الفصل السادس والعشرون.

الفصل السادس والعشرون.

قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾.

(وَمِنَ اللَّيْلِ):

ويلاحظ هنا: أنه تعالى قد استهل كلامه بكلمة (من) المفيدة للتبعيض، أي: خذ وقتاً أو قطعة من الليل، وخصصها للسجود لله تعالى.. ثم ذكر أن التسبيح يجب أن يكون في الليل كله، مهما كان طويلاً، فقال: ﴿ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾.

وبذلك تكون حصَّة التسبيح هي التي تأخذ الوقت الأطول..ثم يلاحظ هنا أيضاً، هذا التَّدرج والانتقال. حيث بدأ بذكر اسم الله في الحصة النهارية، ثم انتقل إلى السجود في بعض آنات الليل. ثم انتقل إلى التسبيح في الليل بطوله.. ولهذا التدرج معناه، ومغزاه، كما ربما تأتي الإشارة إليه.

وثمة ملاحظة ثالثة هنا، هي: أن ذكر اسم الله تعالى قد ورد في النهار فقط، ولم ترد إشارة إليه في الليل، كما أنه لم يضف إليه شيء آخر من تسبيح وغيره.

ولكنه بالنسبة لليل ذكر أمرين، أحدهما السجود لله، والآخر التسبيح.

فلماذا التخصيص في النهار بما ذكر، ولماذا التنويع في الليل على النحو الذي أشرنا إليه، فإننا لا نشك في أن هذا التنويع مقصود ومتعمد.

ويدل على هذا التعمد: أن هناك أحكاماً تختص بعبادات الليل، ولا تشمل عبادات النهار، كالجهر بالقراءة، فإنه واجب في الصلاة الليلية، لكن الإخفات هو الواجب في النهارية.

وربما يحاول البعض تعليل ذلك بأن ظهور الإنسان للآخرين، إنما يكون في النهار غالباً، فيصبح أكثر تعرّضاً لخطر الرياء في الصلاة من خلال تحسين الصوت في القراءة، والتأني فيها، ومراعاة قواعد التجويد، وما إلى ذلك..وكذلك الحال بالنسبة لإظهار حالات الخشوع، والخضوع، وإجراء الدموع..

غير أننا نقول: إن هذا قد يكون من فوائد الأمر بالإخفات نهاراً، والجهر ليلاً.. لكنه لا يكفي ليكون هو العلَّة التامّة لهذا التشريع.

غير أن مما لا شك فيه: أن للوقت وللمكان خصوصية في التشريع.. ولذلك حدد الشارع للكثير من التشريعات أوقاتاً تناسبها.

كما أن هناك خصوصية أخرى، وهي كثرة المستحبات في الإسلام بحيث لا يمكن لأحد أن يأتي بها جميعاً، فمثلاً قراءة القرآن مستحبة دائماً، والصلاة والتسبيح كذلك. فكيف يمكن الجمع بينها؟

ثم إن للكثير من المستحبات درجات عظيمة من الثواب، ولعل بعضها أكثر ثواباً من بعض الواجبات.. ولعل سبب ذلك: أن الرقيّ، والسموّ الروحيّ، والتكامل في الشخصية الإيمانيّة، إنما يكون للمستحبات الدور الأهم فيه.

ولربما لا يقدر البعض - بحكم طبيعة عمله، أو بحكم ما يملكه من طاقة جسدية - على الاستفادة من بعض أنواعها.. فصاحب الدكَّان لا يمكنه أن يُشغل نفسه بالصلاة مثلاً.. ولكنه يقدر على الصيام، أو على التسبيح..وربما يكون المستوى الثقافي، والمعرفي قد لا يسمح له بالاستفادة المطلوبة، أو يحجزه عن المبادرة إليها واختيارها ضعف قدراته الاستيعابية. أو لعلّ نفسه تُقبل الآن على هذا النوع من العبادة، ثم تُقبِل غداً على نوع آخر، فلا يحرمه الله تعالى من ذلك في كلتا الحالتين، فإن للنفس إقبالاً وإدباراً.

بل إن من الناس من لا يعرف القراءة، أو ليست لديه ثقافة تمكنه من إدراك المعارف القرآنية، ولكنه يميل إلى خدمة الناس، وقضاء حوائجهم، أو يميل إلى الصيام المستحب، أو زيارة المشاهد المشرفة..ثم إن لبعض المستحبات ارتباطاً بعاطفة الإنسان، أو بخلقه الإنساني، مثل مجالس العزاء، والاهتمام بالأيتام..

فكل هذا التنويع يعطينا: أنه سبحانه يريد أن يفتح للإنسان جميع أبواب الوصول إليه جلَّ وعلا من خلال تشريعه للوسائل المختلفة، فيختار كل إنسان منها ما يناسب واقعه، وحاله، وظروفه، فيفتح قلبه، ويعمّق إيمانه بواسطة هذه الطرق إلى الله تعالى، ويدخل الهدى والإيمان إلى قلبه، فإن الأبواب إلى القلب مختلفة فتارة تكون ذات سِمَة عاطفية، وأخرى فكرية تأملية، وثالثة تكون ذات قيمة أخلاقية، أو وجدانية، أو حالة مشاعرية.

