الفصل الثاني عشر.

الفصل الثاني عشر.

قال تعالى: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾.

حيث أظهرت هذه الآية حقيقة هامة، هي أن وقاية الله سبحانه وتعالى للأبرار من شر ذلك اليوم، ثم ما فعله بهم من أنه قد لقّاهم نضرة وسروراً لم يكن هو الجزاء لأولئك الأبرار. بل هذه كرامات وألطاف إلهية، حباهم الله تعالى بها، إمعاناً في تشريفهم، ومزيداً في الرعاية لهم.

وذلك حين منَّ عليهم بهذا الجزاء العظيم، في مثل هذا الحال الشديد، الذي يواجهه الإنسان بانتقاله إلى عالم الآخرة، الجديد عليه، وهو يوم الفزع الأكبر..

فكانت مراسم الاستقبال لهم هي هذا التشريف الإلهي، الذي تجلى أولاً بالحصانة وبالوقاية التي حباهم بها، فحقق لهم الأمن الحقيقي، والاطمئنان النفسي، ثم حباهم بالنضرة والسرور الذي كان هو الإشارة الحسية الملموسة، التي تزيد من ثقتهم بأن ما حصلوا عليه ليس أمراً عارضاً، قد يزول ويتغير.. فيما لو فتحت السجلات.. بل هو أمر يدخل في دائرة التكريم والتشريف الإلهي الدائم والمستمر، وأن عليهم أن ينتظروا مكافآت أعظم، وألطافاً وعنايات أتم، وأهم، وأعم..

ثم جاء الجزاء الإلهي الذي نتج عن فعلهم، وله أسباب وعلل وفق ما اقتضته السنن الإلهية، وفرضه النظام الرباني.. الذي لأجله قال تعالى: (جَزَاهُمْ)، ولم يقل: أعطاهم، أو تفضل عليهم.

(وَجَزَاهُمْ).. أم جازاهم؟:

ولا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بأن التعبير بكلمة جزاهم، التي هي فعل ماضٍ، إنما هو للإشارة إلى أن هذا الأمر كأنه قد حصل وانتهى حتى ليصح الإخبار عن حصوله. وذلك لعدة خصوصيات قد أشير إليها أكثر من مرة..

ويبقى سؤال هو: أن التعبير هنا قد جاء بكلمة جزاهم - لا بكلمة جازاهم، فما هو الفرق بين التعبيرين يا ترى؟???????????!

ونقول: قد يمكن الإجابة عن ذلك بأن كلمة (جازى) تستعمل في مورد العقاب غالباً. بل قد يستفاد من قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَ الْكَفُورَ﴾، أن كلمة جازى متمحضة في الجزاء بالسوء.

أما كلمة جزى فتستعمل في العقوبة والمثوبة على حد سواء، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(1).

وقال في مورد المثوبة: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾.

وقد يقال أيضاً: إن كلمة جازى تفيد التدقيق والمقابلة بصرامة، أو فقل: معناها الجزاء وفق ميزان العدل.

أما كلمة جزى فتفيد مطلق المكافأة، حتى ولو بالزيادة على ما يقتضيه ميزان العدل.. ولذلك، فإن الله تعالى، وإن كان في مورد العقوبة، لا يزيد عن مقدار ما يجازي عليه، ولكنه في مورد المثوبة يزيد في المثوبة إلى سبع مئة ضعف، ثم يضاعف لمن يشاء، وهذا أزيد مما يقتضيه العدل. وفي المورد الذي نحن فيه، مذ جاء الجزاء وفق مقتضيات التفضل، الذي لا حدود للعطاء فيه، ولأجل ذلك نُكّرت كلمة جنة، وكلمة حرير.. لإفادة أن ما يعطيهم الله إياه يفوق حدود التصور، كما ألمحنا إليه آنفاً في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾..

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية:

ثم إن من الواضح: أن كلمة جزى، تعني إعطاء البدل والمكافأة من طرف واحد، ولا يلحظ فيها إلا ما يفعله من يريد إعطاء الجزاء.

أما كلمة جازى، فهي على وزان فَاعَلَ، التي تستعمل عادة للدلالة على وجود فعلٍ من الطرفين، بصورة متكافئة ومتوازنة، فهي مثل قاتل، ولاعب..

فالجزاء الإلهي إذا كان على سبيل المثوبة، فإنه لا يلحظ فيه الفعل إلا في طرف واحد، وهو الله سبحانه.. ولا يلحظ فيه التعادل والتوازن بين ما يعطيه الله سبحانه، وما يقدمه العبد من عمل، إذ لا مجال للموازنة بين العطاء الإلهي، وبين الطاعات الصادرة عن العبد.. وإن كان فعل العبد له دور التسبيب للفيض وللعطاء الإلهي. لكن لا يلحظ فيه أزيد من ذلك.. فيعطي الله مقابل الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعماية ضعف، ثم إن الله يضاعف لمن يشاء..

وإنما قلنا: إنه لا مجال للمقابلة، بسبب الطاعات أيضاً، لأنه إنما يقدر العبد عليها، ويأتي بها بواسطة قدرات أخرى أنعم الله بها عليه، وهي لا يمكن إحصاؤها، ولا شكرها.

