الفصل التاسع.

الفصل التاسع.

قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورَاًً﴾.

(إِنَّمَا):

ثم إنه تعالى قد بين أن الغاية التي كان يتوخاها أولئك الأبرار من إطعام الطعام محصورة في أنها وجه الله سبحانه.. وذلك من خلال كلمة (إِنَّمَا) الدالة على الحصر.

(نُطعِمُكُم):

وقد جاء التعبير ب. (نُطْعِمُكُم)، ولم يقل: (نعطيكم)، لأن اللذة الحقيقية للباذلين وأنسهم، إنما يكون في أن يأكل السائلون هذا الطعام دونهم.. وليست لذتهم في مجرد البذل والأخذ، لأنهم أرادوا أن يكون أكل السائل لذلك الطعام بديلاً عن أكلهم هم له.

(لِوَجْهِ الله):

وقد قال تعالى: (لِوَجْهِ الله)، ولم يقل: (نطعمكم لله)، لأنه يريد أن يفهمنا: أن المقصود هو جعل الشيء باتجاه الله، بمعنى إحداث صلة له به تعالى، ليكون مقرباً إليه. وبإحداث هذه الصلة.. يصبح ذلك الفعل متصلاً بالمطلق واللامتناهي. وبالباقي غير الزائل، فيكتسب منه صفة الإطلاق والبقاء. ولعل هذا هو المقصود من قوله تعالى: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾.

ولو قال: (نطعمكم لله)، فإن هذا المعنى الدقيق، سوف يضيع، إذ ليس المراد أننا نطعمكم لأجله سبحانه، وإكراماً له، ومحبة به..

بل المراد: أن نجعل الطعام متصلاً به، مكتسباً منه صفة البقاء واللاانتهاء، واللامحدودية..وثمة فهم آخر لقوله تعالى: ﴿ لِوَجْهِ الله﴾، وهو أن يكون المراد: أن الإطعام قد كان لأجل الحصول على إقبال الله تعالى عليهم بوجهه الكريم الرحيم، وبكل أسمائه وصفاته.

بمعنى أن الله سبحانه يقبل بوجهه، أي بألطافه ورحماته، ونعمه، وخيراته، ورعايته، وعنايته على المطعم، والعامل.. ولذلك قال سبحانه: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾.. أي ستجدونه تعالى مقبلاً عليكم بألطافه التي تعرفكم إياه، بنحو من أنحاء التعريف، فإن وجه الشيء، هو ما يعرف الشيء به، ويستدل به عليه، قال تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ﴾.. لأن عمل الخير متصل به تعالى.. باق ببقائه.. لأن الهالك هو ما ليس فيه جهة إلهية تمنحه البقاء.

لماذا الحصر بـ (إنَّمَا)؟!:

وقد سأل سائل عن سبب اختيار كلمة (إِنَّمَا) لإفادة الحصر، دون الحصر بما وإلا.. فلم يقل: ما نطعمكم إلا لوجه الله تعالى..

ونقول في الجواب: هناك إجابتان على هذا السؤال، هما:

الأولى: أن الحصر بـ(إِنَّمَا) هو الراجح، بل المتعين هنا، وقد يمكن تقريب رجحانه، بالقول: إن كلمة (إِنَّمَا) صريحة في إثبات حصر الإطعام بوجه الله، من بداية الكلام إلى نهايته.

وأما الحصر بما وإلا، فهو يبدأ بالنفي للإطعام. ثم يعود إلى حصره، وإثباته في دائرة وجه الله سبحانه..

ومن الواضح: أن السائل متلهف لسماع كلمة الإيجاب، فلا يحسن استقباله بالنفي لأحب شيء إلى قلبه، وهو الإطعام. فإن ذلك سوف يثير رعشة خوف في القلب ولو للحظة.. ولا يريدون (ع) لهذه الرعشة أن تكون. لمزيد من الرأفة منهم، والرحمة بالسائل..والحفاظ على مشاعر السائلين، ولو بهذا المقدار، يعتبر إحساناً آخر بالقول إليهم، يضاف إلى الإحسان بالفعل.. وسيزيد ذلك في سرورهم، خصوصاً إذا كان هذا قد قيل للسائلين فعلاً، وليس هو مجرد لسان حال يحكيه الله سبحانه لنا عنهم.

