الفصل العاشر.

الفصل العاشر.

قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾.

(إِنَّا نَخَافُ):

وتأتي كلمة (إِنَّا) لتوكيد وجود الخوف لدى هؤلاء الصفوة من يومٍ بعينه. وقد زادوا في تأكيد ذلك حين ذكروا مبررات هذا الخوف، وهو أنه يوم عبوس قمطرير، كما سيأتي..

وقد يقال: إنه لا مبرر للخوف من ذلك اليوم.. فقد قال تعالى: ﴿ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنونَ﴾(1)..ويمكن أن يجاب:

أولاً: بأن خوفهم هذا في الدنيا هو الذي جعلهم يأمنون في الآخرة.

ثانياً: إن المراد بالخوف، الاحتياط والحذر، وإعداد العدة لمواجهة أخطار ذلك اليوم بما يناسبها.

ومن مفردات وسائل الوقاية: إطعام اليتيم، والأسير، والمسكين.. إذ فرق بين خوف إنسان من الغرق حين يُلقى في البحر، وهو لا يعرف السباحة، ولا يملك ما يعينه على التخلص.. وبين خوف إنسان يعرف السباحة، وقد أعد العدة لمواجهة أي احتمال. فيقال: إنه قد أعد العدة، لأنه يخاف من البحر..

(نَخَافُ يَوْماً.. و.. َنَخَافُ مِنْ رَبِّنَا):

ويلاحظ هنا: أنه قد قال في سياق الآيات السابقة: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾..

لكنه قال في هذه الآية: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً﴾..فكان الخوف هناك من نفس اليوم.. والخوف هنا من الرب، فما الفرق؟!

ولماذا قال: ﴿ مِنْ رَبِّنَا﴾. ولم يقل: من (إلهنا). أو من (الله).

ولماذا قال: ﴿ نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا﴾. ولم يقل: (نخاف ربنا).

ويمكن أن يقال في الجواب عن هذه الأسئلة:

أ. بالنسبة إلى قوله: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾..

نقول: إن الله سبحانه حين كان يتحدث عن الأبرار، قال: (يَخَافُونَ)، أما هنا فإنهم هم الذين يخبرون عن أنفسهم، ويقولون: ﴿ نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا﴾. فهم يشيرون إلى ربوبيته تعالى لهم، تعبيراً عن وعيهم للحقائق، وعميق معرفتهم بها. وعن المحبة له تعالى، وصدق الإيمان به، وطلب رعايته وألطافه، ليتكاملوا بها..

كما أن جهرهم بذلك سوف يعرف الناس بدرجة اليقين التي وصلوا إليها، حتى كأنهم يرون ذلك اليوم وكأن العبوس فيه ظاهر لهم، يرونه كما يرى الإنسان وجه جليسه.. كما قال الإمام علي (ع): (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)(2).

لقد كان لا بد لهم أن يلهجوا بذكر الله، وأن يدلّوا عليه، وعلى رعايته، وحبه، وحكمته، وتدبيره، وعنايته، وإشرافه، ومراقبته، وتوجيهه، وتسديده لهم على صراط تكاملهم في إنسانيتهم وأخلاقهم.

إن الله ليس هو منشأ خوفهم من حيث هو ربّ، بل منشأ الخوف هو نفس اليوم المرتبط بالله سبحانه، من جهة أنه سبحانه هو الجاعل لذلك اليوم، والمعد له. والمقرر والحاكم بالعذاب والثواب فيه..وإنما جعل الله سبحانه ذلك اليوم، بهذه المواصفات من حيث هو ربّ، حافظ، ومدبر، وعطوف، ورؤف، ورحيم، وحكيم، وعادل، وفق ما تقتضيه حكمة الخلق، والتكليف، والأمر، والنهي.. فحكمة الله ورحمته، وعدله، وعلمه، وتدبيره، قد اقتضت وجود هذا اليوم، وذلك رحمة بالبشر، وحفظاً للحياة، وضبطاً لحركتها، وإذكاء للطموح فيها..

ب. ونجيب على السؤال الثاني، فنقول: قد اتضح أن هذا اليوم هو من قبل ربنا، لكن لا من حيث إنه يريد الانتقام منا، وإنما هو من موقع ربوبيته لنا، وحبه، وتدبيره، واهتمامه بحفظنا، ولأنه يريد لنا أن ننمو ونتكامل، وأن ننال الخيرات كلها، ونصل إلى منازل الكرامة، وأن يبعد عنا الشرور والأسواء، ويمنع من فساد الحياة. وذلك كله يوضح لنا السبب في أنه اختار كلمة (رَبِّنَا) دون كلمة: (إلهنا).

