الفصل الثالث عشر.

الفصل الثالث عشر.

قال تعالى: ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ﴾.

(مُتَّكِئِينَ):

ثم شرع سبحانه بذكر تفاصيل مفردات النعيم الإدراكي والمعنوي، الروحي، والشعوري، فبدأ أولا بذكر صفة الاتكاء في الجنة للأبرار، دون ما سواها من الصفات، ولعل سبب ذلك: أن الاتكاء هو نتيجة الشعور بالكمال وبالغنى. وهو أول مراتب النعيم، وهو مفتاح كل لذة في الجنة كما سنرى.

والتنعم بالاتكاء يحتاج إلى التفات، وترجيح لفعلٍ على سواه، ثم إلى اختيار وإرادة، وحركة وفعل، وأريكة، وجلوس عليها. وهو - كما قلنا - يشير إلى العديد من الخصوصيات، من قبيل: الشعور بالسكينة، وفراغ البال، وسكون الخاطر، والرضا الناشئ عن وصول الإنسان إلى كماله، وإلى القوة بعد الضعف، وإلى الغنى بعد الحاجة، وإلى الواجدية بعد الفاقدية.

إنها جلسة الآمن المطمئن، الذي لا يحذر شيئاً، إذ لم يعد هناك مجهول.. وليس هناك ما يخاف منه، ولم تعد هناك أية حالة ترقب، فقد أصبح الآن في منازل الكرامة الإلهية، وحقق الاتصال بمصدر القوة، ومحل الفيوضات.

هذا كله بالإضافة إلى أن في ذلك تعبيراً عن الاعتزاز والغنى، وإعلاناً بهذا الإكرام الإلهي.. إنها جلسة تعبر عن الحقيقة، فلا تصنُّع فيها، ولا يرى نفسه بحاجة إلى أي تظاهر بغير الواقع، وليست هي جلسة استكبار وجبروت، كما هو حال الفراعنة والجبارين..إنها الحالة الطبيعية، والعفوية وفيها يتجلى انسجام هؤلاء الأبرار مع كمالاتهم، ومع كرامة الله لهم، فهم إذن لا يحتاجون إلى ذلك التصنع، ولا إلى الاستكبار، فإنهم الذين يملكون اللذة ولا تملكهم. وهم يدركون أن لذة الاستكبار، ممزوجة بالخوف من السقوط، ومن سوء العواقب. أما لذتهم هم فهي العاقبة لهم، وهي المصير.

(فِيهَا):

وتأتي كلمة (فِيهَا) بعد كلمة متكئين مباشرة، حيث قال: ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ﴾ ولم يقل: (متكئين على الأرائك فيها).. فيرد سؤال عن سبب هذا التقديم لكلمة: (فيها)؟!..

وقد يكون الجواب هو: أنه إنما قدم كلمة (فِيهَا) لكي لا يحصل أي شعور بانفصال عن الجنة، ولو بمثل حد السيف، حتى في مجال التخيل، والتصور والوهم، أو الإحساس العابر. وبذلك تتم لهم اللذة التصورية الفكرية الروحية، ولا تهتز تلك الطمأنينة التي تتمثل بالحديث عن الاتكاء.

(الأرَائِكِ):

والسؤال هنا هو: أنه تعالى قال: ﴿ عَلَى الأرَائِكِ﴾، ولم يقل على الكراسي، أو المقاعد، كما أنه لم يقل: (على العروش)، فإذا كانت كلمة مقاعد وكراسي لا توحي بشيء سوى التجافي عن الأرض، فإن كلمة العرش تفيد معنى السلطنة، والهيبة، والعظمة، والقدرة..

والجواب: لعل سبب اختيار كلمة ﴿ الأرَائِكِ﴾ على ما عداها هو أن الأريكة هي الفراش الوثير، الذي يكون على الأسرَّة في حجلة العروس.

فلعله يريد أن يفهمنا: أن لذة الجنة هي للجنة من حيث هي جنة، وهي لذة حقيقية وطبيعية، وليست لذة تخيلية، أو فقل تصورية، ولا هي لذة الشعور بحالة العنفوان الداخلي، والاستكبار، أو الشعور بالعظمة الذي يكون لدى المتسلطين، فإن هذه لذائذ تخيلية تصورية، وليست واقعية..

