الفصل الثامن.

الفصل الثامن.

قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾.

وقد أجملت الآية السابقة حال الأبرار، وأنهم يوفون بالنذر، ثم جاءت هذه الآية لتذكر شاهداً تفصيلياً، ولتكون شاهداً حياً على ذلك الوفاء، وعلى تأصل حالة البر والأبرارية فيهم. وهذا الشاهد هو قضية إطعام المسكين، واليتيم، والأسير..حادثة الإطعام: وقد ذكرنا في أوائل هذا الكتاب أن هذه الآية بالذات قد ذكرت الحادثة التي كانت سبب نزول السورة بأكملها. وهي باختصار شديد: أن الحسنين (عليهما السلام) مرضا، فنذروا صيام ثلاثة أيام إذا شافاهما الله سبحانه.. وبعد شفائهما أرادوا الوفاء بالنذر، فصام الجميع حتى الحسنان (عليهما السلام).. ولم يكن عندهم طعام سوى أقراص شعير هيأتها الزهراء (عليها السلام) للإفطار، فلما أرادوا الشروع جاءهم مسكين فأعطوه ما هيأوه، وأفطروا على ماء، وباتوا بدون طعام، وأصبحوا صياماً.

فلما حضر إفطار اليوم الثاني، جاءهم يتيم فأعطوه أيضاً ما هيأوه، وطووا ليلتهم كسابقتها، وأصبحوا صياماً.

وفي اليوم الثالث جاءهم أسير، فأعطوه طعامهم، وباتوا بدون طعام..

غدوا على رسول الله (ص)، وشاهد (ص) حالهم، فنزلت السورة في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم..

شرح مفردات الآية:

وقبل أن نتحدث عن الأجواء العامة لهذا الحدث الهام، لا بد أن نستنطق مفردات الآية، ونقف على بعض ما يمكن أن يستفاد منها..فنقول:

الإجمال ثم التفصيل:

بدايةً نشير إلى أن من يلاحظ آيات السورة المباركة، سيجد قضية الصيام والإطعام قد ذكرت في السورة مرتين:

أولاهما: على سبيل الإجمال، وذلك حين أشار إليها تعالى بقوله: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾، وهذه القضية هي التي كانت وفاءً بالنذر، فهي من مصاديق تلك الآية..

الثانية: حين ذكرها تعالى تفصيلاً هنا بقوله: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾..وفي هذا تكريم لهم، وتأكيد على هذه المزية العظيمة فيهم صلوات الله وسلامه عليهم.

(وَيُطعِمُونَ):

لقد بدأت الآية المباركة بكلمة: يطعمون. وقد يكون من المفيد تفصيل الكلام حول هذه الكلمة ضمن المطالب التالية:

ألف. لم يقل: يعطون الطعام: قد يقال: إنه يظهر من الروايات، أن ما حصل، إنما هو إعطاء الطعام للسائلين، وليس هو الإطعام.. ولكن التعبير القرآني قال: (يُطْعِمُونَ)، فما هو السبب في ذلك؟!..والجواب: أن إعطاء الطعام لا ينافي أن يكون الآخذ قد أكل ذلك الطعام أمام أعينهم، فالذي حصل فعلاً وإن كان هو الإعطاء، والمناولة.. لكنه انتهى بالإطعام.

فالتعبير ب. (يُطْعِمُونَ) يتناول الإعطاء والمناولة.. والإطعام عن قصد وإرادة، ونحن في مقام توضيح ذلك، نقول: إن الإنسان إذا تخلى عن طعامه، لأي شخص، وأعطاه إياه، فإن فعله يكون حسناً وممدوحاً.. فيأخذه ذلك الشخص، ويتصرف فيه كيف يشاء، ولكنه إذا تخلى عنه ليطعمه إياه، فإن قيمة هذا العمل تكون أعلى من مجرد صرف نظره عنه..

فإذا أطعمه إياه أمام عينيه، فإن قيمته تصبح أعلى وأغلى..

فإذا كان المعطي صائماً، وآثر به على نفسه، فإن الدرجة ستكون أكثر علواً.

خصوصاً إذا كان إعطاؤه للطعام في وقت الإفطار، لا في وقت الصيام..

وخصوصاً إذا كان الصائم قد وضعه أمامه لكي يفطر عليه..

وخصوصاً إذا لم يكن عنده سواه..

وخصوصاً إذا كان يَحْرِمُ منه ولده الصغير..

وخصوصاً إذا كان في ولده مواصفات وميزات الحسن والحسين (ع)..

وخصوصاً إذا كان الآخذُ سيأكل الطعام أمام أعينهم، كما هو المحتمل جداً في الآية..

وهذا يعطي أن الذي أطعم الطعام، يمتلك نفساً، وقلباً، وإنسانية، لا نظير لها. ولا يمكن تحديد قيمتها.

ب. الإطعام وقت الإفطار: وقد أشرنا قبل قليل إلى أن أولئك الصائمين، قد أعطوا طعامهم الذي كان أمامهم وقت الإفطار.. ونحب أن نشير إلى أمر مفيد هنا، هو: أن المال حين يكون نقوداً، فإن التخلي عنه يكون أسهل مما لو تحول إلى سلعة، مثل: قميص، ساعة، قلم، بيت، خاتم، سبحة.. إذ إن تجسُّد المال على هذا النحو يعمق العلاقة به. فالصدقة بثمن الخاتم أسهل من الصدقة بالخاتم نفسه.

وذلك لأن للمال مغريات توجب المزيد من التعلق به، فللشكل جاذبيته، وللألفة تأثيرها، وللأُنس به، وللأحداث التي ترتبط به، التي تتحول إلى ذكريات لذيذة، دورها.. ثم لارتباطه بأمور عزيزة كالآباء والأجداد، والأبناء.. وللقِدَم والغموض، دوره.. والأثر الكبير في الارتباط والتعلق به..فإذا انضم إلى ذلك أو إلى بعضه الحاجة الغريزية الجسدية لهذه السلعة، كما لو كان طعاماً يحتاجه الإنسان لسدّ جوعه. وتدعوه إليه حاجته الطبيعية..

وإذا انضم إلى ذلك أن له روائح، وأن له شكلاً أو طعماً، يشد الإنسان إليه، ويداعب خياله، فإن التعلق به سيزداد، وفقاً لتوافر المعاني، والخصوصيات الكامنة فيه، والاعتبارات التي يوحي بها ذلك المال المتجسد.. ولا بد أن نتصور مدى تعلق الباذلين بالطعام الحاضر، خصوصاً بعد أن مر عليهم ثلاثة أيام بلا طعام.

أما النقود.. فإن مغرياتها تبقى محدودة في حدود قيمتها الكامنة فيها، وفي مستوى القدرة الشرائية لها، لا أزيد..

وهذا الذي ذكرناه: يبين كيف أن إعطائهم الجامع لهذه الخصوصيات، وفي هذا الوقت، ولخصوص الطعام.. يجعلنا نتلمس حقيقة هؤلاء الصفوة من الخلق صلوات الله عليهم..

