الفصل السابع.

الفصل السابع.

قال تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾.

(يُوفونَ بِالنّذر):

وتستمر الآيات في بيان أسباب نيل الأبرار الفيوضات خاصة، والنعم في الدنيا.. وهي توجب بدورها نيلهم لفيوضات وخيرات تكون جزاءهم في الآخرة.

وبعد أن ذكر الله سبحانه أن من صفة الأبرار، أنهم: ﴿ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾، وأشار أيضاً إلى أن هذه الكأس هي عين تحقق الري، والاكتفاء، والغنى.. وهم يختارون تفجيرها.. لارتباطهم بمصدر العطاء والفيض، وهو الله سبحانه.

إنه تعالى بعد أن ذكر ذلك وسواه مما تقدمت الإشارة إليه، قال: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾.

والمقصود في هذه الآيات، جماعة بعينها، هم محور الحديث في هذه السورة..

والسؤال هو: إنه حين بدأ بذكر صفات الأبرار، قدم صفة الوفاء بالنذر على سائر الصفات، التي منها كونهم: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾.. ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾.. إلى آخر الآيات؟.

فلماذا قدم هذه الصفة بالذات يا ترى؟!

ولعل الجواب على هذا السؤال هو: أن النذر هو تعهد، والتزام أمام الله سبحانه بالعمل بأمر مّا..

والذي نعرفه عن البشر أنهم في تعهداتهم لبعضهم أوفى منهم في تعهداتهم أمام الله سبحانه..وذلك لغفلتهم، أو لضعف معرفتهم به تعالى، أو لغير ذلك من أمور، يمكن أن يكون الجامع فيما بينها: أن إيمانهم بالله سبحانه لم يتجاوز حدود الخضوع للحكم العقلي، والتعهد بالالتزام بهذا الحكم، والوقوف عنده. وهذا هو الحد الأدنى الذي يخرجهم عن دائرة الكفر، وليحملوا صفة الإيمان والإسلام، وتترتب عليهم أحكامه..وانتهاؤهم إلى هذا الحد يعطي: أنهم لم يصل الأمر بهم إلى حد حضور الله في قلوبهم، وانسيابه في أعماق وجودهم، وهيمنته على مشاعرهم وأحاسيسهم.. بل بقي أمراً غيبياً بالنسبة إليهم. كما أن إيمانهم بالنبوة، والنبي، وصفاته، وبالآخرة، وحسابها، وثوابها، وعقابها، ونعيمها، وجحيمها، لا يبتعد عن هذا الحال..فلم تتحول العقيدة بالله، وبالآخرة، وبالأنبياء، والأوصياء إلى حالة وجدانية، وضميرية. ولم تمازج الفطرة، والمشاعر، لتصبح حركة عفوية، وطريقة حياة، وليكون ذلك المعتقد إنساناً إلهياً يعيش الإسلام والقرآن، واقعاً حياً يتلمسه في كل ما يواجهه أو يحيط به..ولأجل هذا الضعف الظاهر، في مستوى الوعي والإيمان، نجد أنهم عند الممارسة تتناقض أفعالهم مع أقوالهم، ومع اعتقاداتهم.

وهذا بالذات هو السبب في سعي الإسلام إلى تحويل الشأن العقيدي، وقضايا الإيمان إلى شأن حياتي، حيث يحدثنا عن الله، وعن صفاته، وعن الآخرة، وغير ذلك.. بأسلوب التجسيد لها في الواقع الخارجي. وكأن الإنسان يراها ويتلمسها ويحس بها عن قرب.. وما أكثر التعبير في القرآن الكريم، فضلاً عن كلمات النبي (ص) والأئمة (ع) بكلمة: أفرأيتم.. وأأنتم..﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾(1).

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾(2).

﴿ ءأَنْتُمْ أَنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾(3).

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾(4).

﴿ ءأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾(5).

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾(6).

﴿ ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾(7).

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾(8).

﴿ ءأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾(9).

وغير ذلك..والخلاصة: أن الاعتقاد ليس مجرد خضوع واستسلام عقلي، بل هو عقد قلبي مستقر في النفس: حاضر في عمق الذات، متمازج مع الفطرة، ومع المشاعر، ليصبح هو العين التي يبصر بها، والأذن التي يسمع بها، واليد التي يبطش بها..

كما أن الإسلام ليس مجرد نظام اقتصادي، أو سياسي، أو تربوي، أو عبادي أو غير ذلك. بل هو دين يريد أن يصنع الإنسان كله، وفق الإرادة الإلهية، ليُمكِّنه من تحقيق الأهداف العليا التي خلق من أجلها.

ولأجل هذا.. كان النبي آدم (ع) - الإنسان الأول -, هو النموذج، الذي يحمل مواصفات الإنسان الكامل، الذي يسعى إلى نيل رضا الله، والوصول إلى مقامات القرب والزلفى..

