الفصل الثامن عشر.

الفصل الثامن عشر.

قوله تعالى: ﴿ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً﴾.

وفي بيان المراد من هذه الآية، نقول:

(عَيْناً):

1. قد اختلفوا في إعراب قوله: (عيناً).. فهل هي: بدل من قوله: (زنجبيلا).أو بدل من قوله: (كأساً).

أو منصوبة بفعل محذوف، مثل ترون، أو تنظرون عيناً، أو نحو ذلك..أو منصوبة بنزع الخافض بتقدير: يسقون عيناً، أي من عين على طريقة التجوز في الإسناد..وقد ذهب إلى كل وجه من هذه الوجوه الإعرابية فريق..ولكل إعراب خصوصية في المعنى، يرتكز عليها، ولا حاجة إلى تفصيل ذلك، غير أنه سيظهر من مسار الكلام: أننا نرجح الوجه الثاني..

2. لعل السبب في عدم الاكتفاء بذكر الكأس، بل أضاف قوله: ﴿ عَيْنَاً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً﴾.. هو إرادة التحرز عن أي شعور بأن الكأس قد تفرغ من محتواها، بعد شرب ما فيها، حيث يستبعد الناس بقاءها على صفة الامتلاء بملاحظة صغر حجمها، ومحدوديتها من حيث السعة، مما قد يثير شعوراً بالفقدان لهذه النعمة، وتخوفاً من عدم وجدانها بعد ذلك.. وذلك يقلل من درجة الالتذاذ بها.. ويزيل أو يقلل من مستوى الثقة والطمأنينة لديه..

3. والعين هي البئر النابعة، التي لا تنضب، وعطاؤها ذاتي فيها، فهي لا تحتاج إلى استقدام شيء من خارجها.

وهذا يعطي شعوراً بالغنى عن الأغيار.. ويزيد من مستوى الطمأنينة والسكينة.. فإن الكأس لا تنضب بل هي بمثابة عين، بل هي عين بالفعل يبقى تفجرها، وعطاؤها مستمر، وهو ذاتي فيها.

وكونها عيناً فيه إشارة أيضاً إلى الغزارة، وإلى الكثرة، فضلاً عن الاستمرار، وهذا مما يزيد في الطمأنينة والراحة أيضاً..ثم إن نفس كونها عيناً، يشر إلى أنه لا مشقة في الحصول على المراد، من حيث إنها تتفجر، ويطفح، ويفيض، ويجري محتواها إلى ما حولها..

(فِيهَا):

ثم أشار بكلمة (فِيهَا) إلى أن هذه العين؛ في الجنة، ليثير ذلك المزيد من البهجة، والسرور. فبالإضافة إلى خلوه من جميع أنواع الكدورات والمنغِّصات، التي لا يخلو منها شراب الدنيا، نعم إنه بالإضافة إلى ذلك، هو نظير من يشرب شرابه على ضفة نهر، أو على قمة جبل مشرف على منظر خلاب، فإن لذته بطعامه وشرابه تتضاعف بالقياس إلى لذته لو شربه في داخل غرفة عادية، مبعثرة الأثاث، سيئة المظهر والمنظر.. مع أن نفس تناول الطعام، وإحساس الذائقة به لا يختلف في الحالتين..

(تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً):

1. ويلاحظ: أنه تعالى لم يقل: عيناً سلسبيلاً، بل قال: (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)، ولم يذكر من الذي يسميها بهذا الاسم..فكلمة (تسمى) قد أشارت: إلى أن هذا هو أحد أسماء تلك العين، التي عرضت لها بسبب ملاحظة خصوصياتها، الداخلة في حقيقة وجودها، حتى لقد أطلقت عليها هذه التسمية بصورة عفوية وواقعية، فلا حاجة، بل لا مجال، لتعيين من الذي سماها..