ج. (يُطْعِمُونَ).. بصيغة المضارع: صحيح: أن كلمة (يُطْعِمُونَ) تفيد أن الجميع - حتى الحسنين عليهما السلام، رغم صغر سنهما - قد مارس هذا الإطعام بكل شؤونه وحالاته، ولكن التعبير بصيغة المضارع، حيث قال: (يُطْعِمُونَ)، لا بصيغة الماضي، فلم يقل: (أطعموا).. إنما جاء ليفهمنا: أن هذا الإطعام يستمر، ويتجدد بإرادة، والتفات، واختيار، ومبادرة منهم..وهذا الاستمرار الذي شهدت له الحادثة المشار إليها نفسها أيضاً يعطي: أن هذا الإطعام، هو سجية لهم، وطبيعة فيهم، وليست القضية مجرد حدث عابر قد انتهى وانقضى، وقد يكون مجرد أريحية اهتزت، أو مؤثرات توفرت، فأنتجت هذا الحدث، بهذه الميزات، وبتلك المواصفات، حيث صادف كونهم صائمين، وصادف أيضاً أنه حصل ثلاث ليال متوالية، وبهذه الطريقة..

إن هذا الاستعداد، وهذه السجية المؤثرة. وهذا الاستمرار في العطاء، في كل وقت وكل حين، وتجدد العطاء بإرادات مؤثرة وفعلية، وإمكانية المشاهدة له - إن كل ذلك - هو من خصوصياتهم الفريدة، وخصالهم الحميدة.

لام العهد! أم لام الجنس؟:

وعن كلمة (أل) في كلمة (الطعام) نقول: إنه قد يكون المقصود بها العهد.. أي أنهم يطعمون طعامهم المعهود، الذي ارتضوه لأنفسهم، وواسوا به الفقراء..

وقد يكون المقصود به الجنس، أي أن كل طعام يكون لهم، فإنهم يطعمونه للمسكين، واليتيم، والأسير..ما المراد

ب. (الطَّعَامَ): ولعل بعضهم يريد أن يقول: إن المقصود بكلمة: (الطَّعَامَ) هو القمح والشعير، وأن هذا هو معناها في أصل اللغة، ثم توسع الناس في إطلاقها، على غيرهما، فيكون على عكس كلمة دابة التي هي اسم لكل ما يدب على الأرض، لكنها حين الاستعمال يراد منها الفرس، لأنها هي التي كانت محل الحاجة، وألف الناس إطلاق هذا اللفظ عليها..ولكن لا مجال لتأكيد هذا الأمر، ولا يصح المصير إليه، فإنه مجرد اجتهاد في اللغة، فالظاهر: ما جرى لكلمة طعام، هو نفس ما جرى لكلمة (دابة) وأن المقصود بكلمة (الطعام) هو كل ما يطعم.. فيكون القمح والشعير، وسواهما من مصاديقه..

ومما يؤكد ذلك، قوله تعالى: ﴿ أحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾(1). فأطلق الطعام على ما يستخرج من البحر للطعام.. ولا يستخرج منه قمح ولا شعير..(عَلَى):

وتواجهنا كلمة (عَلى)، حيث دلت على أن إطعامهم هذا الطعام قد كان برغم وجود المانع والرادع عنه. وهو الحب لذلك الطعام.. وهذا يزيد في أهمية ما فعلوه، لأن القضية لم تقتصر على العطاء بصورة طبيعية ومجردة، بل تجاوزتها إلى التغلب على الموانع والروادع. التي أضيفت إليها.. وهي هذا الحب الجديد للطعام.. الذي أضيف إلى الاشتهاء الطبيعي، وإلى سائر الخصوصيات الآتية في الفقرة التالية.

(عَلى حُبِّهِ) جملة اعتراضية:

ومن يتأمل الآية يجد: أن عبارة (عَلى حُبِّهِ) جملة اعتراضية، قد جاءت لبيان المزيد من الصعوبة التي يواجهها الباذلون في بذلهم ذاك.. أي أنهم يطعمون الطعام، على الرغم من حبه.

وهذه الجملة الاعتراضية لا بد منها لإفادة معنى الإيثار، الذي يمارسه أناس هم بأمس الحاجة إلى هذا الطعام، وهم يطوون ثلاثة أيام بدونه.

وهناك فرق بين من يطعم الطعام، وهو في غنى عنه، بل هو يملك الخزائن الملأى، وبين أناس لو فقدوا طعامهم، فسوف لا يجدون سواه، وسوف يتسبب ذلك بمشكلة وإحراج شديد لهم.

كما أنه ليس كل من يعطي الطعام يكون دافعه هو الشعور والإحساس الإنساني بحاجة الآخرين، فإن لبذل الطعام دوافع مختلفة غير ذلك أيضاً، ولا حاجة إلى البيان..حب الطعام المذموم: وقد يقال: إن ثمة إشكالاً، لا بد من الإجابة عليه وهو: أن الباذلين كان لديهم ميل للطعام، بهدف سد الجوع.. ثم يزول الاشتهاء بتناوله، وحصول الشبع بذلك..ولكن الأمر لم يقتصر على الاشتهاء، بل تحدثت الآية عن حب الطعام.. وهذا الحب يحتاج إلى مكونات أخرى تزيد على ما يتطلَّبه الاشتهاء.

والمعروف أن حب الطعام مذموم، وقد كانت فدك في يد السيدة الزهراء (عليها السلام)، ولم تدخر طعاماً منها، تواجه به هذه الحالة وأمثالها، بل كانت تتصدق بغلاتها على أهل الحاجة..والإمام علي (ع) قد أعلن أكثر من مرة: أنه لا يفكر بهذه الطريقة..

فقد أرسل إلى واليه على البصرة، عثمان بن حنيف، يقول: (بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان..).

إلى أن قال: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه)..إلى أن قال: (لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة، من لا طمع له بالقرص، ولا عهد له بالشبع.. أَوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى؟! وأكباد حرى؟!).

إلى أن قال: (فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها).

والإمام علي (ع) والسيدة فاطمة (عليها السلام) هما على رأس الذين نزلت فيهم آية: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّهِ﴾.. وذلك يدل على أن حبهم لهذا الطعام ليس مذموماً.. لأن لهذا الطعام خصوصية جعلتهم يحبونه - لا أنهم يشتهونه -.

فما هو هذا الحب للطعام، الذي ليس بمذموم يا ترى؟!

وللجواب عن ذلك نقول: إن حب الشيء تارة يكون لأجل ذاته.. وتارة يكون لأجل أنه موصل إلى أمر محبوب. فالمذموم هو الأول، أما الثاني فهو ممدوح. والذي أريد بهذه الآية الشريفة هو الثاني..فهم (ع) لا يحبون الطعام لأنه شهي ولذيذ. أو لأية خصوصية تزيد الرغبة فيه، كاللون، والرائحة، أو الشكل، فإن طعامهم إنما كان أقراصاً من شعير.. وهو لم يكن شهياً، ولا مثيراً. بل هو أحد مفردات الطعام العادية، التي يتبلّغ بها الفقراء، ليحفظوا بها خط حياتهم، الذي فرض الله عليهم أن يحفظوه. وكان هذا هو طعام أهل البيت (ع) المفضل..فحبهم للطعام، إنما هو بهذا المعنى، فليس هو حب التلذذ والاشتهاء، ليكون مذموماً..بل هو طعام محبوب لهم، لأنه يحفظ لهم القدرة على إنجاز الواجب والتكليف الإلهي.. ويعطيهم القوة على نيل رضا الله سبحانه..ولو كان الحب هو لنفس الطعام من حيث هو لذيذ، أو نحو ذلك، فقد كان بإمكانهم الاستفادة من فدك وغيرها للحصول على لذائذ الأطعمة، وفاخر الألبسة، وفخيم المساكن..

ولأجل ذلك قال تعالى: ﴿ عَلَى حُبِّهِ﴾، ولم يقل: على اشتهائه، أو على حاجته. أو نحو ذلك..