فالربّ إذن قد جعل نظام الحياة بحيث ينشأ عن الأعمال في الدنيا عقوبة ومثوبة، يجدهما الإنسان في مستقبل حياته، ولا يمكنه أن يتجاوز تلك العقوبة، أو أن يتخلص منها إلا بتصحيح مساره بالتوبة، وبالعمل الصالح. لأن المحاسب والمراقب هو علام الغيوب، وأقرب إليه من حبل الوريد. وهذا من أهم أسباب ضبط حركة الإنسان، وسوقه نحو تصحيح سلوكه..ج: ونجيب على السؤال الثالث: أنه تعالى قال: ﴿ نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً﴾.. ولم يقتصر على قوله: ﴿ نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا﴾، ليشير إلى أن هذا النظام الذي جعله الله لنا لنتكامل به ومعه، ولينقلنا من حسن إلى أحسن، وليحمينا من الانحراف - إن هذا النظام هو الذي يختزن في داخله هذا اليوم العبوس، لأن ذلك هو الذي يجعل النظام فاعلاً ومؤثراً، ومربياً فعلاً.

والخلاصة:

إنه لم يقل: (من إلهنا)، لأنه يريد أن يشير إلى الربوبية، فهم لا يخافون من الله من حيث كونه إلهاً، فرداً، صمداً.. إلخ.. وإنما يخافون الألوهية من جهة ما تقتضيه من أفعال ربوبية، فيها تدبير وحكمة، وجعل نظام، فيه مثوبة وعقوبة.

فاليوم الآتي من جهة الربوبية - بحسب ما تقتضيه من تدبير لأمرهم وإصلاح لشأنهم - هو الذي يخافونه..(إِنَّا نَخَافُ..) هل هي تعليل؟!

قد يقال: إن قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمَاً﴾ تعليل لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾، كأنه قال: لماذا جعلتم غاية الإطعام هي وجه الله؟! فجاء الجواب: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾، ﴿ إِنَّا نَخَافُ﴾.. إلخ.. وقد يقال: هي تعليل لقوله: ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾.. أي أن السبب في أننا لا نريد جزاء، هو أنا نخاف ذلك اليوم العبوس.

وقد يقال: إنها جملة مستقلة، ليس فيها تعليل، لا لهذه الفقرة، ولا لتلك. بل هي تقول: هناك أمران:

أحدهما: الداعي، والمحرك..

والآخر: الهدف.

ونوضح ذلك بأن نقول: إن لدينا شعوراً إنسانياً.. هو الإحساس بحاجة اليتيم.. وقد دفعنا هذا الشعور إلى الإطعام، وقد جعلنا له هدفاً هو الحصول على رضا الله سبحانه.. لأن الصفات الإنسانية، كالكرم والشجاعة وغيرها.. إنما تكون فضيلة بملاحظة هذين الأمرين.. وهما الداعي والهدف.. فإذا فقدتهما، فإن وجد ضدهما، أصبحت رذيلة.. وإن لم يوجد ذلك الضد، فإنها لا تكون فضيلة ولا رذيلة..

فإذا كان الداعي والمحرك لإعطاء المال مثلاً، هو الشعور بحاجة الآخرين، والتألم لهم.. ثم يجعل هدفه وهمه وجهده، هو رضا الله، والوصول إليه سبحانه، وتكون وسيلته إليه هو هذا الإطعام مثلاً - فإن ذلك يكون فضيلة بلا ريب، حيث قد اجتمع فيه نبل الداعي مع جلال الغاية..

وأما إن كان المحرك للإعطاء هو الحقد والاستدراج، وكان الهدف مثلاً هو إذلال الآخرين أو استعبادهم، أو إيقاعهم في فخ منصوب لهم. فالفعل يكون رذيلة، وأي رذيلة..وثمة صورة أخرى، هي أن يعطي الإنسان طعامه، لأنه قد صرف النظر عنه لعدم حاجته إليه.. أو يكون هدفه هو التخلص من ثقله، أو من نفقة حمله. أو يبدله لمجرد الحصول على ثمنه، فلا يكون الإطعام في مثل هذا الحال، فضيلة ولا رذيلة.