فكأنه تعالى يقول لنا: هكذا أريد لبني البشر، أن يكونوا إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى، خالصين ومخلصين لله سبحانه. كالنبي آدم (ع)..وحين يقول سبحانه عن هؤلاء الأبرار العباد: إنهم ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾، فإنما يريد أن يفهمنا أن ذلك دليل وصولهم في إيمانهم، ووعيهم، وخلوصهم إلى أن أصبحوا أناساً إلهيين بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وأن الله حاضر في قلوبهم، وفي وعيهم، وفي كل وجودهم حضوراً حقيقياً وتاماً، فلا يمكن أن يخلفوا أو أن يتوانوا في الوفاء بتعهداتهم أمامه جلَّ وعلا..

قيمة الوفاء بالنذر:

وقد يزعم زاعم أنه ليس في الوفاء بالنذر ما يميزه عن غيره، فإن الصلاة مثلاً، عمود الدين، فهي أهم منه، وهي أولى بالذكر من الوفاء بالنذر، وكذلك الحال بالنسبة للجهاد في سبيل الله، والحج إلى بيت الله.. وغير ذلك..فلماذا جاء التنصيص على خصوص الوفاء بالنذر، دون سواه..ونقول في الجواب:

إن ما تقدم من إشارة إلى أهمية وقيمة الوفاء بعهود الله سبحانه قد يكون كافياً في بيان لزوم البدء بهذا الأمر هنا، من حيث إن الوفاء بعهود الله هو العنوان الأوسع والأتم، والأكمل، لسائر عناوين الطاعة والانقياد، ومنها فريضة الصلاة، والحج، والزكاة، وما إلى ذلك، غير أننا نود أن نزيد هنا: أن الله سبحانه لا يريد أن يعطي هنا صورة عن حجم العمل وصعوبته، وإنما يريد أن يقدم لنا كواشف وجدانية وواقعية عن الحد الذي وصل إليه ذلك البرُّ العابد في بناء إنسانيته، وفي تأثير ميزاته الإيمانية والإنسانية، في ممارسته العملية، وفي بناء وجدانه. حتى إن نذرهم في مورد نزول السورة، كان هو خصوص الصوم. المقرب إليه تعالى، بما للصوم من رمزية للكثير من المعاني، ولم ينذروا بذل مال، أو نحوه..وقد تكون هذه الأمور التي نتخيل أنها غير ذات أهمية، أعظم وأقوى في كشف هذه الحقيقة.

فإن الأعمال الكبرى، قد تكون الحوافز التي تدعو إليها قوية.. وقد يكون للحوافز الخارجة عن ذات، وشخصية، ووجدان الإنسان، تأثير كبير في ذلك أيضاً. ولأجل ذلك فقد يكون كشفها عن واقع تلك المزايا أضعف من كاشفية تلك الأمور التي تخلو من ذلك كله..ولأجل ذلك.. فإن الله حين جعل أعظم وأخطر مقام لأمير المؤمنين (ع) وهو مقام الولاية العظمى، لم يشر إلى جهاد الإمام علي (ع)، ولا ربطه بقلعه لباب خيبر، أو قتل عمرو بن عبد ود، ولا ربطه بعلم علي، وتضحياته الجسام، أو غير ذلك من فضائله، بل هو قد جعل له ذلك في سياق التذكير بصدقة كانت منه على فقير أثناء الصلاة، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾(10).

فكان هذا العمل الإنساني، والإيماني من علي (ع) دليلاً واقعياً وعملياً على كماله في الإيمان، والعلم، والتقوى، والوعي، ثم هو دليل على صحة وشمولية مفاهيمه، وسلامة مشاعره، وتفوقه في كل مزاياه الإنسانية، فاستحق بذلك أن يكون ولياً وإماماً..

هذا، وقد ذكر القرآن الإمام علياً (ع) أكثر من مرة بما يشبه هذه المناسبة أيضاً، وذلك كآية النجوى، وآية الصدقة سراً وجهراً، وليلاً ونهاراً. وآيات سورة هل أتى بدءاً من هذه الآية. ثم الآيات التي تليها، ومنها آيات إطعام الطعام للمسكين، واليتيم، والأسير..

وخلاصة القول: أن الوفاء بالنذر يكشف بصورة واقعية عن كمال حضور الله سبحانه في قلب هؤلاء الأبرار، وفي كل وجودهم. وعن أنهم قد بلغوا درجة الكمال في مزاياهم.. حتى أصبح الوفاء بتعهداتهم هو السمة المميزة لهم، ولكن لا خوفاً من عقاب، ولا طمعاً في ثواب، بل لأن هذا هو خلقهم الأصيل.

ولعل ذلك يوضح السبب في أنه تعالى قدم قوله: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ على ما عداه، حيث قال: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ﴾. ولم يقل: يخافون من ربهم يوماً عبوساً قمطريراً، ويوفون بالنذر.

فإن هذا هو السياق الطبيعي لحياة هؤلاء الأبرار، ولعباديتهم له تعالى. ولارتباطهم به سبحانه، ومستوى هذا الارتباط..لا يوجد عاطف:

وقد رأينا: أنه تعالى لم يأت بعاطف، فلم يقل: يشربون ويوفون بالنذر، بل رتب الوفاء على نفس الشرب من الكأس التي هي عين. واعتبر هذه الجملة هي المورد الأول الذي يسوقه ليشرح لنا من خلاله، كيف أن شرب الأبرار من تلك العين، وتفجيرهم لها يتحول إلى وفاء بالنذر، وإلى خوف من يوم الجزاء، وإلى إطعام الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إلخ..حيث إن أبراريتهم بكل المعاني التي تتضمنها، قد اقتضت ذلك كله..