وهذا بالذات السبب في أنه تعالى: قد أورد ذلك مورد المدح، مقروناً بقوله: يوفون بالنذر، ويخافون يوماً كان شره مستطيراً..

ثم أعلن بمكافأتهم عليه كأعظم ما تكون المكافأة.

الضمير في كلمة (حُبِّهِ):

وقد ظهر مما تقدم: أن الضمير في كلمة: (حُبِّهِ) راجع إلى الطعام، ويبعد رجوعه إلى لفظ الجلالة، اذ لم يتقدم للفظ الجلالة ذكر في الكلام، مع لزوم نوع من التكرار في قوله: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾..

إلا أن يقال: إن حب الله شيء، ووجه الله شيء آخر، فالأول يرتبط بالدافع الطبيعي، والثاني يرتبط بالغاية والهدف الذي يكون الإطعام من أجله..

ولكننا نقول: حتى لو قبلنا بذلك، فإنه لا معنى للتعدية بكلمة: (على)، وذلك ظاهر.

كما أن البعض قد قال: إن مرجع الضمير في كلمة (حبه) هو المصدر المفهوم من قوله: (يطعمون)، وهو (الإطعام)، تماماً كما هو الحال في قوله تعالى: ﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(2) فإن كلمة (هو) ترجع إلى العدل المستفاد من كلمة اعدلوا..

ولكن لا مجال لقبول هذا الكلام إن كان منشأ حب الإطعام هو ذات الإطعام.. لأن كلمة (على) إن كانت بمعنى مع، أي مع وجود حب الإطعام، فان هذا وإن كان يستبطن بعض المدح، من حيث إن هذه الحاجة الشديدة لم تؤثر على حبهم للإطعام.. ولكنه يستبطن أيضاً شيئاً من الانتقاص من حقهم، لأنهم إنما يطعمون، انسجاماً مع دواعي حب ذات الإطعام.. فليس في ذلك فضيلة متميزة لهم، ولا يوجد جهد في هذا البذل..

كما أنه إذا كان الإطعام مصاحباً لحبه، فليس فيه خلوص، وإخلاص يستحق هذا الثناء، فلا يصح الحصر بكلمة (إنما) في قوله: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ لأن الإطعام ليس لوجه الله فقط، بل هو لأجل وجود دوافع أخرى لديهم، تدعوهم إليه.

وإن كانت كلمة (على) داخلةً على محذوف، ليصير المعنى: على رغم الحب الموجود للإطعام..

فضعفه أوضح وأبين، إذ لا معنى لقولك: أنا أطعم رغم أني أحب أن أطعم.. بل المناسب القول: أنا أطعم رغم أني لا أحب أن أطعم.

هذا كله إذا كان المقصود أن الحب ذات الإطعام هو الداعي، وأما إن كان حب الإطعام لا لذاته، وإنما لأجل تحصيل رضا الله به، أي أنه رغم جوعه، فإنه يحب إطعام هذا الطعام لليتيم، لأنه يرى أن ذلك يرضي الله تعالى، فهذا يكون غاية في المدح لهم، والثناء عليهم.. ولكن بشرط أن تكون كلمة (على) بمعنى مع الدالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى..هل يحب أهل البيت عليهم السلام الطعام؟!

وعلى تقدير رجوع الضمير إلى الطعام، لا إلى الإطعام، قد يقول قائل: إنه لا معنى لنسبة حب الطعام إلى أهل البيت (ع)، فإن نسبة ذلك إليهم لا تنسجم مع ما يقال من زهدهم.. وتعلقهم بالله وحده..ولكنه كلام غير دقيق، فإن المقصود بالحب هنا ليس هو حب الطعام الذي يعني التعلق بزينة الدنيا، وملذاتها.. بل هو حب فرضه الجهد في العبادة والنشاط في طلب رضا الله في النهار، على قلة في الطعام، وجشوبة في العيش، وهو حب لا ينشأ من الرغبة بالتلذذ بل منشؤه الحاجة إليه لحفظ الحياة، الذي هو تكليف إلهي شرعي، لابد لهم من امتثاله. فحبهم للطعام لا لذات الطعام، وإنما لغيره.. على طريقة: وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

حبب إلي من دنياكم ثلاث:

وبذلك يعلم المراد من الرواية عن رسول الله (ص): حبب إلي من دنياكم الثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة(3).

فإنه (ص) لم يكن ليحب النساء، والطيب، لولا أن الله سبحانه قد حبب ذلك إليه.. مما يعني أن ثمة تصرفاً إلهياً في الشخصية النبوية، وهو تصرُّف تكويني - ربما من خلال اقتضاء الغريزة والفطرة - لابد أن وراءه مصلحة كبرى، لبناء حياة البشر، وفق ما يحبه الله تعالى ويريد..

فهذا التحبيب إذن، لا يعني أن له (ص) تعلقاً بتلك الأمور، من حيث زينتها، أو من أجل أنها تحقق له لذة دنيوية، بل هي بمعنى لزوم تلبية الحاجة التكوينية التي فرضتها طبيعة الحياة. وامتثالاً للتكليف الإلهي، واستجابة لما يوجبه حفظ الحياة واستمرارها.

ولعل من مصلحة ذلك أيضاً: أن لا يفهم بعض الناس من عزوف الأنبياء عن النساء معنى الرهبانية، الذي لا ينسجم مع ما يريد الله سبحانه أن تكون عليه حياة الناس في بناء الأسرة وتكافلها، واطراد الحياة الإنسانية، مفعمة بالعاطفة، تنعم بالدفء، وبالحيوية، والسلام، والسلامة النفسية والأخلاقية..

كما أن من ثمرات هذا التصرف الإلهي التمهيد لولادة الزهراء الكبرى، سيدة نساء العالمين صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبنائها الأئمة الميامين الطاهرين..

وإذا كان هذا التصرف الإلهي لن يخرج في مجال فعليته عن حدود الشرع، وهو لا يعدو كونه أمراً يرتبط بالشخص.. ولا يؤثر على حياته العامة، ولا على موقعه كقائد، ومربٍ، ومعلم، ومرشد، وهادٍٍ، ولا يؤثر على مقامه، ولا على سلوكه الإنساني، والإيماني، والشرعي، بل هو يبقى في القمة في ذلك كله..

إذا كان كذلك.. فإن هذا في حد نفسه يكون مثلاً يحتذى، وقدوة تتبع، وأسوة لبني البشر جميعاً.. وهو قاطع للعذر، وملزم بالحجة، لكل من يريد أن يتعدى حدود الله، وينتهك حرمة شرائعه.. بحجة أنه واقع تحت تأثير الغريزة والشهوة، أو ما إلى ذلك..ويبقى قوله (ص): وجعلت قرة عيني الصلاة، تجسيداً لطموحه (ص) الأعظم والأهم، الذي يجد فيه غنى الروح، وطمأنينة القلب، ورضا وراحة الوجدان..

(مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً):

وفي هذه الكلمات مباحث، وخصوصيات عديدة، نأمل أن نتمكن من أن نبين بعضاً منها، بحسب ما تصل إليه أفهامنا، وتتسع له صدور ووقت الإخوة الأكارم.

فنقول:

1. تنوين التنكير لماذا؟!:

إن أول ما يواجهنا هنا: أنه تعالى.. قد أورد هذه الكلمات: ﴿ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾، منونة بتنوين التنكير، ولم يوردها محلاة بالألف واللام..

