الفصل السابع عشر.

الفصل السابع عشر.

قوله تعالى: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً﴾.

(وَيُسْقَوْنَ): لماذا الواو؟!

وقد قال تعالى: ﴿ وَيُسْقَوْنَ﴾ بالواو، ربما لأجل الإلماح إلى استقلالية هذا النوع من النعيم، لأن نفس هذه الاستقلالية لها لذتها أيضاً.. وقد جعل نفس سقيهم هو محور الحديث، لا نفس الشراب الذي يُسقى، لأنه لا يريد أن يجعل الشراب نفسه هو المحور في ذلك، بحيث تكون الأمور الأخرى من حالاته، وشؤونه التي تزيد في لذته.

ويؤكد هذه الاستقلالية، إضافة كلمة (فِيهَا) بعد كلمة (يُسْقَوْن) كما سنرى. إذ إن نفس هذا السقي في الجنة هو الآخر نعيم يضاف إلى ما سواه..

ولو أنه لم يرد إفادة هذا المعنى، لأمكن الاكتفاء بكلمة: (يُسْقَوْن).

(يُسْقَوْنَ):

ويلاحظ: أنه تعالى قال: (يُسْقَوْن) ولم يقل: (يشربون)..وما ذلك إلا لأن المراد هو تكريمهم، ليتنعموا بهذا الشعور بالعزة وبالكرامة الإلهية، ويؤكد هذا الشعور: أنهم في الجنة.. وأن هذا مما هيأه الله لهم.

فهذه المعاملة تشير إلى أنهم موضع عناية، واهتمام ورعاية، فهم لا يكلفون بالسعي إلى حاجاتهم، بل هي تُقدَّم لهم، للدلالة على قيمتهم وموقعهم، وفضلهم، واستحقاقهم..

(فِيهَا):

أما كلمة (فِيهَا) فقد أشرنا إلى أنه تعالى يريد من خلالها، تحسيس الأبرار بأنهم في الجنة ليزيد ذلك في بهجتهم وسرورهم..

(كَأسَاً):

والتنوين في قوله: (كَأسَاً) هو تنوين التنكير، وهو يشير إلى الإفراد والوحدة، ولعله لأجل إفهام الأبرار أن ريَّهم الدائم يتحقق بشربهم لهذا الكأس، بحيث لا يحتاجون إلى غيرها. خصوصاً وأنها تبقى كأساً مملوءة دائماً، لا ينالها النضوب، ولا تصير قدحاً فارغاً حسبما تقدم.

وفي هذا التنوين أيضاً، إبهام لحالات تلك الكأس، لعل الهدف منه إطلاق عنان الخيال الذي سيذهب كل مذهب في رسم صورة هذه الكأس، شكلاً، ولوناً، وحجماً، ونوعاً. الأمر الذي يوجب درجات غير متناهية من التلذذ بجمالها..وبما أن إطلاق كلمة الكأس إنما يصح في صورة كونها مملوءة، فإن الخيال لا بد أن يسعى أيضاً لتلمس حقيقة ما فيها من شراب، وما يوجبه من لذة غير متناهية أيضاً، وكذلك الحال بالنسبة للتلذذ بذلك المزيج..ويؤكد إرادة هذه المعاني، وتعمد الإبهام والإجمال، أنه تعالى لم يذكر حقيقة أو نوع الشراب الذي يكون في ذلك الكأس، بل ذكر لهم مزاجه فقط..لماذا التعدية المباشرة: إنه تعالى قال: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأساً﴾.. فجاءت التعدية مباشرة، ومن دون توسط حرف الجر، فلم يقل: يسقون من كأس، أو بكأس، أو نحو ذلك..مع أن الشرب إنما يكون لما في الكأس لا للكأس نفسه، فما هو السبب في ذلك؟!

الجواب: أنه تعالى يريد أن يشير إلى أن كل ما في هذه الكأس مطلوب، ومرغوب فيه، وليس فيها ما يرغب عنه، فليس فيها ما هو من قبيل الثمالة المتبقية في قعر الكأس، والتي يعافها الشارب، لكونها مظنة تجمّع الترسبات، التي قد تختلف مع سائر ما كان في الكأس، إما في حقيقتها، أو في طبيعة تشكلها، أو نحو ذلك..فإذا كان جميع ما في الكأس له حالة واحدة، فإن هذا يعطي الإنسان المزيد من الطمأنينة واللذة بما يشربه، حيث يشعر بصفائه وبخلوصه من كل ما يمكن أن تعافه النفس..فلا فرق بين الثمالة وبين سواها، لا في الشكل ولا في المضمون. فلا حاجة إلى (من) التبعيضية. بل لا معنى لإدراجها في الكلام، لأن ذلك قد يخل في المعنى المقصود..واستعمال كلمة (من) وإن لم يكن فيه تصريح بوجود ثمالة في الكأس، ولكنه لا يلغي احتمالها.. أما التعبير بشرب الكأس، فهو يلغي حتى هذا الاحتمال.. حيث يدل على أن جميع ما في الكأس لا شائبة فيه، وسيشربه أولئك الأبرار..بين (يُسْقَوْنَ)، و (يَشْرَبُونَ):