أما الاتكاء على الأرائك في حجلة العروس. فيعطي الإنسان لذة واقعية ينساق إليها الإنسان بفطرته، وبأحاسيسه. فهو يلتذ بالمحيط من حوله، وبالفراش الوثير، وبوجوده في جو السرور؛ لذة حقيقية. وليست لذة ناشئة عن تضخيم الأمور بالأوهام والتخيلات، وبالعناوين الكبيرة والفضفاضة..

وقد جاءت كلمة ﴿ فِيهَا﴾ لتؤكد على هذا النعيم الحقيقي، من حيث إن اللذة ناشئة من نعيم في الجنة نفسها.

ومن أن الجلوس على الأريكة كان جلوساً طبيعياً في هذه الجنة بالذات. فلا مكان للتخيل ولا للخيال.

هل هي لذة الفراغ؟:

وقد يحلو للبعض أن يثير سؤالاً هنا فيقول: ليس للفراغ والكسل والخمول لذة.. والحديث عن الأرائك يوحي لنا بهذا الفراغ والخمول؛ فكيف يمكن قبول ذلك؟!.

ونقول: إن لذة عمل الصالحات، ليست ناشئة من مجرد الحركة الجسدية، أو من نفس حركة الفكر، وإلا لكان يكفي في حصولها مجرد العبث. ولكان أكثر الناس عملاً، وجهداً جسدياً وفكرياً، هم أعظم الناس لذة، مع أن الأمر ليس كذلك..

فإن الحقيقة هي أن اللذة إنما تنشأ من الشعور بأن بذل الجهد رافع للنقص، محقق للكمال، وللتناسق والانسجام في قضايا حساسة تهم الإنسان، ويسعد بحصولها، أو بكونها على حالة معينة..نعيم الأبرار:

ولتقريب هذا الأمر نقول: لو أن أشخاصاً دخلوا روضة غناء، رائعة في مباهجها وفي مزاياها. وكان أحدهم رساماً، والآخر عالماً، والثالث تاجراً مثلاً، وهكذا.. ثم كان أحدهم ذكياً، والآخر غبياً، والثالث حساساً، والرابع بليد الإحساس.. فإنك ستجدهم يختلفون في إدراك جماليات تلك الروضة، وفي الابتهاج لها، والتلذذ بها..

كما أن موجبات اللذة لأحدهم قد تختلف عن موجباتها لغيره. فهذا يلتذ بالألوان، وذاك يلتذ بحالات التناسق، وثالث يلتذ بالأحجام الكبيرة، وآخر يلتذ بدقائق الصنع، ولطائفه.. وما إلى ذلك..

وفي نفس السياق، نقول: قد تكون لذة هذا بالأطعمة، وآخر بالمبصرات، وثالث بالمقامات، ورابع بالرضا الإلهي.. وخامس بالحالات والكيفيات، بل قد تكون اللذة لدى بعض الناس، بالخضوع للآخر، والانقياد له، والعيش في كنفه، وفي ظله..

أضف إلى هذا وذاك: أن اللذة في الجنة إنما يصنعها لك عملك، وجهدك، ونواياك، كما أن من خلال عملك هذا، تتكون لك قابليات وتحصل استعدادات لتلقي هذا النوع من النعم، أو ذاك..

فأنت تلتذ بالشجرة التي غرسها لك تسبيحك، والآخر يلتذ بالقصر الذي حصل عليه بحجّه إلى البيت الحرام، أو بغير ذلك من أعماله، وآخر يلتذ بالحورية التي أوصله إليها بره بوالديه..وفي مثال آخر نقول:

لو أن النجار دخل بيتاً قد صنع هو أبوابه، وخزائنه، ومقاعده، وغيرها، فسيلتذ بما يراه من جمال الصنع فيها، وسيشعر بالفخر والاعتزاز، من خلال إحساسه بأنه هو الذي استطاع أن يرفع نقصاً، ويحقق كمالاً ولو بنسبة معينة، بالرغم من أنه قد أخذ أجره، وانتهى من عمله قبل سنوات..

