الفصل الحادي عشر.

الفصل الحادي عشر.

قال تعالى: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾.

(فَوَقَاهُمُ اللهُ):

هناك عدة نقاط لا بد من الإشارة إليها، وهي التالية:

أ. إن الوقاية هي جعل ما يمنع من وصول ما يكره وصوله إلى شيء مّا..

وقد اختير التعبير بالوقاية هنا، ربما ليشير تعالى به إلى أن شر ذلك اليوم سوف لا يتعرض له أحد بما يوجب بطلانه وإزالته، بل هو يبقى قائماً مستمراً، وفاعلاً ومؤثراً.. وإنما يكون التعامل معه بطريقة إيجاد المانع من تأثيره.. وليس بالاستهداف المباشر له، للقضاء عليه، أو إسقاطه عن التأثير..

وهذا معناه: أن وجود ذلك الشر مستند إلى مقتضيات، وأن موجبات وجوده قائمة، فلا يصح التعرض له مع بقاء تلك الموجبات..

ب. إن التصرف الإلهي ليس في ذات أولئك الأبرار، حيث لم يبعدهم تعالى عن الشر بصورة قاهرة، وإنما جعل لهم ما يقيهم ويحفظهم منه.. ومعنى هذا أن تواجدهم في مواقعهم على حالة الحفظ والوقاية هو الآخر مطلوب ومحبوب..

ولعل من أسباب مطلوبيته إظهار فضلهم وكرامتهم، وسرور المؤمنين بهم وطمأنينتهم لوجودهم، وعذاب الحسرة لغيرهم، وهم يرون ذلك.

ج. إن هذه الوقاية هي فعل الله سبحانه بهم، من موقع ألوهيته، أي أنه يقي من النار، أو يعاقب بها بما هو مالك، وقادر، وعالم، وحكيم، وعادل، الخ..أما جهة الربوبية، فإنها تمثل التدبير، والتفضل، والرحمة، والكرم، والهداية، والمحبة والحكمة. وهي قد أسهمت في تربيتهم، ورعايتهم في دور تكاملهم، وترشيد قدراتهم، وإعدادهم بصورة أهلتهم للأعمال الصالحة التي استحقوا بسببها ومن خلالها هذا التكريم والتشريف الإلهي..

د. لقد جاء تعالى بصيغة الماضي، فقال: ﴿ وَقَاهُمُ﴾ ولم يقل: سيقيهم الله، ربما للإشارة إلى أن هذا الأمر هو من الأمور المقضية التي لا شك في حصولها، إلى حد أنه يمكن الإخبار عن حصولها وتحققها بالفعل.

يضاف إلى ذلك: أن الزمان لا معنى له بالنسبة لما يختص بالذات الإلهية، فإن كل شيء حاضر لديه تعالى خارج دائرة الزمان.. وإن لم نستطع نحن أن نتعقل ذلك، فإن عجز عقولنا عن إدراك الذات الإلهية، وصفاتها، وغير ذلك مما يرتبط بها، إنما هو بسبب قصور عقولنا، لا لأجل أن تلك الأمور ليس لها عينية وثبوت في الواقع..

هـ. قد جاء التعبير بالفاء، وبصيغة الإخبار عن أمر حاصل ﴿ فَوَقَاهُمُ﴾.. ربما لكي لا يكون التعبير بصيغة يفهم منها السامع: أنها وعد بأمر مستقبلي، لأن البشر قد يتخوفون من تبدل مقتضيات الوفاء بالوعود، أو من حصول موانع من ذلك..

فجاءت الفاء لتربط الحدث الذي هو إخبار عن حصول، بالحالة التي يعيشها الأبرار، وبالعمل الذي أنجزوه بصورة مباشرة، حتى لا يبقى الإنسان في حالة انتظار وتوقع، فإن سياق إنشاء الكلام - بسبب الفرق بين ثم والفاء، أو بين الفاء وبين أي تعبير آخر - يشير إلى الفصل والتراخي..و - ويرد هنا سؤال هو: أن الآية قد ذكرت: أن الله هو الذي يقي الأبرار من شر ذلك اليوم.. مع أن الآية السابقة قالت: إن اليوم الذي يخافون منه، إنما هو من قبل الله تعالى.. فكيف يكون اليوم من جهته، ثم يكون هو الواقي منه؟! أليس الأولى هو: أن يلغي ذلك اليوم من أساسه، بدلاً من أن يوجده ثم يقي منه؟..

