الفصل الخامس عشر.

الفصل الخامس عشر.

قوله تعالى: ﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾.

(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ):

لقد وردت كلمة (يُطَافُ) هنا بصيغة المبني للمفعول.. ولعله بهدف التوطئة إلى أن يتمحض الحديث عن المطاف به، وهو الأكواب، وصفاتها، وخصوصياتها..ولكنه فيما يأتي استعمل نفس مادة (ط. و. ف)، ولكن بصيغة البناء للفاعل.. لأن الغرض هناك تعلق ببيان حال الطائفين..وكلمة (يُطَافُ عَلَيْهمْ) تشير إلى أن هناك كرامة لهؤلاء، وأن ثمة احتراماً، واهتماماً بهم.. لأن خدمتهم والطواف عليهم بالأكواب، إما لأجل عجزهم عن الوصول إلى حاجاتهم بأنفسهم، أو لأجل إكرامهم، وإظهار الحب والتقدير لهم. ولا شك بأن الأول غير متصور لأنه لا ينسجم مع ما أريد لهم من النعيم، وراحة البال في الجنة. فيتعين هذا الثاني..

ومن الواضح: أن إحساسهم بهذه الرعاية الإلهية يعطيهم أعظم الإحساس باللذة والنعيم..الكماليات، أم الضروريات؟:

وإذا قرأنا آيات هذه السورة المباركة، فسنجد أن فيها حديثاً عن الأمور التي لا بد منها للإنسان في حياته، كالمسكن، والطعام والشراب، ونحو ذلك، وحديثاً عن أمور لا تدخل في هذا السياق، بل هي من الكماليات، إن جاز التعبير.

وقد ذكر النوع الأول بما له من مواصفات تثير الشوق والحنين إليه، والرغبة به، فذكر سبحانه طهورية الشراب، ولباس الحرير في الجنة، والاتكاء على الأرائك في مواضع السكنى والاستقرار، والوقاية من البرد والحر، بالإعلان حتى عن عدم رؤية شمس ولا زمهرير..مما يعني أن المطلوب الأساسي، وهو الطعام والشراب، والظل، والدفء، والسكن، واللباس، - وهي أمور ضرورية في الحياة - قد بُيِّنَت بمواصفات راقية جداً، ومثيرة للانتباه، ومحركة للهمم للوصول إليها ونيلها من خلال العمل لها في عالم الدنيا..ولا بد أن يحصل للأبرار - في نيل هذه الأمور الأساسية - لذتان؛ لذة تلبية الحاجة، والسكون والطمأنينة، والشعور بالوجدان لحاجات رئيسية. ولذة الحصول على تلك الميزات والمواصفات الإضافية، وهي كون السكن هو الجنة، والملبس هو الحرير، وما إلى ذلك..ومن المعلوم: أن كل مطيع لله يدخل الجنة، وينال من نعيمها الخالد، لكن هناك مستويات وحالات لهذا النعيم لا ينالها جميع من في الجنة، بل ينالها أولئك المقربون، ويفوزون بالتنعم بها، رغم أنها لا تدخل في دائرة ما هو ضروري لهم، بل هي من مظاهر النعمة، ومن تجليات التكريم الإلهي. فإن حياة الإنسان لا تتقوم بوجود من يخدمه، ويلبي طلباته، ويقرب له ما يحتاج إليه.. إذ يمكنه أن يمارس ذلك بنفسه، وربما يكون لهذه الممارسة لذتها أيضاً.. كما أنه يمكنه أن يشرب الماء واللبن، اللذين لا توصف لذتهما.. دون أن يطاف عليه بأكواب كانت قوارير من فضة قدروها تقديراً.

وجهد الإنسان في هذه الدنيا هو الذي يحدد مستويات ومواصفات النعيم في الآخرة. فالإنسان العامل هو الذي يتحكم بمفردات النعيم التي يهيؤها الله له، ويصنع مواصفاتها، ومقاديرها وأحجامها، وأنواعها، وفقاً لقوله تعالى: ﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾.. حيث أعاد الضمير لهم، أي للأبرار المتنعمين كما يظهر.

التنوع في النعيم:

واللافت: أنه تعالى قد أعطاهم هذا النعيم العظيم، وحباهم بهذا التكريم لترتاح له، وتلتذ به الروح والقلب، والمشاعر، والأحاسيس الباطنية، تماماً كما أعطى للجسد ما يناسبه من أنواع النعيم المادية.

