الفصل العشرون.

الفصل العشرون.

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾.

(وَإِذَا رَأَيْتَ):

وقد قال تعالى: ﴿ إِذَا رَأَيْتَ﴾.. ولم يقل: لو رأيت، أو إن رأيت.. لأن كلمة (لو) تفيد الامتناع، وعدم الحصول، وكلمة (إن) تستعمل في مورد الشك في الحصول.. مع أن المطلوب هو التأكيد على الحصول، وإظهار اليقين به، وهذا هو مورد كلمة (إِذَا) وهو المناسب هنا، لأن الهدف هو الترغيب والتشويق، والحث على التزام سبيل الأبرار، واتباع نهجهم.

(رَأَيْتَ)، من جديد:

ثم إنه سبحانه قد عبر بكلمة (رأيت) ولم يقل: سمعت، أو علمت، أو عرفت ما أعد الله للأبرار من الملك والنعيم.

كما أنه سبحانه قد اختار الخطاب المباشر، فلم يقل لو يعلم الناس ماذا أعد الله للأبرار، الخ..

واختار أيضاً الخطاب للفرد، لا للجماعة، فقال: (رأيت)، ولم يقل: (رأيتم).

كما أنه لا بد من تحديد المفعول لكلمة رأيت الأولى.. وأن يُسأل أيضاً عن المفعول الثاني لكلمة (رَأَيْتَ) الثانية..فما هو السبب في ذلك كله، يا ترى؟!..

ونقول: إننا قبل أن نجيب على هذه الأسئلة، نلفت النظر إلى: أن الدقة في معاني المفردات مطلوبة، ليحصل الأمن من أي خلل أو تشويه أو نقص، أو غموض في التصور العام الذي تسهم تلك المفردات في إنشائه..

وأما جواب الأسئلة فهو كالتالي:

1. الخطاب للمفرد: إن قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ)، لا يعني أنه يخاطب فرداً بعينه، بل هو يخاطب فرداً على سبيل البدل، أي أنه يخاطب كل من يصلح للخطاب، ويمكنه أن يدرك فحواه، فهو من قبيل: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾(1)؟! ومن قبيل: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾(2)؟!..وهذا معناه: أن الخطاب يشمل الكافر والمؤمن، لأن الجميع سيرون هذا النعيم للأبرار، فيكون به سرور أهل الإيمان، وحسرة أهل الكفر والطغيان..ومن فوائد جعل الخطاب للمفرد على سبيل البدل، هو أن كل واحد من الناس يشعر أنه معني به، فيكون أشد انتباهاً لمعناه، وترصداً لإشاراته، وإدراكاً لمراميه.. ثم هو يشعر بالمسؤولية تجاهه، ويجد نفسه مطالباً بالتزام الاستجابة له..

2. الرؤية والمعاينة: وحول لزوم التعبير بالرؤية دون سواها، مما يدخل في نطاق التعبير عن المعرفة، نقول: إن الرؤية تعني الحضور في المكان المناسب، والزمان المناسب لصحة الرؤية.. كما أنه لا بد أن يكون حضوراً مع وعي والتفات..والرؤية البصرية تعني المشاهدة المباشرة، وهي أقوى وأشد إقناعاً، وأوضح وأيسر إدراكاً مما لو استندت المعرفة بالأمر إلى سماع الخبرية مثلاً..فإن الإدراك إنما هو لصورة اخترعتها المخيلة، من خلال مفاهيم الألفاظ التي ألقيت إليها. وليس بالضرورة أن تكون دقيقة الانطباق على الواقع الذي يراد له أن يتصوره..وقد تضمن هذا الخطاب - باختيار كلمة (رَأَيْتَ) - دلالة واضحة على مدى الثقة بالمضمون، وأن القضية ليست مجرد وعد بأمر قد يتبدل الرأي بالوفاء به..كما أن الحديث ليس عن أمر مستقبلي، قد يطرأ خلل في مقتضيات وجوده، أو يبرز مانع عن ذلك الوجود، بل هو حديث عن أمر فعلي ناجز وظاهر للعيان، يمكن تلمسه بحاسة البصر..وسيأتي: أن الرؤية قد تعلقت بالنعيم، مع أنه ليس بمحسوس. وهذا أسلوب آخر لإظهار شدة الحضور أيضاً..