وربما يكون السبب في ذلك هو أنه إذا قال: (المسكين، واليتيم، والأسير) فقد يوهم ذلك: إرادة خصوص المعهودين لديهم، والمعروفين عندهم، فيكون إطعامهم لهم ناشئاً عن عدة دواع متمازجة، ومتعاضدة في التأثير، وفي الاندفاع إلى الإطعام.. لأن المعرفة بالشخص قد تدعو لإجابة طلبه، وكذا لو كان ذا قرابة مثلاً، أو من قومه، أو من بلده، أو مرتبطاً بذي قرابة، أو بصديق، أو جاراً، أو ما إلى ذلك..

أما تنوين التنكير فهو صريح في أنهم يطعمون أي مسكين، وأي يتيم، وأي أسير كان، ممن لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة.

وذلك يدل على أن اليتم والمسكنة والأسيرية هي المحرك الإنساني، وعلى أن الغاية هي وجه الله. وليس ثمة أية شائبة في هذا الخلوص، وذلك الإخلاص.. فليس في نفوسهم أية آثار لمؤثرات دنيوية أرضية غير إلهية، أو غير إنسانية.

فالدافع إنساني مرتبط بالمشاعر، والهدف إلهي، وقد تناغم هذا الهدف مع ذلك الداعي، فكان هذا الإيثار العظيم..2. توافق الترتيب البياني مع الواقع الخارجي:

وقد حدثتنا الروايات: عن أن الواقعة التاريخية، قد حدثت وفق الترتيب الذي أورده القرآن، فقد جاء المسكين أولاً، ثم اليتيم، ثم الأسير..

وذلك هو التوفيق والتسديد الإلهي الظاهر.. لكي لا يبقى أي مجال للتفكير في أن ما هو افتراضي، قد لا يكون منسجماً مع حركة الواقع الخارجي، خصوصاً حينما تتوافر الدواعي في الاتجاه المعاكس كما سنبينه..

كما لا يبقى أيضاً مجال للقول: بأن الحديث هنا جارٍ في ما هو مثالي.. وقد لا يتوافق المثالي مع مقتضيات الواقع وشروطه.

بل نقول: إنه حتى لو لم يكن الترتيب في الآية مطابقاً لما حصل بالفعل، فإن نفس أن يأتي سياقها القرآني على هذا النحو، ستكون له أهدافه وأغراضه التكريمية، أو البيانية لمعانٍ يريد الله لنا أن نتلمسها ونعرفها فيهم (ع).. وقد تكون هذه المعاني الغيبية التي يكشفها الله لنا، رحمة بنا، وامتناناً منه تعالى علينا..

وحيث يأتي البيان على سبيل الإخبار عن طبيعة وسجية وديدن هؤلاء الصفوة، فإنه لا بد أن يزيد ارتباطنا بهم، وتعريفنا بحقيقتهم، ليكونوا لنا الأسوة والقدوة والمثل الأعلى.. فكيف، وقد تطابق الواقع الخارجي، مع السجية والطبيعة، فجاء المسكين، ثم اليتيم، ثم الأسير.. ليكون ذلك أدعى في الإقناع، وأوثق في الدلالة..

3. حالتان تصاعديتان تتعاكسان: وحين نريد أن نبحث الموضوع بعمق، فسنجد أن هناك حالة تصاعدية في جهة السائلين، تقابلها حالة تصاعدية في ناحية الباذلين..

بمعنى أن الانتقال كان في ناحية السائلين من الأعلى إلى الوسط، ثم إلى الأدنى.

ولكن الانتقال في ناحية الباذلين كان من الأدنى.. وانتهى بالأعلى..

وهذا هو سر عظمة هذا الحدث، وهو أقوى تعبير عن حقيقة هؤلاء الصفوة الأطهار، حيث إنه يؤسس بصورة حية لفهم سرّ كل هذه الكرامة التي اختصهم الله بها، وهذا التشريف العظيم الذي حباهم سبحانه به..وتوضيح ذلك يكون على النحو التالي:

4. المسكين.. والباذلون في اليوم الأول: إننا إذا أردنا أن نوضح ذلك، برسم صورة تطبيقية، فسنجد: أن الذي أتى للصائمين في وقت إفطارهم، في اليوم الأول، هو (مسكين)، فمن هو هذا المسكين، وما هي حالته؟!

إن المسكين هو إنسان بلغ به الفقر أقصى مداه. إلى درجة أنه أسكنه، وجعله عاجزاً.

وقد روى أبو بصير رحمه الله عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (الفقير الذي لا يسأل، والمسكين أجهد منه، والبائس أجهد منهما)(4).

وصيغة (مسكين)، تفيد التكثير.. أي يكثر سكونه، لأنه كلما أراد أن يتحرك للحصول على شيء أحس بعجزه، فيسكن..

ومعنى ذلك: أنه قد جرب حظه في الحياة أكثر من مرة، وبذل أكثر من محاولة للخروج من المأزق، فلم يفلح.

وواضح: أن الإنسان إذا بلغ هذا الحد، فإن أمله يتضاءل ويذوي.. كما أنه يفقد شيئاً من عنفوانه، ومن قوة شخصيته.

إذن، فحالة هذا الشخص تثير العطف الشديد، وتوجد اندفاعاً قوياً لمساعدته، ممن يرى ذله، وعجزه، وحاجته، وانكساره..

وفي المقابل كان الباذلون للطعام، الذي تتحدث عنه الآية الشريفة، قد صاموا يوماً كاملاً، واحتاجوا إلى الطعام بصورة حقيقية وفعلية، وضعفت أجسادهم، ولا سيما أجساد الأطفال الذين في جملتهم، وكانوا صائمين أيضاً..

وهؤلاء الأطفال لا كسائر الأطفال، بل هم خيرة الله سبحانه من خلقه، وصفوته من عباده..

وقد كان من الطبيعي أن يتنازع أولئك الباذلين عاملان.. أحدهما يدفعهم للبذل، وهو حالة المسكين الصعبة للغاية.. وحالة حاجتهم الذاتية للطعام.. وثانيهما الحاجة العاطفية للاحتفاظ به لأجل طفلين هما الغاية في الكمال، والنبل، والفضل، والصفاء.. ولا شك في أن أحداً على وجه الأرض، لا يملك مواصفاتهما، وميزاتهما.

فإمكانية الاستجابة للعامل الأول تبقى موجودة، وفيها شيء من القوة.. فإذا استجابوا له، فإنهم - ولا شك - يكونون قد قاموا بعمل عظيم، ولكنه ليس مستحيلاً، بسبب قوة التحريك للعطاء، من خلال الانسجام العاطفي والإنساني، مع حالة المسكين.

ومن جهة أخرى، فقد كان بالإمكان أن يعطوا المسكين بعضاً من طعامهم على سبيل المشاركة، والتسوية بالنفس.. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل اندفعوا بالإيثار إلى أقصى مداه، فأعطوه جميع ما أعدوه لإفطارهم. لأنهم أرادوا له أن يجد الفرصة لمراجعة حساباته، واستئناف تحركاته في سبيل عمل يخرجه مما هو فيه..أضف إلى ذلك، أن هذا العطاء كان بالنسبة للباذلين، في ساعة حرجة جداً. وبالذات في ساعة الإفطار، حيث تلح النفس بالمطالبة بالطعام، وتدعو للاحتفاظ به، إذ لو طلب منهم بذل الطعام، قبل حلول ساعة الإفطار، فإن التخلي عن الطعام يكون أيسر، لعدم وجود هذا الإلحاح على الاحتفاظ به، بفعل قوة الحاجز، مع الإفساح في الأمل بإمكانية الحصول على البديل فيما تبقى من الوقت..ولكن الطلب قد جاء في الساعة الحرجة والصعبة، وحيث يشتد تعلق النفس بالطعام، فكيف إذا مازج ذلك عامل الحضور والمشاهدة والعيش بالأجواء، حتى لتكاد الأيدي تمتد إليه، فإن التعلق به سيكون - بلا شك - أقوى، والتخلي عنه أصعب..