أما إذا كان على سبيل العقوبة.. فإن الله سبحانه.. وإن كان قد أوعد العاصين بالجزاء بالمثل، لكن يبقى موضوع العفو، أو التخفيف، مراعاة لكثير من الأمور وارداً في كثير من الموارد.. بل إن المقابلة بالمثل على نحو الدقة المتناهية قد لا تكون واردة إلا في مورد واحد، وهو ظهور كثرة الكفر وشدته، كما أشارت إليه الآية الكريمة التي تتحدث عن سبأ، الذين أرسل الله عليهم سيل العرم، حيث قال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَ الْكَفُورَ﴾(2).

ويلاحظ: أن هذه الآية هي الوحيدة التي وردت في القرآن بصيغة (فَاعَلَ)، للدلالة على المقابلة بين العمل الصادر منهم، وبين الجزاء الصادر من الله سبحانه لهم. وللدلالة على وجود هتك وتعدٍّ على الله تعالى من قبلهم، فناسب ذلك أن يكون في مقابله هتك لحرمتهم ومواجهه لهم بما يسوءهم وفي هذا نوع من التوسع في الإطلاق، كما هو ظاهر..

الثواب بالتفضل، أم بالاستحقاق؟:

ثم إنه لا شك في: أن التمرد على المولى يوجب العقوبة، كما أنه بما يمثله من عدوان على نظام الحياة يوجب خللاً في هذا النظام، يستوجب العقوبة أيضاً، لأن ما يفعله الإنسان لا يقاس بحجمه المادي وحسب.. بل تلاحظ فيه الحيثيات الأخرى أيضاً.. فمن كسر زجاج شباك الغير خطأ فعليه أن يعوض ما كسره، وينتهي الأمر، لكن من يضرب مولاه عمداً، فإن القضية ليست مجرد ضربة بضربة. إذ يبقى موضوع هتك حرمته من حيث هو مولاه، بدون تعويض، كما أن الأمر بالنسبة لجانب الطاعة كذلك، فإن البلخي قد ادعى: أن الثواب على الطاعة إنما هو بالتفضل لا بالاستحقاق..

واستدل على ذلك بأن التكاليف إنما وجبت شكراً للنعمة، فلا يستحق فاعلها مثوبة عليها، فما يعطيه الله للعبد عليها إنما هو تفضل منه.

ونقول: إن هذا الكلام باطل، إذ يقبح عند العقلاء أن ينعم أحد على غيره بنعمة، ثم يكلفه، ويوجب عليه شكرها، من دون إيصال ثواب إليه على هذا التكليف، وهم يعدون ذلك نقصاً، وينسبون من يفعل ذلك إلى حب الجاه والرياسة ونحو ذلك من المعاني التي لا تصح من الحكيم.

وهذا يعني أنه إذا كلفه، فإن عليه أن يثيبه على امتثاله لهذا التكليف.. وأن المثوبة بالاستحقاق، لا بالتفضل.

وبعبارة أخرى: إن الطاعة مشقة ألزم الله العبد بها، فإن لم تكن لغرض كانت ظلماً وعبثاً، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم.

وإن كانت لغرض.. فإن كان يعود إلى الله فهو باطل، لأنه تعالى غني عن العالمين. وإن كان الغرض عائداً للمكلف.. فإن كان هو الإضرار به كان ظلماً قبيحاً.

وإن كان هو النفع له، فإن كان مما يصح أن يبتدئ الله به العبد، فلماذا يكلفه به.. وإن كان مما لا يصح الابتداء به، بل يحتاج إلى تكليف، فإن العبد يستحق أن يعوضه الله عن تلك المشقة التي كلفه بها بمثوبة وأجر..

وهذا معناه: أن مثوبة العبد إنما هي بالاستحقاق، وهو المطلوب..

إستحقاق ناشئ عن التفضل:

والحقيقة هي: أن هذا الاستحقاق ناشئ عن التفضل، وذلك ببيان: أن مالكية الله للعبد ولكل شيء، وكون طاعة العبد إنما تتحقق بالاستفادة من نعمه وتفضلاته وفيوضاته تعال-ى.. - إن ذلك - يجعل تقرير أصل الثواب للعبد المملوك على أفعاله داخلاً في دائرة التفضل، فكيف إذا جَعَل له جزاءً مضاعفاً أضعافاً كثيرة؟!.

ولكنه بعد أن قرر الله تعالى ذلك لعباده ومملوكيه بعنوان الجزاء، وتفضَّل عليهم بزيادة مقاديره.. وأصبح هذا قانوناً إلهياً مجعولاً، فإن ذلك يدخله في دائرة الاستحقاق بعد أن لم يكن.

ولأجل ذلك لم يجز في حكم العقل أن يحرم الله سبحانه المطيع من هذا الثواب. ولو أنه كان تفضلاً، لجاز ذلك.. فكيف لو أراد أن يحرم المطيع، ويعطي العاصي؟! فإن الأمر سيكون أشد قبحاً، وأعظم شناعة، كما هو ظاهر لا يخفى.

وهذا من قبيل ما لو قرر رجل أن يجعل لولده جائزة إذا نجح في الامتحان، فإذا نجح ذلك الولد، فسيرى أن له حقاً بمطالبة والده بتلك الجائزة. حتى إذا حرمه منها، فسيجد نفسه مظلوماً مهاناً، فكيف إذا حرمه منها، وأعطاها لأخيه الراسب؟!