3. إطلاق الرؤية: (رَأَيْتَ ثَمَّ): ويبقى أن نذكر هنا: أن كلمة (رَأَيْتَ) الأولى لم يذكر فيها ما تقع عليه الرؤية بالتحديد، بل اكتفى تعالى بالرؤية مجردة عن أي تقييد هناك، ربما للإشارة إلى أن المقصود هو ذكر من يملك القدرة على الرؤية، والقابلية لها، فكأنه قال: يكفي أن يكون عندك إمكانية أن ترى ولو في الحد الأدنى، ولأي شيء كان.. لكي ترى النعيم والملك الكبير بيسر وسهولة، من دون حاجة إلى أي عنصر مساعد، أو رافع للموانع، إذ إن الرؤيا ستكون ميسورة وسهلة لك، كما أنه لا يوجد أي شيء يمنع ويصد..فلا حاجة إلى قوة بصر..

كما لا حاجة إلى تقريب الأشياء..

ولا إلى إيجاد مناخات تساعد على الرؤية..

ولا إلى جهدٍ لإزالة الموانع..(ثَمَّ):

ثم هو قد عبر بظرف المكان بدلاً عن المفعول، فقال: (رَأَيْتَ ثَمَّ)، أي إذا حصلت لك قابلية الرؤية ولو بأدنى مراتبها، هناك..فسوف ترى نعيماً وملكاً كبيراً..فهو لم يذكر سوى كلمة (ثَمَّ) ليفيد عموم الرؤية لكل النواحي، في تلك الجنة..والتعبير بكلمة (ثَمَّ) التي هي للبعيد، يشير إلى أن الوصول إلى ذلك المكان البعيد عن التصور والتخيل، والبعيد أيضاً من حيث المكان.. يحتاج إلى بذل جهد، وسعي للحصول وللوصول في كلا الناحيتين..

لماذا (رَأَيْتَ) من جديد؟!:

وقد كان بالإمكان التعبير بأن يقول: (فستجد)، ولكنه أعاد كلمة (رَأَيْتَ) ليفيد التأكيد على شدة ظهور ذلك الأمر وحضوره، إلى حد أنه قابل للرؤية البصرية..

(نَعِيماً):

والنعيم ليس من الأمور المحسوسة، بل هو حالة من النشوة والرضا، واللذة، تنشأ من ممارسة أمور محسوسة، غير أو محسوسة.

وقد تعلقت الرؤية البصرية بهذا النعيم بالذات، ليشير إلى شدة حضوره، وليؤكد ظهوره إلى درجة أنه أصبح قابلاً للمشاهدة، فهو تعالى يحوِّل لك المعقول إلى محسوس، وقد علق الرؤية به مباشرة، لا بآثاره، أو دلائله، أو مناشئه، فلم يتحدث عن الأنهار، والأشجار، والقصور، والجنان، والحور.. وذلك مبالغة في التأكيد على واقعية هذا النعيم، وأنه قد تجاوز مرحلته إلى مرحلة التجسد والحضور الحسي..

(نَعِيماً وَمُلْكاً):

وقد اختار ذكر أمرين هنا: النعيم، والملك.. مقدماً النعيم على الملك.

والسؤال هنا هو: أليس الملك من مفردات النعيم؟!

فهل هذا من قبيل عطف الخاص على العام، لإظهار مزيد من الاهتمام بالخاص؟!

ونقول في بيان وجه ذلك:

إن مفردات النعيم جميعها، ترجع إلى أمرين:

أحدهما: ما هو حسي، كلذة الإنسان بالطعام والشراب، ولذته بأمور العلاقة بالجنس الآخر، ولبسه للإستبرق، وبشرب الزنجبيل، وما إلى ذلك..