والنعيم الذي يهتم بإبراز معالمه هنا، هو نعيم روحي معنوي بالدرجة الأولى، يرتبط بالإدراك العقلي، وبالإحساس الروحي للمعاني السامية والشريفة لمعنى الكرامة، والرضا والقرب من الله..وليس هو مما تناله الجوارح بصورة مباشرة..

وما ذلك إلا لأن الله سبحانه يريد للإنسان أن يسمو في إدراكه وفي عقله، وفي إنسانيته، وأخلاقه، ومشاعره، ولا يرضى له أن يبقى يعيش في دائرة المحسوسات، فلا يطيع الله إلا حين يرى العصا، ولا يحس بالمعاني الإنسانية والروحية إلا حين تنالها جوارحه الظاهرية.. تماماً كما يريد للمرأة أن تلبس الحجاب، ولكن إذا لبسته عن اقتناع بلزوم طاعة الله، وإحساس بعظمته وبحضوره، فإن ذلك يوجب لها أسمى مقام عنده، لأن الحجاب خوفاً من العصا، هو أدنى مراتب الطاعة.. حيث يكون الهدف هو حماية جسدها من الآلام، لا لأنها تريد أن تتلذذ بطاعة الله سبحانه.. وأن تحمي الجسد من خلال الإحساس بلذة الطاعة.

والخلاصة: أنه تعالى يريد للإنسان أن يكون أنبل من أن يخضع للأمر المعنوي من موقع حماية الجسد..التسلسل الطبيعي:

وقد ذكر الله تعالى الطواف على الأبرار بالأكواب ليؤكد على هذا الرقي في إدراك الأبرار، لتكون لذتهم الكبرى هي بالكرامة الإلهية لهم، لا بالملذات المادية، والجسدية، وإن كان الجسد غير محروم من ذلك أيضاً.

ولذلك فإنه حين أشار سبحانه إلى ذلك، إنما عالجه من الناحية الإدراكية لحالات الجمال، والتي تعطي قيمة اعتبارية معنوية بالدرجة الأولى.. فبدأ بالحديث عن الطواف عليهم في إشارة منه إلى هذا التكريم والتعزيز لهم.

ثم ذكر أن الطواف ليس بالشراب، وإنما هو بالآنية..ثم قال: إن الآنية من فضة..ثم أشار إلى الأكواب..ثم ذكر أنها قوارير..وانتهى إلى الحديث عن التقدير في الصنع، والدقة فيه..شرح الكلمات أولاً: ولا بد لنا، أولاً: من شرح هذه الكلمات، ثم نتابع الكلام حول ما يرتبط من مطالب، فنقول: الآنية: هي الوعاء. والظاهر: أن المراد هنا هو ما توضع عليه الأكواب..الكوب: هو القدح، الذي لا عروة له ولا خرطوم، ويأخذه طالبه ويشرب منه من أي جهة أراد.

القوارير: هي الزجاج، أو البلور الصافي، ولعل سبب تسميتها بالقوارير هو أن الشراب يستقر فيها..

كلمة (من) نشوية، أم بيانية؟:

وبعد.. فهل إن كلمة (من) في قوله: ﴿ مِنْ فِضَّةٍ﴾، هي النشوية؟! ليكون المعنى: أن الآنية التي كان أصلها فضة، وكانت من تراب الجنة؛ هي التي يطاف بها عليهم.. وهذا كما يقال: الإنسان من تراب. أي أنه نشأ من تراب، من دون إشارة إلى حقيقته الفعلية التي هي: لحم ودم وعظم و.. و..أم أن كلمة (من) هي الجنسية، أي هي آنية من جنس الفضة، كما يقال: خاتم من حديد، أو من ذهب. أو كما يقال: الإنسان من لحم ودم وعظم.. فتكون (من) لبيان ما هو عليه الآن، ولا تشير إلى ما كان عليه في السابق..ثم إن التصريح بكلمة: (من) ليس ضرورياً، حين تكون الإضافة بيانية، فيقال خاتم حديد، أو خاتم فضة..