إنه تعالى قال: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا﴾.. ولم يقل يشربون.. وذلك لتحاشي الإيحاء بأن الأبرار هم الذين يتولون خدمة أنفسهم في هذا الأمر..وللتأكيد على أن هناك من يتولى خدمتهم، وتكريمهم بتقديم الشراب لهم.

(كَانَ):

وتأتي كلمة (كَانَ) في قوله تعالى: ﴿ كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً﴾.. لتشير إلى أن هذا المزاج له أصالة، وكينونة وثبات من بدء التكوين. وله رسوخ، وبقاء، واستدامة على هذه الحالة؛ في الحال، وفي المستقبل.

فليس هذا المزاج حادثاً وعارضاً على شيئين كانا على حالة الانفصال.. ولا مجال لإطلاق أوهام الإنسان ومخاوفه حول درجة هذا الانضمام والامتزاج، وعمقه ومداه..

(مِزَاجُهَا):

ويلاحظ أولاً: أنه تعالى قد عبر أيضاً بكلمة (مِزَاجُهَا)، فلم يقل: (ممزوجة)، ولا (مزجت)، حتى لا يكون في ذلك أية إشارة إلى فاعل بعينه؛ قد تولى هذا المزج. لكي لا يثور شعور بأن هذا المزج مرهون بإرادة مازجه، ولعل هذه الإرادة تغيب لسبب أو لآخر..كما أن التعبير بالفعل الماضي، كأن يقول: مزجت، غير صحيح، لأنه يفيد حدوث هذا الأمر، بعد أن لم يكن.. أما كلمة ﴿ كان مِزَاجُهَا﴾.. فهي تفيد أن هذا المزاج ثابت ومستمر منذ نشأة ذلك الشراب. فلا مجال لتوهم عروض المزج على ذينك الشيئين..

ويلاحظ ثانياً: أنه تعالى لم يقل: (كانت ممزوجة بالزنجبيل).

وربما كان سبب ذلك هو أنه تعالى لا يريد أن يجعل لأي من العناصر أية درجة من الأصالة، أو المحورية.. فإن ذلك قد يؤثر على النظرة إلى سائر العناصر، فإذا قيل: الشيء الفلاني ممزوج بالزنجبيل، فسوف يفهم أن لذلك الشيء أصالة ومحورية، والزنجبيل طارئ عليه.. حتى ولو كان المزاج في أصل التكوين.

وقيام هذا التوهم معناه: أن يفهم أن لذلك العنصر دور الأصالة، والأرجحية، ويكون العنصر الآخر أقل اعتباراً، وأضعف تأثيراً..

ويلاحظ ثالثاً: أن الضمير في قوله: (مِزَاجُهَا) يرجع للكأس، وكأنه يريد الإلماح إلى أن الظاهر من الكأس هو الشراب، وليس للفضة والقواريرية وجود ظاهر ومتميز تناله الباصرة، فكأنه يشرب الكأس، لأن الكأس يحس بها، باللامسة، ولكنه يشرب محسوسه بالباصرة، وهو الشراب في داخلها، ويذوق الكأس بالذائقة، فالكأس المحسوسة بالباصرة والمذوقة بالذائقة كان الزنجبيل مزاجها، أما الكأس الملموسة، فإنه تجاهلها إلى درجة أنه لم يبق منها إلا الاسم.

(زَنْجَبِيلاً):

هذا.. وقد ذكر الزنجبيل بتنوين التنكير، - ربما - ليشير إلى أنه زنجبيل لا نظير له، ولا يخطر حسن لونه وطيب وذكاء رائحته على بال، ولا يمر في خيال، ولو أنه عرَّفه بـ (أل) فقال: (الزنجبيل)، فلربما يتوهم أنه كهذا الزنجبيل الذي عرفناه، وألفناه في دار الدنيا، مع أن زنجبيل الدنيا لا يقاس بزنجبيل الآخرة، ولعلهما لا يتشاركان بصورة حقيقية بغير الاسم..

