الفصل الثالث والعشرون.

الفصل الثالث والعشرون.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾.

وسائل الهداية الإلهية:

وبعد بيان هذا الجزاء العظيم للأبرار، بما يمثله من إثارة الطموح والتطلع لدى الناس إلى تلك المقامات السامية، والتشوق لبلوغها، أو لسلوك الطريق إليها: فإن الحاجة تصبح ماسة إلى بيان وسائل الهداية إلى ذلك كله، فجاء البيان لهذه الهداية من قبل مصدر العطاء، والحكمة، والهيمنة، والخالقية، والعلم، و..

وقد أورد الله تعالى ذلك مصحوباً بالتأكيدات المختلفة للمضمون الذي يريد لفت الأنظار إليه، وهو أن القرآن نازل من عند الله سبحانه، فأكد ذلك بكلمة (إنَّ) وبكلمة (نا) المعبرة عن مقام العزة الإلهية، وبكلمة (نحن) المؤكدة للضمير المتصل، مع أنَّه قد كان يمكن الاكتفاء بالقول: (أنا نزلت عليك القرآن)..وأكَّد ذلك أيضاً بالجملة الاسمية، وبكلمة تنزيلاً، التي هي مفعول مطلق.

فهذه التأكيدات كلها، لعلها لإزالة آثار تشكيكات أهل الزيغ، والشرك، الذين كانوا يقولون عن القرآن: إنه قول شاعر، أو كاهن، أو هو من أساطير الأولين، أو ما أشبه ذلك.

فبعد أن بيَّن سبحانه الهدف من الخلقة، وبيَّن سبيل الأشرار، والأبرار، وبيَّن أيضاً جزاء هؤلاء وأولئك.. بعد ذلك كله أراد سبحانَه أن يبيِّن أن القرآن هو سبيل النجاة، وأنَّه نازل من عنده تعالى، لتكون النتيجة من ثم هي: أن الوصول إلى الهدف الذي رسمهُ الله لخلق الإنسان منحصرٌ بما بيَّنه الله سبحانه. وكل ما عداه، فإنَّه لن يوصل إلى شيء سوى الدمار والبوار.

(إِنَّا نَحْنُ):

وقد بدأت هذه الآية المباركة بكلمة (إنَّا) المفيدة للتأكيد القولي، يضاف إلى تأكيدٍ آخر، يقرره لهم مشاهدتهم صحة ما يخبرهم به سبحانَه.

ثم أشار إلى نفسه تبارك وتعالى بكلمة: (نا) وبكلمة: (نحن)، وهما تعبران عن المتكلم، ومعه غيره، ليشير بذلك - من جهة - إلى مقام عظمته، وجلاله، وكبريائه، وقدرته، وعزته.. وليفيد - من جهة أخرى - أنَّ تنزُّل القرآن من مقام إلى مقام، قد أوكله سبحانه إلى الملائكة، ثم إلى جبرئيل.. وذلك ليعرفنا: أنه يدبر الكون بوسائل معينة، ووفق نظام، وعبر وسائط تدبير ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ (1)..

ومما يؤكد ذلك: أنه تعالى ينزل القرآن من مقام إلى مقام، بواسطة الملائكة، كما قلنا..أنه يوحي إلى النبي أحياناً بواسطة جبرئيل..

وأنه يميت الأحياء من البشر بواسطة الملائكة..

وأنه يجعل التناسل البشري عبر صلة الذكر بالأنثى. وما إلى ذلك.

وإن معرفة الإنسان بأنَّ كل المخلوقات مسخرة لله تعالى، وتعمل بإرادته سبحانه، يزيد في معرفة الإنسان بالله، ويؤكد خضوعَه واستسلامه لهُ. وهو يثبّت الإنسان في مواقع الاهتزاز، فالله مهيمن على كل شيء حتى حين يكون الملك هو الذي يباشر التصرف..ولكنه عاد في الآية التالية ليتكلم عن نفسه تبارك وتعالى بصيغة المتكلم بضمير المفرد، فقال: ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ..﴾ كما سيأتي.

والخلاصة: أنَّهُ في مثل المقام لا بد أن يأتي التعبير بصيغة: (إِنَّا)، (نَحْنُ)، ليزيد ذلك من طمأنينة الإنسان، من خلال زيادة يقينه بأنَّ الله هو الممسك بكل شيء، والمهيمن على كل شيء، حتى حينما يبدو أنَّ ثمة من يتصرف في الأمور ويدبرها..