وأما لماذا يصرحون بكلمة (من) أحياناً، فلعله:

أولاً: لأجل أن لهذا التصريح فوائد، منها التنصيص على المعنى؛ لإزالة أيِّ لبس أو شبهة، ومنها التأكيد على أنه مقصود ومراد، وأن الالتفات إليه حاصل بالفعل.

وفي هذا تقريب للمعنى المقصود إلى الحس، فإن ما يُنال بالحس المباشر أوقع في النفس، ويكون التعلق به أشد، والوضوح له أكثر من ذلك الذي يعلم عن طريق الإشارة إليه، لأن الإشارة تحتاج إلى جهد عقلي وفكري لربط بعض الأمور ببعضها الآخر.. ليتحقق الانتقال من معنى إلى معنى.. ومن المعلوم إلى المجهول..

وثانياً: إن المقصود هنا هو إثارة المشاعر والأحاسيس، وإيجاد البواعث والحوافز لدى الإنسان لنيل تلك النعم الجليلة، والوصول إلى مقامات الكرامة في الجنة، ليتعلق بها ويشتاق إليها طالبها، وتتوجه إليها أفكاره وعواطفه فعلاً..

وهذا يحتاج إلى التصريح، وإلى الوضوح.. أما الإشارة غير المباشرة فإنها تحمل معها احتمالات الغفلة عن التفاعل معها، الأمر الذي يعني الغفلة عن المراد، فلا بد من تحاشيها في مقام كهذا..

ثالثاً: إن الإيصال السريع إلى المراد - لأكثر من سبب - لا يتلاءم مع الإشارة والإيماء حيث يحتاج ذلك إلى إعطاء فرصة للعقل لربط الأمور ببعضها البعض.. في الوقت التي يحتاج فيه إلى الانتقال المباشر..وهذا يدلنا على: أن كلمة (من) مهمة جداً وضرورية في هذا المقام.. الذي يحتاج إلى التأكيد والتنصيص، وإزالة أية شبهة. ليمكن إثارة الأحاسيس والمشاعر بصورة مباشرة، وكذلك من أجل تحقيق المزيد من التعلق بالمطلوب، وليكون وقعه في النفس أشد..

كلمة (كَانَتْ):

وحول كلمة (كَانَتْ) في قوله تعالى: ﴿ كَانَتْ قَوَارِيرَ﴾.. نقول: هي كان التامة، لا الناقصة، والمعنى: (أنها وجدت قوارير)، فليس ثمة تحول من حالة إلى حالة، لكي لا يتوهم أحد أنه تحول غير خالص ولكي لا يثير احتمالات في واقع أصالتها التامة والحقيقية..

(مِنْ فِضَّةٍ):

وأما لماذا ذكر الفضة بالخصوص، ولم يذكر الذهب مثلاً، مع أنه الأغلى والأهم بنظر الناس. فلعله لما ذكرناه من أن تراب الجنة من فضة، وللفضة خصوصيات، لا توجد في الذهب، وقد قصد هنا أن يستفيد من هذه الخصوصيات معانٍ تناسب الحال.

إنه تعالى يريد أن يحقق الانسجام بين المعاني التي تتشكل منها ملامح الصورة بجميع عناصرها، وذلك حين يحقق الانسجام بين الآنية والأكواب التي يقدم بها الشراب.. ليدرك الإنسان من خلال ذلك مستوى من الكرامة والإعزاز الإلهي للأبرار.

ولأجل ذلك: لم يتحدث الله سبحانه عن طعم الشراب هنا، بل تحدث عن النواحي الجمالية التي يريد لها أن تفرض مستوى أعلى من اللذة التي يعطيها طعم الشراب.

وخلاصة القول: إنه تعالى يتعاطى مع هذا الأمر على قاعدة إيجاد الحوافز، وانشداد الأرواح إلى نيل هذا الشرف العظيم.. ولأجل ذلك، فإنه قدم صورة جمالية في مستوى الإعجاز، حيث أراد أن يرتفع بالإنسان إلى مستويات من الإحساس الأشد رهافة، والإدراك الأعمق، والأكثر تجذراً وأصالة.. وهو يهيء له صورة لا بد له من التعاطي معها بإيجابية وانجذاب حقيقي، وهو يدرك الجمال الساكن في تلك الصورة، والظاهر بمستوى إعجازي في التناسق والتكامل.. فتُلِذُّ روحه من خلال تذوقه وإدراكه لذلك بعمق..