فهذا التفصيل لذلك الإجمال، وارتكاز الوفاء على الشرب، لا يتلاءم مع ذكر الواو الدالة على أن الموردين في عرض واحد..

(يُوفُونَ):

وقد قال: (يُوفُونَ)، ولم يقل (يفون)، لأن كلمة (يفون) مأخوذة من وفى، ومضارعها يفي، وكلمة (يُوفُونَ) مأخوذة من أوفى، ومضارعها هو يوفي.

وهمزة أوفى يقال لها: همزة التعدية، فهي مثل علم وأعلم، وكرم وأكرم.

والمراد بالإيفاء هنا الإتمام بحيث يظهر قصد الفاعل إلى ذلك، وتعمده حصوله..

أما كلمة يفون، فتدل على مجرد حصول الوفاء كيفما اتفق..

فكلمة الإيفاء: تشير إلى الفاعل، وإلى اختياره وقصده من جهة..وتشير من جهة أخرى، إلى صفة وحالة ما وقع عليه هذا الفعل، وقد قال يوسف لإخوته: ﴿ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أوفِي الْكَيْلَ﴾(11). فوجه نظرهم إلى حالة الامتلاء التي يكون عليها الكيل الذي وقع عليه فعل الإيفاء. وذلك ترغيباً لهم في الاستجابة إلى ما طلبه منهم..

ونظير ذلك كلمة: ﴿ تُخْسِرُوا﴾، في قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾(12). المأخوذة من أخسر، لا من خسر..

وهذا يعطينا: أن ثمة قصداً إلى بيان معنى الوفاء والتمامية الحقيقية الفعلية بأجلى وأقصى مراتبها.

والنذر كما هو معلوم هو أن يجعل الإنسان على عهدته أمراً لشخص آخر أو لجهة أخرى، بحيث يصبح هذا الشيء ملكاً لذلك الآخر، لا بد من إيصاله إليه في الموقع المحدد..وقد يكون سبب الإقدام على هذا التعهد هو دعوة الطرف الآخر إلى إنجاز أمر مّا، بحيث يكون هذا المنذور في مقابل إنجاز ذلك الأمر.

وهذا بالذات هو ما جرى في مناسبة نزول سورة ﴿هل أتى﴾..

إذ إن الحسنين (عليهما السلام) مرضا، فنذروا: لئن شافاهما الله تعالى، أن يصوموا لله ثلاثة أيام، فلما شافاهما الله. صامت السيدة الزهراء (عليها السلام)، وصام معها علي، والحسنان (ع).

فلما حان وقت الإفطار، ووضعوا الطعام أتاهم مسكين، فتصدقوا عليه به. وباتوا بلا طعام.

وحصل لهم في اليوم الثاني مع اليتيم مثل ذلك..

وهكذا جرى لهم في اليوم الثالث مع الأسير أيضاً..

فصاموا ثلاثة أيام بلياليها، لا يجدون طعاماً سوى الماء..فشفاء الحسنين (عليهما السلام) قد جاء استجابة لنذرهم (ع) فأصبح في عهدتهم له تعالى صوم ثلاثة أيام، ولا بد لهم من الوفاء بالنذر.

ولأجل هذه المعادلة الواقعية التي نشأت بين الشفاء، وبين الصوم..ولا يصح إحداث أي خلل في هذه المعادلة.. بعد أن أصبح هذا في مقابل ذاك، وتعادلا ككفتي ميزان في عالم الواقعيات والحقائق..

وهذه المعادلة الواقعية تحتم الإيفاء لا الوفاء. لأن المهم هو إعطاء ما لزم في الذمة، إلى حدٍ، يفي بذلك الشفاء الذي حصل، حبة في مقابل حبة ومن دون أية نقيصة، وبخسٍ في الميزان، لأنهم أخذوا شيئاً وتعهدوا بإعطاء مقابله، فلا بد أن يأتي هذا الصوم الذي هو المقابل وافياً وتاماً، في أعلى درجات الخلوص والإخلاص والسلامة، والتوجه القربي في كل آناته وجميع حالاته، وذلك ليوازي في آثاره وفي أهميته شفاء مثل الحسنين (عليهما السلام).

وهذا لايتأتى إلا من أبرار قد بلغوا أعلى الدرجات، في الارتباط بالله، والمعرفة به سبحانه..

فقوله تعالى عنهم: ﴿ يُوفُونَ بِالْنَذْرِ﴾ أي يأتون به وافياً، وفق المطلوب، يعتبر غاية في مدح هؤلاء الصفوة، والثناء عليهم. وبدون هذا الوفاء التام.. فإن ثمة خللاً سيحدث في المعادلة.. ولا يعرف كيفيات وحجم هذا الخلل، إلا الله.. فلعله خلل ونقص في البركات، أو في الألطاف، أو في التوفيقات للتقوى، أو في المشاعر، أو في الإيمان، أو في العلاقات الاجتماعية، أو في الحالة الاقتصادية، أو في الزرع، أو في الماشية، أو غير ذلك. إن ذلك كله لا نعرفه نحن، ولا يمكن تحديده، ولا التكهن به.