وأما إن كان المحرك للإعطاء، هو الحس الإنساني، كالشعور بآلام الآخرين، من دون أن يربط ذلك بالله سبحانه، فإنه يستحق المدح الدنيوي، بمعنى مدح كماله في صفاته البشرية، ويكون عمله استجابة لهذا الكمال، ولكنه لا يستحق ثواباً في الآخرة، لأنه قد بقي بلا هدف، وبدون امتداد، فلا يوجد في ذلك العمل أية خصوصية من شأنها أن تصله بالباقي، والدائم تبارك وتعالى..وفي جميع الأحوال نقول: إن الإسلام قد اهتم بتوجيه الإنسان نحو الأسمى، والأنمى، والأبقى، والأزكى، في مسيرة التكافل الإنساني. ولكنه جعل لصلة الرحم وجهة عبادية وإلهية، ومنطلقاً إنسانياً، واعتمدها كوسيلة بناء، بدلاً من أن تكون منطلقة من العصبية العمياء، وجعل للعطاء والإطعام، وجهة عبادية، ووجهة إصلاحية، ودوافع إنسانية، تجعله أكثر ملاءمة، وتأثيراً إيجابياً في المسيرة السليمة لحياة الإنسان، بدلاً من أن يكون البذل بهدف التسلط، والإذلال، والإفساد.

وهذا الخوف من الله، إشفاقاً من ذلك اليوم، وحذراً منه، هو بمثابة صمام أمان، يجعل الإنسان مهتماً بضبط حركته، ومراقبتها، للاطمئنان إلى أنها في الصراط المستقيم، فهو يراقب الله، من موقع إدراكه لربوبيته التي هي تعني الإدراك لحكمته، ومحبته، ورعايته، وعلمه، ورحمته، ولطفه.

والأبرار إنما يريدون أن يتكاملوا في ظل هذه الرعاية الإلهية، والتربية الربانية.

كما أن قول الأبرار: (لِوَجْهِ الله) قد جاء ليضبط حركة الإطعام، ويجعلها تتمحض بالدواعي والحوافز الإنسانية، التي لا تتقاذفها الغايات الدنيوية المنحطة، بل يضبطها هدف وغاية واحدة، لا بد من توجيه السلوك والعمل إليها، وهي وجه الله تعالى..

وكل هذا الذي ذكرناه يوضح كيف أن هذه الآية لا تريد تعليل الإطعام لوجه الله بالخوف، بل الإطعام لوجه الله يسير جنباً إلى جنب مع الخوف المنتج للحذر والانضباط.. لأن علة الإطعام لوجه الله هي أن الله سبحانه أهل لأن يعبد ويتقرب إليه بالصالحات.

وبذلك يصبح لدينا قاعدتان شاملتان، أصيلتان في معناهما.. وهذا هو ما يناسب مقام الأبرار، ويسانخ واقعهم وتفكيرهم.

(يَوْمَاً عَبُوسَاً قَمْطَرِيرَاً):

ويأتي التساؤل الحائر: عن السبب في ذكر تفاصيل صفات هذا اليوم. وقد كان بالإمكان أن يقول: (إنا نخاف من عقاب ربنا).

وقد يمكن الإجابة عن ذلك، بأن ذكر هذه التفاصيل مطلوب.. لأن أصل العقوبة للمتمرد أمر تحكم به العقول، ويقرُّه الوجدان.

وليس الأمر هنا من موارد العقوبة، فلا يصح أن يقال: إنا نخاف من عقاب ربنا، لأن عدم إطعام السائلين ليس فيه تمرد على المولى، ولا هتك لحرمته، بل الآية تتعرض لأمر سام وجليل، يفوق في أهميته موضوع الطاعة والانقياد للأوامر والزواجر. فإن هذا الإنفاق إنما يطلب ليكون وسيلة لنيل المقامات والمراتب السامية عند الله.. ودوافعه مشاعر إنسانية، وغاياته الاتصال بالله سبحانه..

(عَبُوسَاً):

وكلمة (عَبُوسَاً) هي صيغة مبالغة، أي شديد العبوس، أو كثيره..

فالشدة تشير إلى شدة التكرُّهِ له، وعمق النفرة، وعظيم الخوف منه، كما أنها تشير إلى وجود أمر عظيم يدفع إلى التشدد في العبوس فيه.

أو تكون بمعنى كثير العبوس، وفي ذلك إشارة إلى تعدد المناشىء الموجبة لظهور هذا الأثر المكروه في وجه ذلك اليوم..