الثانية: إن الحصر بواسطة (إِنَّمَا) يأتي نصاً في المطلوب.. أما الحصر بواسطة ما وإلا، فإنه لا يحسم الاحتمالات التي تثير مخاوف السائل حتى بعد إكمال عناصر الحصر..فإنك إذا قلت له: لا أطعمك إلا في هذه الحالة.. فقد يفهم السامع من ذلك: أنه سَيُحْرَم من الطعام، ويُمْنَع منه في سائر الحالات..ولكن إذا قلت: سوف أطعمك على كل حال، لكن نيتي وهدفي هو كذا وكذا، فالهدف من الإطعام هو مورد الحصر.. وليس نفس الإطعام.

القيد التوضيحي:

وهنا سؤال هو: هل إن قولهم: ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾ قيد توضيحي أو احترازي؟!، قد يقال: إنه توضيحي لأنه إذا كان الإطعام سينتج للمعطين اتصالاً بمصدر النعم والألطاف، وسيوجب لهم نيل أعظم المكافآت، وهي مكافآت باقية، نامية، زاكية، لأنها متصلة بالمنعم الباقي، وبالمطلق، واللامتناهي، وإذا كان ما ينفقه الناس من خير يوف إليهم، فلا يبقى مورد للجزاء من قبل السائل الآخذ، لأن الجزاء قد حصل، وهو جزاء واف (يوف إليكم)، فالمطالبة بجزاء آخر، تكون مطالبة جزافية، بل وظالمة أيضاً.

وكأنك قلت: (إنما نطعمكم لا نريد الجزاء)، ثم قدمت الدليل القاطع على ذلك، وهذا الدليل هو أن معرفتك بالله راسخة وعميقة، وقد أصبحت أعمالك خالصة له.. ومن كان كذلك، فلا يعقل أن يريد جزاء أو شكوراً من غيره تعالى..

وهذا المستوى من إزالة الشوائب، ودفع الأوهام، يجعل العمل أكثر صفاء، ويجعل العطاء طيباً..

بل إن الأمر بالنسبة إلى الشكور أبين وأظهر، إلى حد أنه قد يقال: إن الذي ينبغي أن يقدم الشكر هو المعطي، لأن السائل قد هيأ له فرصة لنيل أعظم الكرامات، وأسنى العطايا الإلهية، وأفضلها.. فينبغي عليه أن يكافئه، وأن يشكره..وقد ظهر بذلك: أنه ليس هناك موضوع للشكر ولا للجزاء، لتتعلق به الإرادة. إلا على سبيل الطموح والطلب لأمر لا مبرر للطموح إليه، ولا معنى لطلبه والسعي إليه، لانتفاء الاستحقاق للجزاء، وعدم وجود مورد للشكر..

ومن جهة أخرى، فإنه قد يدخل في وهم الناس: أن الناس في إطلاقهم للتعميمات لا يلتزمون جانب الدقة، ولا يراعون الحدود، بل يكتفون بالصدق العرفي، ولا يلتفتون إلى الأفراد القليلة التي تخرج عن طريقة الأعم الأغلب، بل يلحقونها بالعدم، ويعتبرون أنها غير موجودة.

فيأتي هذا القيد هنا ليؤكد على: أن عملهم قد كان لوجه الله في كل مراتبه وحالاته، وأن ذلك متحقق في جميع أفراده مئة بالمئة، ولم يشذ عنه ولو مفردة واحدة..

لماذا قال: (لاَ نُرِيدُ)؟:

ثم إنه تعالى قد نفى هنا إرادة الجزاء، وإرادة الشكر.. ولم ينف نفس الجزاء، والشكر، فلم يقل: إنما نطعمكم لوجه الله، لا للجزاء، ولا للشكر.. بل قال: ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾..ولعل سبب ذلك أنه لو قال: نطعمكم لا للجزاء ولا للشكر.. قد يفهم منه: وجود استحقاق للجزاء ومبرر للشكر، لكنهم صرفوا النظر عنه.

ومن شأن هذا أن يحمِّل السائل منّةً جديدة لهم عليه، وأن يزيد في إحراجه..

ولكنه حين قال: لا نريد، فإن ذلك قد يفهم منه: أنه بصدد الاستدلال لهم على انتفاء تلك الإرادة، إذ إن كون العمل لوجه الله، قد أسقط استحقاقهم للجزاء وللشكر من أساسه. فنفي الإرادة إنما هو بسبب انتفاء متعلقها، وهو الاستحقاق.

ولو قال: إننا نفعل ذلك، لكن ليس لأجل الجزاء، فإن ذلك معناه أن الجزاء ثابت لنا، ونحن نستحقه، لكننا لا نقصده حين الإعطاء، مع أن الهدف هو أن لا يلوِّح للسائلين حتى بهذا الأمر.. حسبما أوضحناه.

