد في قوة الجمع، فصح وصفه بصيغة الجمع على النحو الذي ذكرناه..ويمكن أن يتضح ذلك: إذا لاحظنا أنه حين يريد الآثمون والكافرون أن يطلبوا من النبي أموراً لا مبرر لها، فإن هذا الطلب إنما يكون بواسطة أفرادهم، فرداً فرداً، حين يتخذون لأنفسهم صفة الناصح، والغيور، والمحذِّر، ونحو ذلك.. وهم أفراد كثيرون يصح الإخبار عنهم بصيغة الفرد تارة، وبصيغة الجمع تارة أخرى..فاذا أريد الإلماح إلى كثرة أفرادهم جيء بصيغة الجمع فقيل: هؤلاء يحبون الخ.. وإذا أريد الإلماح إلى نوع صفتهم الظاهرة والتعامل معهم كأفراد، جيء بصفة الفرد، فقيل: آثما أو كفوراً، ليكون النهي عن الإطاعة مستغرقاً لجميع الأفراد، قطعاً لمادة فسادهم، وإفسادهم..

أو يقال: إن من الممكن أن يكون تكرر نفس طَلَبِ الآثم والكفور من قبل أفراد آخرين، قد صحح أن يخبر عن جماعتهم بصيغ الجمع هنا، وأن يقول لنبيه هناك: لا تطع هذا الذي يعرضه عليك الآثم والكفور..أو يقال: إنه يريد أن يشير إلى أن هؤلاء الأفراد إنما يطلبون منك ذلك، لا من عند أنفسهم بل هم متواطئون مع غيرهم على مواجهتك بمثل هذه المطالب.

(هَؤُلاَءِ):

ولعلك تسأل: لماذا أتى بكلمة هؤلاء التي تستعمل للإشارة، ولم يقل: إنهم يحبون..وقد يجاب عن ذلك بأن المقام مقام التحقير، والاستهانة بهؤلاء المنحرفين، وقد أريد أن يؤتى بكلمة تتوافق مع هذا الأمر، وتتناغم معه.. وكلمة هؤلاء إذا وردت في مقام المهانة والاستهانة فإنها تستبطن تحقير المشار إليهم، والاستخفاف بهم، وتصغير شأنهم. لأن القريب، يهمل أمره، ويحتقر، حيث إنه لا يعتنى به لابتذاله، ودنو مرتبته، وسفالة درجته، أما من يكون له قدر عال، فيحتاج الوصول إليه إلى وسائط أكثر، وإلى معاناةٍ أشد، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ..﴾(1) (قبّح الله من قال هذا من المشركين وغيرهم).

والأمر ههنا أيضاً كذلك، فإن وصفهم أيضاً، بأنهم يحبون العاجلة، ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً، يشير إلى أنهم في موقع المهانة والحقارة، لأن فعلهم هذا يتناقض مع ما تحكم به عقولهم، وما تقتضيه فطرتهم. فهم ينطلقون في موقفهم هذا من دواعي الشهوة، والغريزة، والهوى. لا من منطلق الفكر والتعقل، وحساب العواقب، كما أوضحه قوله تعالى:

(يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ):

أي ما هو حاضر لهم من أمور تلائم الهوى والغريزة والشهوة، ويتركون اليوم الثقيل الذي يأتي من ورائهم.. وهذا خلاف ما تقضي به عقول البشر..وذلك دليل واضح على عدم إمكان الأخذ بأقوالهم، أو الاستجابة إلى طلباتهم، فيكون هذا بمثابة التعليل لقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾.. فإنَّ نفس كونه آثماً أوكفوراً يستبطن عدم جواز طاعته، بحكم العقل، والشرع، والوجدان، ويدخل قوله: ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ في دائرة الأوامر الإرشادية، والقضايا التي تكون قياساتها معها. ويمكن لكل الناس أن يتخذوا منها عبرة وتوجيهاً، ونهجاً.

لماذا لم يأت بلام التعليل؟:

وبعدما تقدم نقول: إنه لا حاجة إلى الإتيان بلام التعليل بأن يقال: (لا تطع هؤلاء؛ لأنهم يحبون العاجلة) إلخ..

وذلك لأن الإتيان بها قد يوهم أنه تعليل للنهي عن الإطاعة، مع أن المقصود هو بيان حقيقتهم مطلقاً. وجعل المورد مصداقاً لذلك البيان المطلق..وذلك يفيد: أن هذا هو حالهم في كل أمورهم. وأنهم يتعاملون في مختلف الموارد بمنطق الهوى، والشهوات، ولا يزِنون الأمور بميزان صحيح. ولا يختص ذلك بمورد النهي في الآية، ولو أنه جاء بلام التعليل فلربما توهم البعض هذا الاختصاص.

