الفصل الحادي والعشرون.

الفصل الحادي والعشرون.

قوله تعالى: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُس خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾.

(عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ):

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى حقائق اللذة وأنواعها، مما لا يرتبط بالممارسة الفعلية والتفصيلية.. وأشير في آيات أخرى سبقت أيضاً، إلى لذائذ معنوية إدراكية، ترتبط بأنواع الكرامة والتكريم، وما للأبرار من مقام كريم، وظهر أن إكرامهم هذا إنما هو بأسلوب التعامل معهم، حسبما ألمحنا إليه حين تحدثنا عن السبب في اختيار التعبير بـ ﴿ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا﴾، و﴿ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا﴾، و﴿ يُسْقَوْنَ﴾، و﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنيَة﴾، و﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ الخ.. حيث قلنا: إنه تعالى لم يذكر تلذذهم بالشراب، بل تحدث عن أنهم يسقون، وذكر تذليل القطوف، ولم يذكر الأكل من تلك القطوف..ثم أشار سبحانه هنا إلى النعيم الحسي من خلال الممارسة الفعلية والتفصيلية، فقال: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ﴾ الخ.. فهذه العبارة تصف حالة الأبرار، في وقت نعيمهم، وحين يكون لهم الملك الكبير، فقالت: إنك أيها الناظر، ترى لهم نعيماً وملكاً كبيراً في نفس الوقت الذي تكون ثياب السندس تعلوهم..ونحن من أجل بيان أوفى وأتم لما تضمنته هذه الآية، نشير إلى أمر له ارتباط أكيد في المعنى المقصود هنا، فنقول:

القيمة الواقعية، والقيمة الاعتبارية:

إن هناك أشياء لها قيمة حقيقية، كالذهب، والفضة، والطعام، ونحو ذلك.. وإن اختلفت مناشئ هذه القيمة، ومكوناتها.. فالذهب مثلاً إذا كان مجرد سبائك تكون له قيمة، والذهب المصاغ، له قيمة أعلى، وكلاهما قيمة حقيقية، لكن الأولى تكون بإزاء نفس معدن الذهب، وفي الثانية يكون ارتفاع القيمة بإزاء صياغتها، من حيث إنها تختزن حالة جمالية واقعية، استنفدت طاقة، واستغرقت وقتاً وجهداً، وهذه الحالة الجمالية الجديدة، هي التي مكنت من الاستفادة منها في مجالات لم تكن لتفيد فيها لولاها..

وكذلك الحال في كثير من الأشياء التي لها قيمة في نفسها، وتضاف إليها قيمة الجهد المبذول في إعدادها..وتكون الحاجة إلى ذلك الذهب الخالص، والغرض الداعي للحصول عليه وكذلك الحاجة إلى المصاغ منه لأجل الزينة مثلاً، هي الداعي، والمرغب ببذل هذه القيمة وتلك.

وهذا معناه: أن الداعي للبذل موجود في ذات السلعة..وقيمة الثوب أيضاً قد نشأت من كونه يقي من الحر والبرد، ويسد الحاجة للستر، ويلبي رغبة في التجمل..

وقيمة الطعام من جهة أنه يفيد في استمرار الحياة والنشاط، وكونه من وسائل التلذذ.

وقيمة القلم والورق، و.. الخ.. إنما تكون في واقع الحاجة التي تقتضيها..وقد كانوا ولا يزالون -أحياناً- يتبادلون السلع، فيأخذون عنباً أو تيناً مثلاً، مقابل العدس، أو القمح، وذلك لما ذكرناه من أن القيمة موجودة في ذات هذا وذاك، بسبب خصوصية واقعية يُطْلَبُ الحصول عليها، من هذا الطرف أو ذاك..

والضابط في القيم هو تلك الخصوصية وقدرتها على تلبية حاجة عامة أو خاصة يراد تلبيتها..وهناك قيمة اعتبارية ليس لها منشأ سوى اعتبار عقلاء البشر، الذين يُقْبَل ويصح منهم الاعتبار، كقيمة الأوراق النقدية، فيما تعارف عليه الناس في هذه الأيام.. فإن قيمتها مرهونة ببقاء اعتبار العقلاء لها.. فإذا زال الاعتبار كما في موارد تغيير النقد، فقدت قيمتها، وأصبحت كسائر الورق المهمل..فالرغبة بأخذ الورقة المجعولة نقداً لم تنشأ من حاجة في داخل ذاتها، أو من حاجة لحالة تلبست بها نتجت عن جهدٍ إضافي، بل نشأت الرغبة من اعتبار العقلاء لها بقيمة معينة من قبلهم..الاعتبار على نحوين: وإذا نظرنا إلى الأمور الاعتبارية، فسنجد أنها على نحوين:

أحدهما: ما يكون له خصوصية ومنشأ، ومبرر كامن في نفس مورده.. ثم يأتي الاعتبار ليؤكد تلك الخصوصية، وليستفيد منها في مقام العمل.. وذلك مثل اعتبار الملكية، والزوجية، والحرية.. وما إلى ذلك، فإن هناك خصوصية في نفس المملوك دعت إلى اعتبار الملكية فيما بينه وبين مالكه، فصار هذا مالكاً، وذاك مملوكاً، وكذلك الحال بالنسبة للزوجية وغيرها.. مع العلم: أن الملكية أو الزوجية لا تزيد في حجم ذلك الشيء ولا في وزنه، ولا في لونه، ولا في طراوته، ولا في شفافيته، ولا.. ولا.. وكذلك الحرية والرقِّية، وما إلى ذلك.