(عَلَيْكَ):

وكلمة (عَلَيْكَ) في قوله: ﴿ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ﴾ تريد أن تجعل الإنسان يتلمس الوحي الإلهي من حيث هو يصل الرسول بالله مباشرة، وفي هذا أيضاً من الفوائد والعوائد المرتبطة بالإيمان بالكتاب، وبالرسول.. ما لا يحتاج إلى مزيد بيان..

(نَزَّلْنَا):

وقال سبحانه: ﴿ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾.. ولم يقل: (أنزلنا)..

وقد قالوا في الفرق بينهما: إن التنزيل يكون نجوماً، ومتفرقاً، على سبيل التدريج، أمّا الإنزال فيكون دفعة واحدة..

وقد ناقشنا هذا القول في كتابنا الصحيح من سيرة النبي ج2 وذلك حين الحديث عن البعثة.. غير أننا نجمل الكلام حول ذلك هنا على النحو التالي: قد يقال: إن هناك ما يدل على عدم الفرق بين الإنزال والتنزيل، فقد قال تعالى: ﴿ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾(2).

وقال تعالى: ﴿ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾(3).

وقال: ﴿ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾(4).

وقال: ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾(5).

والجواب: أن اختلاف التعبير، لا بدّ أن يوجب اختلاف الخصوصية الملحوظة، ولعلَّ الخصوصية هي لحاظ التدرّج في نزول الماء، أو الآيات تارةً، ولحاظ مجموع الآيات النازلة، أو مجموع الماء النازل أخرى. كما أن تنزّل الكتاب على سبيل الإجلال والإكرام له، قد كان كذلك أيضاً، فنزل إلى اللوح المحفوظ، ثم إلى السماء الرابعة، حيث البيت المعمور، ثم إلى السماء الدنيا، ثم صار ينزل سورة ٍسورة، ثم صارت تنزل آياته نجوماً.

فحين يلاحظ هذا النزول التدريجي التكريمي، يكون التعبير بنزّل. وحين يلاحظ نزولُه بلحاظ وصوله تاماً بمجموعه إلى أهله أخرى.. من دون لحاظ ذلك التدرج التكريمي، فيكون التعبير بأنزل.

وقد يقال: إن قوله تعالى: ﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾(6). يشير إلى عدم الفرق بين الإنزال والتنزيل، حيث استعمل التنزيل في مورد النزول جملة واحدة..ويمكن أن يجاب عن هذا أيضاً: بأن التنزيل هنا قد لوحظ فيه إنزال مجموع القرآن، من سماء إلى سماء، ومن مقام إلى مقام، حتى يصل إلى البشر.. فهو على حدِّ قوله: ﴿ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ﴾(7)..فإذا تأكّد وجود فرق بين نزَّل وأنزل، فلا بدّ من الإجابة على سؤال: أنه تعالى يقول: ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾(8).

ثم هو سبحانه، يقول: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(9).

فهذه الآيات تدل على نزول القرآن نجوماً، ومفرَّقاً..وقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾(10).

وقال أيضاً: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(11).

وقال أيضاً: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾(12).

فهذه الآيات تدلّ بالتصريح، أو بالتلميح، على النزول الدفعي..فكيف يُوفق بين هاتين الطائفتين من الآيات؟!..سؤال آخر هنا أيضاً وهو: أنه إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان فكيف تكون البعثة النبوية في شهر رجب؟

ويمكن أن يُجاب عن هذا وذاك بما يلي:

أولاً: إنه قد سبق أن هناك ما يدل على نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ.. ثم هناك ما يدل على نزوله إلى السماء الدنيا، ثم سورةً سورة، ثم صارت تنزل الآيات تدريجاً..

وقد ذكرنا ذلك في بحث لنا حول السبب في تقديم آية ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(13) على آية: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾(14) فراجع(15)..وعلى هذا فيمكن القول بأن النزول الدفعي للقرآن قد كان في شهر رمضان، وفي ليلة مباركة، هي ليلة القدر. ثم بدأ في السابع والعشرين من شهر رجب ينزل سورةً سورة، وتدريجاً..