الاقتصار على العاجلة:

وقد يسأل سائل عن السبب في الاقتصار على ذكر حبهم للعاجلة، حيث لم يصف العاجلة بأي وصف آخر، ولا جعلها وصفاً لشيء محدد، فلم يقل: يحبون الفائدة، أو المصلحة أو المنفعة العاجلة، أو نحو ذلك.

والجواب: أنه تعالى لا يريد أن يسجل أي اعتراف بوجود أي نفع، أو أي حسن، أو صلاحية في تلك الأمور التي يحبونها، فكان أن اقتصر على صفة العاجلة.. التي قد تفيد أيضاً: تسرُّعهم، وعدم التفكير بالعواقب.. وذلك يحمل في طياته أخطاراً حقيقية لهم، فلعل ما أحبوه من العاجلة كان سماً قاتلاً لهم. لما فيه من المفسدة العظيمة، فإن الربا مثلاً فيه - بنظر هؤلاء - منفعة عاجلة، واستفادة أموال.. ولكنه يسحت البركة، والدين، وكل شيء، كما أن الشراب المحرم أيضاً قد ينتهي بالإنسان إلى أوخم العواقب..

وذلك كله يفيد: أنه تعالى حين اكتفى بكلمة العاجلة، فإنما أراد أن لا يفسح المجال لأي توهم لأية درجة من الصوابية في اختيارهم هذا.. بل هو تخطئة تامة وشاملة.

وبذلك يسد باب الترجيح، ولو من خلال التعبير الذي تميل إليه النفوس، بدوافع شهوية، أو غرائزية.. وبذلك يكون قد تم التحاشي حتى عن الإيحاء بما يوافق الهوى..كما أنه يستبطن درجة من التنفير عن هذا الحال المتناهي في السوء. وذلك لما يتضمنُه من الإيحاء بالخطورة الناشئة عن الاندفاع الغرائزي أو الشهوي، أو نحو ذلك، بسبب ما تحمله العاقبة من مفاجآت صعبة، وربما تكون كارثية.. وهذه العاقبة ناشئة عن عدم التدبر والتأمل في العواقب، وعدم معرفة الصالح من غيره..والذي دلنا على ذلك بصورة أوضح وأصرح هو قوله تعالى: ﴿وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾:حيث لم يذكر الله سبحانه هنا: إلا حب هؤلاء للعاجلة، ولم يشر إلى حصولهم عليها، ووصولهم إليها وعدمه، ولعله من أجل أن لا يمر في وهم أحد أن ثمة لذة من وراء ذلك الحصول، تدعو إلى ترجيح اختيار العاجلة.. بل المطلوب هو إفهام الناس أن هذه اللذة مشكوك فيها أيضاً، بل يكون فيها البوار والهلاك لنفس الطالب والراغب، إذ أية لذة لهم في أن يترك هذا النبي - مثلاً - دعوته إلى طاعة الله، والتزام أوامره تعالى ونواهيه؟!. إلا الضرر والبلاء، والبوار للناس جميعاً، ومنهم نفس هؤلاء الدعاة إلى ذلك..ولعل ثمة وهماً يراود مخيلتهم بوجود لذة مستقبلية فاندفعوا من أجله إلى هذا التصرف ولكنهم بعد أن ظهر لهم: عكس ما توهموه. فما معنى إصرارهم على ممارسة كل هذه الضغوط على هذا النبي الكريم والعظيم ليتخلى عن دعوته؟!. ألا يعد تصرفهم هذا من أقبح الأمور؟! فكيف إذا استمروا مصرِّين على ذلك، إلى حدّ إشعال الحروب، وإزهاق الأرواح. وربما يكونون هم أول ضحاياها، وأول من يحترق بنارها، ويكونون أسوأ وقودٍ لها.

فهل حب العاجلة المستند إلى مجرد خيالات وتوهمات، يدعو إلى مثل هذه التصرفات غير المعقولة؟، حتى قبل أن يتحققوا من صدق هذا النبي، وصحة ما جاءهم به، وما وعدهم أو توعدهم به.

وهل هناك سقوط وخذلان وإسفاف أعظم من هذا؟!..

ولأجل ذلك جاء التعبير باسم الإشارة الذي قد يفيد التحقير في مثل هذه الموارد..