وبتعبير أوضح: إن إعمار الأرض، وتحقيق الأهداف الإلهية في إيصال الإنسان إلى كماله، يقتضي تزويده بالأدوات التي تمكنه من ذلك، فكان أن أعطاه الله المشاعر، والعقل، والإرادة، ووفر له جميع أنواع الهدايات: الإلهامية، والحسية، والفطرية، والغرائزية، والعقلية، ثم اعتبره أهلاً للخطاب الإلهي.. فجعل له قانوناً، وأكرمه، وكلفه به.. وجعل له كياناً وشخصيةً.. رغم أنه هو المالك له، فإن مقتضى الأخذ بهذه السياسة هو الالتزام بلوازمها، والاستجابة لموجباتها، وترتيب آثارها.. فالذي جعلت له كياناً، وكرامة، ورسمت له هدفاً، وكلفته بالعمل للوصول إليه باختياره، وقررت له حقوقاً، فإنه إذا أنجز ما طلب منه، سيطالب بهذه الحقوق المجعولة له، ولا يرضى بأن تعطى لغيره، حتى لو كان ذلك الغير هو ولده، أو أبوه، أو أخوه، وسيرى نفسه مظلوماً إن حصل ذلك فعلاً.

(بِمَا صَبَرُوا):

ثم إنه مرة يكون الدافع للعطاء هو مراعاة خصوصية في المبذول له، ككونه عالماً، أو لأجل حسن سلوكه، أو إلخ.. فيعطيه، ولو لم يصدر من ذلك الشخص أي فعل يستحق أن يقابل بشيء آخر..

ومرة يراد بالعطاء أن يكون مقابل جهد يراد أن يكون جزاء له، فتحتاج إلى تحقيق توازن بين المجازى به، والمجازى عليه، من حيث إن هذا أقل، وذاك أكثر، أو العكس..وقد يكون هذا العطاء أرجح من حيث الصفة التي يراد مراعاتها فيه، وقد لا يكون كذلك..وبعدما تقدم نقول:

هل يريد الله تعالى بقوله: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ أن يجعل العطاء والجزاء، على نفس وجود طبيعة وخصوصية الصبر فيهم؟!.. أو أنه يريد أن يجازيهم على فعلٍ صدر منهم، وقد كان هذا الفعل تجسيداً لمفهوم الصبر في الواقع الخارجي؟!

إن الظاهر أن المراد هنا، هو هذا الشق الثاني..

وذلك لأن كلمة (بِمَا صَبَرُوا) تستبطن، أو فقل: تصرح، بأن هذا العطاء قد كان بسبب وجود مبرر، بل لأجل استحقاق واقعي لما تعطيه إياه.

وهذا معناه: أنه لا بد أن يكون مقدار وميزات الفعل الصادر من الأبرار ملحوظاً في مقام العطاء، ليصح أن يقال إن هذا في مقابل ذاك.

فالباء في قوله (بِمَا صَبَرُوا) إذن تفيد مقابلة هذا بهذا، والتعويض به عنه، وتفيد الآلية والتسبيب، وأن الوسيلة إلى هذا الجزاء، هي ذلك الصبر، وهذا يقتضي: أن لا تكون هناك أية منة عليهم بهذا الجزاء، لأنه أعطى في مقابل عمل.. وأن هذا العمل ليس عادياً بل هو يحتاج إلى صبر، وتحمل، وجهد..

وبذلك يتضح السبب في: أن الله سبحانه قد استخدم نفس هذه الباء أيضاً، في قوله: ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾(3). وفي قوله: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ﴾(4).

الجزاء مقابل الصبر، أم مقابل العمل؟:

وقد تحسن الإشارة إلى أنه تعالى قد جعل الجزاء هنا، مقابل الصبر نفسه، لا مقابل العمل الذي صبروا عليه، ليشير بذلك إلى شدة معاناتهم، وأنها قد بلغت حداً أصبح نفس فعلهم صبراً، وأصبح الجزاء على نفس هذا الصبر..

وقد جاء بكلمة ﴿ صَبَرُوا﴾ بصيغة الماضي، لعله ليشير إلى أن هذا الصبر هو فعل اختياري لهم، وليس أمراً مفروضاً عليهم.. فليس حالهم كحال ذلك السجين الذي يجبر على بعض الأعمال الشاقة.. بل هو صبر وحصانة قد اختاروها أنفسهم واختاروا هم الفعل الذي ينتجها..ويلاحظ هنا: أنه لم يذكر للصبر أي متعلق، ربما ليفيد أن صبرهم هذا كان شاملاً، فهو صبر على الطاعات، فلا يملون منها، وصبر عن المعاصي، فلا يقربونها، وصبر على المصائب والبلايا. وصبر على الأذى في جنب الله، وما إلى ذلك..

وكل صبر لهم في هذه الموارد لم يأت على أساس العجز عن اختيار الطرف الآخر، أو الاضطرار إلى التحمل، بل كما يضطر المحتاج لبيع ما غلا، بثمن بخس، من أجل سد حاجته، بل هو صبر الاحتساب، وهو الصبر الواعي، الذي تنتجه إرادتهم، ويدفعهم حبهم لله لاختياره.