والجواب: أن وجود هذا اليوم ليس لأجل أن يخاف منه الأبرار، فإن غير الأبرار أيضاً لهم دور في وجود ذلك اليوم، وسوف ينالهم منه ما يناسب أعمالهم، ولن يقيهم الله سبحانه شره.. فلا ضير، ولا محذور، في أن يكون ذلك اليوم من قبل الله.. وهو الذي يقي منه الأبرار.

ز. إن أعمال الأبرار هي التي جعلتهم أهلاً للكرامة الإلهية، وبها تكون لهم الوقاية والرعاية. ولولا أعمالهم فلا وقاية لهم. فالوقاية سنة إلهية، والله يجري الأمور بأسبابها، لكن سببية هذه الأسباب مجعولة من قبله سبحانه، وإثارة هذه الأسباب وتحريكها إنما يكون بفعلنا نحن، وقد جعلت النار وخلقت لمعالجة الذنوب، وخلقت الجنة للثواب على الطاعات.. وقد روي عنهم (ع): اتقوا النار ولو بشق تمرة..

الوقاية والتفضل:

ولكن اعتبار الوقاية نتيجة للعمل. وجزاء عليه..لا يعني عدم وجود أي تفضل إلهي.. بل التفضل قد يكون في نفس مقدار الجزاء، وذلك حين يقرر أن الحسنة بسبع مئة، وأن الله يضاعف لمن يشاء.. وأن ذلك يصير حقاً لهم بعد تحقق الجعل..

كما أنه قد يكون هناك تفضل زائد على أصل الجزاء، بعد تقريره، وجعله.. وهو ما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(1)..

التقوى.. حذر واستعداد:

وبمناسبة حديثنا عن الوقاية، نشير إلى أن البعض قد يتخيل: أن التقوى معناها الخوف والفزع من الله تعالى، فمعناها قريب من معنى الخشية..

ولكن الظاهر هو أن التقوى مأخوذة من طلب الوقاية، فهي أقرب إلى معنى الحذر الذي يدعو إلى التماس الحرز والواقي..

بين صيغتين:

هذا.. وقد قال تعالى هنا: ﴿ فَوَقَاهُمُ﴾، ﴿ جَزَاهُمْ﴾، بصيغة الماضي.. وقال قبل ذلك: ﴿ يَشْرَبُونَ﴾، ﴿ يُطْعِمُونَ﴾، ﴿ نُطْعِمُكُمْ﴾، ﴿ يَخَافُونَ﴾، بصيغة المضارع. وما ذلك.. إلا لأنه سبحانه حين استعمل صيغة المضارع، أراد أن يبين: أن هذه سجية فيهم، وأنه أمر مستمر ومتجدد، لكنه حين استعمل صيغة الماضي، فهو إنما كان يتحدث عن الجزاء، فجاء بما يفيد التحقق والحصول والثبوت، لأن من آثار ونتائج الأفعال، دوامها وبقاؤها وثباتها.

(فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْم):

قال في مجمع البيان: (أصل الشر الظهور، فهو ظهور الضرر، ومنه شررت الثوب إذا أظهرته للشمس، أو الريح.. إلى أن قال: ومنه شرر النار لظهوره بتطايره). أي وانفصاله..

وقد يذكر للشر تفاسير أخرى، هي إما تطبيقات ومصاديق، أو إشارات إلى لوازم هذا المعنى.. ككونه الاسم الجامع للرذائل، والخطايا، والسوء، والفساد، والظلم، والشر، وأيضاً: إبليس، والفقر، والحمى..

وإذا أردنا أن نسوق الكلام هنا وفق ما قاله الشيخ الطبرسي.. فنقول: إن الفطرة، والعقل، والهداية الشرعية، وسائر الهدايات الإلهية، ورعاية الله سبحانه، وتدبيره وألطافه الربوبية، نعم - إن ذلك كله يفرض على هذا الإنسان أن يسير باتجاه معين، وفي ضمن نطاق النظام التكويني، والفطري، والتشريعي، والعقلي. ويفرض حالة من التناسق في الخلق، والوجود، وفي الحياة، ليصل الإنسان إلى كماله، وليتمكن من تحقيق ذاته، فأي خروج عن هذا، سوف يكون نشازاً، له بروزه وظهوره المميز..