وكذلك الحال في صورة ما لو رُفِعَ ذلك الاعتبار، بأن خرج عن بنعن الملكية، أو الزوجية، أو الحرية، أو.. الخ.. فإنه لا يتغير شيء، لا بالزيادة ولا بالنقيصة فيه، ولا في غير ذلك من حالاته..فلو جلسنا مع مالك، أو زوج، أو حر، أو ملك، أو وزير، ثم فقد هذه الصفات.. وعدنا إلى الجلوس معه.. فإنه سوف لا يتغير فيه شيء في الحالتين..فوجود هذه الصفات، والاستفادة منها، وترتيب الآثار عليها، والتصرف فيها، يستند إلى نفس الجعل والاعتبار..

كما أن التلذذ بها أيضاً كذلك، فلذة الملك، والحرية، والوزارة، و.. الخ.. أيضاً تكون بنفس قيام هذا العنوان الاعتباري، وزوال اللذة يكون بزواله..

ويمكن نقل الاعتبار بنواقل معينة، كالهبة، والبيع، ويمكن إزالته أيضاً، كالطلاق المزيل للزوجية.. وما إلى ذلك.

ثانيهما: هناك أمور يتم جعلها، واعتبارها بصورة اقتراحية، ومن دون أن يكون في موردها خصوصية تدعو إلى ذلك، بل الخصوصية تكون في غيرها.. وذلك كما في اعتبار الأوراق النقدية ذات قيمة معينة، وأوراق أخرى ذات قيمة أخرى، مع أن الاختلاف إنما يكون بنقش الرقم أو الرسم عليها فقط، كما سنلمح إليه..ولكن العناوين التي وردت في هذه الآية، كعنوان الملك الكبير، وعنوان الزوجية في قوله: ﴿ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾(1).. ونحو ذلك، إنما تعبر عن خصوصيات اقتضتها أعمال العباد في الدنيا، فهي بعد جعل التسبيب لها من قبل الله سبحانه، وصيرورتها شبيهة بالأعمال التوليدية الواقعية، يصبح حالها حال العناوين الواقعية الانتزاعية، كعنوان الفوقية، الذي هو عنوان واقعي، على الإنسان أن يدركه، من خلال ملاحظة منشأ انتزاعه في الواقع الخارجي..ولا توجد في الجنة قيمة ناشئة من اعتبار العقلاء، بحيث تزول بمجرد زوال الاعتبار المذكور.. ولكن القيمة فيها ناشئة من خصوصية في ذات الأشياء، لا من جهة مستوى الإحساس بالحاجة إليها، بحيث تكون هي سبب الرغبة في الحصول عليها، وبذل ما يوازيها..بل قيمتها تنشأ من مستوى ما تحققه من لذة ونعيم لأهل الجنة. فإن العمل والجهد، والتضحيات في الدنيا التي دفع إليها إدراك وجود خصوصية في الأمور الأخروية، هو الذي أهّل ذلك العامل لذلك النعيم، وللتفضل عليه بمنازل الكرامة والزلفى..

فالقيمة واقعية وحقيقية تكمن في تلك الخصوصية المشار إليها.. وليست ناشئة من اعتبار العقلاء..ولكن ثمة نقطة لا بد من لفت النظر إليها.. وهي أن الطاعة والعبادة والبذل، وجهاد النفس، ومخالفة الهوى في الدنيا ليس معناه أنك تعطيه لله، ويأخذه الله منك لحاجة به إليه.. بل أنت تبذله لتكون أهلاً للاستفادة من الخصوصية الكامنة في مفردات نعيم الجنة، ولتوجد أنت تلك الخصوصية بنفس عملك هذا..وقد ورد في الحديث الشريف قوله عليه السلام: (إنما هي أعمالكم تدت إليكم) (2).