وذلك يشير إلى أن صفة السلسبيل ليست عارضة على تلك العين، ولا يوجد أي ادعاء أو مبالغة غير واقعية فيها، فمعرفة الفاعل للتسمية لا تزيد في الثقة، ولكن مجهوليته هي التي تزيدها..2. أما كلمة (سلسبيل): فقد ادعي أنها لم توجد في كلام العرب، وأن القرآن هو الذي استعمل هذه الكلمة فقط..ويبقى هذا مجرد ادعاء، فإن القرآن لم يكن ليأتي بكلام غير مفهوم، ولا معلوم لدى الناس، وهو القائل عن نفسه: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾(1)..والسلسبيل أصلها سلسل، ثم زيدت الباء والياء فيها للإشارة إلى أن هذه الصفة ثابتة فيها بعمق وقوة، وبدرجة عالية، وربما يكون سبب الزيادة غير ذلك.

كما أن من الجائز أن تكون نفس هذه الكلمة قد وضعت لإفادة هذا المعنى من دون أن يزاد فيها شيء.

والسلسبيل هي البالغة اللطافة، والسلاسة، والليونة، والسهولة..وإذا لاحظنا صفة الحرارة واللذع في الزنجبيل، فكون هذه العين بهذه الدرجة من اللطافة والسهولة يعطينا أنه زنجبيل يختلف عما عرفناه في الدنيا، بل هو يكاد يكون مضاداً له في صفته هذه..

لماذا هذه التفاصيل والدقائق؟:

ونحن إذا نظرنا إلى هذه الآيات القليلة، من بداية السورة، وإلى هنا، نجد أنها قد تناولت الإنسان موضوعاً، وتحدثت عنه وعن نشأته وحياته، بشمولية ودقة، لا حدود لهما، وبينت إلى أي مدى تصل حساسية هذا الموضوع، وأن أهميته هي بحجم الإنسان نفسه، الذي انطوى فيه العالم الأكبر..فبدأت السورة بالحديث عن التكوين المادي، والمعنوي، والعقلي، والمشاعري، وغير ذلك. في بضع آيات استهلها الله تعالى بإثارة السؤال الكبير: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾.. وهو استفهام يراد به الإنكار، ليتوصل من خلاله إلى التأكيد على أن الإنسان لم يزل موضع الاهتمام والرعاية الإلهية.. مستدلاً على ذلك، بما ظهر من بديع خلقة الإنسان، الذي أودعت فيه قوى ينشأ عن احتكاكها بالواقع من حولها ابتلاء، ثم بلورة ونمو ظاهر في أسباب العلم ووسائله، حيث أصبح بسبب ذلك شديد السمع، حديد البصر، وهذه الوسائل هي التي تمكنه من إدراك الحقائق، ليصبح السبيل - الذي يفترض فيه أن يسلكه لنيل الأهداف الكبيرة - ظاهراً وواضحاً له..وهذه الوسائل هي تلك الهدايات الإلهامية، والفطرية، والحسية، الظاهرية منها، والباطنية، والعقلية، والتشريعية التي أشرنا إليها أكثر من مرة..ثم هو قد أعطاه الاختيار.. حتى إذا اختار طريق الخير، فكان من أهله، فإنه يستطيع أن يشرب ما أمكنه من كأس؛ مزاجها الكافور الذي يفيد في إصلاح وإبعاد الشوائب، التي قد تعلق بعمل الخير ذاك، ويسهم في تنقيته وتصفيته، وإعداده بالصورة الصالحة..وتلك الكأس هي مصدر للخير لا ينضب، وهو كفيل بصناعة الشخصية الإيمانية للأبرار، وصياغتها بالصورة التي يريدها الله سبحانه، ولها، حيث تتكون قناعاتهم، ومفاهيمهم، ومشاعرهم، وتنطبع ممارساتهم بطابعها الإلهي، ليكون لهم التفرد التميز الظاهر، وليكونوا أهلاً لنيل نعيم الجنة الذي وصفه الله تعالى لهم..

وصف نعيم الجنة:

ومن الواضح: أنه لا شك في أن الأبرار هم في مستوى يؤهلهم للاستفادة من هذا النوع من النعيم، فإنه تعالى قد أسهب في وصف مفرداته بصورة لافتة، حتى ليظهر من هذه السورة المباركة على صغرها: أن وصف مفردات دقائق وتفاصيل هذا النعيم، هو المحور الأساس، والأهم، وكأنها قد أنزلها الله تعالى لهذا الغرض بالذات، ربما لأن لذلك الأثر الكبير من الناحية التربوية، وفي إيجاد الحوافز لدى الناس للسعي لنيل ذلك، كلٌّ بحسب ما يقدمه من عمل، وما يبذله من جهد..