إنه صبر أنتجه لهم إطعامهم الطعام للمسكين، واليتيم، والأسير، على النحو الذي وصف الله ورسوله.. وينتجه لهم الوفاء بالنذر، وينتجه أيضاً خوفهم من يوم كان شره مستطيراً..

وهذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى قال: ﴿ بِمَا صَبَرُوا﴾، ولم يقل: جزاهم بصبرهم، فإن التعبير بالمصدر قد يوحي بأن هناك أمراً أو شدة قد فرضت عليهم، وأنهم قد تحملوها. وهذا ما ليس بمراد قطعاً..كما أن ما ذكرناه في معنى الباء، إذا أضيف إلى سائر ما أشرنا إليه، يجعلنا نعرف السبب في أنه لم يقل: (على صبرهم).

لذة الاستحقاق:

ولا بد لنا هنا من بيان: أن الجزاء على عمل فيه معاناة، وصبر، وإحساس بالاستحقاق له لذة أخرى تضاف إلى لذة نفس العطاء، من حيث هو عطاء..

فإن الجهد نفسه يجعل للعطاء لذته، وللشعور بالاستحقاق لذة أخرى تضاف إلى ذلك.

وربما يمكن تأييد ذلك بما نشاهده من تعلق الإنسان، وحرصه الشديد على كل شيء يناله بعد تعب وجهد. بخلاف ما يحصل عليه بسهولة ويسر، فإنه لا يكون له ذلك التعلق به، بل يسهل عليه التخلي عنه، تماماً. قال الشاعر:

ومن أخذ البلاد بغير حرب يهـون عليه تسليم البلاد

ولعل سبب اللذة بما يبذل الإنسان في سبيله جهداً، هو أن بذل الجهد يكون سبباً في الشعور باستحقاق الجزاء.. وهذا يعطي الإنسان شعوراً بالعزة، والكرامة، وبالانتصار، وبالاستقلال في شخصيته وكيانه، ويمنحه ثقة بنفسه.

فعطاء الجزاء إذن له قيمته، وله لذته المميزة. وربما لا يكون لعطاء التفضل هذا النوع من المزايا، وإن كانت له مزايا من نوع آخر..

وهناك شعور آخر قد يتمازج مع لذة الاستحقاق، وما ينشأ عنها، ألا وهو شعوره بأن ما يعطى له إنما هو نتيجة ما بذله من جهد وتعب، فهو بذلك قد أسهم في رفع نقصه، وتحويله إلى كمال، وبدَّل عجزه بالقوة، وحاجته بالغنى..

وهذه مزايا أخرى يحبها، ويعتز بها، وترضى روحه بها.

كما أن علاقته بنتاج فعله وجهده الذي كان به كماله، وغناه وقوته، ستكون علاقةً لها مغزاها العميق، وأثرها الظاهر في روحه ووجدانه، وإحساسه بالرضا والغنى، وبالكمال والقوة.

وخلاصة الأمر: أن للنعمة التي أعطيت له لذة، وبهجة، ورونق.. وللشعور بأنها عن استحقاق بسبب تعب وجهد؛ لذة أخرى.. ثم إن هناك أيضاً لذة الكمال والشعور به..استطراد.. للتوضيح: ونستطيع أن نستشهد على هذا الذي قلناه بما يلي: ما ورد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم: "تهادوا تحابوا فإن الهدية تذهب بالضغائن"(5).

إذ إن الذي يقدم الهدية، هو الذي يحب من أخذ الهدية، ولعله لأن المعطي إنما يبذل له ما حصله بجهده وعرقه، أو ببذل ماء وجهه، أي: أن جزءاً من كيانه، ووجوده قد تجسد بهذا النتاج. والإنسان يحب نفسه، وكل متعلقاتها, ويتعامل مع كل ما يعود إليها، أو يرتبط بها، بصورة أكثر حميمية، وانجذاباً، من تعامله مع الأغيار.

وهذا يشير إلى أنه حين أمرنا الله تعالى بالبذل للآخرين، فإنما أراد منا أن ننظر إليهم، وأن نتعامل معهم على أنهم جزء من كياننا ومن وجودنا، وما ذلك إلا لأن تعاملنا هذا سيغير الكثير الكثير من طبيعة حياتنا، وعلاقاتنا ومواقفنا من بعضنا البعض.

أما من يأخذ الهدية، فقد يكون في حرج وضيق، حين يفكر بأن المعطي قد يمنُّ عليه بما أعطاه، ويذكِّره به حتى بالسلام، وفي البسمة واللفتة، والنظرة، وقد تذهب به أفكاره وخيالاته كل مذهب، ليصل إلى حد أن يفكر بأن يبعده عنه، ويتخلص منه، ولو بالأسلوب السيء والمهين. وقد شاع ذلك القول المأثور: (إتق شر من أحسنت إليه)(6).

وشاهد آخر على ذلك، هو أن الله سبحانه يقول: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(7).

فإن الله سبحانه حين شرع أحكام الزواج، لم يذكر واجبات وأحكاماً إلزامية خاصة بهذا الواقع الجديد، سوى عدد يسير، ربما لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة.. واكتفى فيما عدا ذلك بالأحكام العامة, الشاملة لكل مسلم..