النذر أيضاً سنة إلهية:

ولا بد لنا هنا من تسجيل حقيقة هي: أن الدعاء، والعهد، والنذر، والتوسل بالأنبياء والأولياء، وغير ذلك.. - إن كل ذلك - هو من السنن الإلهية التي تؤثر حتى في النواميس الطبيعية، وفي الماديات.. فمثلاً قد تقتضي السنن الطبيعية أن لا يولد للشخص الفلاني ولد، أو أن لا يكون له مال.. أو أن يمرض، أو يموت، ولعل ذلك كان هو الأصلح له، ولمن يحيط به. والأصلح لنسله..ولكنه إذا سعى، وبذل جهده، وطلب من الله سبحانه، أن يتدخل ويبطل تأثير ذلك القانون الطبيعي، فإن الله يغير في الأمور بحيث يصير الأصلح هو عكس هذا الواقع القائم بالفعل..

وقد تكون وسيلته التي يقدمها هي نذر بديلٍ أو عديلٍ، أو توسل بنبي أو وصي.. أو التجاء إلى الانقطاع إلى الله بالدعاء، أو نحو ذلك - فإن هذا أيضاً من السنن الإلهية -, فيستجيب الله له. ويغيِّر في السنن الطبيعية لصالحه، فيشفي المريض، أو يجعل المرأة العاقر تحمل..

وهذا التدخل والتغيير في السنن الطبيعية، لابد أن يُحْدثَ ما يحتاج إلى ترميم وجبر، وَتَلافٍ وتعويض.. لكي لا يترك أثراً سلبياً على الواقع العام، أو على من تسبب به، ولم يف بتعهداته..

ولا بد أن يأتي هذا العوض وافياً، وكافياً..

وقد اتضح بذلك: أن قوله (ع): الصدقة تدفع القضاء وقد أبرم إبراماً.. قد جاء منسجماً مع الناحية الواقعية في تسبيب الأسباب، والتصرف في السنن..الوفاء بالنذر.. والوفاء بالوعد: ولم يعد خافياً بعد هذا، الفرق بين الوفاء بالنذر، والوفاء بالوعد. فإن الوفاء بالوعد يأتي منسجماً مع مقتضيات السنن الحاكمة.. أما النذر فيراد منه الدعوة للتصرف في تلك السنن بسنن أقوى منها، أو بدونها، حيث يكون نفس التصرف الإلهي استجابة للنذر أو الدعاء، سنة أيضاً.. ثم يأتي الوفاء به من قبل الناذر ليرمم ويعالج آثار ذلك التصرف، فيما يشبه التقايض والتبادل حسبما أشرنا إليه..

أما العهد واليمين، فهما ينسجمان مع تلك السنن، ولا يعارضانها، بل يستجيبان لها، لأنهما عبارة عن إلزام للنفس بشيء، بحيث يجعل ضامنه وكافله، والسائل عنه، والمطالب به، هو الله سبحانه.. وليس فيه أي تعرض للسنن، أو تصرف فيها.

لماذا جاء بالباء (بالنَذرِ)؟!:

وقد يُسأل هنا: لماذا قال تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَذْرِ﴾، ولم يقل: (يوفون النذر)؟!..

ويجاب: أن هذه الباء قد جاءت لبيان هذه المعادلة، وهو أن يكون ما يأتي به من عمل قد نذره، معادلاً لما طلبه في مقابله، ووافياً به. فهي باء التعويض، وتشبه إلى حدٍ مّا الباء في قولك: كافأته بألف درهم، أو قولك: بعت الفرس بألف.

(يُوفُونَ) بصيغة المضارع:

وعن السبب في أنه تعالى قال: (يُوفُون) بصيغة الفعل المضارع، لا بصيغة الماضي، فلم يقل: وفوا بنذرهم..

نقول: ربما يكون ذلك لبيان ما يلي:

أولاً: إن هذه هي طبيعتهم وسجيتهم، فإن وفاءهم لم يكن لأمرٍ عارضٍ فرض عليهم ذلك.

ثانياً: إن هذا الوفاء ليس مجرد حدث قد مضى وانقضى، بل هو متجدد ومستمر، فهم يقومون بوفاء بعد وفاء، بل هم لا يزالون يشعرون بالحاجة إلى رضا الله سبحانه، وأنهم مدينون له، وأن شفاء الحسنين (عليهما السلام) لا يقابله مجرد صوم الثلاثة أيام، ولو في مثل تلك الظروف الصعبة. فإن هذا الشفاء منة عظيمة تبقى لله في أعناقهم، ولا بد أن يبقى شعورهم بها.. وبالحاجة إلى شكرها، وإلى تقديم العوض المناسب عنها، ولا يرون أي شيء في الوجود يفي بشكر هذه النعمة، ويوفي هذه المنة..

ثالثاً: إن المضي والانقطاع اللذين يشار إليهما بكلمة: (وفوا بالنذر) قد يفسح المجال لتوهم.. تجدد الحاجة إلى الوفاء، وأنه ربما تكون قد استجدت أمور جعلتهم في موقع المدين له تعالى بنذر جديد.. وليس هناك إشارة إلى وفائهم فعلاً، فضلاً عن أن يكون مشيراً إلى ذلك في المستقبل..