وقال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾(3)..فإطاعتك لله سبحانه، تشبه إطاعتك للطبيب، فإن الطبيب لا يحتاج إلى طاعتك، ولا ينتفع بها، وإنما تطيعه لكي تنتفع أنت، فلا توجد لدى الطبيب رغبة في خصوصية عندك، وليس لديك أنت رغبة في خصوصية عند الطبيب، ثم تتبادلان تينك الخصوصيتين، كما لا يوجد عند الله حاجة يسدها له عملك وجهدك، فيعوضك عنه بثواب أو بأجر.. بل إن نفس الأجر الذي يسألك إياه، هو الذي يكون لك. أي أن الخصوصية الواقعية اقتضاها نفس عملك، ولا يراد المعاوضة عليها مع طرف آخر، بحيث يستفيد هو من خصوصية، ويتخلى لك عن خصوصية في مقابلها..

وبعدما تقدم نقول:

لقد تحدث الله تعالى في هذه الآيات عن الفضة، وعن الإستبرق، وعن السندس، وعن.. وعن.. وهي أمور لا تتحدد في الآخرة من خلال الرغبة فيها بملاحظة مقدار الحاجة إليها، بل تتحدد بمقدار ما تؤهل الأعمال في الدنيا للاستفادة منها.. ثم يأتي التفضل الإلهي ليضاعف ذلك أضعافاً كثيرة، بجعل الحسنة بعشرة أمثالها، بل بسبعمئة، والله يضاعف لمن يشاء..فلا يصح قياس القيم في الدنيا التي تخضع لبعض الاعتبارات الخاصة، كندرة المعدن، أو نحو ذلك، بالقيم التي في الآخرة، فلا يقال: الذهب أغلى من الفضة أو العكس من أجل ذلك، فقوله: ﴿ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾.. معناه أن القيمة الواقعية - فيما يرتبط بما يناسب عمل الأبرار، وموقع الكرامة لهم - إنما هي للفضة، ولعل الذهب يأتي في مراتب أدنى، لا تليق بمقام أولئك الصفوة الأطهار، كما ألمحنا إليه في مورد سابق..وذلك لأن الأعمال حينما تؤهلك للتنعم بالفضة، فإن الفضة تصبح هي الخصوصية التي تحتاجها، ولا يصح الاستعاضة عنها بالذهب.. بل تكون الاستعاضة حينئذ، مجرد غلط فاضح، وجهل واضح.

ويحسن تشبيه ما نحن فيه بإنسان في صحراء قاحلة، يواجه الموت عطشاً، فلا شك في أنه سوف يشتري شربة الماء بكل ذهب وبكل فضة يقدر عليها في الدنيا.. ويصبح الذهب عنده غير ذي قيمة، لأن خصوصيته لا تفيد في رفع عطشه، ولا في دفع الموت عنه..أضف إلى ذلك: أن الفضة، أو الزجاج، أو غير ذلك، قد يعطي - حتى في الدنيا - جمالاً في موقع لا يستطيع الذهب أو الألماس أو غيرهما، أن يعطيه، بل يكون وضعه في ذلك الموقع مسيئاً للحالة الجمالية، ويمجه ذوق الإنسان، وقد يؤذي روحه..وهذا معناه: أنه ليس للذهب قيمة في ذاته، بل هو تابع لاقتضاء الأعمال له.. وليس الذهب أغلى من الفضة، ولا الفضة أغلى من الزنجبيل، والنخل، والرمان، والفاكهة، لأن القضية ليست قضية الحصول على الخصوصية المطلوبة، حسبما أوضحناه..

لماذا قال: (عَالِيَهُمْ)؟!:

وقد بقيت هنا أسئلة عديدة تحتاج إلى أجوبة، نذكرها مع ما يفيد في الإجابة عنها فيما يلي:

1. وقد قال تعالى هنا: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾.. ولكنه قال في مورد آخر: ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾.. فما هو السبب في اختلاف التعبير في الموردين؟!

ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يريد بقوله: ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾.. الإعلام بحقيقة لباسهم، وبيان نوعه..أما هنا فالمقصود بقوله: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾.. بيان خصوصية الزينة، ولذلك ذكر ثياب السندس ولونها، فقال: ﴿ سُنْدُسٍ خُضْرٌ﴾.. ثم ذكر الأسورة، وجنسها.. وذلك بعد أن تحدث عن كيفيات تكريمهم، وعن النعيم المعنوي، والحسي لهم..

2. وقد يُسأل عن السبب في أنه تعالى قال: (عَالِيَهُمْ)، ولم يقل: تعلوهم؟!.

ويقال في الجواب: إن كلمة (عَالِيَهُمْ) اسم فاعل. واسم الفاعل يناسب الفعل المضارع في معناه، من حيث دلالته على الثبوت فعلاً.. لكن الفرق، هو أنه في المضارع إشارة إلى أن الحدث لم يكن ثم كان، ويدل على الاستمرار في الحال، ولكنه ساكت عن أمر الاستقبال، فلو قال: (تعلوهم) لأفاد: أن هذا الأمر سيحدث لهم، وقد يستمر أو لا يستمر في بعض آنات المستقبل، ففيه دلالة على التصرم وعلى التجدد..فكلمة (عَالِيَهُمْ) تفيد الثبوت - ولا تفيد الحدوث - وتفيد أيضاً الدوام.. وليس فيها إشارة إلى حالة فقدان أصلاً، قد يرتجف لها القلب، ولو في مستوى التوهم، بسبب التعبير بصيغة المضارع..