مع أن الاحتكاك في الحياة الزوجية فيما بين الزوجين، يفوق ما يكون في أية حالة أخرى.. والأجواء في داخل البيت الزوجي مهيأة للتدخل في كل شيء يمكن تصوره في مجال تعاطي إنسان مع إنسان آخر..

وذلك من أعظم الدلائل على أن هذا الدين هو من عند الله تعالى.. وهو من مظاهر الإعجاز التشريعي، الدال على أن واضعه هو الله العالم بالسرائر.. حيث إنه قد تبين من خلال هذا التشريع أنه تعالى لا يريد بناء الحياة الزوجية على أساس مصلحي، أو تجاري، أو سياسي، أو على أساس الخضوع والانقياد لظروف اجتماعية، أو غيرها.. لأن المتوقع في هذه الحال هو أن تنتهي العلاقة بمجرد فقدان تلك المصلحة، أو انتهاء ذلك الظرف السياسي، أو الاجتماعي، أو غيره.. أو إذا وجد أي من الشريكين مورداً آخر أكثر ربحاً، وأعظم فائدة ونفعاً.

كما أنه لا يريد أن يقيم العلاقة على أساس اقتضاء الغريزة والحب الشهواني، فإنه تأثير سيتضاءل أيضاً إلى حد التلاشي التام؛ حينما تفقد الغريزة فاعليتها ونشاطها، أو حينما تخبو جذوة الشهوة، لأي سبب كان..

بل يريد أن يقيمها على أساس أقوى من ذلك كله، يستطيع أن يكون هوالحاكم، والمؤثر، في مختلف الظروف والأحوال، ألا وهو الحب الإنساني، والنظرة الإيمانية..

فكان أن سعى إلى إثارة المشاعر الإنسانية، في كلا الطرفين، تجاه الطرف الآخر، وهيأ المناخ لتمازج تلك المشاعر، لتنتج من ثم حباً إنسانياً صافياً وخالصاً، يحمل في داخله معنى القيمة، ومعنى الإخلاص، ويتنامى في ظل الرعاية الإلهية ليلتقي بالوجدان، فيهبه حياة، ويقظة دائمة، ويتأصل، ويتجذر، ويتعمق بالإيمان، والتقوى.. ويصان ويحفظ في ظل الإحساس بالرقابة الإلهية والوجدانية.

ومن هنا نجد: أن التشريع الإلهي لم يُقم نظام الحياة الزوجية على أساس الحق والعدل. وقهر الطرف الآخر به، وفرضه عليه.. إذ أنه لم يشرع واجبات كثيرة يمكن المطالبة بها لأي منهما، وذلك الذي شرعه وفرضه فعلاً، لن يحقق لهما الراحة، والسعادة، والهناء، إلا بقدر ما يحجزهما عن العدوان والتظالم فيما بينهما، حين تبلغ بهما الأمور إلى الخطوط الحمراء، حيث يكمن الخطر، وتتعمق الهاوية السحيقة.

ولسوف يدركان من خلال التجربة العملية: أن هذا ليس هو طريق نيل السعادة، بل إن نيلها وسائل وطرق أخرى لا بد من البحث عنها..

ولن يطول بهما المقام، إذ سيدركان: أنه لا بد لهما من العودة إلى ما يريد الله لهما أن يعودا إليه، ألا وهو التوادّ، والتراحم، حسبما أشارت إليه، الآية الكريمة: ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(8) أن الملاذ والمنقذ هو الحب الإنساني، لا الحب الغريزي والشهواني، الذي ليس هو في الحقيقة إلا تعبيراً آخر عن الأنا الطاغي، والمتمرد، الذي يريد أن يستأثر باللذة، وأن يسعد بها، بأية قيمة وبأي ثمن.

والحب الإنساني والإيماني: لا يرضى بديلاً عن أن يصبح كل من الزوجين جزءاً من شخصية الطرف الآخر، ومتمماً لكيانه، ووجوده: ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾.

ولكن: الله سبحانه لا يريد أن يوجد هذا الحب بصورة إعجازية، وبجبرية قاهرة.. وإنما يريد لهما أن يقوما معاً بتهيئة أسباب وجوده، وموجبات نشوئه. وأن ينتجاه بصورة طبيعية، وأن يتنامى في داخل ذاتهما ليصبح جزءاً من التكوين الحقيقي لشخصيتهما الإنسانية.

وقد اعتمد من أجل تحقيق ذلك عنصر التضحية المتبادلة، والتي تكون عن إرادة واختيار، ومن منطلق المعرفة، والوعي، والإدراك لحقيقة حاجاتهما الحياتية، في مختلف المجالات..

فحين يشعر كل من الزوجين بضعف الطرف الآخر، وبحاجته للمساعدة والرعاية، فستتحرك مشاعر الرحمة فيه، وسيدعوه ذلك لمد يد العون له. حتى إذا تكرر هذا العون والتعاهد له مرة بعد أخرى، فإن ذلك سيجعله يتعلق به، لأن جزءاً من جهده، ومن عرقه، قد تجسد فيه، وسيزداد هذا التعلق على مر الأيام تبعاً لتكرر ذلك بسبب اقتضاء الطبيعة الإنسانية له..ولعل هذا يفسر لنا سرَّ شدة تعلق الأم بطفلها، فإن سببه هو مدى ما تبذله من جهد في مساعدته، وهي ترى ضعفه وحاجته، فتسهر عليه، وتتحمل الكثير من المشاق في سبيله.