(لاَ نُرِيدُ) مرة أخرى:

وثمة إشارة أخرى هنا، وهي أنهم يقولون: (لاَ نُرِيدُ) ولا يقولون: (لا نطلب منكم جزاء).

ولعل سببه هو أنك إذا قلت: لا أطلب منك جزاءً ولا شكوراً.

فذلك يختزن احتمالين:

أحدهما: أنك تستحق الجزاء والشكر، ولكنك لا تطلبهما منه. ولعله لو أعطاك الجزاء من عند نفسه، فلا تكون منزعجاً، بل قد تكون مسروراً.

الثاني: أنك لا تريد ذلك، بسبب عدم الاستحقاق، فهو من قبيل القضية السالبة بانتفاء موضوعها. وحيث إن هذا النوع من القضايا مما لا ضرورة لإجراء الكلام على وفقه، فينحصر الأمر في الاحتمال الأول..(لاَ نُرِيدُ) مرة ثالثة:

وهنا أيضاً سؤال آخر في الآية، وهو أنه لماذا قال تعالى: ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾..

ولم يقل: لا تجازوني ولا تشكروني، ألا يكون ذلك أوقع وأشد في رفض الجزاء والشكر، وفي تطمين السائلين إلى سلامة النوايا؟!..

ويمكن أن يجاب: بأن هذا التعبير (لا تجازوني، ولا تشكروني) يستبطن تعليماً سيئاً، وخطأ جسيماً.. لأن المفروض بالإنسان هو أن يعيش المعاني الإنسانية في داخل ذاته، وأن يشعر مع الآخرين، ويشاركهم في قضاياهم..

وقولك له: أريد منك أن تكون غير شكور وغير شاعر بالامتنان تجاه من يحسن إليك، يماثل قولك له: أريد أن لا تكون إنساناً، يشعر بقيمة الإحسان.

فكأنك تقول له: انقض أحكام عقلك، وفطرتك، وأخلاقك، ولا تصغ لقوله تعالى:

﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَ الإِحْسَانُ﴾!!

فهل يعقل هذا؟!..

(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ):

والناس حين يسخون ويبذلون أموالهم للمسكين، أو اليتيم، أو الأسير، قد يفكرون، أو يفكر بعضهم: أن يكون هذا المسكين، أو ذلك اليتيم، وحتى الأسير عوناً وسنداً، وعضداً لهم في يوم مّا، ولو بأن يؤيدهم في موقف، أو يرد عنهم، ولو بكلمة.. أو يُحسِّن صورتهم أمام الآخرين.. وقد يصبح الأسير أقل تحمساً للعودة إلى مناجزتهم الحرب في مستقبل الأيام. لا لأجل القناعة الفكرية بما هم عليه، بل لأجل هذا الإحساس بالمديونية للباذلين..ولكن هذه الآيات الشريفة، قد أظهرت أن هؤلاء الباذلين لا يريدون ممن يبذلون له، ما هم أحوج إليه منه، جزاءً، ولو بهذا المقدار، بل حتى ولو في حد الشكر.. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى..بل إن الأهم في هذا البيان القرآني، والهدي الإلهي، هو أنه تعالى يريد أن يبين لنا كيف يريد الإسلام أن يصنع قلب الإنسان، فهو يريده رؤوفاً، رحيماً، عطوفاً، ودوداً، فياضاً بالحب، زاخراً بالمشاعر الإنسانية، عامراً بالإيمان بالله، مؤثراً له على كل شيء في هذا الوجود.

إن الإسلام يريد أن يغرس ذلك في كيان الإنسان، وفي عمق وجوده، ليصير هو العنصر الفاعل والحي في تكوينه الداخلي. إذ إن إنسانية الإنسان لا تُفْرَضُ عليه قسراً، كما أنها لا تأتيه مجاناً.. وبلا طلب وسعي وجهد.. بل هي تحتاج في الحصول على كثير من ميزاتها وخصائصها إلى المبادرة والاختيار منه، وإلى جهد، وعمل، وكد، وتعب، وبذل.. وعطاء..

كما أن ما يكون كامناً في فطرة الإنسان، وما يفيضه الله عليه ابتداءً، يحتاج أيضاً إلى حراسة وحفظ، وتهيئة الظروف الموضوعية لبقائه، قوياً وسالماً، وفاعلاً ومتنامياً.