(وَيَذَرُونَ):

ويزيد وضوح هذا الأمر من خلال التعبير بكلمتي (يَذَرُونَ) و (وَرَاءهُمْ).. دون كلمة (يتركون)، لأن كلمة ترك إنما يؤتى بها في مورد يكون للشيء خصوصية وأهمية، ثم يصرف النظر عنه، لسبب اقتضى ذلك، فيقال: ترك.

وأما إذا لم يكن للشيء أية أهمية أو دور - بنظر هؤلاء - فالتعبير الأنسب عنه هو أن يقال: يذره. ولأجل ذلك قال تعالى: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً﴾(2). أي لا تشغل بالك بهم، ولا تهتم لهم، لأنهم لا يستحقون الاهتمام.

ولذلك قال هنا: يذرون من ورائهم، أي يتركونه غير مكترثين به ولا مهتمين له، بل إنهم لم يكونوا قد التفتوا إليه، أو حصلوا عليه.. رغم أنه ثقيل، ومهم جداً، وهذا غاية في تصوير إسفاف هؤلاء الناس، وسقوط آرائهم، وخزيهم، بسبب إيثارهم شهواتهم على كل شيء..

(وَرَاءهُمْ):

ثم تأتي كلمة (وَرَاءهُمْ) لتظهر المزيد من قباحة فعلهم هذا وشناعته، ولولا أنه سبحانه قد أراد الإلماح إلى هذا السقوط لكان بالإمكان أن يقول: ويذرون يوماً ثقيلاً.. وانتهى الأمر..أضف إلى ذلك: أن كلمة (وَرَاءهُمْ) تفيد: أنهم ليس فقط يذرون ذلك اليوم الثقيل، وإنما هم يجعلونه وراءهم أيضاً، والشيء الذي يكون وراء الإنسان لا يمكنه أن يراه ما دام كذلك.

ولعل هذا يشير إلى جهلهم به أيضاً، إذ إنه إذا كان هذا اليوم ثقيلاً، فكيف لايلتفتون إليه، ليزيلوا ثقله عن أنفسهم، فهل يمكن أن يكونوا لا يشعرون بثقله هذا؟!.. أليس ذلك دليلاً آخر على درجة انحطاطهم، ومهانتهم، وأن تفكيرهم قد أصبح معطلاً تماماً، بل هو يسير باتجاه معاكس للاتجاه السليم؟!..

(وَرَاءهُمْ) لماذا؟!

ولا ريب في أن اليوم الذي تركوه آت إليهم، وهو يستقبلهم ويواجههم، ولكنهم لا يشعرون به، رغم أنه يلقي بثقله عليهم كأفراد، فقد بطل إحساسهم بثقله أيضاً، كما بطلت رؤيتهم له.. وليس ثمة من وسيلة إدراك أقوى من الإحساس والمشاهدة، فإذا تعطلتا، حتى أصبح الشيء أو الأمر الحاضر الذي يفترض فيهم أن يروه لأنه أمامهم - اصح - مستحيل الرؤية، فإن الإنسان يكون قد بلغ الغاية التي ما بعدها غاية في السوء والسقوط..

(يَوْماً):

ثم إنه تعالى أشار إلى زمان ثقيل، ولم يتحدث عن أحداث، أو عن مسؤوليات.. مما يعني أن مستوى ثقل تلك الأحوال، والأحداث، والمسؤوليات قد تناهى وسرى إلى نفس الزمان الذي تقع فيه، وأوجب ثقله أيضاً..والزمان هو البوابة التي لا بد لهم من عبورها، ولا مناص لهم منها..إن الإنسان قد يتمكن من الابتعاد عن موقع أو مكان، وأن ينأى بنفسه عن حدث يعرض له.. ولكنه لا يستطيع أن لا يمر في عمود الزمان.. فالعمى المطبق عن هذا الأمر، يدلنا على عظيم البلاء الذي هم فيه..

(ثَقِيلاً):

وقد أشرنا إلى بعض الحديث عن كلمة (ثَقِيلاً) وظهر أنها تعبير عن عمق الإحساس بهذا الأمر، وأنه داخل في عمق وجود الإنسان.. فهو ليس من قبيل ما يلمس، أو يذاق أو يشم، بل هو ثقل، والثقل يشعر الإنسان به بكل وجوده، وبواقع كيانه، كما لا يخفى..


1- سورة الأنبياء الآية36.

2- سورة المدثر الآية11.