ولكن حالة المسكين وضعفه، وشدة حاجته، فيها أيضاً شيء من قوة الدعوة للبذل، ودرجة من التأثير المعاكس في أحوال كهذه..

5. اليتيم والباذلون في اليوم الثاني: وفي اليوم الثاني.. حيث لم يذق الصائمون طعاماً طيلة يومين كاملين. بل اكتفوا بشرب الماء في الليلة السابقة. قد أصبح واضحاً: أن الحاجة إلى الطعام قد اشتدت، ودواعي الاحتفاظ به قد ازدادت، والحرص عليه قد تنامى وعظم، لا سيما مع وجود صبيين معهم، هما الحسنان بالذات.. وهما سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتا رسول الله (ص).

وكان وقت الإفطار قد حضر أيضاً، وطبيعي أن يزداد التطلع للطعام، والبحث عنه، وبعد حضوره يزيد التعلق بما حضر منه.. فكيف إذا وضع أمامهم، وتكاد الأيدي تتحرك باتجاهه، وتمتد إليه.

وإذا بسائل جديد، هو في هذه المرة (يتيم)، وليتمه تأثيره على النفوس. ولكن الاندفاع إلى مساعدته يكون في العادة أضعف من الاندفاع لمساعدة المسكين، لأن احتمالات الحاجة فيه أقل وأضعف. إذ إن يتمه لا يدل على حاجته المادية..فإن نفس الحالة الظاهرة للمسكين هي حالة حاجة وفقر، وعجز عن إيجاد ما يتبلَّغ به، وهي فورية، وحادة، وهي بنفس ظهورها فيه تمثل دعوة لمساعدته بلسان الحال، وهي شاهد صدقه في ما يدعيه، بلسان المقال..

أما اليتيم، فإن هناك شفقة عليه، لأجل يتمه، وحاجته للعاطفة والطمأنينة، لا لأجل حاجة ظاهرة له، تستبطن دعوة بلسان الحال لمساعدته.. إذ لعله كاذب في دعواه الفقر..وحتى لو كان صادقاً، فإن الفقر الذي يخبر عنه لا يصل في حدته إلى درجة ظهور ذلك في حالته. كما كان الحال بالنسبة إلى المسكين..

بل هو لا يزال في مقتبل العمر، والفرص أمامه، ولم يمارس بعد إمكاناته، وقدراته، بل هو لم يكتشفها بعد. ولعل مشكلته ناشئة من فقد التوجه الصحيح له، بعد أن فقد كافله.. ففرص النجاح أمامه متوفرة، وأمله كبير، وطموحه عارم.

وتحرك العاطفة لأجل فقر اليتيم، ليس بدرجة تحركها لأجل ذل ومسكنة المسكين.. ويتمه، لا يحرك الإنسان ليتخلى له عن طعامه، حتى في الحالات العادية. فكيف بعد طي يومين من الصيام المتواصل، واشتداد الحاجة للطعام؟!..وحتى لو أراد أن يتخلى ذلك الصائم له عن شيء، فإنه سيقنع نفسه بأنه لا حاجة لأن يتخلى له عن جميع ما هيأه.. فضلاً عن أن يعطيه إياه ساعة الإفطار، وبعد أن وُضع أمامه، وبعد مضي يومين على الصيام.

وإذا أعطاه شيئاً، فإنما يعطيه طعام نفسه، ولا يعطيه طعام غيره كزوجته، وولده.. فكيف إذا كانت السيدة الزهراء (عليها السلام) هي الزوجة، وكان الولدان الوحيدان له طفلين صغيرين، ثم كانا هما الحسنان بالذات، في ميزاتهما، وفي موقعهما من الدين، ومن الإسلام كله، وليس لهما على وجه الأرض مثيل، لا من الأيتام، ولا من غيرهم. وهما اللذان تتجلى فيهما ميزات الإمامة وخصائصها، بأجلى وأبهى مظاهرها..وأبواهما كانا أعرف من كل أحد بهما، وبقيمة مزاياهما، وبكرامتهما على الله سبحانه، فهل يمكن أن يخاطرا بحياتهما، لمجرد احتمال حاجةٍ يدّعيها يتيم، ليس هو مثل الحسنين قطعاً، وهي حاجة - حتى لو كانت واقعية - فليس ثمة ما يدل على أنها تبلغ درجة الإحراج والعسر..إذن.. فقد ازدادت المثبطات، وتوافرت الموانع عن الإعطاء، سواء فيما يرتبط بالاعتبارات التي تزداد قوة وتنوعاً، في ناحية الباذلين، أم فيما يرتبط بضعف المشجعات في جانب السائلين، حيث تضاءلت وانحسرت وضعفت تلك الخصوصيات التي تثير وتحرك.

ولكن وبرغم ذلك كله، فإن العطاء والبذل، قد بلغ أيضاً أقصى مداه، حيث أعطوا (ع) في اليوم الثاني أيضاً جميع ما يملكون، وآثروا اليتيم به على أنفسهم مع شدة الحاجة والخصاصة. وبذلك فقد أصبح هذا الإطعام أعظم قيمة، وأشد أهمية، إذا لوحظت جميع الخصوصيات التي أشرنا إليها..

6. الأسير.. والباذلون: في اليوم الثالث: ويطوي الصائمون ليلتهم، ولا يقدرون على شيء إلا على شرب الماء، ويصومون يوماً ثالثاً هو الأشد، والأقسى، والأمض، وقد أصبحت الأخطار الجسام تتهدد صفوة الخلق، وصبية هم خيرة الله، وحججه على عباده، بصورة أعظم وأقوى..

ويحين وقت الإفطار، وهو ما يجعل النفوس أيضاً تهفوا وتتطلع إلى الطعام، فكيف إذا كان ذلك بعد ثلاثة أيام من الطوى. ثم يوضع الطعام أمامهم، ولا يحول بينهم وبينه شيء..

وقد بلغت خطورة الموقف حداً قاسياً، يدعوهم ليس فقط إلى عدم بذل الطعام، وإنما إلى بذل كل الجهد والتضحية في سبيل الاحتفاظ به..

وإذا بسائل جديد يطرق الباب.. غير أن حالة هذا السائل كانت أخف الحالات وأهونها، فإنها ليس فقط لا تثير شعوراً قوياً بالرغبة في مساعدته، بل ربما تكون المثبطات والموانع عن إعطاء هذا السائل، أكبر وأظهر..ولا نريد أن نتحدث عن الحالات، ولا عن الخصوصيات التي كانت في جانب الباذلين، فقد ظهر جانب منها في البيانات السابقة، بل نريد فقط أن نُلْمِحَ إلى ما كان منها في ناحية السائل.. فنقول:

إنه عدا عن جميع ما لاحظناه من خصوصيات في جانب اليتيم والمسكين.. فإن الأسير رجل مكتمل قوي البنية، قادر على مواجهة الآخرين، حتى بالقتال، وله قدرة على تحمل الصعاب، ومكابدة المشاق..