(يَوْمَاً عَبُوسَاً):

واليوم من حيث هو زمان ولحظات لا يوصف بالعبوس ولا بالبشاشة.. وإنما نسب إليه العبوس، ووصف بهذا الوصف على سبيل الكناية والمجاز، فهو كوصف السماء بالكآبة والتجهم، في قول الشاعر:

ق-ال السماء كئيبة وتجهّما قلت ابتسم، يكفي التجهم في السما..فإذا كان الإنسان يرى في هذا اليوم أموراً يكرهها، ومصائب وآلام ينفر منها، فإنه ينسب ذلك إلى اليوم الذي احتواها، وكان ظرفاً لها.

فكأنه ينظر إلى صفحة هذا الزمان، فيشبهها بالوجه، فيرى فيها تلك الشدائد، فيشبهها بالتجاعيد المستكرهة. التي يعبر عنها بالعبوس، الذي يشير إلى وجود خلفيات ونوايا مستكرهة لدى العابس، فيخاف منه.

وبذلك يظهر عدم صحة قولهم: إن المراد: هو أنهم يخافون يوماً يكون الإنسان فيه عابساً بسبب الشدائد..

رؤية واضحة:

وهذه الآية تشير إلى شدة وضوح أمر يوم القيامة للأبرار، حتى كأنه حاضر لهم، يرون وجهه رأي العين، ويميزون بين قسماته، ويدركون حالاته. تماماً كما قال أمير المؤمنين (ع): لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.

مع أن يوم القيامة هو من الأمور الغيبية، التي لا يسهل اليقين بها، فضلاً عن أن يصبح كأنه يراها رأي العين، إذ إن ما لا يكون من الأمور الحسية، ولا الفطرية، ولا من الأحكام العقلية، بل هو من الأمور السمعية، يكون اليقين به صعباً، فضلاً عن أن يصبح كأنه مشاهد بالعيان، فإذا بلغ اليقين إلى هذا الحد.. فذلك أقصى درجات الإيمان والمعرفة، وهو يعبر عن الأدوار الصعبة، التي قطعها أولئك الأبرار، حتى بلغوا هذه المراتب، فإن للمعرفة دورها في صفاء الإيمان، وفي رهافة الشعور، وفي دقة الإدراك، وصحة اليقين..

الحديث عن الشدائد لماذا؟!:

ويلاحظ: أن الحديث هنا قد جاء عن الخوف من ذلك اليوم العبوس القمطرير، لا عن المثوبات العظيمة للمطعمين، فلم يقل: نطعمكم رغبة في الجنة، أو في الثواب الجزيل، والأجر الجميل مثلاً.

وربما يكون السبب في ذلك: أنهم لا يريدون جعل عملهم تجاه اليتيم، والأسير، والمسكين، ذريعة للمثوبة، بحيث تكون المثوبة جزاء له، لأن إيكال المثوبة إلى فضل الله سبحانه هو الأمثل والأولى..

وذلك لأن المهم عندهم هو الحصول على رضا الله سبحانه.. لا الحصول على المكافآت والنعم لأنفسهم. فإن ذلك قد يشير إلى شيء من الاهتمام منهم بالذات، وحب اكتساب المنافع لأنفسهم كأشخاص. مع أن رضا الله أعظم النعم.. فقد قال تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(3).

وأول خطوة على طريق الوصول والحصول على هذا الرضا هو الابتعاد عن مواقع سخطه سبحانه.

(قَمْطَرِيرَاً):

القمطرير هو الأمر الشديد.. فكلمة عبوس أشارت إلى الشكل، وكلمة قمطرير أشارت إلى المضمون..

وقد فسر بعضهم (قَمْطَرِيرَاً) بشديد العبوس..

ولكن ذلك غير دقيق، فإن كلمة (عبوس) صيغة مبالغة تفيد كثرة أو شدة العبوس، فما معنى تكرار نفس هذا المعنى بكلمة (قَمْطَرِيرَاً)؟!

فالأولى حملها على معنى تأسيسي، تكون قادرة على تأديته، إذ لا معنى للتكرار والإعادة من دون إفادة.

وفسر القمطرير بالملتف أيضاً..

ولعله من جهة أن الالتفاف يستبطن شدة وتقوِّياً للأشياء بعضها بالبعض الآخر..

وهذا المعنى ينسجم مع ما قلناه، من أن المراد بها الشدة في مضمون وحقيقة ذلك اليوم، سواء أكان منشأ الشدة هو تعقيد الأمور وتشابكها، أم كان منشؤها شيئاً آخر.

الإيمان بالغيب:

وواضح أن الإيمان بالغيب شيء، والإيمان بالمجهول، والغامض، والمبهم، والغائم، شيء آخر..