ثانياً: بالنسبة إلى البعثة في شهر رجب نقول: إنه لا يجب أن تكون البعثة مقترنة بنزول القرآن، فيمكن أن يبعثه الله في شهر رجب، ثم يبدأ نزول القرآن بعد شهر، أو شهور، أو أكثر، أو أقل، لأن البعثة هي مجرّد أن يُخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله بأنه نبيّ، وقد يخبره بذلك منذ صغره، كما كان الحال بالنسبة للنبي عيسى عليه السلام، حيث قال فور ولادته: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(16).. وكل فضيلة ثبتت لنبي من الأنبياء، فهي ثابتة لنبينا صلى الله عليه وآله، كما دلت عليه الروايات..وقد يكون المراد من البعثة، هو بعثته كرسول وهي تتحقق بإخباره ولو في آخر حياته.. بأنه مبعوث إلى قومه، أو إلى البشرية كلها.. ولا يحتاج ذلك إلى نزول قرآن.. وفي هذه الحال قد يكون القرآن قد نزل عليه قبل ذلك بسنوات..كما أن من الممكن أن ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وآله مذ كان نبياً أي منذ صغره، أو بعد ذلك بسنة أو بسنوات كما سيأتي..

وثالثاً: إن الأوضح والأقرب في موضوع النزول الدفعي والتدريجي للقرآن هو: أن القرآن قد نزل دفعةً واحدة على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكنّه لم يؤمَر بتبليغه، ثم صارت السورة، ثم الآيات تنزل تدريجاً بحسب المناسبات..وربّما يُستأنَس لهذا الرأي ببعض الشواهد مثل ما ورد في رواية المفضّل، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: (أعطاه الله القرآن في شهر رمضان، وكان لا يبلِّغه إلا في وقت استحقاق الخطاب، ولا يؤدّيه إلا في وقت أمر ونهي الخ..)(17).

رابعاً: إن النبيّ كان نبياً منذ صغره، أو قبل ذلك، فقد رُوي عنه أنه قال: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)(18).

فلا مانع من أن يكون القرآن قد نزل عليه منذ بدء نبوَّته، ثم صار ينزل عليه صلى الله عليه وآله نجوماً بعد أن بلغ الأربعين، لكي يبلّغه للناس..ولا بأس بمراجعة ما كتبناه حول هذا الموضوع، في بحثنا حول السبب في تقديم آية: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(19) على آية: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أنْزِلَ إِلَيْكَ(20)﴾، (21)..لم يقل: أنزلنا:

وجواباً عن السؤال عن السبب في أنه قال هنا: (نَزَّلْنَا). ولم يقل: أنزلنا..ثم قال: (تَنْزِيلاً)، ولم يقل: إنزالاً..

نقول: لعلّ اختيار كلمة (نزلناه تنزيلاً) هنا بالذات قد جاء لسببين..

السبب الأول: أن للقرآن جهة ومرتبة إلهية، تجعله خارج دائرة قدرات البشر. فكان أن احتاج إلى التنزيل ليصبح في حدود البشرية.. فإن مقام الرسول مهما كان عالياً، وسامياً وعظيماً عند الله، ومهما أعطاه الله تعالى من قدرات وألطاف، فإنه يبقى في مقام ودرجة المخلوقين والمألوهين.. ويبقى لله سبحانه مقام الخالقية والإلهية.. وما أعظمها من درجة وأسماه من مقام!! فلا بدّ من تنزيل ما هو إلهي ليصبح في حدود البشرية.. فكان النزول أولاً إلى اللوح، وأمّ الكتاب، ليمكن لنفس الرسول أن تناله.. ثم لكي ينالَه البشر الآخرون، وكانت له تنزّلات أخرى إلى البيت المعمور في السماء الرابعة، ثم إلى السماء الدنيا. ثم نزول جبرئيل به سورة سورة، ثم نزول الآيات نجوماً..

وكان نزول القرآن بواسطة جبرئيل إيذاناً بعظمة القرآن، وبكرامة ومنزلة جبرئيل أيضاً، ثم هو تشريف وتكريم لرسول الله صلى الله عليه وآله.. الذي استحق ذلك من خلال عمله وجهده وجهاده في سبيل رضا الله، ونَيل مراتب القرب، ومقامات الزلفى منه تعالى.. حتى لقد استحقّ أن يكون نبيّاً وآدم بين الروح والجسد، وأن يكون نوراً محدقاً بعرش العظمة والجبروت، والقدرة الإلهية..

وكان من مفردات تكريم الله تعالى له، أن جعل جبرئيل وهو أعظم الملائكة قدراً، هو المبلِّغ عنه إليه.