3. وأما السبب في أنه تعالى لم يقل: يلبسون، أو لابسون ثياب سندس، بل اختار كلمة (عَالِيَهُمْ)، فلعله ليفيد ظهور هذا الأمر فيهم. وهذه الكلمة هي أنسب التعابير عن ذلك، لأن العالي ظاهر للقريب والبعيد.. إذ مجرد أن يلبس الإنسان شيئاً لا يكفي لظهور الملبوس للغير.. فقد يلبسه تحت الثياب الظاهرة، ويقال: إن سفيان الثوري رأى على الإمام الصادق عليه السلام في المسجد الحرام، ثياباً كثيرة حساناً، فقال: والله لآتينَّه ولأوبخنَّه!..فدنا منه، فقال: يابن رسول الله (ص) ما لبس رسول الله (ص) مثل هذا اللباس، ولا علي، ولا أحد من آبائك!

فقال عليه السلام: كان النبي (ص)، في زمن قتر مقتر، وكان يأخذ لقتره وإقتاره، وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها، فأحق أهلها بها أبرارها، ثم تلا: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(4).. فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله، غير أني يا ثوري! ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس، ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه، ثم رفع الثوب الأعلى، وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظ..فقال: هذا لبسته لنفسي غليظاً. وما رأيته للناس.

ثم جذب ثوباً على سفيان، أعلاه غليظ خشن، وداخل ذلك ثوب ليِّن!

فقال: لبستَ هذا الأعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تسترها(5)..

4. وفي الإجابة على سؤال عن السبب في إرادة إظهار الزينة نقول: لعل سبب ذلك هو أن تظهر للناس جميعاً كرامة الله تعالى للأبرار، وعنايته بهم، ففي ذلك إعزاز أهل الإيمان، وسرورهم، وكبت، وحسرة أهل الطغيان وعذابهم الأليم.

وليس الهدف من هذا اللباس هو التبجح به، والافتخار على المؤمنين، وإذلالهم به، من خلال إشعارهم بالحرمان والفقدان..

وليس المقصود أيضاً هو الانتفاخ الفارغ، من أي هدف إيماني وإنساني.. وما ذلك إلا لأن الأبرار في الجنة قد صفت نفوسهم من مثل هذه الأدران..أضف إلى ذلك: أن هذا الفعل الإلهي بهم إنما هو تجلَّة منه لهم، وإظهار لنعمته عليهم..

وإذا كان هذا الإظهار التربوي الذي يستبطن تلك المعاني كلها مطلوباً في الدنيا، وفقاً لقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾(6).. فكيف بالدار الآخرة.

فالمطلوب هو التحديث بنعمة الله، حثاً للناس على طلب هذه النعمة، من مالكها الحقيقي، لا من العاجزين وأن يطلبوها على أساس أنها عطاء إلهي في مورد الاستحقاق على الجهد المبذول. وأنها عطاء من رب يريد الخير لمربوبيه، وهو يرعاهم، ويهتم بهم، ولم يزل يفيض عليهم البركات، والألطاف، والنعم.. إنها عطاء ممن يملك خزائن كل شيء..

إن المطلوب هو التحدث بالنعم لا على سبيل الافتخار، بل لأجل الترغيب بها، والاعتراف بالفضل الإلهي، والكون في مواقع الشكر والحمد..وبذلك يعرف الفرق بين هذه النظرة، وبين النظرة القارونية، فقد أهلك قارون ماله، ولم يصغ إلى نصيحة قومه في أن يبتغي بما آتاه الله الدار الآخرة، وأن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن لا يبغي الفساد في الأرض. ولا يفرح..

فأجابهم بقوله: ﴿ إِنَّمَا أوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ / فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾(7)..

وكانت عاقبته أن خسف الله به وبداره الأرض..

5. وقد بين تعالى خصوصية هامة هنا، حين أتبع ذلك بقوله في الآية التالية: ﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾.. حيث بيَّن أنهم قد حصلوا على هذه الزينة الظاهرة من موقع الاستحقاق، وهي أيضاً من جملة النعم التي اختصهم الله بها، ثم هي عطاء كرامة وإعزاز، وليس عطاء عشوائياً وبلا ضابطة.

كما أنه لا يراد بها إشعار الآخرين بالفاقدية والحرمان. ولكنها لا بد أن تكون حسرة على أعداء الله، تزيد في مكروههم، وتضاعف في آلامهم التي كسبتها لهم أيديهم..