رابعاً: إن التعبير بيوفون، يوحي بأن وفاءهم (ع) في المستقبل أيضاً مضمون. من حيث إنه أخبر عن أن طريقتهم وسجيتهم الدائمة والملازمة هي الوفاء.. وهو ملكة لهم، وبذلك يكون دالاً على وفائهم في المستقبل أيضاً، وهذا إخبار من عالم الغيب والشهادة، وشهادة تكريم كبرى لهم.

الوفاء بالنذر صفة أخلاقية: إن الدافع إلى العمل بمقتضى النذر هو التعهد الذي أنشأه الناذر على نفسه، حيث تدعوه أخلاقه والتزامه إلى الوفاء بذاك التعهد.

وهذا التعهد إنما نشأ عن معرفة بأن الله سبحانه قوي عزيز، مالك عليم حكيم، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وعن شعور بالفقر وبالحاجة إليه، وعن التجاء له، وتوكل عليه، وثقة به، تدفع إلى أن يطلب منه المعونة، والتسديد، والعطاء.

فلزوم الوفاء بالنذر إذن، أمر يدركه الإنسان بفطرته، وبعقله، وبوجدانه، وبكل وجوده.. فليس هذا الوفاء كسائر الواجبات المفروضة عليه، والتي قد لا يدرك مراميها، ولا يجد الدافع في كثير من الأحيان، إلى الالتزام بها.. إلا الخوف من العقاب، أو الطمع في الثواب.

والفطرة، والعقل، والشرع، والوجدان، وخصوصاً الأخلاق، هي العناصر الأهم في الإيمان، وفي الالتزام بأحكامه، والعمل بشرائطه..والخلل الأخلاقي والاستكبار هو الذي جعل إبليس شيطاناً، وأوصل فرعون إلى ادعاء الربوبية، وممارسة ذلك الظلم العظيم على بني إسرائيل، وغير ذلك.

إن الخلل الأخلاقي مهما بدا في ظاهر الحال بسيطاً، فإنه قد يهلك الإنسان.. ويقضي على كل نبضات الحياة فيه، واستكبار فرعون خير شاهد على ذلك، كما أن للحسد والشح، وغير ذلك من صفات؛ التأثير الكبير في إفساد حياة الناس، بل وفي إهلاكهم أيضاً..(يَخَافونَ):

وقد أشار الله سبحانه، في آيات هذه السورة، إلى نواح إنسانية في شخصية الأبرار، وأخرى إيمانية.. والحديث عن الناحية الثانية، هو في هذه الفقرات وقد قلنا فيما سبق: إن الخوف من الآخرة له أثره في سعي الإنسان لضبط حركته، والهيمنة على نفسه الأمارة بالسوء..

وذكرنا: أن المشركين كانوا لا يأبون عن الاعتراف بكثير مما يدعوهم النبي (ص) إليه، لكنهم كانوا يكذبون بيوم الدين، لأنهم يريدون أن يأخذوا حريتهم في الفجور، واقتراف الآثام، ولا يريدون أن يصبح قرارهم بيد من يحاسبهم..

وهو ما أشارت إليه الآيات الكريمة في سورة القيامة.. ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ / بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ / بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾(13).

إذ إن المشركين يرون: أن مشكلتهم الكبرى لم تكن هي ترك الأصنام، التي قالوا: إنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى.. ولم يكن لديهم مشكلة كبيرة في إعطاء الامتيازات لرسول الله (ص)، حتى لقد عرضوا عليه أن يملِّكوه عليهم..

فكان جوابه: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته(14).

ولكن ما يرون أنه مشكلتهم الحقيقية هي أنهم يريدون أن يكون لهم القرار في أي تصرف، ولا يريدون أن يكونوا مسؤولين عن شيء ولا مطالبين بشيء.. فيوم القيامة هو الذي يخيفهم، ويرعبهم، فكان أن أنكروه بشدة، وعناد، واستكبار. لأن الاعتقاد بيوم القيامة يقيد حرياتهم.. ويفرض عليهم التعامل مع الآخرين بالإنصاف والعدل. ويتطلب منهم الانقياد لنظام عملي، وتقديم حسابات، ويشعرهم بالرقابة.. وأن قرارهم لا يرجع إليهم.

وهذا لا ينسجم مع طموحاتهم، لأن جعل العقاب في الآخرة.. يركز في الإنسان الإحساس بأنه لا خلاص له منه، ولا مناص له عنه، إلا بالتوبة، أو بالشفاعة، إن كان ممن يستحقها.. خصوصاً مع كون هذا الحساب وذلك الجزاء بالثواب أو بالعقاب، من المالك القادر القاهر، والعالم بكل شيء..وهذا لا يناسب أهل الأهواء، ولكنه يناسب المؤمنين، ويهيء لهم حياة مطمئنة، لها قانون، ولها نظام، وتخضع لضوابط..

إيمان أم خوف؟!

ويلاحظ: أنه تعالى قد ذكر الخوف من يوم كان شره مستطيراً، ولم يشر إلى الاعتقاد، أو العلم، أو الإيمان بيومٍ هذه صفته..

