الفصل السادس عشر.

الفصل السادس عشر.

قوله تعالى: ﴿ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾.

(قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ):

وقد ظهر: أن ثمة حالة إعجازية، تظهر من خلال الصورة التي رسمتها الآيات لآنية من فضة ولأكواب من فضة، وهي في نفس الوقت قوارير..

وذلك لأن الفضة التي نعرفها لا ينفذ البصر منها إلى الجهة الأخرى، بل هو يرتد عنها عاجزاً عن اختراقها. فكيف تكون - والحالة هذه - قوارير؟! ما دام أن القوارير ينفذ البصر منها بسبب شفافيتها!!..إن هذه صورة جمالية إعجازية رائعة.. أن تتمازج صفات القوارير مع صفات الفضة، من حيث الصفاء، والشفافية، فقد روي عن الإمام الصادق (ع): أن البصر ينفذ من فضة الجنة، بسبب شفافيتها..ومن حيث التماسك، في مواجهة الصدمات، إذ إنها لا تتحطم كما تتحطم القوارير، بل هي تحتفظ بتماسكها، كالفضة..

وكذلك من حيث اللمعان والبريق..

ثم من حيث تركيبة العنصر الذي يكون للفضة..

وأيضاً من حيث اللون الخاص بها..

ثم من حيث ليونة ملمسها..

وكرامة معدنها، وما له من قيمة اعتبارية..إن لكل مفردة من هذه المفردات، ولجميع هذه الصفات والميزات لذة تناسبه: حسية تارة، وروحية أخرى، وذوقية بجمالياتها المختلفة ثالثة..ثم هناك لذة رؤية الشراب في داخلها، والإحساس بالواجدية له باستمرار..ثم تأتي اللذة الناشئة عن دقة الصنع، التي أشير إليها بقوله تعالى: ﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾.. وما إلى ذلك..وعلينا أن لا ننسى أخيراً.. أن هناك لذائذ تنشأ عن ملاحظة كل عنصر بذاته، فلكل عنصر نعيم يناسبه.. فإن هناك لذة ونعيم بملاحظة المجموع أيضاً من حيث هو مجموع مركب متناسق، يراد له أن يشير بشكله المجموعي إلى أمر ما..

فإن بعض الأمور إنما تعطي حالة جمالية وإيحائية في خصوص حالة اجتماعها وتركيبها على صفة خاصة، فإذا انفرد بعضها عن بعض، فإنها تفقد أي جمال وإيحاء، بل ربما تصير إلى حالة متناهية في السذاجة، وفي القبح.

ولكن الأمر هنا ليس كذلك، إذ إن للعناصر المتمايزة جمالها الأخّاذ، ولها بالانضمام إلى بعضها البعض جمال آخر رائع، يضاف إلى ما عداه. تماماً كما لو أردت أن تتناول طعامك في داخل غرفتك، بما هي عليه من حالة الفوضى. أو أردت أن تتناوله في حديقة غناء، فسوف تجد أنك في الحديقة تحصل على لذة أخرى تضاف إلى لذة الطعام نفسه..

توضيح واختصار:

إن قيمة الذهب في الدنيا لا يجب أن تكون هي نفس قيمته في الآخرة. ومع افتراض كونها كذلك، فإن لكل معدن قيمته، تفرضها ميزاته، وأهميته الخاصة به. التي يفرضها حجم تأثيرها وتأثيره في الهدف الذي يراد الوصول إليه، وقيمة ذلك الهدف وحساسيته الفعلية، ومن الواضح: أن ذلك يختلف ويتفاوت.. فقد لا يصلح هذا للموضع الذي يصلح فيه ذاك، ولا يؤدي وظيفته، كما أنه قد يكون للمكان والزمان، والحالات التي يراد الاستفادة منه فيها دخالة ظاهرة في إعطاء القيمة والأهمية والامتياز لأحدهما على الآخر..وفيما نحن فيه نقول: إن الذي يناسب الصورة الجمالية التي يراد رسمها، وتكوينها، وإظهار التناسق الفريد بين عناصرها هو خصوص أن تكون الأكواب والأواني من فضة، إذ لا يراد التأكيد على الآنية والأكواب، من حيث هي ظروف يوضع فيها شيء ما، كالشراب أو غيره، كما لا يراد التأكيد على الشراب من حيث طعمه أو نكهته، أو نحوهما.. بل يراد - كما قلنا - رسم صورة جمالية، واقعية، من خلال إبراز تناسب، وتناسق، وتكامل بين عناصرها، الأمر الذي لا بد أن يترك أكبر الأثر على الذوق، والإدراك، والروح، والشعور..فلا مجال للسؤال بعد هذا عن السبب في عدم الاستفادة من عنصر الذهب، إذ لا مكان لهذا العنصر أساساً في عناصر هذه الصورة التي يتم الحديث عنها، والتي يراد بها تحريك العقل، والفكر، والمشاعر؛ لتتعلق بالجنة، ولتندفع للعمل من أجلها..

