الفصل الثاني والعشرون.

الفصل الثاني والعشرون.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾.

(إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً):

إن الإنسان قد يبذل جهداً وتعباً في سبيل الوصول إلى أمر ما، فإذا نال ذلك الأمر فإنه سيلتذ به، بصورة أعظم وأتم مما لو حصل عليه بدون تعب وجهد..وستتكون فيما بينه وبين ذلك الشيء الذي تعب من أجله علاقة تختلف عن علاقته بالأشياء التي لم يبذل في سبيلها جهداً، فإن الآتي بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب.

ويصبح التخلي عن هذا الأمر، أيسر عليه من تخليه عن ذاك، بسبب ضعف تعلقه به. ولأجل ذلك فإن من يتعب بتحصيل المال لا يكون عادة مبذراً له، ولا مفرطاً فيه. بخلاف من أخذه بلا تعب.

وإن كن هذا لا ينطبق على الأبرار، ولكن المقصود هو التأكيد على أن العمل في سبيل الحصول على الشيء، يعطي الإنسان شعوراً بالكرامة، والعزة والشمم.. وهو شعور محبب ولذيذ في حد ذاته..وهذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى يقول هنا للأبرار، بعد أن ذكر ما أعد لهم من نعيم: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾..

ويلاحظ هنا: أن هذه الآية:

1. قد أوردت الكلام مؤكداً بكلمة (إنَّ)..

2. إنها قد زادت الكلام تأكيداً بالاستفادة من كلمة (كان) الدالة على كينونة الشيء، وتحققه، وجاءت بصيغة الفعل الماضي لتفيد اليقين بهذا التحقق إلى حد أنه قد أصبح بمثابة الحاصل، أو أنه حاصل بالفعل، حتى صح أن يخبر عن كينونته..

3. ومما يزيد الأمر تأكيداً؛ الإشارة إليه إشارة حسية.. وهي إشارة إلى الحاضر القريب، حيث قال تعالى: (إِنَّ هَذَا)..

(لَكُمْ جَزَاءً):

يضاف إلى ما تقدم: أنه تعالى قد صرح بملكيتهم لذلك المشار إليه بكلمة (هَذَا)، وأنه لهم، قبل أن يصرح بوصفه بـ (الجزاء)، فقدم كلمة (لَكُمْ) على كلمة (جَزَاءً)..لأنه لو عكس ذلك، بأن قدَّم كلمة (جَزَاء)، فإن ذلك قد يوحي، ولو لغيرهم، للحظة عابرة بوجود جزاء قد يكون حسناً، وقد لا يكون..

ولا يريد الله سبحانه أن يمر في وهم الإنسان، ولو للحظة واحدة شيء من ذلك، بل هو يريد لهم أن يلتذوا بالمبادرة إلى التصريح بأن الجزاء في غاية الحسن، ليعيشوا الطمأنينة والسكينة في جميع الآنات، حتى في طريقة الأداء اللفظي والبياني..كما أنه يريد أن يطمئنهم إلى أنهم مالكون لهذا الجزاء، ولا يريد أن يفصلهم عن هذا النعيم، ولو على مستوى التخيل العابر، بأن يمر ولو في وهم الآخرين أن هذا الجزاء قد يكون لهم، وقد يكون لغيرهم..وهذا يشير إلى مزيد الرضا، وإلى درجة الاهتمام الإلهي بهم، وهو يعطيهم بالتالي لذة جديدة من خلال هذا الشعور بالحب، والرعاية، والرضا, والكرامة الربانية لهم.

الخطاب للأبرار:

وقد جرى الكلام ههنا بصورة الخطاب مع الأبرار، فيقول: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾.. بعد أن كان يتحدث عنهم بصيغة الغائب، حيث كان يقول: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ..﴾ ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ..﴾ الخ..

(جَزَاءً):

وقد اعتبر الله تعالى عطاءه هذا للأبرار جزاء لهم، ولعله بهدف توجيه الناس وتحريضهم على أن يعملوا بعمل الأبرار لينالوا ما نالوه.