أمّا النبي موسى عليه السلام، فرغم ما له من عظيم المنزلة، وجليل المقام، قد خلق الله له الكلام في شجرة، في البداية..ويشبه ما ذكرناه هنا في بعض جهاته، ما ذكرناه حول سبب وقوع المتشابه في القرآن، فإنَّ معاني القرآن كبيرة وسامية، لا تستطيع ألفاظ وضعها العرب لأمور حسية أو قريبة من الحس أن تستوعبها، فكان لابدّ من إخضاعها لدرجات من التنزيل والتلطيف. ليمكن وضعها في قوالب لفظية هذا حالها.. فمست الحاجة إلى الاستفادة من المجاز والكناية، وسائر أنواع الدلالات، لتكون هي المفاتيح التي تفتح للراسخين في العلم الأبواب التي يشرفون منها على عالم من المعاني الكبيرة والسامية، ويعلِّمون منها الناس كل على حسب قدره وقدرته..

السبب الثاني: أنَّ هذا التنزيل قد جاء وفق المعطيات التي أوجدتها البيانات التي وردت في السورة، من أوّلها إلى هذا الموضع، حيث إنها تحدثت عن نشأة الإنسان في الحياة، وعن المستوى العظيم للرعاية والهداية الإلهية له في مسيرته في الحياة الدنيا، والمصير الذي سينتهي إليه الأبرار والفجّار، مع تقديم وصف دقيق لحالات الأبرار في الجنة..وإذا كان تصور الحقائق والدقائق التي وردت في هذه السورة، يحتاج إلى أرقى درجات الإدراك والمعرفة واليقين، فإن حاجة الإنسان إلى تحصيل هذا اليقين وترسيخه، وتعميقه إنما تنبثق من حاجته إلى نيل تلك الأهداف الكبرى التي يريد الله أن ينيله إياها، والتي يعجز عقله عن تصورها، ويقصر خياله ووهمه عن اقتحام آفاقها.. الأمر الذي يجعل منه يقيناً له تأثيره المباشر على مستوى السعي، والجهد والإخلاص، والخلوص في العمل في سبيل الوصول إلى تلك الغايات، والحصول على هاتيك المرادات، وتحقيق تلكم الأمنيات.

وذلك معناه: أن مجرد القَبول والرضا، وإظهار القناعة بما أخبرت به هذه السورة المباركة، وبصدق الوعد الإلهي لا يفي بالمطلوب، بل الحاجة تبقى ماسّة إلى ما هو أسمى من ذلك وأبعد..

ولعلّ ظهور المعجزات وحدوث الخوارق للعادات، يأتي في سلسلة الأسباب والعلل لإيجاد مستويات أعلى من اليقين والاقتناع لدى الناس. وسيكون لهذه المعجزات والخوارق أثر إيجابي في الربط على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله، ومضاعفة صبره، وزيادة قدراته على المواجهة، ومكابدة المشاق، وتحمل الأذايا في المجالات المختلفة، وهو الذي يقول: "ما أوذيَ نبيّ مثلما أوذيت" (22)..أو "ما أوذيَ أحدٌ ما أوذيت" (23)..وذلك لأن هذا النبي العظيم سيواجه كل جبابرة العالم، وطغاة الأمم، وحتى طغيان النفوس الأمّارة بالسوء.. والتي إن أمكن قهرها اليوم، فإنها ستعاود الوثبة غداً..وما ذلك إلا لأن مهمة الأنبياء ليست مجرد تبليغ رسالة، أو تعليم وتربية جيل من الناس، أو إقامة دولة، وفرض قانون ونظام سياسي، أو اجتماعي، أو ما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اهتمام السياسيين، أو المصلحين الاجتماعيين..بل إن مهمة الأنبياء، هي صناعة إنسانية الإنسان، وصياغة شخصيته، ومفاهيمه وتنشئة مشاعره وعواطفه، والإمساك والتحكم بأحاسيسه..

كما أن مهماتهم لا تنحصر بالإنسان الذي يعيش في عصرهم، بل هم مسؤولون عن هداية ورعاية كل مسيرة الحياة الإنسانية، ما دام هناك بشر على وجه الأرض.

ولأجل ذلك تُعْرَضُ أعمال الأمة على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى في النشأة الأخرى، كما أن الإمام عليه السلام يرى أعمال الخلائق، ويلاحقها، ويتعاطى معها، من موقع البصير الخبير، والعارف بالداء والدواء.

وقد كان تنزيل القرآن سورةً سورة، ثم نزوله على سبيل التدريج حين تُحَقق ما تنطبق عليه الآيات، يؤكِّد للناس أن هذا القرآن هو من عند عالم الغيب والشهادة، فيكون ذلك قاهراً لعقولهم، وموجباً لخضوعهم، وبخوعهم واستسلامهم له.