مواصفات الزنجبيل:

هذا وللزنجبيل في هذه الدنيا خصوصيات، قد يكون في الآخرة ما يشبهها، ولكن لا شك في أنه بدرجات ومواصفات عالية جداً تزول معها كل السلبيات التي قد تكون في زنجبيل الدنيا، بل ربما تصل إلى حد المباينة لمواصفاته..

خصوصيات في الزنجبيل:

ففي الزنجبيل:

1و2. حرارة، ولذع.. ولهما حين يمازج الطعام أو الشراب، دور في إثارة الشهية إليه، وإقبال النفس عليه. لما يثيره في النفس من حالات لا توصف من البهجة والالتذاذ.

3. طيب رائحته، وطبيعة نكهته..

4. ثم هناك لونه الذي يوجب استقرار النظر عليه، والتلذذ به..وثمة خصوصيات أخرى في الزنجبيل، من حيث إنه يثير حالة من الانبساط، ويضاعف مستوى رهافة المشاعر، ويزيدها حيوية ونشاطاً. لكي تستفيد - من موقع الطهر - من مختلف أنواع النعيم الذي هيأه الله تعالى للأبرار في الجنة..

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة:

وبعد.. فقد أظهرت الآية الكريمة نفسها، أنه ليس فقط لا توجد أية سلبيات في الزنجبيل، بل هو في أعلى درجات الملائمة. فقد ظهر: أن لذع وحرارة الزنجبيل لا يمثل عائقاً عن التلذذ به، ولا من إساغة الشارب له بيسر وسهولة.

مع العلم بأن لنفس السهولة لذتها أيضاً.. فإن الله سبحانه قد بيَّن أن ذلك الشراب الممازج لهذا الزنجبيل عبارة عن عين في الجنة تسمى سلسبيلاً، وذلك ليبعد عن مخيلة الإنسان أي احتمال يوجب شيئاً من التردد في الإقدام على ذلك الشراب، أو أي تخيل لأية صعوبة في شربه، بل هو سيكون أدعى للتشوق إليه، وللإحساس بالهناء والطمأنينة له. والتذاذهم به وبغيره من نعيم الجنة الذي يوعدون به..فإذا كان ذلك الشراب من عين في الجنة، فالجنة أعدت للنعيم، والتلذذ.

وإذا كان ذلك الشراب سلسبيلاً، فالسلسبيل صفة يراد بها المبالغة في وصف السهولة، والسلاسة، والإساغة، بيسر وراحة..كما أن مجرد كونه كذلك، يجعله أمراً مميزاً، وخارجاً عن المألوف والمعروف، وهو خرق العادة، حيث جمع بين ما يمنع من الاستساغة والسهولة، - وهو الحرارة واللذع - وبين كونه في منتهى السهولة والاستساغة.. وهذه الفرادة من شأنها أن ترفع درجة الرغبة به، والالتذاذ بالحصول عليه أيضاً..أسئلة تحتاج إلى أجوبة: وتبقى هنا أسئلة كثيرة، تحتاج إلى إجابات، ومنها السؤال:

- عن السبب في اختيار الزنجبيل هنا، والكافور هناك؟!

- وعن السبب في وصف الكأس، بأنها عين؟!

- وعن إعراب كلمة عيناً، فهل هي بدل من قوله: (زَنْجَبِيلاً)، أو بدل من كلمة: (كَأْساً)؟!

- ولماذا لم يقل: كان مزاجها زنجبيلاً، كالسلسبيل؟!

- ولماذا جاء بكلمة: (فيها) من جديد؟!

وفيما يلي بعض ما يفيد في الإجابة على هذه الأسئلة وسواها..زنجبيل الدنيا.. والآخرة:

علينا أن نعترف بأن من الممكن أن نعجز عن معرفة السبب الحقيقي في اختيار الزنجبيل هنا، ليكون هو المزيج للشراب، دون سواه كالعسل، أو اللبن مثلاً..

ولكن لا شك في أن للزنجبيل خصوصية بارزة فيه أكثر من سائر الخصوصيات، وينتقل الذهن إليها بمجرد سماع هذه الكلمة.. كما أن في العسل خصوصية أخرى تكون هي الأبرز، ويتوجه إليها الذهن بمجرد سماع كلمة عسل..وهكذا الحال بالنسبة للبن، وغيره.