كما أن للحياة الاقتصادية، وللمواقع الاجتماعية مجالات متنوعة، يمكن أن تكون هي الأخرى أبواب هداية وسبل نجاة.. وقد قرر الشارع الكثير من العبادات المالية المختلفة والمتنوعة.. وأشار أيضاً إلى استخدام الجاه والموقع لقضاء حاجات المؤمنين، أو الدفع عنهم، وما إلى ذلك..فكلّ خصوصية في التشريع قد حسب لها حسابها في تيسير الهداية للناس، حتى الركعتان اللتان هما تحية للمسجد، وتشريع كراهة الصلاة في معاطن الإبل، أو في الحمام، أو ما إلى ذلك..وبذلك يتضح: أن الله سبحانه حين يشرّع ذكره - فقط - لأوقات الغفلة بكرة وأصيلاً.. ثم يشرع السجود في بعض الليل، والتسبيح في الليل الطويل، فإنه يلاحظ أموراً مهمة تأخذ بنظر الاعتبار حالات النفس، وظروف الحياة، وغير ذلك من أمور.

(فَاسْجُدْ لَهُ):

وقد انتقل سبحانه من ذكره في النهار، بكرةً وأصيلاً.. ليترقَّى إلى مرحلة أبعد منها، وهي التي تأتي بعد استحضار الله في القلب بواسطة اسمه، حيث لا بدَّ من الخضوع له سبحانه حينها؛ خضوعاً عبادياً، نابعاً من واقع ودرجة المعرفة التي حصل عليها بواسطة ذلك الاسم المشير إلى مقام العزة والعظمة الإلهية.

فطلب منه أن يسجد لله.. ولم يطلب منه الركوع، ولا القنوت، بل هو لم يطلب حتى الصلاة..ولعلَّ السبب في ذلك هو أنَّ السجود يمثل أقصى درجات الخضوع.. فإذا كان هناك قنوت، وقراءة، وركوع، ولم يصل الأمر إلى السجود الذي هو غاية الخضوع العبادي والتسليم له تعالى، فإن هذه العبادات تبقى غير لائقة به تعالى..إنّ السجود للشيء تعبير حقيقي عن التسليم والانقياد العبادي المطلق، ولا يحتاج في عباديَّته إلى جعل إلهي. كما هو الحال في غيره، فإن الحج مثلاً، لا يعد عبادة إلا إذا قرَّر الشارع اعتباره كذلك.

وقلنا: (السجود العباديّ للشيء)، لكي لا يشتبه مرادنا بكلمة السجود إلى الشيء، بمعنى جعله قبلةً، حيث يكون المعبود والمسجود له شيئاً آخر، وتكون تلك القِبلة مشيرةً إليه، ورمزاً دالاً عليه.

فالسجود العباديّ يكون بنفسه وبدون جعل جاعل محبوباً غاية الحب، إذا كان سجوداً وعبادةً لله تعالى، ويكون بنفسه مبغوضاً غاية البغض، إذا كان سجوداً عبادياً لغيره سبحانه.

(وَسَبِّحْهُ):

ويُلاحظ: أنه تعالى بعد أن طلب السجود، والعبادة، والخضوع المطلق من الذاكر، عاد فطلب منه تسبيحه تعالى.. ولم يطلب منه حمداً، ولا دعاءً، ولا صلاةً.

والتسبيح معناه: أنَّ جميع صفات الفعل، وصفات الذات التي دلَّت عليها الأسماء لا بد أن تنتهي إلى تنزيه الله سبحانه عن كل نقص، فإثبات صفة الكريم، تعني تنزُّهه عن الصفة المناقضة لها، وإثبات صفة العزة تَنَزُّهُهُ عن الذل، وصفة القوي تنفي الضعف، وصفة القادر تنفي العجز، وصفة العدل تنفي عنه الظلم.. وهكذا الحال في سائر الصفات والأسماء.

فإثبات الصفات له سبحانه ملازم لمعرفته تعالى معرفةً أتم، وبمستوى يليق به جل جلاله.. وذلك لأن التنزيه التام من شأنه أن يصون المعرفة الناشئة عن ذكر اسمه، ويصون عبادته، والخضوع والتسليم التَّام له..

(لَيْلاً طَوِيلاً):

ومما تقدم يتضح لنا بعض السبب في أنه تعالى، قد قرَّر أن يكون هذا التسبيح مستغرقاً لجميع آنات الليل بما هو ممتد وطويل: ﴿ لَيْلاً طَوِيلاً﴾، ليصبح كل آن منه مفعماً بتنزيهه تعالى.. إذ بالليل يشعر الإنسان بضعفه، ويشعر بحاجته إلى النوم، وافتقاره إلى الحافظ والحامي، وهو الله الذي: ﴿ لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾(1).

وليس بالضرورة أن يكون هذا التسبيح عملاً جوارحياً، بل هو بالدرجة الأولى عمل جوانحيّ، يتَّصل بالمعرفة له تعالى معرفة صحيحة، وصافية، وخالية من أيَّة شائبة..وهذا الصفاء لا بدَّ له من ظروف وأجواء مناسبة له، يعيش فيها الإنسان حالة التفكُّر العميق، والتأمّل الواعي.. والإدراك والشعور المتنامي به تعالى، وهو شعور لا بد أن يبقى ويستمر محتفظاً بقوته وبحيويَّته.. حيث يكون الوقت المناسب لذلك هو الليل، من حيث إنه هو الذي يُهيِّء لاستقرار هذا التنزيه في النفس، ويطول مكثه في الضمير، وفي القلب، وفي المشاعر.

وهذه المعرفة هي الأساس لكل نعمة وتفضُّل إلهي، لأنها هي التي تُنتج التقوى، والتقوى تُنتج السلوك والطاعة والالتزام. وهي التي تصنع الأحاسيس والمشاعر.


1- سورة البقرة الآية255.