6. إن النعيم هنا، وإن كان يتجلى بلباس السندس، الذي هو أمر حسي، ولكن ذلك ليس هو المقصود الأساس هنا، بل النعيم المعنوي بهذا اللباس الذي هو زينة، هو الأهم.. لأن إظهار كرامتهم يمثل لذة روحية معنوية إدراكية لهم، وليس مجرد لذة جسدية..كما أن نفس الإحساس بإدراك الآخرين لكرامة الله سبحانه للأبرار، هو من أسباب نعيمهم وأنسهم، ومن موجبات اعتزازهم..هذا عدا عن أن شعورهم ببهجة الآخرين وسرورهم بما يرونه من سندس خضر وإستبرق وغير ذلك، يعطيهم المزيد من الرضا والراحة والسرور..

فظهر أن قوله: (عَالِيَهُمْ) لا يراد به مجرد إظهار الزينة للآخرين، بل المراد به أن يكون سبباً في سرورهم، وكبت أعدائهم أيضاً كما تقدم..

(ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ):

وغير خفي أن الله سبحانه يريد أن يفهمنا معنى الكرامة للأبرار بالأسلوب، وبالمفردات التي نعرفها ونألفها، ونتفاعل معها..

ومع أنه تعالى قد عبر بكلمة (ثِيَابُ) وبكلمة (سُنْدُسٍ)، ولكنه حذف هذه الكلمة مع كلمة (الإِسْتَبْرقٌ)، وجاء بها مرفوعة لتكون عطفاً على كلمة (ثيَابُ) السابقة، مما يعني أنه تعالى يريد أن يقول: إن الإستبرق هو العالي على الأبرار، فهو زينتهم الظاهرة.. ولم يحصر زينتهم به بخصوص جعله لباساً لهم، فلعلهم يتزينون به بحيث يكون فوق فرشهم، وستائرهم، وفي كل المواضع الظاهرة للآخرين، والتي هي من مفردات نعيم الأبرار، بما تعطيه من بهجة للناظر، وأنس للمستفيد الحاضر..فلوحظ في السندس خصوصية كونه ثوباً يعلو الأبرار، ظاهراً لكل أحد، لكن لوحظ في الإستبرق خصوصية كونه من أدوات الزينة في جميع مظاهرها.. وذلك معناه أن الأنسب في السندس هو كونه ثوباً، والأنسب في الإستبرق أن يكون في غير اللباس..وذلك لأن السندس، هو ما رقَّ نسجه من ثياب الحرير، والرقة تناسب اللباس الذي يطلب فيه الخفة ونعومة الملمس..أما الإستبرق، فهو ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، ففيه الثقل وفيه درجة من خشونة الملمس، فيناسب أن يستعمل في ما سوى اللباس من الزينة الظاهرة..النعيم الجسدي..

من خلال الرضا الإلهي:

وواضح: أن الإنسان قد يلبس الحرير، وأساور الفضة وغيرها، وذلك كما يكون في ساعات الهناء، كذلك قد يكون في ساعات المصائب والبلايا، فلبسه للحرير وللأساور، وغيرها، لا يوجب له لذة، ولا يخفف عنه ألماً..كما أن من يمارس لذة جسدية محرمة، وهو ملتفت إلى العقاب الذي سيواجهه من جراء ذلك، فإنه لا يلتذ بها بنفس مستوى لذة من يمارسها هي بعينها، وهو يشعر أنها حلال له، فكيف إذا صاحب ذلك شعوره بأنها من مظاهر التكريم والرضا الإلهي، والمحبة، واللطف الرباني؟!..

(خُضْرٌ):

بالرفع، وصفاً لكلمة ثياب، لا لكلمة (سُنْدُس)..

والمعروف، الذي دلت عليه أحاديث أهل البيت (ع): أن النظر في الخضرة من أسباب بعث البهجة والارتياح في النفوس، وقد جعل الله الثياب التي تعلو أولئك الأبرار خضراً، لأنه يريد أن يبعث البهجة في نفوس الناظرين إلى الأبرار، ويسرهم بذلك.. كما أن الخضرة هي لون الربيع في شبابه، فهي تشير إلى الرواء، وإلى الانتعاش، وإلى الطراوة، وإلى تدفق الحيوية..ولكنه لم يصف الإستبرق بالخضرة، لأن المطلوب هو تنويع الألوان واختلافها في المحيط الذي يكون فيه الأبرار، لكي تتنوع تأثيراتها على المشاعر، وتتنوع الانفعالات، الأمر الذي يثير جواً من الحيوية والنشاط، والأنس بجديد ما يقع عليه النظر في كل آن..

(وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ):

1. ويأتي بعد ذلك كله الحديث عن التزين بالأساور، فقال: (وَحُلُّوا).. بصيغة الفعل الماضي، ليفيد تأكد الحصول والوقوع، إلى درجة أنه أصبح يصح الإخبار عن حصوله خارجاً..كما أن نفس التعبير بصيغة الفعل، فيه إشارة إلى أن هذا الأمر لم يكن ثم كان، من خلال نشوء إرادة إكرامهم به، ولو أنه كان موجوداً، فإن ذلك لا يشير إلى إرادة الإكرام هذه..