أما الأب فإن ما يبذله من جهد وتضحيات مباشرة في سبيل الطفل؛ لا يصل إلى حد ما تبذله أمه فلذا كان من الطبيعي أن العاطفي بالولد عن درجة التعلق العاطفي به لدى أبيه.

وبذلك يتضح ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فإن المودة - كما قالوا(9) - هي الحب الظاهر أثره في مقام العمل..

غير أن علينا أن لا ننسى أن هذا الحب قد يفقد بعض توهجه، بسبب ضعف أو فقد بعض موجباته، التي تسللت إلى عناصر الإلزام في قرار الزواج، مما له صفة غرائزية، أو ذوقية، نشأت عن ملاحظة حالة جمالية معينة، فيكون ضعف تلك الموجبات سبباً في بعض الخفوت، وضعف التأثير في الحركة العملية، والسلوكية، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تدخل العنصر الثاني، وهو الرحمة، التي هي انفعال نفساني، قوامه رقي في الإدراك الإنساني، وشفافية، وصفاء، وتألق، في روح الإنسان ونفسه..

نعم تأتي هذه الرحمة الإنسانية لتكون هي الضمانة الحقيقية لبقاء هذه العلاقة الرحيمة، والحميمة، والصادقة، محتفظة بقوتها، وبحيويتها..

والمثال الثالث الذي نذكره هنا ما رواه الكليني رحمه الله من أن الإمام الرضا (ع) رأى مع غلمانه شخصاً أسود، يعمل معهم بالطين، فسألهم عنه، فقالوا: إنه يعاونهم ويعطونه شيئاً، فغضب (ع) من ذلك.

فسأله سليمان بن جعفر الجعفري عن ذلك..

فقال: (إني قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة، أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته. واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة، ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعافه على أجرته، إلا ظن أنك قد نقصته أجرته. وإذا قاطعته، ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبة عرف ذلك لك، ورأى أنك قد زدته)(10).

نعم إن جهد الإنسان عزيز عليه، لأنه يبذله من أغلى وأعز شيء في الوجود عليه، وهو كيانه وعرقه، وشخصيته, وسوف لن يكون دقيقاً في تقديره لقيمته, بل هو سوف يذهب في ذلك إلى أقصى المذاهب، إنه سوف لا ينظر إلى العمل, بل سوف ينظر إلى من عمل, فهو إنما يطلب قيمة تفرض عليه أن يتخلى عن العلاقة القائمة بينه وبين بعض منه، وجزء من ذاته..

ومعنى هذا أن التخلي لن يكون سهلاً, إذا قيس بالتخلي عن أمر ليست له به هذه الصلة، بل هو لغيره, ودوره فيه، هو دور الحفظ والأمانة.. فإنه سيلحظ في هذا الحال قيمة نفس ذلك الشيء المؤتمن عليه.. وسوف تنقطع علاقته به بمجرد حصوله على هذه القيمة..

مقارنة بين الجزاء.. وبين العمل:

ومراجعة الآيات الشريفة تعطينا: أنه سبحانه قد ذكر أموراً يقوم بها الأبرار، ثم قابلها تعالى بجزاء متعدد المناحي، والكيفيات، والحالات.. فذكر أن الأبرار: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً / وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾..وأنهم يقولون لمن يطعمونهم: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾ وأنهم (لا يريدون جزاءً)، وأنهم (لا يريدون شكوراً).. وأنهم (يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً)، وأنهم (يفجرون العين التي يشربون بها تفجيراً)..

وبعد أن ذكر هذه الأحوال للأبرار قابل ذلك بجزاء بيّن كثيراً من حالاته، ومفرداته فكان هذا الجزاء (جنةً، وحريراً)، (متكئين على الأرائك).. حيث قطوف الجنة دانية عليهم، ومذللة لهم تذليلاً.. (ويطاف عليهم بآنية من فضة)، وبأكواب إلخ..

لماذا لم يذكر الحور العين؟:

وربما يرى البعض أن الله سبحانه لم يذكر الحور العين في جملة مفردات نعيم الأبرار هنا إكراماً للزهراء (عليها الصلاة والسلام).. لأن السورة نزلت في علي، وفاطمة، والحسنين (ع)..

ونقول: إنه ليس لدينا ما يمنع من أن يكون هذا التكريم مقصوداً، ولكن لا بد أن نضيف إلى ذلك:

أولاً: لأن لهذه السورة الشريفة خصوصية تنفرد بها فيما يرتبط ببيان طبيعة الجزاء الذي أعده الله سبحانه للأبرار، فإن عمدة ما أشارت إليه من مفردات هذا النعيم، هو حالات من النعيم المعنوي، واللذات التي يدركها الإنسان بمشاعره، وفكره، وعقله، وروحه، من حيث إنها تعبير عن مقام سام، وعن تكريم وإجلال وتقدير..

بل إنه حتى حينما تحدث تعالى عن أمور حسِّيَّةٍ, فإنما ساقها بطريقة توحي بحالات ومعانٍ، تثير لذات معنوية، روحية، وشاعرية، أكثر مما هي مؤثرة في النعيم الحسي، واللذة الجسدية..