وإذا رأى فيها خللاً أو نقصاً، فسيحزنه ذلك، وسيأسف له. ولو أنه عرف أن هناك من عبث بتلك الأشياء وشوّهها عن عمد، فسوف يكون مستاءً منه، لائماً له، ناقماً عليه..كما أن ذلك الشخص العابث نفسه، لو دخل على ذلك البيت، فسيشعر بالإحراج والخجل والضيق أمام ذلك النجار، رغم أنه قد يكون فعل ذلك امتثالاً لأمر سيده الذي حسب أن في هذا التخريب كمالاً له، أو دفع ضرر، أو نقص عنه.

وبنفس هذه النظرة نعالج الإشكال المتقدم: فإن بذل الجهد، والتعب، وتحمل المسؤولية في الجنة ليس هو منشأ اللذة، كما أن الفراغ ليس منشأ للملال، والخمول، والكسل. لأن الذي يجعل العمل لذيذاً هو كونه مسبوقاً بالتعب، وبألم الحرمان والنقص. ولا نقص، ولا فقدان، ولا حرمان، ولا آلام، ولا تعب في الجنة ليكون العمل لذيذاً من حيث كونه رافعاً له. بل ذلك من خصوصيات عالم الدنيا، التي هي عالم النقص والفقدان.

بل اللذة في الجنة إنما هي بالشعور بالغنى بالله، وبالكمال، وبالواجدية الحقيقية، وبحالات الجمال الواقعية، الناشئة عن رؤية الانسجام والتناسق الواقعي بين الأشياء، وبذلك يتحقق الرضا الواقعي. وليس للجهد الجسدي أي دور في هذا الشعور.

إن الفراغ ليس مملولاً لأهل الجنة.. بل هو لذيذ لهم.. تماماً كما هو الحال في الفراغ الذي يعيشه من يذهب للنزهة أو للاصطياف، فإنه يبقى ساعات وأياماً؛ يتلذذ بالمناظر الجميلة الخلابة. وبما يراه من تناسق، وكمال، وجمال. ولا يشعر بوجود نقص يدفعه للعمل على رفعه وإزالته.

(لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً):

والملاحظ: أنه تعالى قدّم كلمة (فِيهَا) على قوله: (شَمْساً)، كما قدمها في قوله: ﴿ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ﴾.

وقد عرفنا بعض ما ربما يمكن استفادته من هذا التقديم. فلا حاجة إلى الإعادة..

غير أننا نشير هنا إلى أنه قد يقال: لقد كان يمكن الاستغناء هنا عن كلمة فيها. فلماذا آثر الإتيان بها..

ويمكن أن يجاب بأن حذف كلمة (فِيهَا) يتضمن تغييباً وسكوتاً عن ذكر الجنة، ولو بضميرها. ولربما يغفل الإنسان ولو للحظة، فيتوهم أن فق-د الشمس - التي هـي مصدر النور، وال-دفء، و.. و.. - سيؤثر على راحته وسعادته، وسينقص منها، وسيواجه الإحساس بالحاجة إليها، فإذا جاء التصريح، بصورة متتابعة ليذكره دائماً بأنه موجود في الجنة، فإنه سيبقى مطمئناً إلى أن ما سيفقده لا بد أن يكون أمراً لا يناسب محيط الجنة؛ بل يكون وجوده هو المضر.. وقد استبعد لأجل ذلك.

والخلاصة: أن الشمس حسب ما اعتادوه منها قد تؤذي في حرها، أو في بعض إشعاعاتها، وحتى في نورها في بعض الحالات.. فتمس الحاجة إلى الحماية منها. أما في الجنة فإنهم يجدون النور والدفء، وكل ما يحتاجونه مع أنهم لا يرون فيها شمساً لكي يحتاجوا إلى ما يحميهم منها.

وهذا غاية الغنى.. فإنه إذا كان حصول الإنسان على ما يريد بواسطة شيء بعينه، فإن ذلك يجعله بحاجة إلى ذلك الشيء، وأما إذا حصل على ما يريد من دون واسطة فسيشعر بالغنى، وبالرضا، وبالاعتزاز. فكيف إذا كان وجود تلك الواسطة، وذلك الشيء، سيؤكد الحاجة إلى وسائل أخرى تحمي من بعض آثاره أيضاً؟!.