2. وقد يسأل سائل عن السبب في اختيار التعبير بـ (حُلُّوا). حيث لم يقل: ألبسوا، أو زيّنوا؟!

والجواب: أن الحديث إنما هو عن النواحي الجمالية التي تحتاج إلى فعل يظهرها. ولو من خلال الهيئة التركيبية لعناصر ليس لها في ذاتها أية حالة جمالية، ولكنها إذا جمعت بطريقة معينة، فإنها تعطي الإيحاء بالمعاني، أو تصنع من خلال ذلك مزايا تثير الرغبة في تلمسها..فليس الحديث إذن عن خصوص ما يكون بذاته - ومن دون أي تدخل من خارج - مختزناً للحالة الجمالية الواقعية، إذ قد تختزن نفس العينين، أو الفم، أو غيرها حالة جمالية رائعة..وكما أن حالة الضم والجمع، قد تعطي إيحاء بالجمال، كذلك هي قد تعطي الإيحاء بالقبح، وتنشئ حالة ينفر منها الطبع.. حتى لو كانت نفس المفردات المنضمة من أجمل ما خلق الله..

فإنه قد يقع نظرك على عين بمفردها، فترى أنها غاية في الجمال، والعين الأخرى أيضاً إذا نظرت إليها بمفردها تجد أنها كذلك، ولكنك حين تضمهما إلى بعضهما البعض تنشأ حالة أو معنى غير محبب، كما إذا ظهرت حالة الحول وعدم التناسق في حركة سواديهما. أو كما لو كانت إحداهما أصغر من الأخرى، أو كانت هناك درجة غير مستساغة من التباعد أو الاقتراب.

فللعين إذن جمال ذاتي، واقعي.. ولها أيضاً تأثير ومشاركة في إنشاء حالة جمالية، أو قباحة في الهيكل العام للوجه، وربما يؤثر ذلك على الناحية الإيحائية تجاه الجسد كله..وفي جسد الإنسان مواقع ليس لها خصوصية جمالية لافتة، إلا من حيث انسجامها مع مواقع وأحجام سائر الأجزاء الداخلة في التكوين العام للجسد.. فليس لليد مثلاً جمال خاص بها - كما هو الحال بالنسبة للفم، أو العين على سبيل المثال.. ولكن لو تغير موقعها قليلاً أو كثيراً، أو لو أنها صغرت، أو كبرت، فإن ذلك يعطي الإيحاء الخاص المتناسب مع هذه التحولات.

وبعد أن اتضح ذلك نقول: بما أن الإنسان ليس له حالة جمالية تلفت الأنظار، فقد كان من إعطائها صورة جمالية أرقى تعطيها درجة من التميز تتبلور من خلال ذلك لذة تدفع إلى الطلب والسعي، للحصول على هذا. وكان لا بد لليد من كسب ذلك من خارج ذاتها. بأن تكون جزءاً من هيئة لها صفة جمالية رائعة، أو أن تكون الأساور هي التي تعطيها هذا الأمر.. تماماً كما هو حال القرطين في الأذنين، وأحمر الشفاه، وصباغ الأضافر، والخلخال، وما إلى ذلك.

فالأساور هي التي تحلي، وتعطي الرونق، وتزيد في الانجذاب إلى تلك المواضع لإدراك خصوصيات الجمال فيها.. ولذلك قال: (حُلُّوا) ولم يقل: ألبسوا الأساور، فإن ذلك يبين أن اللبس للأساور قد حصل، وأن حصوله كان بفعل الآخرين لأجل تكريمهم.. ثم هو يبين الداعي لهذا الإلباس، وهو زيادة الرونق، وإيجاد حالة جمالية جديدة..

(مِنْ فِضَّةٍ):

وقد وقع الاختيار هنا أيضاً على الفضة لتكون الأساور منها..وقد ألمحنا في السابق إلى أن منشأ القيمة في الآخرة، وفي الجنة بالذات ليس هو الاعتبار، لأن الاعتبارات تزول في الآخرة، بزوال مناشئها..وتصبح قيمة الأشياء هناك بما تؤديه من خدمة ودور في إسعاد الأبرار، وأهل الإيمان.. والفضة هي المطلوبة في هذا المورد، خصوصاً إذا لاحظنا ما يلي:

1. إنها على درجة عالية من الشفافية بحيث يرى ما خلفها..

2. إنها مع ذلك تحتفظ بلمعانها الأخَّاذ..

3. إنها تفضّ النظر الذي ينصب عليها، وتفرقه وتجزؤه(8) وتنشره.. وينعكس عنها، ويتسع ليقع على غيرها..