فإذا قصر في ذلك كله، فقد لا يحصل على شيء جديد.. وقد يخسر أيضاً أو يشوّه ما أعطاه الله إياه ابتداء، أو باقتضاء الفطرة، وربما نجده يحاول أن يسقطها، أو أن يبعدها عن دائرة التأثير في أكثر من موقع، وفقاً لما روي عن رسول الله (ص): كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.

أما الحيوان فلا دور له في الحصول على خصائصه الحيوانية، ولا في تنشئتها وترشيدها، ولا في حفظها، وحراستها، أو خسرانها، وتشويهها.

لا رياء ولا سمعة:

وعلى كل حال، فإنه حين لا يسعى الإنسان للجزاء ولا للشكر، فإن الرياء لن يجد طريقه إليه، وسيكون عمله لله، ولله فقط، ولا مجال بعد لأن يتخذ من عطائه وبذله ذريعة لإظهار شخصيته، واكتساب السمعة عن هذا الطريق. لأن هذا يدخل تحت عنوان الجزاء. كما أنه لا يسعى لأن يعترف المبذول له بالفضل، وأن يلهج بالحمد والثناء عليه، لأن ذلك يدخل في الشكر، الذي لا يريده ذلك الباذل..

وقد قلنا: إن قوله تعالى: ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾ قيد توضيحي لقوله: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لوَجْهِ اللهِ﴾.. لأن إرادة الجزاء والشكور تمنع من أن يكون الإطعام خالصاً لوجه الله تعالى.

(مِنْكُمْ):

وأما لماذا قال تعالى: ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً﴾؟!، وقد كان يمكن أن يقول: لا نريد جزاءً.

فجوابه: أنهم (ع) يريدون الجزاء، ولكن لا من السّائلين، بل من الله سبحانه. وقد صرحوا بذلك حين قالوا: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾..

فإرادة الجزاء والشكر من الناس غير محبذة، بل هي نقص أحياناً، ولكن طلبها من الله سبحانه عين الكمال، لأنه إنما يطلب - في واقع الأمر - رضا الله سبحانه، ويسعى للفوز بكرامته، وألطافه، وحبه، ورعايته، ورفعة شأنه لديه.

(جَزَاءً) لماذا؟!

ونلاحظ هنا: أن كلمة (جَزَاءً) تختزن الإشارة إلى عدة أمور، هي:

1. تنوين التنكير: إن كلمة (جَزَاءً) قد جاءت مع تنوين التنكير لتفيد: التعميم لكل أفراد أو أنواع الجزاء، على سبيل البدل، فجميع أفراد ومقادير وأنواع الجزاء غير مرادة، فلا نطلب منه قليلاً ولا كثيراً، ولا عظيماً، ولا حقيراً، ولا نوعاً دون نوع، ولا فرداً منه دون آخر..

2. الجزاء هو مقتضى العدل والحق.. والجزاء أمر يحكم به العقل، وتقضي به الفطرة، كما ألمح إليه قوله تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَ الإِحْسَانُ﴾، فطرح الآية لهذا السؤال، كأن فيه إرجاعاً إلى الوجدان وإلى الفطرة الإنسانية، مما يعني أن هذا السؤال لو طرح على ملحد لأجاب بنفس ما يجيب به المؤمن الموحد..

3. تقديم الجزاء، لماذا؟!

وأما لماذا قدم ذكر الجزاء على الشكر، فلعله لأجل أن الجزاء هو الإتيان بما يعادل الفعل الذي في مقابله.. فإذا أعطاك مئة، فالجزاء لا بد أن يكون مئة.

وهذا هو أول ما يطلبه الباذل، ويطالب به، ويسعى إليه، ولذا كان المناسب أن يبدأ به قبل أن يذكر الشكر.

أيهما أصعب!!

وقد يقال: لعل تقديم الجزاء، لأجل أن إعطاء البديل والجزاء، قد يكون أصعب من تقديم الشكر، الذي هو خفيف المؤونة..

ولكننا نقول: إن ذلك غير دقيق.. فإن الشكر ليس مجرد تحريك اللسان بكلمات الثناء والعرفان بالجميل، بل هو أمر قد يكون أصعب على بعض النفوس، من إعطاء المقابل مهما كان عظيماً.. لأن الشكر يمثل أحياناً اعترافاً بالأخذ، ويدعو إلى إظهار الشعور بالامتنان، لمن قد لا يحب المبذول له أن يقوم به تجاه بعض الباذلين..وربما يبلغ الأمر حداً يجعل إعطاء الجزاء والخروج من حالة الشعور بالمديونية، أيسر على النفس من إبقاء هذا الشعور.