والزهراء (عليها السلام) في هذا الجانب امرأة، والحسنان (عليهما السلام) أيضاً لم يكونا قد بلغا سن الأقوياء، فيما يعرفه الناس من ذلك..ومشكلة الأسير تبقى محصورة في مدة أسره، المانع له من بعض ضروب السعي.. وهي مشكلة لها أمد، ولها مخرج. وسينتهي الأمر به إلى الخروج من هذه الحالة، والعودة إلى أهله، وأملاكه، وإلى الذين لديهم أكثر من دافع لمد يد العون له.. بخلاف المسكين الذي ليس لديه ما ينعش به، وبخلاف اليتيم الذي لن يجد مثل كفيله الذي فقده كفيلاً، وحامياً، وراعياً، وحبيباً..ثم إنه ليس في الأسير أية جهة أخرى - سوى ما يدَّعيه من الحاجة - تدعو إلى العطف عليه، كما كان الحال بالنسبة ليتم اليتيم..بل هناك ما يدعو إلى النفور منه، وإلى حرمانه، فإنه مجرد أسير، والأسير في واقع الأمر محارب للإسلام وللمسلمين.. وربما لا يكون قد تخلى عن عدائه لهم، ولا ذهب حقده عليهم.. بل ربما لا يكون قد تخلى عن كفره، أو شركه، أو انحرافه.

وإذا كان قد أسر في ساحة الحرب، فلعله قد قتل بعض الأحبة، والأصفياء، أو شارك في قتلهم..

ولعل اليتيم الذي جاءهم بالأمس قد فقد كافله، وحاميه في الحرب التي شارك فيها هذا الأسير نفسه، أو شارك هو في قتله، أو في الأجواء التي تمكن القتلة من القيام بجريمتهم..أضف إلى جميع ذلك، أن نهاية هذا الأسير ستكون هي الرجوع إلى قومه، ولعله يعود معهم إلى حرب الإسلام والمسلمين من جديد..

وكل هذا الذي ذكرناه، قد يكوّن معذراً مقبولاً أمام الوجدان، وتبريراً معقولاً لرد طلبه عند العرف والعقلاء..

ثم إنه لم يظهر من حال هذا الأسير ما يشي بصدقه فيما يدَّعيه من الحاجة.. وحتى لو كان صادقاً، فإن حاجته ليست بمستوى حاجة من طوى ثلاثة أيام بدون طعام، فكيف إذا كان هذا الطاوي هو طفلان صغيران. ثم كانا هما الحسن والحسين، ومعهما الزهراء، وعلي أمير المؤمنين عليهم السلام.

ثم إنه قد كان يمكنهم (ع) أن يعطوه بعضاً من ذلك الطعام، ويحتفظوا لأنفسهم بالباقي، أو يحتفظوا بطعام الحسنين عليهما السلام على الأقل..

فكل هذه العوامل التي ذكرناها تدعو إلى الاحتفاظ بالطعام.. تضاف إليها العوامل المضادة والمانعة من العطاء، ومن بينها ما هو قوي، ومتناغم مع العواطف والمشاعر الإنسانية، ومع كثير من النقاط التي سجلناها من ابتداء الحديث إلى هنا..

وبعد هذا كله.. فقد جاءت المفاجأة وأعطى هؤلاء الصفوة ذلك الأسير كل ما لديهم، وعرَّضوا أنفسهم للأخطار الجسام. مع أنه قد كان يكفيه بعض ما أعطوه، غير أنهم أرادوا له أن يجد لنفسه قوتاً في أطول زمن يمكنهم أن يمدوه بالقوت فيه..

والبذل في مثل هذه الحالات، وبملاحظة كل تلكم الخصوصيات، هو منتهى الكمال الإنساني، والإيماني، والروحي، وهو الحد الذي لا يصل إليه بشر. إلا إذا كان ذلك البشر هو الرسول الأعظم (ص) رغم أن عطاءهم في ظاهر الأمر، كان بضعة أقراصٍ من شعير.. لكن الحقيقة هي أن في هذه الأقراص، كل حياتهم، وكل وجودهم، وكل الطهر، والإيمان والإخلاص..

7. السائلون.. هل هم مسلمون؟!: وقد يحاول البعض أن يدعي: أن المسكين، واليتيم، والأسير، كانوا من المسلمين.

ونقول: إنه لا مبرر لهذا التخصيص، ولا دليل يثبته، بل إن الأمور التي ركزت الآيات عليها ترجع إلى شعور إنساني فياض، ونبيل، لا يفرق بين مسلم وغيره، فإن لكل كبد حرّى أجر، ومن خلال هذا الشعور الإنساني يتحرك الإنسان في الاتجاه الصحيح، يرفده بالدفقات الروحية وبالمشاعر الإنسانية حتى يبلغ به إلى الهدف الأقصى، وهو أن يصبح عمله كله لله سبحانه..هذا كله فضلاً عن أن بعض الروايات قد أشارت إلى أن الأسير الذي سأل هؤلاء الصفوة فأعطوه.. قد أسره المسلمون أنفسهم، ولم نجد في تاريخ الإسلام أن أحد المسلمين قد أسره الرسول (ص) مع المشركين حتى احتاج إلى زيارة بيوت الناس للاستجداء..

8. الترتيب هنا عكسه في آيات أخرى: وبعد.. فإن هذه الآية قد ذكرت المسكين أولاً، ثم اليتيم، ثم الأسير.. ولكننا نجد أنه تعالى حين يعدد أصناف المستحقين للزكاة والخمس.. رتبهم بطريقة مختلفة، فهو يقدم الفقراء، أو اليتامى مثلاً على المساكين.. فما هو السبب يا ترى؟!

وقد يمكن الجواب عن هذا: بأن النظر في تلك الآيات المباركة يحتاج إلى إثبات أن هذا الصنف مستحق لهذا القسط من الخمس.. أو الزكاة، أو الصدقات. وليس ثمة أي اختلاف في ناحية المقدار فيما بين جميع الأصناف. وقد جيء بالعناوين لمجرد أن تكون مشيرة إلى موضوعاتها، ليتعلق الحكم بها.

ولكن الأمر هنا ليس كذلك، إذ إن لنفس هذه العناوين دوراً في إفهام الخصوصيات المطلوبة في المعنى الذي هو بصدد بيانه والتأكيد عليه، وهو ذلك المعنى الإنساني الإلهي العظيم، الذي ألمحنا إلى بعض جوانبه..

9. الإكرام أم الإطعام؟: وقد ركزت هذه الآيات على إطعام اليتيم، ولكنه تعالى في آيات أخرى قد تحدث عن إكرامه..ثم إنه تعالى حين تحدث عن إطعامه أخَّره بالذكر عن المسكين. ولكنه حين تحدث عن إكرامه قدمه بالذكر على المسكين، فقال: ﴿ كَلاَ بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ / وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(5).

وقال تعالى: ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ / وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾(6).

فالدعُّ هو الدفع.. وعدم التقبُّل.. وهذا يعتبر عدواناً على من يفترض في الإنسان المتوازن أن يبادر إلى الترحيب به وإكرامه..

وعدم الحض على طعام المسكين يأتي في المرتبة التالية.. لأن الحالة الظاهرة في المسكين هي حاجته لما يزيل حالة السكون الناشئة عن شدة حاجته..أما اليتيم فإنه بحاجة إلى المعالجة الروحية، وإلى أن يخرج من دائرة الصدمة، والخوف من المستقبل، وأن يشعر بأنه ليس وحده في هذه الحياة، بل الجميع معه، وإلى جانبه..