فإن اللون الأبيض، يعكس النور ويرده، ويفرق البصر وينشره.. أما اللون الأسود فهو يجمع البصر إليه، ولا يتفرق عنه، ولا ينتشر..ولكن الفضة هنا تفترق عن اللون الأبيض في أنها لا ترد النور، بل هي تستوعبه في نفس حال نشرها له، كما أنها في حين هي تفرق البصر وتنشره، فإن البصر يخترقها ويتجاوزها إلى ما بعدها..وهكذا يتضح كيف أن النظر إلى فضة الجنة يؤدي أكثر من مهمة معجزة، وخارقة للعادة..4. ثم إن ثمة حالة فريدة، ورائعة، وهامة، تصل إلى حد الإعجاز، فإن من ينظر في المرآة لايرى المرآة نفسها، بل يرى الصورة فيها، والذي يرى ما بعد الزجاج الشفاف فإنه لا يرى الزجاج نفسه، ولكن الأمر في الجنة ليس كذلك؛ إذ إنه في حين هو يرى الفضة، فهو يرى ما بعدها أيضاً. ويرى أيضاً أموراً أخرى حولها.. فهل يكون هذا إلا الإعجاز بعينه..وهذا يعطي قدراً زائداً من البهجة، والسرور، ويلامس الأحاسيس والمشاعر، ويثير فيها المعاني والخواطر اللذيذة المختلفة..ولأجل ذلك، كانت للفضة هذه القيمة العالية جداً، التي تظهر ما تؤديه من دور في تحقيق درجات عالية من النعيم لخصوص هؤلاء الأبرار، حتى لقد جعل الله تراب الجنة منها..

لماذا خصوص الأساور؟!:

وأظن أن ما ذكرناه فيما سبق يكفي للإجابة على سؤال: لماذا تحدث الله سبحانه عن تحلية الأبرار بالأساور دون سواها، من مفردات تدخل في هذا السياق؟..فإن الأيدي قد تكون من أكثر أعضاء الجسد الإنساني حركة ظاهرة ومرئية للآخرين، فهو يحركها، وهو يمشي، وحين يتكلم، ويستفيد منها في الوصول إلى أكثر حاجاته، وفي أكثر حالاته وتصرفاته.. والبصر يتابع الحركة، وينشدُّ إليها، وللأساور دورها المميز في متابعة البصر، وانشداده. فهي تزين اليدين بما للونها من خصوصيات، وبما لمادتها من ميزات ذكرناها سابقاً، وهي تختطف النظر إليها بما تكون لها من حركة، مع اليد أولاً، وبالحركة التي تكون ناشئة عن إطلاقها، وعدم تقييدها، فهي من جهة حركة إرادية، في تبعيتها لحركة اليد، ومن جهة أخرى غير إرادية في نفسها بسبب إطلاق الأساور في طبيعة وضعها العام..وهي تشد البصر أيضاً من حيث إن لحركتها صوت ورنين يثير الانتباه، وتتداعى بسببه معان ومشاعر مختلفة ومتنوعة..أضف إلى ذلك كله.. أن حركة اليد تكون في مختلف الاتجاهات..

هل الزينة خاصة بالنساء؟:

ولا مكان للوهم الذي يقول: إن الزينة إنما تناسب النساء. فما معنى جعل الأساور للرجال؟..

إذ إن الزينة أمر مطلوب ومحبوب في كل مواقع الرضا والصلاح..

وقد قال الإمام الصادق عليه السلام: (كونوا لنا زيناً)(9)..

وقد زين الله السماء الدنيا بزينة الكواكب..

والأرض تتزين أيضاً بإخراج زخرفها..

وقال تعالى: ﴿ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾(10)..

من الذي يحلِّيهم بالأساور؟:

وقد جاء التعبير بصيغة الماضي المبني للمجهول.. ربما لأنه يريد بيان النواحي الجمالية، التي يكرم الله تعالى بها الأبرار، ولا يقصد بيان من هو واهب هذه النعم، أو منشأ هذه الكرامات..وعلى كل حال، فإن تحليتهم بالأساور، من شأنها أن تثير جواً من البهجة والسرور للأبرار أنفسهم، ببعضهم بعضاً. وسرور غيرهم من أهل الإيمان بهم.. كما ألمحت إليه أيضاً كلمة: (خُضْرٌ)، فإن الخضرة تكون مصدر أنس لمن يراهم من أهل الإيمان، وسبباً في الحسرة والألم لأهل الطغيان..

(وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ):

ثم انتقل سبحانه إلى إظهار أمر يلتذ به الأبرار أنفسهم، دون سواهم، فذكر الله سبحانه أنه هو الذي يسقي الأبرار، حيث لم يقل: (يُسقون)، فإنه تعالى، وإن كان قد قال في آية سابقة: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً﴾.. وليس ثمة ما يمنع من أن يكون الذي يسقيهم هو ربهم أيضاً.. ولكن لم يكن المقام هناك مقام بيان من هو الساقي، بل كان في مقام بيان إكرامهم، بطريقة حصولهم على الشراب، وأنهم لا يحتاجون إلى المبادرة بأنفسهم إليه، بل سوف يكون ذلك من غيرهم..