ولعل سبب ذلك هو: أن العلم بالشيء ليس بالضرورة أن يكون دائماً فعلياً. فقد يكون ارتكازياً، لا يتنافى مع حالات الغفلة، أو الانشغال بأمور أخرى، ولكنه قادر على استحضار صورة ذلك الشيء مباشرة، بمجرد حاجته إليه..كما أن العلم قد لا يكون له أثر في حياة الإنسان، ولا بإيمانه، فإن علمك بأن الأربعة زوج، وبأن الكل أعظم من الجزء، علم بقضية عقلية، ثابتة على مر العصور والدهور، ولكن لا أثر لهذا العلم لا في الإيمان، ولا في المشاعر، ولا في أي جهة من جهات وجود الإنسان، وتكوينه الداخلي، ولا في شيء مما يواجهه..

وأما الإيمان، فهو العلم بالشيء مع تبنيه والالتزام به.. فقد يصاحب ذلك سكون وطمأنينة نفسية: ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(15).. و ﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾(16). وقد يترقى الأمر إلى أن يصبح لهذا الإيمان وهذا السكون تأثير في المشاعر، ضعيف تارة، وقوي أخرى، وقد لا يحصل شيء من ذلك..أما حالة الخوف، فإنما تعني وجود إحساس داخلي، وانفعال نفساني، يدعو الإنسان للتحرز، وطلب الأمن. وهذا ملازم لليقظة والالتفات، ما دام ذلك الخوف موجوداً، فهو يدعوه إلى إعمال المراقبة المستمرة, والرصد الدائم لكل حركة يخشى أن تكون تعنيه، أو أن يكون لها أي تأثير عليه..

ثم إنه يدعوه إلى إعداد العدة، وتهيئة كل ما من شأنه أن يحميه ويدفع عنه.

وهذا الإعداد يختلف ويتفاوت، كاختلاف وتفاوت محيط وأدوات الرصد والمراقبة، بحسب خطورة وحجم الموارد التي يتهددها الخطر، فقد يكون الخوف على النفس، أو على المال، أو على الولد، أو على العشيرة، أو على البلد، أو على الدين، أو.. أو.. أو على ذلك كله.

وهذا بالذات هو الذي يبين ضرورة اقتران قوله تعالى: ﴿ لاَ أقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾(17) بقوله: ﴿ لاَ أقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾(18).. لأن القناعة العقلية بيوم القيامة لا تكفي للالتزام بخط الطاعة، بل هو بحاجة إلى دخول هذه القناعة إلى وجدانه، وإلى مشاعره، وكل كيانه، لأن هذا هو الذي يُوجد داخل الإنسان رقابة ورصداً من قبل النفس اللوامة على النفس الأمارة بالسوء، ويقيم الموانع القوية أمامها، لكي لا تتسبب بإيقاعه في المحذور. ولو أن نفسه الأمارة غلبته أحياناً، فإنه سوف يندفع للتلافي والتصحيح..

فمجرد سكون النفس لا يكفي، لأنه قد ينشأ عن غفلة، وقد ينشأ عن جرأة، وقد ينشأ عن جهل.. بل المطلوب هو السكينة والطمأنينة بالمعاني ذاتها من خلال العمل بمقتضاها والانصهار بها.. بحيث تكون هي المنشأ وهي المرتكز.. وهذا هو المراد بالنفس المطمئنة، وهو يعني أن القناعة بالقضايا الإيمانية لا بد أن تدخل إلى عمق الكيان الإنساني، وتتحكم بالمشاعر والأحاسيس، وأن توجد الأمل والرجاء، والحب والبغض، وتوجد الخوف أيضاً، فإن الخوف ينتج التحرز، والرقابة والتصحيح، كما أن لأعمال الخير أيضاً، دوراً كبيراً في ترسيخ هذا الإيمان وتعميقه في داخل النفس الإنسانية..

وبذلك نعرف السبب في أنه تعالى، قد بدأ بالحديث عن الخوف، الذي هو انفعال في المشاعر والأحاسيس، التي تتصل بالقلب، المحتضن للقناعة، التي هيأتها له الهدايات الأخرى، مثل الفطرة، والعقل، من خلال الدليل..

فالذين يخافون يوماً كان شره مستطيراً، قد تجاوزوا وقطعوا كل تلك المراحل بنجاح.

وبذلك يتضح: أن الدليل العقلي، والفطري، وكذلك الشرعي في بعض المراحل، يثبت الأمور الغيبية التي هي الركائز الأساسية، مثل: وجود الله وصفاته، والنبوة، والعصمة، وصفات النبي، والحساب، والعقاب، ثم يثبت الإمامة وغير ذلك من شؤون العقيدة.. ويتلقى ذلك القلب بالقبول والرضا، ويحصل له السكون والرضا، ثم تتكون المشاعر والأحاسيس، وتتربى وتنشأ، وفقاً لما رفدها به القلب، حتى تترسخ في عمق وجود الإنسان، وتصبح هي حركاته العفوية، وعينه التي يبصر بها، وأذنه التي يسمع بها. ويكون الخوف من منتجاتها، وتكون الرقابة والرصد، والتحرز والتمنع.. والتصحيح.. والإعداد والاستعداد لكل طارئ..