كما أن ذلك يسهم في رفع مستوى وعي الناس وإدراكهم وتطوير مفاهيمهم البسيطة، إلى مفاهيم أرقى تؤثر إيجاباً على حالتهم الإيمانية والعقائدية.

فضلاً عن تأثيره في التكوين النفسي والحالة الشعورية فيهم..وإن التأمل في آيات هذه السورة كفيل بإظهار صعوبة جمع، وضبط ما يدركه عقلنا القاصر فيها من إشارات، ورصد ما تختزنه من دلالات، ونظمها في قالب بياني واضح. وذلك لكثرتها، واختلاف تشعباتها..فكيف لو وقفنا على حجم وآفاق معانيها الواقعية، التي لا ينالها إلا الراسخون في العلم من المعصومين، والأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟!..

خصوصية البيان القرآني:

وإن وصف ورسم وتصوير القرآن لهذه الدقائق والحقائق التي تتميز بها مفردات نعيم الجنة، الذي استحقه أولئك الأبرار، يظهر لنا حقيقة، وخصوصية يمتاز بها البيان القرآني..وهي أن القرآن لم يعتمد في بيان الحقائق العقائدية، والقضايا الإيمانية، على مصطلحات تختص بعلم بعينه، من بين سائر العلوم، كمصطلحات علم الكلام، أو علم الفلسفة، الذي لا شك في ارتباطه الوثيق في الشأن العقائدي، إلى حد أن من يمارس المسائل العقائدية لن تفاجؤه تلك المصطلحات، وهي تتناثر عليه من كل حدب وصوب.. بل المفاجأة هي أن لا يجد ذلك..نعم، إن القرآن حين يعالج قضايا العقيدة، ويتصدى للتربية الفكرية والروحية في مجالاتها، لا يهتم لتلك المصطلحات، ولا لغيرها من مصطلحات سائر العلوم التي يهتم بها فريق من الناس، بل هو حين يعالجها يتكلم:

أولاً: باللغة العامة، المشتركة بين البشر جميعاً.

ثانياً: إنه حين يعرض قضايا العقيدة، وغيرها من القضايا التجريدية، فإنه يخرجها عن حالتها تلك، ويحولها أولاً إلى شأن حياتي، ويجسدها كواقع عملي، يهم الإنسان بما هو إنسان، ويعنيه بصورة مباشرة، ثم يقدمها إليه ليتلمَّس فيها الخصوصية التي تعنيه..

فتدخل إلى قلوبهم، وإلى عقولهم، وإلى نفوسهم بصورة طبيعية وعفوية، ومن الأبواب التي تناسب القلب، والعقل، والنفس، من دون أن يكون هناك أي حرج، أو صعوبة، بل هو يذلل كل الصعوبات، ويزيل جميع الموانع..فمثلاً، حين يريد أن يتحدث عن التوحيد، ورفض الشرك، فإنه يثيره بطريقة تستبطن الدليل الفلسفي، ولكن دون أن يستخدم مصطلحات علم الفلسفة، فيشير إلى موضوع تضادّ الإرادات، أو بطلان تأثير ما عدا الإله الواحد، وبطلان تعدد الآلهة، ولكن من خلال التأكيد على أنه يوجب فساد الحياة، وفساد السماوات والأرض، ويتناقض مع هدف الإله الحكيم من الخلق، لأنه إنما يريد الصلاح..

وواضح: أن الفساد لا يمكن للإنسان أن يرضى به، لأنه يهدد حياته، وترفضه فطرته، وعقله، لأنه يخلّ بسعادته وراحته، وبخططه، وبمستقبله..

والحاصل: أن القرآن ليس كتاباً فلسفياً، ولا تاريخياً، ولا فقهياً، ولا غير ذلك، وإنما هو كتاب الله تعالى، يظهر للمعاني الدينية، وللأحكام الشرعية، وقضايا التاريخ، وجهها العملي، حين يحولها إلى شأن حياتي، ليستفيد الناس منه، وليتفاعلوا معه بصورة عفوية، ولا يتحدث للناس بمصطلحات تختص بفريق دون فريق، ولا بعلوم لا يعرفها إلا قلة من الناس، في كل زمان ومكان..وحتى حين ذكر بعض الأمور الكونية، فإنه ذكرها أيضاً بلغة عامة، ولم يستعمل مصطلحات أهل الفلك، أو غيرهم..