وذلك من أسباب تقوية الرسول، ومعونته وإحكام أمره، وزيادة درجة الصبر والتحمّل لديه صلى الله عليه وآله.. على طريقة: ﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(24).. فإن تجسّد هذا الغيب على صفحة الواقع حركةً وسلوكاً، ومفردات حيّة ناطقة، تلزم بالحجة، وتقطع العذر، وتؤكّد يقين الناس، وتُقوّي موقف الرسول، إن هذا من شأنه أن يُثلج صدره صلى الله عليه وآله.. ويُفرح قلبه، ويزيد من تصميمه، ويشدّ من عزيمته.

ولعلّ هذا يفسّر لنا قوله تعالى: ﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(25)..

نعم إن هذا القرآن الذي حدَّث الناس في هذه الس-ورة المباركة، - سورة: ﴿هل أتى﴾ - عن هذه الحقائق والدقائق، قد أنزله الله تعالى بصورة تدريجية، لكي يظهر بما لا يقبل الشك أنه من عند عالم الغيب والشهادة، ولذلك كانت تنزل الآيات في السورة قبل حدوث أي شيء، ويقرؤها النبي على الناس، ثم تأتي الأحداث، ويرى الناس كيف أن الآيات السابقة تنطبق على هذا الحدث اللاحق.

فكيف يجوز لمن يرى ذلك أن يتردد في اختيار الإيمان؟ أو كيف لا يكون صبر رسول الله صلى الله عليه وآله، في هذه الحالة أعظم وأجلّ من أن تدركه العقول، وتناله الأفهام؟!.

خصوصاً مع إدراكنا: أن صبره صلى الله عليه وآله نابع - بالدرجة الأولى - من أعماق ذاته، ومن حقيقة طهره، وكونه إنساناً إلهياً كاملاً، متصلاً بالله، ومتكل عليه في كل أموره عليه تعالى..وكيف لا يتضاعف هذا الصبر يوماً بعد يوم، وحتى لحظةً بلحظة؟!.

وبعد هذا فإننا نستطيع أن نعرف بعض السر في عطف الكلام عن مجراه السابق، إلى الكلام عن تنزيل القرآن:

(نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً):

ومن أهم فوائد هذا البيان الإلهي لكيفية نزول القرآن، ومطابقة الآيات لِمَا يحدث في المستقبل: أنه يُهيء للقناعة الوجدانية، وطمأنينة القلب، والسلام والرضا في النفس من خلال إعطاء الدليل الملموس على صدق وحقَّانية البيان الذي قدَّمه.. والقضايا إذا استندت إلى الدليل، فإنها تصبح أشد رسوخاً، وأعظم أثراً في نشوء وترسيخ حالة الصبر والتحمل للمصاعب والمتاعب.

وقد قلنا: إنه تعالى قد أشار إلى هذا الربط بين النزول التدريجي للقرآن، وبين أثر ذلك في تحقيق الصبر النبوي صلى الله عليه وآله، حين فرّع الأمر بالصبر؛ بالفاء، فقال: ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾..


1- سورة النازعات الآية5.

2- سورة العنكبوت الآية51.

3- سورة البقرة الآية176.

4- سورة البقرة الآية63.

5- سورة البقرة الآية22.

6- سورة الفرقان الآية32.

7- سورة الإسراء الآية93.

8- سورة الإسراء الآية 106.

9- سورة الفرقان الآية32.

10- سورة الزمر الآية2.

11- سورة القدر الآية1.

12- سورة البقرة الآية185.

13- سورة المائدة الآية3.

14- سورة المائدة الآية67.

15- راجع كتاب «مختصر مفيد» ج4.

16- سورة مريم الآية 30.

17- البحار ج89 ص38.

18- كتاب التاج ج3 ص229.

19- سورة المائدة الآية3.

20- سورة المائدة الآية67.

21- راجع: الجزء الرابع من كتاب «مختصر مفيد».

22- راجع: مناقب آل أبي طالب ج3 ص42 والبحار ج39 ص56 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص 102 وكشف الغمة ج3 ص346 والجامع الصغير ج2 ص488 وشرح منهاج الكرامة ص265 وراجع جواهر المطالب ج2 ص320.

23- راجع: الجامع الصغير ج2 ص488 وكنز العمال طـ حلب ج3 ص120 وفيض القدير شرح الجامع الصغير ج5 ص55 وكشف الخفاء ج2 ص180 وتهذيب الكمال ج25 ص314.

24- سورة البقرة الآية260.

25- سورة الفرقان الآية32.