(وَلاَ زَمْهَرِيراً):

ثم قررت الآية: أنهم في نفس الوقت الذي لا يجدون فيه الشمس، فإنهم سوف لا يعانون من أية سلبية تترتب على فقدانها.. فلا مبرر لأية مخاوف من أن يكون فقدانها معناه فقدان دفئها أيضاً، مما سيؤدي إلى مواجهة حالة من البرد الشديد إلى حد الزمهرير، وهذا سوف تنشأ عنه متاعب لا بد من التخلص منها.

فجاء التطمين الإلهي لهم ليقول: إن عدم رؤية الشمس لا يعني الابتلاء بسلبيات فقدانها. بل الأمر على عكس ذلك تماماً.

ومن جهة أخرى، فإنهم يقولون: إن الزمهرير في لغة طي هو القمر.. فلعل المقصود بيان أن النور في الجنة لا يحتاج في تحققه إلى شمس، ولا إلى قمر.

غير أن ذلك يحتاج إلى إثبات أن يكون القرآن قد استفاد من لغة (طي) في خصوص هذا المورد، وهو ما يحتاج إلى دليل، وإلى مبرر، وكلاهما مفقود.

تعلق النفي بذات، وبصفة!!:

وملاحظة أخرى هي: أنه تعالى قد نفى الحر والبرد، ونفى أيضاً الليل، والحاجة إلى الشمس، بتعبير واحد، وذلك حين قال: ﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾.

وقد تعلق النفي للشمس وللزمهرير، بأسلوب الرؤية لذات الشمس، ونفي رؤية البرد، ونفي درجته ومستواه وهو صفة الزمهريرية. لأنها هي التي تسبب الأذى للإنسان.. أما البرد نفسه فإنه لم يرد أن ينفيه، لأنه قد يكون لذيذاً في بعض الحالات، كما لو جاء في قسوة الحر، ثم هو يعطي الجو لطافة ولو بدون وجود حرٍّ، ولذا توجه النفي في الآية إلى خصوص الحالة المؤذية من البرد، وهي الزمهريرية.. ولم ينف البرد اللطيف الناعم في أيام الربيع مثلاً.

(لاَ يَرَوْنَ):

وقد نفى الله تعالى رؤية (الزمهرير) في الجنة، مع أن الزمهرير لا يدرك بالباصرة، ولا تقع عليه الرؤية، بل هو مما يدرك بالحسّ.. لأن المراد هو نفي وجود الشمس والزمهرير، بواسطة نفي رؤيتها، وذلك يلازم نفي آثارهما.. لأن الزمهرير وإن كان لا يرى بالبصر، لكن إحساس الإنسان بالحر والبرد جسدياً قد يكون كاذباً أيضاً.. فأراد تعالى بقوله: ﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾، أن يؤكد على حقيقة: أن الإحساس بالزمهرير، يكون قوياً، حتى كأنه يتجسد له، وكأنه يراه بعينيه، ثم هو قد جسده له بالفعل، وجعله حقيقة ماثلة له، يراها رأي العين، ثم أورد عليها النفي بكلمة (لا).

(شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً):

أما بالنسبة لتنكير لفظي الشمس والزمهرير، فإنما هو لإفادة عموم النفي، حتى لا يدخل في الوهم أن لكل عالم من العوالم شمسه التي تناسبه، وحره وبرده الناشئ عن أسبابه الخاصة به.. فجاء النفي لجميع ما يمكن أن يتوهمه الإنسان في هذا الاتجاه.. ليعيش الإنسان الطمأنينة الحقيقية، التي هي من موجبات سعادته التامة والحقيقية، والنعيم المقيم..

اللف والنشر المرتب:

وقد ذكرت الآية السابقة الجنة أولاً.. وفي الآية الثانية ذُكِر الاتكاء أولاً، لأن الاتكاء يناسب الكون والحضور في الجنة..

وفي الآية الأولى ذكر الحرير ثانياً.. وفي الآية الثانية ذكر عدم رؤيتهم للشمس ولا للزمهرير ثانياً.. وهذا يناسب لبس الحرير، الذي هو الأفضل في المواقع التي ليس فيها شمس ولا زمهرير، ولا حر ولا برد، فتكتمل لهم بذلك اللذة الجسدية.

ففي الآيتين لف ونشر مرتب لأجل الإشعار بهذه اللطائف، كما هو ظاهر.