وحين يتحدث عن نعيم الجنة، فإنه لا يبالغ فيه بهدف إغراء الناس بأمور خيالية.. لأن الإنسان غير قادر على استيعاب الحقيقة مجردة، فكيف إذا أريد الزيادة عليها بأسلوب المبالغة.

إن القرآن يقرر الحقائق على ما هي عليه، وبصورة عملية تفصيلية، تجعل الإنسان يعيش ذلك النعيم بكل وجوده، وتجعل جميع جوارحه تتشارك فيه.

لكن ذلك لا يعني أن علم الفلسفة مثلاً ساقط عن الاعتبار.. إذ لا ريب في أننا نحتاج إلى علم الفلسفة لمواجهة الشبهات التي يلقيها المتحذلقون من شياطين الإنس.

ولا شك في أن هذا العلم بضوابطه الصحيحة، وقواعده السليمة، يسهم في صيانة العقيدة، ويفيد في إثراء الفكر وفي بلورته..ولكننا نقول: إن الفلسفة هي لغة فريق من الناس، وليست لغة جميعهم.. والقرآن هو كتاب الله أنزله للبشر جميعاً، فلا بد أن يخاطبهم سبحانه باللغة البشرية، لتثبيت قضايا الدين وشرائعه في وجدانهم، وعقلهم، وفكرهم.

ولكن ذلك لا يعني أن لا يشير بطريقته الخاصة أيضاً، إلى حقائق علمية..وعلى كل حال، فإن الأدلة العقلية وغيرها مما يساق لإثبات الحقائق الاعتقادية، إنما تأتي لتأكيد مقتضيات الفطرة، وتقويتها، وصيانتها عن أن تتعرض لأي تشويه، أو تلوث..فنحن نقول: إن القرآن قد جاء بنهج استدلالي جديد وفريد، حبذا لو اهتم علماؤنا بالاستفادة منه في تأسيس فلسفة جديدة، سيكون لها أثرها العظيم في بلورة الحقائق وتوضيحها بصورة أتم للبشرية جمعاء، لأنها هي اللغة الجامعة والمفهومة لدى الجميع..فمثلاً قوله تعالى: ﴿ أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾(2).. دليل عقلي يفهمه البشر جميعاً، ويتضمن الإعجاز الذي يؤكد وجود الله سبحانه للناس كلهم.. فإن الخصوصية التي يريد الله أن يفهمها للناس، ثابتة في كل عصر وزمان، حتى لو لم يعد للإبل دور يذكر في حياة البشر - وهي خصوصية باقية يعرفها البشر جميعاً، أو يمكنهم الاطلاع عليها على مر الزمان، وليست مرهونة بالحاجة إلى الإبل وعدمها..كما أنه حين بيَّن في هذه السورة أن الأبرار يطعمون الطعام على حبه مسكيناً، ويتيماً، وأسيراً.. قد بدأ ببيان تفاصيل الجزاء لهم، والذي جاء نتيجة ممارسة، وجهد، وحركة، وعمل حياتي، وعطاء منهم..

والممارسة والجهد مرتكز إلى حوافز عقيدية، ومنطلق من نظرة معينة للحياة، ومن قناعات ومشاعر، ومن تكوين نفسي، وفكري، له خصوصيته وفرادته.. وليس ناشئاً عن حالة عفوية، ولا مرتكزاً إلى أمور خارجة عن حياة الإنسان.. بل هو تضحية متعمَّدة، يحمل معه قراراً بالتنازل عن علاقة في مقابل علاقة أخرى..وهذا بالذات يفسر لنا سبب بدء السورة بإعطاء تصور عن واقع ونشأة الإنسان، وعن سيره التكاملي، وعن إعطائه الاختيار في أن يفعل، وأن لا يفعل، وعن أن اختياره، وجهده هو الذي يوصله إلى هذه النتائج في الآخرة..


1- سورة الشعراء الآية 195.

2- سورة الغاشية الآية17.