ويمكن تقريب هذا الأمر بمثال هو: أنك لو جسدت إنساناً في تمثال، فإذا أنقصت منه بعض أعضائه الظاهرة، مثل يده، أو أنفه، أو شفته، أو عينه، فإن ذلك سيكون هو النقطة الأظهر فيه، وستنصب الأنظار عليها بشكل لافت وغير عادي. وسوف يستتبع ذلك أذى للنفس، وانفعالات خاصة لدى الناظر، وشعوراً مختلفاً، ولعله يؤذي مشاعره، وقد لا يلتفت إلى أية ناحية جمالية مميزة أخرى موجودة في ذلك التمثال. لأن هذا النقص نشاز، لا بد أن يظهر، وأن ينشر آثار النقص الظاهرة فيه في كل اتجاه، بخلاف ما لو كان التمثال تاماً، فإنك قد لا تلتفت، لا إلى أذنه، ولا إلى عينه، ولا.. ولا.. إلخ..فلو كان هناك إنسان عابد، زاهد، عالم، تقي إلخ.. ولكنه حسود فإنك ستجد أن هذا النقص هو الذي يلفت نظر الناس، وستكون له تأثيرات سلبية على علاقتهم به، ونظرتهم إليه، تفوق تأثيرات صفات الإيجاب فيه، ولسوف ينقص ذلك من تلذذهم بصفات الإيجاب. بل ربما يكون وجود صفات الكمال فيه هو الموجب لزيادة ألمهم وتأذِّيهم بصفات النقص..

وبما أن شرور ذلك اليوم، قد أنتجتها أعمال الناس.. واختلالات في سلوكهم، ونقائص وتشوهات في شخصيتهم الإنسانية والإيمانية.

فإن ظهور النقص الذي في شخصية الإنسان على حركاته، وأفعاله، كان هو الذي كان هو السبب في تسرب الشر إلى حياته في الآخرة، وهو الذي أوجد هذا الشر..

أما الأبرار فليس فيهم أي خلل أو نقص، ولا يوجد في حياتهم أية ثغرة يمكن للشر أن يتسرب منها إليهم، فهم في وقاية حقيقية منه..

فالشر إذن لا يُمْنَع ولا يُكَفُّ عنهم.. بل هم في حصن حصين منه، وليس فيهم منفذ يستطيع الشر أن ينفذ منه إليهم.

(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً):

وقد فسروا كلمة (لقَّاهم) بلاقاهم.. مع أن كلمة (لقَّاهم) إنما تعني: أنه جعلهم يتلقون النضرة بصورة متتابعة وتدريجية، ومرة بعد أخرى، والتلقي هو التقبل والأخذ، باختيار وسابق إرادة..

فالنضرة لم تعرض عليهم عروضاً عابراً.. بل بقيت فيهم واستمرت..

أما كلمة (لاقاه)، فإنما تعني حصول مواجهة بين هذا وذاك، ولو صدفة، ولا تعني التدرج، ولا التوالي والتعاقب.. وكذا الحال بالنسبة لتلقاه فإنها قاصرة عن إفادة المراد، لأن معناها: تلقاهم بالنضرة وبالسرور، مع أن المراد: أنهم هم الذين يتلقون النضرة والسرور، ليحل بهم، ويكون فيهم.

كما أن (لقَّاه).. معناها جعله يتلقى شيئاً آخر، أما (لاقاه)، فمعناها أنه هو نفسه قد التقى معه.

أضف إلى ما تقدم: أن (لاقاه) تحتاج في تعديها إلى النضرة، إلى توسيط حرف الجر، فتقول: لاقاهم بالنضرة، أما كلمة (لقَّاه) فتتعدى بنفسها فتقول: لقاهم نضرة..