الجزاء مرتبط بالشكر وعكسه:

والجزاء له صفة مادية، وهو أمر يتطلبه العدل والحق. أما الشكر فطابعه معنوي أخلاقي، تفرضه إنسانية الإنسان، ويدعوه إليه خلقه، ومشاعره، وحالته النفسية..فإذا أعطى الجزاء والمقابل، فذلك لا يعفيه من شكره، من الناحية الأخلاقية، ولا يزيل حالة الشعور بالامتنان..ومعنى ذلك: أن نفي الجزاء بقوله: ﴿ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً﴾.. لا يعني أنه لا يطلب الشكر، ولذا احتاج إلى التصريح بأنهم كما لا يريدون الجزاء، كذلك هم لا يريدون الشكر أيضاً.

ولكن لو طلب الباذل الشكر، فذلك معناه أنه لا يريد الجزاء والمقابل..

ولذلك نجد العقلاء لا يستسيغون من الباذل الذي يطلب الشكر، أن يطلب الجزاء بعد ذلك.. بل هم يقبحون طلبه هذا.. ولكنهم لا يقبحون طلب الشكر بعد الحصول على الجزاء.

الشكور:

قلنا: إن الجزاء هو مقتضى الحق والعدل.. والعدل مرحلة لا بد من إنجازها، ليتوصل من خلالها إلى ما هو أرقى، وأسمى منها..

غير أن العدل يمثل الخط الذي لا بد من الالتزام به، ليتمكن الإنسان من الخروج من دائرة الخطر والهلاك.

لكن درجات الصعود على السلم للوصول إلى الغايات السامية، تحتاج إلى جهد، وعمل آخر يتمكن الإنسان من خلاله من الصعود عليها، درجة إثر درجة، ولهذا صح تشريع الجهاد، وصح طلب الإيثار على النفس، الذي مدحه الله سبحانه بقوله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾..وذلك لأن إعطاء الإنسان ماله لغيره، يحتاج إلى دافع قوي، حتى لو كان المعطي غير محتاج إلى ذلك المال..

أما كان هو محتاجاً له.. فإن إعطاءه للغير يحتاج إلى دافع أقوى وأشد، ليقدم حاجة غيره، على حاجة نفسه. وهذا هو الإيثار الذي أشارت إليه الآية المباركة..فاذا كانت حاجته إليه ماسة جداً، فإن بذله للغير يصبح في غاية الصعوبة.

فإذا طلب منه أن يبذله لغيره، حتى في هذه الحال، فذلك يعطينا: أن الهدف ليس هو العدل، بل ما هو أسمى من العدل. ألا وهو بناء إنسانية الإنسان، وصياغة مشاعره لتكون مشاعر نبيلة وطاهرة. ثم السمو بفكره وبطموحاته، وفتح الآفاق الرحبة أمامه، بالإضافة إلى تربية وجدانه، ورفع مستوى إحساسه النبيل، وشحنه بالعاطفة الفياضة، بالخير والعطاء.

لماذا (شُكُوراً)؟!:

ولعلك تسأل لماذا قال: (وَلاَ شُكُوراً). ولم يقل: (ولا شكراً).. وقد يجاب عن ذلك، بأن الشكر مصدر يدل على أصل طبيعة الشكر، التي قد تتجسد بأي فرد كان. أما الشكور فهو مصدر أيضاً، كالدخول والخروج، فلا فرق بينه وبين الشكر في المعنى.

فنفيه بأي منهما إنما يكون نفياً للطبيعة. ونفي الطبيعة إنما يتحقق بانتفاء جميع أصنافها وأفرادها.

ولعل اختيار هذه الصيغة دون تلك، من أجل تحقيق التناسب اللفظي بين الآيات..

ونقول: إن هذا، إنما يفرض في صورة ما، إذا قبلنا ما قاله المفسرون، من أن كلمة شكور مصدر. وقد جاء على غير قياس، مثل: قعود.

وأما إذا قلنا: إنها جمع شكر، مثل: برد، وبرود، فهي جمع للمصدر، الذي هو الشكر. فالمعنى: أننا لا نريد منكم أي نوع من أنواع الشكر، فيصير نفي إرادة الشكور من الباذلين، أشد من نفي إرادة الشكر، لأن النفي يكون متوجهاً لجميع أنواع الشكر..