الثاني: لذة إدراكية، شعورية، روحية، معنوية، يدركها الإنسا بحسه الباطني وهي أنواع كثيرة، ترجع كلها إلى لذة الإحساس بالواجدية، لما يوجد تارة، ويفقد أخرى..ومن أمثلة ذلك، شعور الإنسان بالرضا واللذة من خلال شعوره بواجديته لكمالاته الحقيقية، أو لما يراه كمالاً له، مثل كونه غنياً، أو ذا مقام وموقع، أو ذا سلطة وحاكمية. أو عالماً، أو معافى غير سقيم، وما إلى ذلك..فخصوصية الجمال مثلاً، تعطي من يتصف بها لذة معنوية شعورية هي لذة الشعور بالرضا والواجدية على سبيل الملك، وهي تعطيه تأكيداً وثباتاً لشخصيته المالكة لمزاياها..وهو بالنسبة إلى الغير إدراك لحالة التناسق القائم بين العناصر، بعد انضمام بعضها إلى بعض، وفق نظام معين. الأمر الذي ينشأ عنه حالة من الارتياح، بل والانشراح..وقد أشار الله سبحانه في سورة ﴿هل أتى﴾ إلى كلا هذين النوعين، فذكر الملك الكبير، والاتكاء على الأرائك، وطواف الولدان، والجنة، وما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اللذة الإدراكية الشعورية، وفي دائرة الملك، والإحساس بالكرامة، والحاكمية، والواجدية، وأشار إلى اللذة الحسية عرضاً في نفس تلك الآيات السابقة، حيث أشار إلى الزنجبيل، والحرير.. ثم تحدث هنا عن ثياب السندس، والحرير، والإستبرق، والتحلية بالأساور، وغير ذلك مما يدخل في دائرة النعيم الحسي..وبعدما تقدم نقول: صحيح أن النعيم عام وخاص، ولكن الظاهر هو أن المقصود بالنعيم في قوله تعالى (نَعِيمَاً): النعيم الحسي.. والمقصود بالملك: النعيم الإدراكي..أو أنه أراد بالنعيم أولاً المعنى العام، ثم ذكر النعيم الإدراكي، بقوله: ﴿ وَمُلْكَاً كَبِيراً﴾ ثم عاد فذكر النعيم الحسي في قوله: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ﴾ كما سنرى..

(كَبِيراً):

ثم إنه تعالى قد وصف ملك الأبرار بأنه كبير، ولم يصفه بالعظيم، ولا بالواسع، أو نحوه..

ولعل ذلك يعود إلى أن كلمة (كَبِيراً) تختزن معنى العظمة، ومعنى السعة أيضاً، ولا يريد الله سبحانه بالملك خصوص معنى السلطة والحاكمية، بل هو يقصد الواجدية لكل ما لو فقده الأبرار لأحسُّوا بالحاجة إليه، أو لظهر لديهم حنين إليه، إنه يتحدث عن الواجدية بمختلف معانيها، ومفرداتها التي تناسب حال الأبرار، ومنها ملك المال، والمقام، والسلطة، وغير ذلك من مزايا..

ومعنى ذلك: أن كلمة عظيم، لا تفيد معنى السعة والشمول.

وكلمة واسع قد تنصرف، إلى مساحة رقعة السلطان. فلا تشمل حتى معنى العظمة أيضاً، فكان التعبير الأدق والأصح، والمناسب والجامع لسائر المعاني التي يراد التعبير عنها، هو قوله: ﴿ وَمُلْكَاً كَبِيرَاً﴾..تنوين التنكير:

وقد جاء قوله: (نَعِيماً) و (وَمُلْكَاً كَبِيرَاً) منوناً بتنوين التنكير، ليفيد التعظيم، والتكثير، والاستمرار إلى أبعد مدى ممكن، مفسحاً بذلك المجال أمام وهم وخيال الإنسان ليذهب في كل اتجاه، وإلى أبعد مدى.. وليفهمنا أن ما ذكرته الآيات، لا يعدو كونه مجرد إعطاء مبدأ للتصور، ولا يراد به بيان الحقيقة بكل تفاصيلها.. ويكون الإتيان بتنوين التنكير بمثابة الإعلان عن هذه الحقيقة، من خلال إطلاق خيال الإنسان عن كل قيد، حيث سيبقى برغم ذلك غير قادر على إدراك الحقيقة، كل الحقيقة دفعة واحدة..ويبقى لنا كلام حول أنحاء الاعتبار وأنه على نحوين، سوف يأتي في أوائل الفصل التالي..


1- سورة الفيل الآية1.

2- سورة الماعون الآية1.