أما ها هنا، فقد أراد الله سبحانه أن يقرر لهم لذة الشرف بالساقي أيضاً، وهو ربهم تبارك وتعالى.. لأنه تعالى يريد أن يعلن بأن لهم عنده أعلى درجات التكريم، وأسمى حالات العناية بهم والرعاية لهم، حتى أنه سبحانه هو الذي يشرفهم فيسقيهم هو الشارب الطهور..ثم إنه تعالى لم يقل: (أنا أسقيهم)، بل قال: (سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ) ولم يقل: سقاهم الله، أو سقاهم إلههم، أو الرب. ربما ليلمح إلى أن هذه النعم، إنما تعطى إليهم بأعيانهم من موقع الربوبية التي تعني العمل من أجل المربوب، وإظهاراً للاهتمام به، ودفعاً له في صراط التكامل والتنامي، من موقع الحكمة والمحبة له، وبهدف ترشيده، ونقله من حسن إلى أحسن، ومن كمال إلى كمال أتم.

كما أن هناك عناية بإظهار أن هذه الربوبية ليست مقاماً إلهياً منفصلاً عنهم، ولا هي عنوان عام لا ربط له بهم، بل هي ربوبية لهم بصورة مباشرة، تتجلى لهم في جميع الحالات وبصور مختلفة وحالات متعددة، وهي تعنيهم فرداً فرداً..وهذا الشعور لذيذ للأبرار، محبب لهم، وهو منشأ لمشاعر مختلفة في اتجاهاتها، ولكنها مجتمعة في ما تهيئوه من أنس ورضا..

الشراب الطهور:

و(الطهور) من صيغ المبالغة، والتكثير في الطاهر، والمعنى: أنه طاهر بنفسه، مطهر لغيره.

وهو شراب يتناولونه لمرة واحدة، ولا يحتاج إلى تكرار.. ولعله لأجل ذلك جاء بصيغة الفعل الماضي: (سَقَاهُمْ)، ولم يقل: (يسقيهم).

فما يسقيهم ربهم إياه هو شراب يطهرهم من كل عناء الدنيا، ومن جميع شوائبها، فكما أن الماء الطهور يطهر الثوب، كذلك الشراب الطهور الذي يسقيهم الله إياه مطهر لنفوسهم وأرواحهم من كل ما نالها من تعب وعناء، وما تعرضت له من أذى في الدنيا وبلاء.. ومُذهب لكل ما ينغص عليهم عيشهم، ويكدر نعيمهم وملكهم..وبهذا السقي الربوبي، الذي تطهر به نفوسهم وأرواحهم، تتهيأ وتستعد لاستقبال أنواع النعيم، بصافي الفطرة، وبكامل القدرة..ومن المعلوم أن المبالغة تارة تكون لتأكيد الكثرة أو القلة في الأفراد، وأخرى تكون لتأكيد حالة الشدة أو الضعف، أو الصغر أو الكبر..فالمبالغة في كلمة صبور ناظرة إلى بيان شدة الصبر. والمبالغة في ملول، ناظرة إلى كثرة الملل الذي يحصل منه في مرات كثيرة.. وكذلك حين نقول: صدوق أو كذوب. فإنها ناظرة إلى كثرة أفراد الصدق والكذب التي تصدر منه..وفيما نحن فيه نقول: إن الطهورية مبالغة في الطاهر، من جهة إنه طاهر في نفسه، ولا ينجسه غيره. كماء البحر، وقد تكون من حيث أنه طاهر بنفسه مطهر لغيره، مهما تكثرت أفراد ذلك الغير، فإن البحر يبقى مطهراً له. وتبقى طهوريته في نفسه، مهما كثر عروض النجاسات عليه، فإنها لا تؤثر فيه..


1- سورة الطور الآية20.

2- التوحيد للمفضل بن عمران الجعفي ص50 والحكايات للمفيد ص85 والبحار ج3 ص90 وج10 ص454.

3- سورة سبأ الآية 47.

4- سورة الأعراف الآية 32.

5- قاموس الرجال ج5 ص143 و144 والكافي ج6 ص442.

6- سورة الضحى الآية 11.

7- سورة القصص الآيتان 78/79.

8- فقوله: انفضوا، معناه تفرقوا من حوله. وقوله: لا فض فوك. دعاء بعدم فقده لأسنانه وعدم تفرقها بالقلع..

9- شرح الأخبار ج3 ص585 و590 والإعتقادات للمفيد ص109 والأمالي للطوسي ص440 والبحار ج65 ص151 وج68 ص276 و310.

10- سورة الأعراف الآية31.