وهذا يشير إلى أن هذا العطاء، الذي هو على سبيل الجزاء، قد لوحظ فيه حجم العمل ومزاياه وغاياته، وليس عطاء تفضلياً محضاً.. فإن كان ثمة تفضل، فإنما هو في تقدير الجزاء قبل تقريره..كما أن عدّ ذلك من قبيل الجزاء يثير لدى الأبرار شعوراً بالكرامة والاعتزاز، من حيث قبول الله سبحانه لأعمالهم، ويعطي عملهم قيمة واقعية وحقيقية، لأن الله هو المصدر الحقيقي لكل قيمة، وجعل الجزاء بإزائه يستبطن ذلك..ثم إن للنعيم المصاحب للشعور بالاستحقاق، لذته أيضاً وأهميته.. فإن من يحصل على محبة الآخرين مثلاً، من دون استحقاق، سوف ينتابه شعور بالضعف، والضعة، والذلة، والاستكانة.. بخلاف ما لو نال ذلك الحب عن جدارة، فإن ذلك سيثير فيه عزة، وقوة، وثبات شخصية، وبهجة بهذه العزة، وبذلك الثبات..كما أن الاستحقاق يعطي للحب أصالة، وعمقاً، وبقاء، وشعوراً بالثبات، بخلاف ما لو جاء على سبيل التحنن والتكرم، فإنه لا يكون ثمة أي أساس أو مستند، أو مبرر للشعور ببقائه، وأصالته، واستمراره..فيصبح هذا الحب مشوباً بالشعور بإمكانية فقده لأي طارئ، أو صارف عنه.. وقد يضعف الحافز الذاتي له، ولا يجد منشأ آخر يمكن أن يعتمد عليه فيه..(وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً):

ورغم أن الإنسان مملوك لله سبحانه، فإن الله تعالى قد تفضل عليه بأن جعل لسعيه قيمة..ثم اعتبره ملكاً للإنسان نفسه.. على قاعدة: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾(1)..غير أن اللافت هنا: أنه سبحانه حتى حين تفضل على الإنسان بهذا وذاك، فإنه قد اعتبر الإنسان العامل أهلاً لأن يُشْكَر على عمله هذا، رغم أن فائدة العمل وعائدته إنما تعود عليه دون سواه..

وقد أخبر تعالى عن حصول هذا الشكر، وعن بقائه، وعن كينونته بقوله: ﴿ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾.. فلم يقل: وسنشكر لكم ذلك.. بل قال: (كان)، ليشير إلى أن الشكورية الثابتة والدائمة والباقية لسعيكم؛ قد تحققت وانتهى الأمر.

(سَعْيُكُمْ):

ثم إن الله تعالى قد ذكر هنا مجرد السعي، ولم يذكر نوعه، ومستواه، ونتائجه، وآثاره وحجمها.

وهذا معناه: أن مجرد السعي يجعل الأبرار مستحقين لهذا الجزاء ولذلك الشكر..(مَشْكُوراً):

وقد ألمحنا آنفاً إلى أن الله سبحانه قد اعتبر نفس سعي الإنسان في سبيل الخير مهما كان مستوى نتائجه وحجمها - اعتبره - ذا قيمة على كل حال.. بل هو قد رفع من مستواه إلى حد أنه اعتبره بمثابة هدية له تعالى، وبلغ الأمر حداً بحيث انفصلت عوائد وفوائد ذلك العمل عن العامل، ولحقت به تبارك وتعالى، فاستحق ذلك العامل الشكر بإزاء هذا الذي تخلى عنه ليصبح لغيره، وهذا الغير هو الله سبحانه، الغني، والخالق، والمالك..وهذا غاية التكريم من الله سبحانه لعبده المؤمن، فإنه - وهو المالك، والمعطي له كل القدرات، وكل الهدايات - قد ملكه عمله، وجعل نفعه يعود عليه، ثم أعطاه عليه جزاء، ثم زاده أن اعتبر نفع ذلك العمل يعود عليه هو سبحانه، ووعده عليه بالشكر، بل وشكره عليه بالفعل، بل كان له منه الشكر الدائم والمستمر..

وإثبات المشكورية لسعي الأبرار، يؤكد أن إثبات الجزاء عليه كان بسبب الاستحقاق، لأن الشكر يتضمن اعتبار سعي الأبرار الذي يفترض كونه لهم - اعتباره - لغيرهم، وأنهم قد استحقوا الشكر عليه، لتخلِّيهم عنه لصالح ذلك الغير، حسبما بيّناه..ولكن ذلك كله إنما هو في مقام التصوير، الذي يسهم في إدراك المقاصد العالية، وليس على نحو الحقيقة.. ولكن الجزاء والكرامة التي يتجسد معنى الشكر فيها، هي تلك الحقيقة التي يراد الإرشاد إليها..ولا بد أن يدرك الأبرار هذه المعاني، وأن تكون من أسباب نعيمهم وبهجتهم بهذا الكرم الإلهي الغامر، وهذا الفضل العميم..ولذلك قال هنا: ﴿ يَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾. أي يتركونه غير مكترثين به، ولا مهتمين له، ولم يكونوا قد أمسكوا به، أو حصلوا عليه. رغم أنه ثقيل، ومهم جداً..


1- سورة سبأ الآية 47.