(قَدَّرُوهَا):

وإن دقة الصنع وحسن هندسة الشيء، ومطابقة المراد والمطلوب للضوابط، لهو أمر ترتاح له النفوس، وتلتذ به الأرواح، سواء أكان ذلك الضبط والدقة في ناحية المضمون، - وتركيبة العناصر، والتقدير للنواحي الهندسية - , أم كان تقديراً لما يوضع فيها، من حيث اشتماله على المقادير المطلوبة في الطعم، واللون، والرائحة، والاشتداد، والانسياب، واللزوجة، وغيرها من صفات..وأما لماذا لم يقل: قُدِّرت تقديراً، بل قال: (قَدَّرُوهَا) فلعله لأجل إظهار الاهتمام بالدلالة على فاعل هذا التقدير..

ثم أكد الفعل بالمصدر، فقال: (تَقْدِيراً) ربما للتدليل على أن هذا التقدير قد جاء عن قصد، وعناية، واستجابة لمقتضيات واقعية، تدخلت في صنعها إرادات للأبرار، وهي التي فرضت هذه الأشكال، والأحجام، والمسافات، والحالات على ما هي عليه..ولو أنه قال: قُدِّرَت، فلعله يفهم من ذلك: أن الجنة قد خلقت وفق هندسة معينة، بغض النظر عن إرادات وأفعال العباد، وأن الله يريد أن يُسكن فيها من أطاعه، لكي يستفيدوا منها، على ما هي عليه، من دون أن يكون لهم أي دور أو اختيار في هندستها، وصنعها، وطبيعة تكوين الأشياء فيها..

الضمير في (قَدَّرُوهَا):

وقد قال: قدروها، والظاهر أن الضمير عائد إما إلى الملائكة، أو إلى الأبرار، ولعل هذا هو الأنسب، إذ لا حديث عن غيرهم، ولا يصح إرجاع الضمير إلى لفظ الجلالة، لأنه ضمير جمع.. ولا إلى الولدان المخلدين، لأنهم إنما خلقوا ليسعد الأبرار بوجودهم، وليس لهم دور في صنع الجنة..فالأبرار هم الذين لهم دور في هذا التقدير، وذلك لأن عملهم للصالحات في الدنيا ينتج لهم حالات من النعيم تناسب ذلك العمل، وتحمل مواصفاته، وصفاءه، وخلوصه، وجهاته، وميزاته..ولذلك اختلفت عليها المثوبات من حيث الكم، والنوع، والمواصفات، حيث تجد في النصوص أن لكل عمل جزاءه المناسب له. فهذا ثوابه قصر، وذاك ثوابه حور عين، وذلك ثوابه تكون حدائق وأعناباً، وهكذا.. وهذا العمل يوصل إلى مقام كذا.. لكن عملاً آخر يوصل إلى مقام آخر.

وإذا كانت جارحة بعينها هي التي أنجزت عملاً ما، - كالعين حين تغض عن محارم الله - فإن الثواب سيكون متناسباً مع ما يتطلبه عمل تلك الجارحة، ومع مستوى ما بذلته من جهد، وغير ذلك من حالات..التقدير:

وبديهي: أنه لا بد في تقدير الأمور من الاستناد إلى معيار يفرض هذا المقدار أو ذاك، ولا يكون الأمر عشوائياً.. فمن أراد بناء غرفة، فإن سعتها سوف يفرضها غرض ما. وهذه السعة تفرض مستوى ارتفاع تلك الغرفة، ونظام التهوئة الذي يعتمد فيها، وكميات النور التي تحتاج إليها، ثم مراعاة ذلك في فتحاتها، وسعة الباب وارتفاعه، وما إلى ذلك..وحين يزرع الفلاح الحب، فإن الله هو الذي ينبته، لكن وفق نظام يراعي فيه الزارع كمية البذر، وكمية المياه في الري، وطبيعة التربة، وموقعها في الأماكن الحارة أو الباردة، في المرتفعات أو المنخفضات، وما إلى ذلك..فالعمل الصالح، وحالاته ومستوياته، ونوعه، وميزاته، وما إلى ذلك.. قد أوجد هذا النعيم الذي يحصل عليه، وأثَّر في مقاديره، وأحجامه، وأشكاله، وأنواعه، ومستوياته، وميزاته، وأوجد لشراب الأبرار مثلاً هذا الطعم، وهذا اللون، وهذه الرائحة، وذلك المقدار، وتلك اللزوجة..لكن شخصاً آخر قد تكون لشرابه ميزات وخصائص أخرى، ويلتذ به بصورة أقل، أو أعمق، لأن هذا هو ما أنتجه له فعله، وفرضه له عمله في دار الدنيا..والتقدير نفسه من أسباب اللذة أيضاً، مع أنه لا ينفصل عن وجود ما تجسد به.. إذ إنه ليس شكلاً يدخل في صورة الهيكلية العامة، ثم يفقد معناه. بل هو باق في شعور الإنسان بهذه المقايسة بين عمله، وبين ما أنتجه له ذلك العمل..تنوع الملذات:

وقد ظهر: أن هناك لذات فكرية تنشأ من إدراك المعادلات، وهناك لذة ذوقية منشؤها إدراك الانسجام والتناسق في الأشكال الهندسية، وهناك لذة روحية من خلال الشعور بالكرامة الإلهية، والرضا، وهناك لذات حسية، من خلال الشعور بطعم الشراب، في قوله تعالى: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً﴾.. وكذا الحال في نعومة الحرير، هذا بالإضافة إلى لذات للمشاعر، وغير ذلك..