كما أن الحال في أنواع الفاكهة هو ذلك، وكذا سائر ما يذكر من مفردات النعيم، وحالات التكريم في الجنة.

والخلاصة: أن ذكر الزنجبيل هنا، والكافور في ما سبق، يشير إلى أن تلك الخصوصية التي يريد الله سبحانه أن يفهمنا أنها قد روعيت، في هذا النوع من النعيم، وأنه يمكن الاستعانة في إدراكها - ولو بصورة مجملة - بما يتشارك معه في الاسم في هذه الدنيا.. وليذهب بعدُ خيالنا إلى أبعد مدى يستطيعه في تصور حقيقة الفرق بين ما هو في الدنيا، وما هو في الآخرة، فيما يرتبط بهذه الأمور، وحالاتها.

وقد تقدمت الإشارة إلى خصوصيات الكافور وأشرنا آنفاً إلى بعض خصوصيات الزنجبيل في الدنيا، والتي ربما يراد الإشارة إليها في زنجبيل الآخرة، فلا نعيد..

بين (الكافور) و (الزنجبيل):

ويبقى أمامنا سؤال عن السبب في اختيار الكافور في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً / عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾..واختيار الزنجبيل هنا، حيث قال: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً / عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً﴾..

وسؤال آخر وهو: أنه لماذا قال هناك: (يَشْرَبُونَ). أما هنا فقال: (يسقون)؟!..وسؤال ثالث: وهو أنه قال هناك: (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ).. أما هنا فقال: (يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأساً)..

فلماذا يا ترى؟!

وللإجابة على هذه الأسئلة نقول: بالنسبة للسؤال الأول: نشير إلى ما قدمناه في شرح تلك الآية المباركة من أن سياقها يعطي أن الحديث فيها عن أن جهد الأبرار في الحياة الدنيا، يفجر لهم عيون الخير والفلاح في الآخرة، ويثمر لهم المزيد من البركات، والألطاف والعنايات الإلهية.

وذلك يفرض وجود اختلاف بَيِّنٍ في خصوصيات الكأس التي يشرب منها الأبرار في الدنيا، وتلك التي يشربونها في الآخرة، فإن هناك حاجات ونقائص وسلبيات لا بد من تلافيها في الحياة الدنيا، وحالات غير مرغوب فيها يطلب السيطرة عليها، أو التخلص منها، بوسيلة تناسب حالها.. كالكافور الذي يطرد الرائحة الكريهة، ويدفع ببرودته الحر الذي يسعى الإنسان للتخلص منه، ثم هو يعطي أيضاً بصفائه ونقائه صورة مشرقة، تشيع البهجة في النفس، وغير ذلك..أما في الجنة، فلا يوجد شيء من ذلك كله ليحتاج إلى معالجة، فليس فيها عطش، ولا حر، ولا برد، ولا تعب، ولا حاجة، ولا.. الخ.. بل يراد فقط العيش في ظل الكرامة الإلهية، والتقلب في نعيم الجنة، والحصول على السعادة، واللذة فيها.. وبذلك تنتفي الحاجة إلى الخصوصيات الموجودة في الكافور..وبهذا تتضح الإجابة على السؤال الثالث عن السبب في أن الأبرار في الآية الأولى يشربون من كأس، أما في هذه الآية فهم يسقون..فإن الأبرار هم الذين يفعلون، ويبذلون الجهد في الحياة الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يكرمون ويعظمون، وتأتيهم الألطاف الإلهية، من دون حاجة إلى بذل جهد..كما أن بذلك يظهر الجواب عن السؤال الثاني، فإن الأبرار هم الذين يصنعون الخير، ويكسبونه بجهدهم، فما قدروا عليه إنما هو بعض من عين الخير التي لا نفاد لما فيها..أما في الآخرة، فإنما يشربون من كأس ملأوها هم بجهدهم وعملهم، فما عملوه من خير يوفى إليهم، ولا يظلمون فتيلاً..وإذ قد اتضح: أن الزنجبيل في الآخرة هو من مفردات زيادة النعيم، فإنه يتضح أيضاً:

أن لا مجال لقبول التفسير القائل بأن الزنجبيل يحتاج إليه في الآخرة لإطفاء عطش يوم القيامة، حيث ينال المؤمن البرد اللذيذ بعد التعب وطول الوقوف في عرصات ذلك اليوم.

وكذا لا يصح قولهم: إن للزنجبيل بعض الأثر في إثارة الرغبة والميل إلى ثمار الجنة..