فإن الغيب واقع يقيني، يفرض نفسه على الواقع الحياتي.. والإيمان بالحقائق الغيبية واجب ومطلوب في الإسلام. قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(4).

فنلاحظ: أن ثمة ارتكازاً في البيان القرآني إلى الغيب لينطلق منه إلى الواقع الحياتي، مبتدأ من ممارسة الإنسان للعبادة الصلاتية التي تصل العبد بالله، وبصفاته، وعلمه، وحكمته، وتدبيره، وبملائكته ورسله من جهة، ثم بالآخرة وبكل تداعياتها، وكل ما يرتبط بها من جهة أخرى..

ثم انطلق ليبني الحياة في علاقاتها، وفي مرافقها وحاجاتها، على أساس الاستفادة الصحيحة مما مكنه الله منه، وهيأه له.. حين قال: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.

فليس الغيب مجرد حالة خوف من مجهول مبهم، وغامض، ومخيف.. بل هو غيب ظاهر ومكشوف لنا إلى حد أن الإمام علياً (ع) يقول: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً).

وعن أولياء الله المتقين يقول الإمام علي (ع): (وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون..)(5).

إنه غيب لا خوف معه، بل يشعر الإنسان معه بالأمن والسلام، والسكينة، والراحة، والسعادة..

غيب ليس فيه قهر وخضوع عشوائي ظالم، بل هو استسلام على أساس الوضوح والرؤية، والإحساس.. في العقل، وفي الفطرة، والوجدان..

إنه غيب مجسد في الكعبة المشرفة، وبالحجر الأسود، الذي أودعه الله ميثاق الخلائق. وقد جسده الله جنات وأنهاراً، وفواكه، وأشجاراً.. وكأساً دهاقاً، وحوضاً، وصراطاً، وميزاناً.. وما إلى ذلك.

وجسده أيضاً زقوماً وضريعاً، وزمهريراً وناراً، ويوماً عبوساً قمطريراً. أخبرك الله به، ووصفه لك نبيه الناطق عنه.

وهو مرحلة قد تجاوزت ما تحكم به الفطرة، وتهدي إليه العقول، ويقرره الوجدان.

إنه غيب لا بد لك من احتضانه في قلبك، وفي عمق حناياك، ثم الحنو عليه. والتفاعل معه، والاستفادة منه.. وليس هو من المجهول، لأن المجهول لا يمكن احتضانه، ولا الفناء فيه، ولا الانسجام ولا التفاعل معه.. أو عقد القلب عليه.

إن علينا أن لا نخطئ في فهم معنى الإيمان، فليس الإيمان هو الشعور بالخوف من مجهول، ثم الاستسلام لهذا الخوف.. بل الإيمان سلام، وأمن، وسكينة ورضا..

وبعد ما تقدم نقول: إنه لا حاجة إلى التذكير بأن الخضوع والاستسلام للدليل، ثم تبنيه والالتزام به، وعقد القلب عليه، يسمى إيماناً.. لما في ذلك من سكون قهري، واستسلام لما تقضي به الفطرة، وما يحكم به العقل.. ثم يبدأ بالتنامي والرقي إلى أن يبلغ مراحل، هي الأصفى والأنقى، والأجلى والأسمى، وذلك حين يصبح سكينة وطمأنينة للنفس والروح، ويترك آثاره في المشاعر والأحاسيس. وتتولد من خلال ذلك في النفس حالات الخوف والرجاء، ويوجد حالة رقابة ذاتية، وتنشأ عنه المواقف والممارسات، والإقدام والإحجام، على أساس مبدأ التكامل، وكل ذلك يتم في ظل الرعاية الربوبية بما تمثله من تدبير يرتكز إلى العلم، والحكمة، والقدرة، و..

وهذا هو الإيمان الحقيقي الذي عبرت عنه الآية الكريمة: ﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(6).

وهو الإيمان الذي أمر الله به المؤمنين حين قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾(7).


1- سورة يونس الآية62.

2- منتهى المطلب للعلامة الحلي (الطبعة الجديدة، مجمع البحوث الإسلامية ـ ايران ـ مشهد) ج3 ص44 ومناقب ابن شهر آشوب ج1 ص317 ومستدرك سفينة البحار ج5 ص163.

3- سورة التوبة الآية 72.

4- سورة البقرة الآية3.

5- نهج البلاغة ج2 ص161 خطبة رقم 193 ط دار المعرفة، والبحار ج64 ص315.

6- سورة البقرة الآية260.

7- سورة النساء الآية136.