بقي أن نشير إلى أن كلمة (لقَّاهم) بمعنى جعل فيهم أهلية التلقي، مع فعلية إفاضة النضرة والسرور عليهم، وليس المراد بها مجرد جعل الأهلية، ولذلك لم يقل: وأهَّلتهم للنضرة والسرور، كما لم يقل: وأعطيتهم نضرة وسروراً، أو سررتهم ونضَّرتهم.

وقد قلنا: إن نفس عملهم في الدنيا هو الذي أوجب لهم هذا الجزاء، وهذا اللطف الإلهي في الآخرة، وتسبب باللطف والكرامة لهم، والعناية بهم، بصورة تدريجية ومستمرة، مما يدل على وجود إرادة إلهية مستمرة الفيض عليهم.

وإن إحساسهم ببقاء هذا الرضا، وبقاء اللطف، هو نعيم آخر لهم. إذ هناك فرق بين أن يعمل الإنسان عملاً، ويأخذ أجرته، وتنتهي العلاقة به، وبين أن يوجب ذلك العمل علاقة مستمرة. وما نحن فيه من هذا القبيل، ففيه لذة الشعور المستمر بهذه العلاقة، فالله سبحانه لا يريد أن يدخلنا الجنة لكي نتنعم بها، ثم ينفذ ذلك النعيم، وينقطع عنا، إذ إن لذة إحساسنا بدوامه هي الأتم، وهي الأهم.

(نَضْرَة):

والنضرة تحتاج - بحسب طبيعتها - إلى بقاء واستمرار، لأن النضرة هي: الحسن، والرونق، واللطف، والإشراق. والناضر هو الناعم الذي له بريق في صفائه..

وهذه نعمة حباهم وكرمهم الله تعالى بها.. وهي تكون تامة، نامية، زاكية، إذا استمرت..

وقد جاءت كلمة (نَضْرَة) منكَّرة، ليثير أكثر من سؤال حول حقيقة هذه النضرة، وأفق ومدى ذلك السرور.. فهي نضرة تحير العقول في أوصافها، وسرور لا يمكن وصفه أيضاً. وفي هذا لذة الطمأنينة وهي لذة لا حدود لها، بل هي تصل إلى درجة الرضا والإشباع.

لماذا بدأ بالنضرة؟:

ويبقى سؤال هو: لماذا قدم ذكر النضرة، التي قدمنا تفسيرها على السرور؟..

ويمكن أن نجيب: بأن النضرة تعبر عن تغير حقيقي في الذات، إلى حالات لها درجة من الثبات، فهي ليست كالسرور الذي هو مجرد انفعال نفسي، ليس من طبيعته البقاء والثبات، بل هو قد يزول وينتهي.

كما أن النضرة هي من أسباب ومبادئ حدوث الطمأنينة والرضا، وهي علامة من علامات النشاط، وظهور الحيوية، وتبلور الإحساس بكمونها في واقع الذات..

وذلك بطبيعة الحال سبب من أسباب السرور، لأنه يعطي الإيحاء والإشارة إلى أن وجود هذه الحالة، إنما هو من خلال اللطف، ومن مظاهر وتجليات الرضا الإلهي والكرامة الربانية، وذلك مثار اعتزاز، وسبب لتباهي أهل الجنة، وهم ينافسون أهل النار، ويجعلون منه سبيلاً لإثبات الحق، وإبطال الباطل، وزيادة حسرة وعذاب أهل النار، الذين كانوا يَستضعفون، ويُذلون ويَحتقرون المؤمنين في الدنيا، فها هم يرون الآن نعيمهم وعزّهم، فيؤذيهم ذلك ويكون خزيهم، وعذابهم الشديد نعيماً وشافياً لصدور أهل الإيمان في الجنة، لأنهم يحبون أن يروا عواقب هتك حرمات الله، والتمرد عليه سبحانه..وقد حدثنا القرآن عن حوارات هامة فيما بين أهل الجنة وأهل النار، لربما نوفق إلى الإلماح إليها في مقام آخر، يلاحظ فيها أن الكفار يكذبون في الآخرة في بعض الأحيان، ويحاولون التملص والتخلص مما هم فيه بلطائف الحيل.

مما يعني: أن حرية القول وحرية التصرف تبقى للناس، حتى وهم يعذبون أو ينعَّمون.