وهذا الخوف يكشف عن أن كل تلك المراحل قد كانت سليمة، خالية من أي ضعف، قادرة على التأثير. وقد أثرت بالفعل.

بل إن ثبوت وصف الخوف، لهؤلاء الصفوة الأبرار، خصوصاً إذا كان شاملاً لكل موارد احتمال التكليف والمسؤولية.. يجعله في عداد ما يمكن الاستدلال به على عصمتهم الشاملة، خصوصاً إذا انضم إلى سائر الأوصاف المذكورة قبله وبعده، كقوله تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالْنَذْرِ﴾.. وقوله: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ﴾.. لأن ذلك كله يدل على أنهم قد بلغوا في إنسانيتهم أسمى الغايات، وفي إيمانهم أعلى الدرجات.. بل هم قد تجاوزوا حدود العصمة كما سيتضح في شرح قوله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾.. إن شاء الله تعالى..(يَخَافونَ يَوْمَاً):

وقد قال تعالى: ﴿ يَخَافُونَ يَوْمَاً﴾ ولم يقل: من يوم.. فلماذا؟ وما هو الفرق؟!

والجواب هو: أنك إذا قلت: يخافون من يوم، فيحتمل أن يكون خوفهم من أعمالهم، لأجل أن العدل يجري عليهم في ذلك اليوم..

ويحتمل أيضاً: أن يكون نفس اليوم مخيف، من حيث هو زمان، وأن العذاب والمصائب، تكمن في عمق ذاته، وحقيقة وجوده.. تماماً كما يخاف الإنسان من الأسد المفترس، فإن الشر كامن في ذات الأسد. ولا يفرق الأسد بين أحد من الناس، مع أن المخيف في ذلك اليوم هو تلك الأمور الهائلة، التي جعلها الله فيه، مثل نار جهنم وزفراتها، وأهوال يوم القيامة..وهذا كقولك: أخاف من السلطة، فإنه قد يكون لأجل أن في السلطة جبارية، وظلم وتعدٍ، وقد يكون لأجل أنها تجري العدالة، وتأخذ الناس بذنوبهم..

أما نفس اليوم، ونفس المكان، من حيث هو زمان، ومكان، فليس هو الذي يخيف، وإنما الذي يخيف هو ما يوجد فيه، وسيئات أعمالنا، وآثار تلك الأعمال تقرب تلك المهالك إلينا، وتمكنها من النيل منا، حيث تكون سبباً في سقوط الدفاعات، والموانع عنا، وتدمير الحواجز فيما بيننا وبينها..فالتعبير بيخافون يوماً، يبقى هو الأنسب والأقرب، من حيث إن فيه إشارة إلى أنه ليس في حقيقة ذات نفس اليوم ما يخيف..

الخوف من الله! أم من اليوم؟!:

ثم إنه قد جعل الخوف متعلقاً باليوم، فقال: ﴿ يَخَافُونَ يَوْمَاً﴾، ولم يقل: يخافون من الله..

فلعل سبب ذلك هو أن الله سبحانه رحيم بعباده، ولا خوف من الرحيم.. وهو نفسه عز وجل، قد جعل الكلمة التي يطلب الابتداء بها في كل شيء هي: ﴿ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾..

والله تعالى لا يظلم أحداً، فلا معنى للخوف منه، بل الناس إنما يخافون من سيئات أعمالهم التي ستظهر وتتجسد لهم في ذلك اليوم، على شكل عذاب، وحرمان من مقامات القرب والرضا..أما قوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾(19)، فلا ينافي رحيميته، ورؤوفيته.. فإنه إنما جاء لبيان سوء عملهم من حيث إن فيه إظهاراً للاستخفاف بمقام العزة الإلهية، فذكرهم الله سبحانه بنفسه، وأنه لا يعجزه باغ ولا طاغ، وأن بغيهم إنما هو على أنفسهم..

فليس التخويف بذاته سبحانه، من حيث إنه - والعياذ بالله - يبطش بالضعفاء بلا مبرر.. بل من حيث إنه قادر على مجازاة الباغين والطاغين بأعمالهم.

لماذا (يَوْماً).. بتنوين التنكير؟!:

وقد قال تعالى: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً﴾، ولم يقل: يخافون اليوم الذي كان شره مستطيراً، وكذلك لم يقل: يخافون يوم القيامة.

فلعل السبب في ذلك هو أنه أراد التصريح بتنوين التنكير في قوله (يوماً) لكي يعطي المزيد من الرهبة، والتهويل، والتعظيم.. من حيث إن عدم التحديد لأهوال ذلك اليوم، يجعل الذهن يستنفر كل طاقاته، ويذهب كل مذهب في تخيل أوصاف ذلك اليوم، وحالاته، وأهواله، وشدائده.. وهو مناسب جداً لقوله: (كان شره مستطيراً).

مناشىء الخوف:

وإن للخوف بمعنى الانفعال النفساني مناشئ ومحركات مختلفة..