فلا بد من ذكره أولاً، لأن سلامة الحالة النفسية، هي الأهم.. وبها يكون قوام وسلامة شخصيته.. فكيف إذا كان هناك دعٌّ له، وممارسة درجة من العدوان عليه.

أما حين تكون القضية مجرد قضية الحاجة إلى المال.. فإن الأولوية إنما تكون لمن تشتد حاجته للمال.. والمسكين هو الحالة الأصعب بالنسبة لليتيم، والأسير..

10. قصة الإطعام.. وهدف السورة: هذه السورة تتحدث عن النشأة الإنسانية، ومسيرتها إلى غاياتها في ظل الهداية الإلهية، لتتجلى من ثم أنوار أشرف المخلوقات، من سماء الكرامة والمجد، لتضيء هذه الحياة بأنواع الهدايات إلى صراط الله العزيز الحميد..وقد ذكر الله سبحانه ذلك، تارة بطريقة البيان لمنازل كرامتهم، وتارة أخرى بأسلوب التجسيد الحي، الذي تتجلى فيه كمالاتهم، وإنسانيتهم، موقفاً وسلوكاً، وطريقة حياة..

فجاءت قصة إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير، لتجسد أمام عين الإنسان تلك المضامين. لكي يحس بها، ويتلمسها، ويتمازج لديه المحسوس بالمعقول، ليكون ذلك أوقع في النفس، وأشد في الإقناع، وأرسخ في اليقين..تبدل السياق:

ثم تبدل السياق، من الحديث بصيغة الغائب: يوفون، يخافون، يطعمون.. إلى صيغة المخاطب: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُم﴾.

ولكن طريقة التغيير في السياق، قد جاءت فريدة ومتميزة، إذ إنه لم يذكر هنا أي نحو من الأنحاء التي يتم بها الانتقال من الغيبة إلى الخطاب!!

فهل يريد أن يقول: إن لسان حالهم هو هذا: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ الله﴾؟!.

أم أنه يريد أن يقول: إنهم كانوا يقولون للسائلين هذه الكلمات؟!..

فإن كان سبحانه وتعالى، قد قال ذلك على سبيل أن هذا هو لسان حالهم، فنقول: إن ذلك يحتاج إلى أن يقترن بشاهد يبينه، فإذا قال الراوي، مثلاً: إن لسان حال الإمام الحسين (ع) هو:

إن كان دي-ن محمد ل-م يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني

فشاهد ذلك هو تضحيته عليه السلام، بأخوته وبولده، حتى الطفل الرضيع، وصبره على آلام الجراح..

وفي واقعة إطعام الطعام - تجد أن هناك ما يشهد للسان الحال هذا، فإن حياتهم (ع) كلها لله سبحانه، وفي سبيله.. كما أن نفس المفردات والخصوصيات التي قررناها في شرحنا لحال الباذلين، ولحال السائلين تشهد بذلك أيضاً.

وإن كان المراد بالآيات هو أنهم (ع) كانوا يقولون - فعلاً - للسائلين هذه الكلمات: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ الله﴾، فقد يكون الوجه في ذلك هو أنهم (ع) كانوا يريدون للسائلين أن يطمئنوا إلى أنهم سيعاملونهم بما يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم، إذ إنهم لا يريدون منهم جزاء، بل هم لا يريدون منهم حتى الشكر، ولو بأدنى حالاته، وأقل مستوياته..ولكن.. أن يصدر هذا القول منهم، لكل سائل أتاهم، فذلك قد يكون غير مألوف.

والذي نراه هو: أن من الممكن أن يكونوا قد قالوا لهم ذلك، حين رأوا علامات الدهشة والخجل ترتسم على وجوههم، وهم يرون هذا الإيثار العظيم من هؤلاء الصفوة، فتأتي هذه الكلمات لكي تطمئنهم إلى أنهم غير مطالبين برد هذا الجميل، لأنهم إنما يطعمونهم لوجه الله تعالى..

إن الإحسان حسن في حد ذاته، ولكن شرط أن لا يشعر السائل بالمن والأذى.. لأن السائل شديد الحساسية تجاه من يعطيه، حتى إنه قد يفسر احترامه له على أنه حركات تهدف إلى تذكيره بما أعطاه.

فإعلامه بأنه لا منة لأحد عليه، إحسان آخر إليه، فكيف إذا بلغ ذلك حداً جعله يشعر بأنه هو المتفضل على من أعطوه، لأنه كان سبباً في نيلهم الثواب والفضل عند الله تعالى، فإن ذلك سوف يؤنسه، ويدخل السرور والبهجة على قلبه..ولأجل ذلك كان يهتم الأئمة (ع) بالتزام سرِّية العطاء، حتى إن الإمام السجاد (ع) كان يعول مئة أهل بيت، يحمل لهم ليلاً أجربة الدقيق على ظهره، ولم يعرفوه حتى مات(7).

فالأئمة (ع) يريدون بذلك أن يصونوا السائل عن أن يفكر بطريقة خاطئة.

أسئلة تحتاج إلى جواب: هناك عدة أسئلة وجهها أخ كريم، نذكرها، ثم نجيب عليها، والأسئلة هي التالية:

السؤال الأول: إن مجتمع المسلمين آنئذٍ كان لا يزال صغيراً ومحدوداً، وكان النبي صلى الله عليه وآله قد آخى بين المسلمين على الحق، والمواساة..

ومن الواضح: أن من أجلى مظاهر ذلك هو المواساة بالمال، حيث يبادر كل منهم لمعونة أخيه، بمجرد رؤيته لعجزه، أو لضعفه، أو حاجته..وكان النبي صلى الله عليه وآله يحث الناس باستمرار على التكافل والتعاون، وقضاء حاجات بعضهم البعض، ولم يكن صلى الله عليه وآله، ليرضى أن يكون في حضرته محتاج. أو ليسمح بنشوء حالة من هذا القبيل..لا سيما وأنه مظهر يوجب الشك والترديد في واقعية وصدقية التوجيهات الإسلامية، مثل ما ورد عنهم عليهم السلام: لو مثل لي الفقر رجلاً لقتلته..(8).

وقوله: ما آمن بالله واليوم الآخر، من بات شبعاناً وجاره جائع..(9).

السؤال الثاني: لو أن المسلمين لم يقوموا بواجبهم، تجاه إخوانهم.. فإن المفروض: أن يتكفلهم النظام الإسلامي المتمثل برسول الله صلى الله عليه وآله، فينفق عليهم من أموال الدولة.. تماماً، كما نقل عن الإمام علي عليه السلام، حين رأى رجلاً من أهل الكتاب يسأل الناس، فقال: ألم يكن في بيت مال المسلمين ما يكفي هذا وأمثاله؟!..

السؤال الثالث: وسؤال يطرح نفسه أيضاً: وهو أنه كيف يكون الذي جاءهم في المرة الثالثة أسيراً، ويكون طليقاً يدور على البيوت، حتى بعد دخول الليل؟! ألا يحتمل أن يبادر إلى الفتك ببعض المسلمين؟! أو إلى الغدر بهم، في بعض مجالات حياتهم ثم الهرب؟!..وقد سجل لنا التاريخ: أن العباس كان موثقاً بعد أسره؟! ولم ينم النبي صلى الله عليه وآله، لأنه كان يسمع أنين العباس في وثاقه. فلما أرخوا من وثاقه، وسكن أنينه، نام صلى الله عليه وآله..