وهذا أدل على المراد، وأوفق بالمقصود..

وهو المناسب لمقام الامتنان عليهم من موقع الفيض والعطاء، والربوبية لهم، والألوهية المستغنية بذاتها وبصفاتها..وبذلك يعلم أنه لا مجال لتخيل: أن نفي الجمع لا يستلزم نفي الفرد، وأن قوله: (لا نريد شكوراً).. يجامع قوله: (نريد شكراً واحداً، أو شكرين)..وبتوضيح آخر نقول: إنه يمكن التعدد في أصناف الشكر كمّاً وكيفاً، فهناك شكر قلبي، وعرفان بالجميل، وشعور بالإمتنان، وهناك شكر لساني، وهناك أيضاً شكر عملي..

أما الجزاء فهو نوع واحد، يؤخذ فيه المكافأة بالمثل، وبنفس المقدار..

واختلاف أشكال وكيفيات المقابلة بالمثل، إنما هو بتراض من الطرفين. أما الزائد من الجزاء، فهو تفضل وتكرم. والناقص بخس للحق.

والجزاء تارة يلاحظ فيه الأخذ بالمقابل. ففي مثله يلاحظ مقدار ما يعطى، ومقدار ما يؤخذ. وأخرى يلاحظ فيه الجزاء المقرر، ففي مثله قد يقرر جاعل الجزاء أن يكون الجزاء أكثر من المماثل والمساوي، فيجعل الحسنة بعشرة، أو بسبع مئة، بل يضاعف ذلك لمن يشاء..

ففي مثل هذا المورد، يكون التفضل في أصل الجعل، وبعد الجعل يصبح حقاً وجزاء لمن جعل له، يطالب به، ويَسأل ويُسأل عنه. قال تعالى: ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.

ولكنه حق نشأ عن التفضل، لا عن العدل. أما بعد الجعل فيصير موضوعاً للعدل أيضاً.

وقد يكون السبب في جعل الزائد هو الإغراء بعمل الخير، وصرف الهمم إليه، أو غير ذلك..والحاصل: أنه إذا كان هناك عطاء تفضلي، فمرة تُطْلَب المجازاة عليه، بأن يُعطي لفاعله ما يماثله، ومرة يطلب الشكر عليه.

والشكر قد يختلف ويتفاوت، كماً، وكيفاً في مراتبه وحالاته..

فإذا أريد نفيه، فلا بد من نفيه بجميع مراتبه وحالاته تلك، سواء في ذلك الأفراد الظاهرة، أم الأفراد الخفية التي قد لا تخطر على بال، فقد تنفي الشكر اللساني، لكن لا تنفي الشكر القلبي، الذي يراه الناس غير قابل للنفي، إما لخفائه، وعدم الالتفات إليه، أو لأنهم يرونه غير قابل للنفي من حيث إنه من مقتضيات خلق وطبع الإنسان، أو لأنه لا يجوز رفضه ورَده.

فإذا قال: لا أريد أن تشكرني على الإحسان، فإنما يرون أنه يقصد الشكر اللساني عادة، أو الشكر بواسطة الفعل، ولا يقصد نفي الشعور بالامتنان والتفضل. لأنه غير قابل للإزالة..أو لأنه ليس من حقه رفضه وردُّه، إذ لا بد أن يكون الإنسان شكوراً، لأن ذلك من مكونات شخصيته الإنسانية، التي لا بد من تأكيد وجودها في شخصيته المتوازنة في مزاياها، فلا يصح أن تطلب من الإنسان أن لا يكون شكوراً، لأن ذلك يستبطن الطلب منه أن لا تكون لديه مشاعر إنسانية نبيلة، وهو نهي عن التحلي بالفضائل الأخلاقية.

والنهي عن مثل هذا وإزالته من نفس الطرف الآخر معناه إحداث خلل إنساني وأخلاقي لديه..فاتضح: أنه إنما يصح أن يقال: لا نريد بعض أصناف أو أفراد الشكور، أي لا نريد الأصناف والأفراد القابلة للنفي، والتي لا يستلزم نفيها إساءة للأخلاق وللإنسانية.

ولا يصح نفي إرادة طبيعة الشكر فيه، من حيث هي إرادة للطبيعة، لأن نفيها يستلزم نفي بعض الأفراد والأصناف التي يكون التعرض لها بالنفي مباشرة أو بالواسطة يمثل اساءة للأخلاق وللإنسانية، لأنها تختزن في داخلها قيمة لا بد من حفظها.