وخلاصة القول: إن النضرة وسام ظاهر في أهل الإيمان، يزيد من بهجتهم.. ويزيد من حسرة أهل النار، ومن عذابهم وألمهم. وهي تحمل معها موجبات السرور بلطف الله بالأبرار، وبكرامته لهم، وعطفه عليهم.

ما خافوا منه.. وما لقّاهم إياه:

وقد يمكن القول بوجود سنخية من نوع مّا بين ما خاف الأبرار منه: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ أي شديد العبوس الظاهر في الوجه، وبين ما لقّاهم الله تعالى إياه، وهو النضرة، التي هي الرواء، والرونق، والبهاء الثابت والمستمر، والحيوية الدائمة المتجددة..

كما أن الشدة والصعوبة في المضمون المعبر عنه بالقمطرير. يقابله سرور وابتهاج نابع من الداخل، ومن أعماق النفس، طافح على الجوارح، ظاهر في التصرفات والحركات.

(وَسُرُوراً):

وقد قيل: إن السرور هو اعتقاد وصول المنافع في المستقبل..

ونقول: إن السرور ليس مجرد اعتقاد، بل هو حالة انفعالية، وارتياح وانبساط، وتلذذ قلبي وروحي، يطفح حتى تظهر آثاره على الجوارح، حركة وسلوكاً. وتقابلها حالة الكبت، والانكماش، والأسى..

وحالة السرور هذه تحتاج دائماً إلى متعلق، حيث يسر الإنسان بولده، أو بماله، أو بشفاء مريض، أو بكرامة الله له.. وهذا يعني أن هذا السرور باق ببقاء متعلقه، الذي يختزن المنشأ والمقتضي له، وهو سبب حدوثه..

فإكرامك إنساناً وخدمتك له ساعة، سيكونان سبباً في سروره طيلة هذه الساعة، فإذا أكرمته يوماً، فسروره يبقى يوماً أيضاً.. وهكذا.. لأن السرور دائر مدار الوجود الفعلي لمتعلقه، ومنشئه، وبواعثه.

ولذلك نلاحظ: أن التعبير في الآية الشريفة هنا قد جاء بالتلقي، الظاهر في إرادة التجدد المستمر، والحدوث مرة بعد أخرى.

وبذلك يتضح: أن تفسير السرور باعتقاد وصول المنافع في المستقبل غير دقيق من جهتين:

الأولى: أن السرور ليس مجرد اعتقاد، بل هو انفعال حقيقي، وابتهاج فعلي، ولذة قلبية حاضرة.

الثانية: أنه ليس سروراً بأمر سيحصل، بل هو سرور بأمر حاضر، قد حصل بالفعل، فالسرور يدور مداره وجوداً وعدماً، لأنه باق ببقائه.. وإرادة بقاء هذا السرور تستلزم بقاء ما يوجبه..

والذي يوجبه في مورد الآية هو أن من سجية الأبرار إطعام الطعام على حبه مسكيناً، ويتيماً، وأسيراً، لوجه الله.. ومن سجيتهم الوفاء بالنذر، ومن سجيتهم الخوف من ذلك اليوم العبوس القمطرير.. و.. و.. الخ..فإذا كان هذا هو حالهم المستمر، فإن نتيجته نضرة مستمرة ومتجددة، وسرور مستمر ومتجدد أيضاً. خصوصاً.. إذا كان مصدر هذا العطاء وهذه الكرامة هو الله سبحانه، الذي لا حدود لكرمه، ولا نهاية لعطائه: ﴿ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾(2).

وقد قلنا: إن تنوين التنكير في كلمتي (نَضْرَة) و (وَسُرُوراً) إنما هو لإفهام الإنسان أنه لا حدود لعطاء الله سبحانه.. فإذا كان يتخيل الأمور محدودة، ويتطلب ما هو محدود، فإن الله سبحانه حين يريد أن يكرم الإنسان، فإنما يكرمه بما يناسب ذاته المقدسة، وإن لم يستطع الإنسان نفسه إدراك حجم، ونوع، وحالات، وخصائص، ومزايا ذلك الإكرام الذي يختاره الله له، ويخصه به.


1- سورة البقرة الآية261.

2- سورة هود الآية108.