فمثلاً: جعل جزاءهم نفس الجنة، لا مجرد دخول الجنة والسكنى فيها، وذلك يشير إلى أن المطلوب هو إثارة الشعور بالمالكية، والقدرة، والتصرف من موقع المالك، لا من موقع الساكن والنزيل، فإن من يشعر بملكية الشيء يكون تصرفه فيه أقوى وأعمق، وتراوده مشاعر طمأنينة، وثبات وسكينة أقوى.

كما أنه تعالى قد ذكر في هذه السورة لذة الاستحقاق، ولذة الجزاء.. بعد معاناة الجهد، والضعف، والحاجة، من قبل أولئك الأبرار، وذكر أيضاً لذة رفع الجهد، وزوال الضعف، ودفع الحاجة، ولذة الكمال، ولذة العطاء بعد المعاناة..

وبيَّن في هذه السورة المباركة أيضاً حالات التصرف وآفاقه، فلاحظ قوله: ﴿ مُتَّكِئِينَ﴾، فإنها تلمح إلى لذة القدرة على التصرف، وإلى التصرف الفعلي الذي يحسّ الإنسان بلذته فعلاً أيضاً.. وستأتي بقية التفاصيل..

فإذا قارنت هذه اللذات المعنوية التكريمية بأنواع تلك الأعمال التي تصدى الأبرار لها، فإنك ستجد تناسباً عجيباً فيما بين طبيعة الأعمال وطبيعة الجزاء عليها..

فإن الوفاء بالنذر، والخوف من ذلك اليوم، وإطعام الطعام في تلك الأحوال التي وصفناها، وبهذه الروحية التي بيّنها القرآن، وكون الهدف هو رضا الله، وليس الحصول على النعيم والجنان.. ثم تفجيرهم للعين تفجيراً بالعمل الصالح.. و.. و - إن كل هذا - يناسب تماماً مفردات هذا النعيم المعنوي التي وردت في هذه السورة على أنها جزاء على صبرهم.. وهذا الجزاء هو الذي يحقق طموحاتهم، وما يفكرون فيه..

ثانياً: هناك أمور كثيرة ذكرها الله سبحانه في سائر السور القرآنية، على أنها من مفردات النعيم ولم تذكر هنا، فهو لم يذكر مثلاً أنهار العسل، وأنهار اللبن، والنخل، والرمان، وغير ذلك، فعدم ذكر الحور العين هنا لعله لأن المورد ليس من موارد الجزاء بها..

(جَنَّةً):

وحول كلمة (جَنَّةً) نشير إلى ما يلي:

1. قد أشرنا آنفاً إلى أن الله تعالى قد جعل جزاء الأبرار نفس الجنة، وليس جزاؤهم مجرد السكنى فيها..

وقد قلنا: إن تصرف المالك في الدار مثلاً أقوى وألذّ، وأرضى له من تصرفه فيه كنزيل..

2. لقد قال تعالى: ﴿ جَنَّةً﴾ بتنوين التنكير، ليظهر أنها فوق حدود التصور، فلا مجال لمعرفة حقيقتها، ووعي أوصافها وخصوصياتها. فالتنوين إنما هو لأجل تفخيمها، وتعظيمها بما لا مزيد عليه.

3. إن نفس إبهام هذه الجنة يهيء لخاطر هؤلاء الأبرار لذة أخرى، وهي لذة محاولة استحضار ذلك النعيم. لا ليكون خيالاً لذيذاً، بل ليكون تصورات لها تطبيقاتها الواقعية..

فلهم إذن لذتان:

إحداهما: تأتي من خلال التفكير في هذه الجنة وعظمتها وفخامتها.

والأخرى: هي الاستفادة من الجنة مباشرة..

وحتى حين يكون الأبرار في الجنة، فإن لذتهم ستتضاعف، إذا شعروا أن هناك درجات، وحالات من النعيم، أعدها الله لهم، لو طلبوا شهودها لوجدوها، ولكن هذا الشهود والكشف، لا بد أن يأتي بصورة تدريجية، لأن تصوراتهم قد تكون قاصرة عن نيل آفاقها، وعن إدراك حالاتها الجمالية، وغير ذلك مما هو فيها، في آن واحد.

(جَنَّةً وَحَرِيراً)، لماذا؟:

ويرد سؤال: إنه إذا كان سبحانه قد جعل الجنة جزاءهم، فإن الحرير سيكون أحد مفردات النعيم فيها، فلماذا قال: ﴿ جَنَّةً وَحَرِيراً﴾؟!

وقد يقال في الجواب: إن هذا من باب التفصيل بعد الإجمال، فإن الله سبحانه قد جازاهم بالجنة فقط، ثم فصل لهم حالاتها وحالاتهم فيها، فلا يوجد هناك سوى جزاء واحد.. قد بينّه الله على هذا النحو.

ونقول: قد يناقش في هذه الإجابة بأن هذا الكلام قد يكون صحيحاً بالنسبة لما ورد بعد قوله: (وَحَرِيراً).. ولكنه قد لا يكون ظاهراً، ولا مقبولاً، بالنسبة لهذه الكلمة بالذات التي عطفت على الجنة بالواو، والعطف يقتضي المغايرة.