السؤال الرابع: أنه إذا كان أسيراً، فلماذا يكون هو المسؤول عن تحصيل لقمة عيشه؟! أليس من المفترض أن يكون المسؤول عنه هو النظام الذي أسره؟!.. فيتولى هو إطعامه، والإنفاق عليه، وتأمين مختلف حاجاته، ومنها الملبس، والمسكن، وغير ذلك؟!..

السؤال الخامس: لماذا أتاهم واحد من هؤلاء في كل ليلة؟! ثم لم يرجع إليهم أحد منهم في الليلة التالية، والتي بعدها؟!..جواب السؤال الأول: نجيب بما يلي:

أولاً: إن المسلمين في تلك الفترة كانوا قلة قليلة، ولم يكن لديهم مصادر للتوسع في العيش، ثم العود بالفضل على إخوانهم، وليس فيهم أغنياء بالمستوى الذي يسمح باستئصال جذور الفقر والحاجة في مجتمعهم..

وكانت مسؤولياتهم أكبر من قدراتهم، وقد أضافت الحروب أعباء أخرى أثقلت كواهلهم، بما كانت تحتاج إليه من نفقات، مع ما توجبه من توقف عن العمل.. ثم ما تحمله لهم من مشكلات اجتماعية، واختلال علاقات، بالإضافة إلى فقد بعض العوائل للكافل والمعين، وابتلاء بعض المقاتلين بإعاقات بدنية، أو نقص بعض الأعضاء، وما إلى ذلك..

ثانياً: إن التاريخ يحدثنا عن فترات من القحط الشديد، كان الناس يبتلون بها آنئذ، وكان ذلك يضر بالحالة العامة، ويزيد من صعوبة حصول الناس على ما يتبلغون به، بل يذكرون أن النبي صلى الله عليه وآله نفسه كان يشد الحجر على بطنه من شدة الجوع..(10) ولعل قضية هؤلاء قد حصلت في هذه الفترة..جواب السؤال الثاني: نجيب بما يلي: بأن تكفل النظام الإسلامي للمحتاجين، والاستشهاد بقول أمير المؤمنين عليه السلام، يدل على ما نقول، إذ إن فعل أمير المؤمنين عليه السلام قد أظهر: أن بيت مال المسلمين، كان هو الذي يتكفل بمعالجة مثل هذه الحالات..

وكان النبي صلى الله عليه وآله، هو سيد المسلمين، وهو أولى الناس بالعمل بهذا المفهوم الإسلامي الرصين، فلما رأيناه لم يفعل ذلك علمنا: أن بيت مال المسلمين كان في تلك الفترة عاجزاً حتى عن معالجة مثل هذه الحالة، بسبب عدم وجود المال فيه.. حسبما أشرنا إليه..جواب السؤال الثالث: نجيب بما يلي: أن الأسير إذا كان قادراً على العمل، وعلى السعي بنفسه، فما الذي يمنع من أن يفسح له آسره المجال لطلب لقمة عيشه بنفسه، فيخفف من درجة أسره من أجل ذلك..

فإذا أعطاه قسطاً من الحرية، فإن ذلك يفرض عليه أن يعطي في مقابل ما حصل عليه من حرية محدودة، امتيازاً للطرف الآخر على شكل مالٍ يقدمه له، أو عمل يقوم به، أو أي شيء آخر..

ويكون إيكال أمر معيشته إليه في هذه الحالة هو أدنى ما يمكن أن يقوم به لنفسه، ولكن لا يصح أن يعد ذلك في جملة ما يتوجب عليه تقديمه، مقابل ذلك القسط من الحرية. وإلا فقد كان يمكن لآسره أن يحتفظ به في غياهب السجون، وليس لأحد أن يلومه في ذلك..جواب السؤال الرابع: نجيب بما يلي: إنه ليس من العدل أن يقاتِل الأسير أهل الحق، ويعتدي على كرامتهم، وأرواحهم، ويسعى في إبطال دين الله، وإلى أن يسلبهم الحق الذي جعله الله تعالى لهم، في العيش بكرامة، في ظل رعاية الله، ورفض حكم الطاغوت، والتحرر من هيمنة الباطل وأهله..

نعم.. ليس من العدل أن يفعل هو ذلك، ثم يُكلِّف هؤلاء المظلومون، المعتدى عليهم، بالإنفاق عليه، وبذل أموالهم في سبيله، لمجرد أنهم استطاعوا أن يبطلوا كيده، وأن يمنعوه من مواصلة العدوان.. خصوصاً، إذا كان لا يوجد ما يضمن عدم معاودته الكرة عليهم، بمجرد امتلاكه عناصر القدرة على ذلك، وارتفاع الموانع..ومع غض النظر عن هذا وذاك، نقول: إن الواجب هو الإنفاق على الأسير، حيث تتوفر القدرة على ذلك.. أما مع العجز، فإن إعطاء بعض الحرية، ليتولى هو بنفسه شؤون نفسه، لا بد أن يعتبر من أعظم الإحسان إليه، ومن مظاهر التفضل عليه..إن الحديث عن مسؤولية النظام الذي أسره عنه، غير دقيق، وذلك لما يلي:

أ. إنه لم يكن هناك أي مبرر لنشوء بيت مال للمسلمين، في تلك الظروف الصعبة التي ألمحنا إليها..ب - إن الإسلام يرى: أن للآسر حقاً في الأسير، وفي فدائه، ما دام أنه هو الذي تمكن من أسره.. خصوصاً في ذلك الزمان الذي كان قتل الأعداء وأسرهم مستنداً إلى فعل الأشخاص مباشرة، وهو نتيجة جهدهم، وتضحياتهم، وبطولاتهم..وحتى في هذه الأيام، فإن المفروض هو إيجاد صيغة تسمح لكل من شارك في الحروب المشروعة بأن يستفيد من غنائمها، على أن تتناسب تلك الصيغة مع المستجدات في سياسات الحروب.. ولهذا البحث مجال آخر..جواب السؤال الخامس: وأما بالنسبة للسؤال الخامس، فإننا نقول: قد يكون السبب في عدم عودتهم لطلب المعونة من أهل البيت الظاهر في اليوم التالي، هو اكتفاؤهم بما أعطوهم إياه لأكثر من يوم.. أو يكون السبب هو وقوفهم على الواقع الصعب الذي كان يعيشه أولئك الصفوة.. وقد يكون السبب غير ذلك..


1- سورة المائدة الآية96.

2- سورة المائدة الآية8.

3- الحدائق الناضرة ج1 ص264 و265, وراجع: المهذب البارع ج3 ص173، ورسائل المحقق الكركي ج3 ص225.

4- بحار الأنوار ج93 ص57 وتفسير نور الثقلين ج3 ص491.

5- سورة الفجر الآية18.

6- سورة الماعون الآية2.

7- راجع: سفينة البحار ج6 ص245 عن مناقب ابن شهرآشوب ج3 ص293، والكافي ج1 ص468، والعلل ج1 ص232 والخصال ص517 والوسائل ج9 ص397 و402 وغيرها من المصادر.

8- شرح إحقاق الحق ج32 هامش ص213 عن كتاب علي إمام المتقين ج2 ص23 النظام السياسي في الإسلام ص247.

9- بحار الأنوار ج74 ص191، وسائل الشيعة (الإسلامية) ج12 ص153.

10- بحار الأنوار ج12 ص28 وج16 ص227 مناقب أمير المؤمنين ج1 ص58.