غير أننا ندفع هذه المناقشة: بأنه يكفي في التغاير أن يكون بالعموم والخصوص، فيذكر الأمر الجامع أولاً، ثم تُخَصَّصُ بعض مفرداته بالذكر لغرضِ مّا، وهذا كما تقول لمن تريد أن ترغِّبه في زيارتك: إئت إلينا، وسنقدم لك قصراً مجهزاً بكل ما تحب، وفيه مقاعد وثيرة، ولوحات زيتية رائعة و..و..الخ..

ويبقى سؤال، وهو: لماذا اختار الله سبحانه وتعالى هذا النوع من التعبير؟

ولماذا اختص ذلك بالحرير دون سواه من مفردات نعيم الجنة؟!.

والجواب: أن المراد هنا هو الإشارة إلى أن هذا الجزاء على نحوين:

أحدهما: ثابت ومستمر. وهو وجود الجنة، ووجود الحرير..

والآخر: هو حالات وتصرفات تتصّرم وتنقضي، لأنها مرهونة بإرادة أولئك الأبرار أنفسهم، ويتجلى ذلك في قوله: (مُتَّكِئِينَ)، (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا)، (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ)، (وَيُسْقَوْنَ)، الخ..

فهو يذكر تصرفات وأحداثاً لها بداية ونهاية، وهي تابعة لإرادة الأبرار.. أما الجنة والحرير فليسا من هذا القبيل.. بل هما من الأمور العينية، ولذتهما قائمة في نفس ذاتهما. وليست اللذة بالفعل وبالحدث المتصرّم.

الجنة والحرير أولاً:

وقد بدأ بالحديث عن الجنة والحرير باعتبار أن إدراك الإنسان للذة الحسية أسرع من إدراكه للذة المعنوية والروحية التي تحتاج إلى وسائط. فلبس الحرير يلذ للإنسان، لكن تذليل القطوف، ودنو الظلال.. يحتاج إلى وسائط لوعي مفهوم التكريم فيه. وهو مفهوم لا يكفي أن يتصوره الإنسان، بل لا بد لكي تنشرح نفسه له من أن يدرك أنه هو المقصود به، وأن يدرك أنه لم يأت على سبيل الصدفة، بل هو عمل مقصود لفاعله المختار.

وحين يطاف عليهم بآنية، فعليه أن يدرك أولاً وجود مخلوق يحمل آنية، ويطوف عليه بها، وأن يدرك أن هناك إرادة وراء ذلك التطواف بالآنية، ثم أن يدرك أن لهذا الفعل هدفاً، وأن هذا الهدف هو تكريمه.. فهذه وسائط عديدة لا بد له أن يمر بها قبل أن تنشرح نفسه لهذا التطواف بالآنية.

والاتكاء على الأرائك أيضاً يحتاج إلى وسائط لإدراك لذته.. ومن هذه الوسائط إدراك المتكئ أنه قد حصل على ما يرغب في الحصول عليه، والتفاته إلى فراغ باله منه.. ثم إرادة المتكى للاتكاء نفسه، وكذلك إرادة أن يكون ذلك على الأرائك، ثم إرادة أن يكون هذا الاتكاء تعبيراً عن ذلك الحصول، وتجسيداً لفراغ البال بهذه الكيفية، وأن يشعر بأنه يمارس حريته الفردية في الاستفادة من هذا الفراغ الحاصل..

الجنة أولاً:

ومن جهة أخرى، فقد قُدِّم ذكر الجنة في الآية على ذكر الحرير.. لأن إعطاء الجنة معناه: إعطاء مختلف اللذائذ الحسية، فضلاً عن غيرها. وهي الأوضح، والأصرح، في النعيم، وفي التكريم.

وتبدأ اللذة فيها بنفس اسمها حيث يشعر من يكون فيها: أنه محاط، ومغمور بالنعيم وبالنعم، وأن كل شيء فيها حسن جميل، ثم هو لذيذ ومحبوب ومطلوب..

ثم ثنّى بذكر الحرير الذي تكون لذته أيضاً حسيّة، لا يحتاج نيلها إلى أكثر من ممارستها. ولكن الحرير إنما يعبر عن نفسه، ولا يعبر عن سائر النعم التي في الجنة..

ثم يذكر بصورة متعاقبة تلك النعم التي يحتاج إدراكها إلى توسيط وسائط، ويحتاج نيلها إلى حركة نحوها، والتي هي في الحقيقة تصرفات وممارسات مختارة في تلك الجنة..

أضف إلى ذلك: أن التنعم بالجنة إنما هو بنفس الكون فيها، أما التنعم بالحرير، فيحتاج إلى الالتفات، والترجيح له، واختياره، وإرادة لبسه، ثم لبسه فعلاً، وإلى التقلب فيه.


1- سورة سبأ الآية33.

2- سورة سبأ الآية17.

3- سورة البقرة الآية 45.

4- سورة الرعد الآية 24.

5- بحار الأنوار ج72 ص44 وج74 ص166.

6- تفسير الميزان ج2 ص352.

7- سورة الروم الآية21.

8- سورة الروم الآية21.

9- عن كنز الفوائد للكراجكي.

10- الكافي ج5 ص288 وبحار الأنوار ج49 ص106.