فقد يكون مبعث الخوف هو النفس الأمارة بالسوء، كالذي يخشى فوات فرصة التلذذ بالجنس، فيقدم على الزنى، وقد يكون مبعثه التحرز من التعرض للأذى بعد ارتكاب جريمة مَّا. كالسارق الذي يخاف من انكشاف أمره، وملاحقته بالعقوبة..وقد يكون الباعث على الخوف هو النفس اللوامة.. كمن يخاف من غلبة دواعي الهوى عليه.. مع سعيه للتخلص منها..وقد يكون الباعث له هو النفس المطمئنة التي تبحث عن الخير، وتخاف من فواته منها، كمن يخشى فوات فرصة الحج، أو نحو ذلك..

فالحالة الشعورية التي هي انفعال وخشية نفسانية موجودة في هذه الموارد على نحوٍ واحد..

ولذلك جاء التحديد لمنشأ الخوف لدى الأبرار في الآية الشريفة، حيث قال تعالى: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾..

الذين عبدوا الله خوفاً:

والخوف من عقاب الآخرة، والامتناع عن المآثم، والمبادرة لفعل الواجبات مطلوب ومحبوب لله تعالى..ولكن قد يتخيل: أن أمير المؤمنين (ع) لم يلتزم بذلك، حيث ورد عنه أنه قد ذم العبادة التي تأتي بداعي الخوف والرهبة، حيث ذكر أن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد(20).. وقال (ع): إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك(21).

ولكن الحقيقة هي: أن الخوف الذي نفاه الإمام علي (ع) عن نفسه، دون أن يسجل ذماً صريحاً له، هو الخوف من العقوبة و مواجهة الآلام، بحيث يكون ذلك منشأ وأساساً، وباعثاً على العبادة..

أما الخوف الذي يدعو إلى التحرز، وإلى الهيمنة على النفس، ورصد حركاتها، فإنه قد يكون أيضاً داعياً إلى العبادة.. وقد يكون الداعي لها هو أنه قد وجد الله سبحانه للعبادة أهلاً..

فعبادة الله لأنه أهل لها؛ شيء، والتحرز من تسويلات وتزيينات النفس الأمارة، والاحتياط لها، شيء آخر، فهما أمران يجتمعان ولا يتنافران، كما هو واضح لا يخفى.

(كَانَ) لماذا؟!

قال تعالى: ﴿ كَانَ شَرُّهُ﴾ فلماذا جاء بلفظ (كان)؟

ولماذا أيضاً جاء فعل الكون بصيغة الماضي، لا المضارع..

وقد يكون الجواب على السؤال الأول هو: أن الإتيان بلفظ كان، يهدف إلى التأكيد على تحقق هذا الأمر، وحصوله.. فلا محل للبداء في هذا القرار الإلهي.

ثم أن يفهمنا أيضاً: أن ما يحصل في ذلك اليوم ثابت ومستمر، فليس هو من الأمور التي تتجدد، وتحتاج في تجددها إلى تجدد إرادة، وإلى صدور قرار جديد، وإلى تسبيب أسباب غير تلك التي كانت.

وبالنسبة للسؤال الثاني نقول: إن الإجابة السالفة الذكر قد تكون كافية فيه، إذ إن من المفيد جداً إفهام الناس أن هؤلاء الأبرار يرون ذلك الأمر بهذا المستوى من الوضوح واليقين، وكأنه حاضر لديهم، أو كأنهم كانوا قد مروا فيه، وأن ذلك اليوم، وإن كان شره سيأتي في المستقبل.. لكن لابُدِّية إتيانه هي من الثبوت لهم، بحيث يرون أنه قد تحقق وانتهى، كما أن ذلك يعطي انطباعاً عن مدى اهتمامهم به، وعمق شعورهم بالمسؤولية تجاهه. حتى أصبح بإمكانهم الإخبار عنه..

هذا كله إذا كان الكلام مسوقاً لبيان شعورهم بذلك اليوم، وكيفية ومستوى تعاطيهم معه.. وأما إذا كان إخباراً إلهياً ابتدائياً، لم يلحظ فيه حال أحد، فإننا نقول أيضاً: إنه لا معنى للزمان في علم الله سبحانه، فإن علمه بالمستقبل وحضوره لديه، هو على حد علمه تعالى بما مضى.

وهذا ما ربما يوضح لنا قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(22) جاء بها بصيغة الإثبات، ولم يلحظ فيها واقع الزمان، وأنه في المستقبل، حيث لم يقل سبحانه: إنها ستحيط.. وكذا الحال بالنسبة لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً / وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾(23)، وغير ذلك..

(شَرُّهُ):

وقد قال تعالى: ﴿ كَانَ شَرُّهُ﴾.. فعبّر بالشر، ولم يقل: عذابه مثلاً، أو مصائبه، أو نحو ذلك.

ولعل سبب ذلك هو أنه قد يفهم من كلمة (عذاب) خصوص الأذى الذي يتعرض له الجسد.. وقد يفهم من كلمة (مصائب) ما ينال الآخرين ممن لهم تعلق بصاحب المصيبة، أي أن المصيبة تقع في غيره، ويتألم هو لأجلهم.. ولا أقل من أن ذلك محتمل في مثل هذه الموارد وهذه الاحتمالات لا ترد في كلمة (شر)، فهي تجمع بين جميع أنواع المساءات، الجسدية منها والمعنوية، والروحية سواء أكانت تقع على الإنسان نفسه، أم تلحقه بسبب غيره. ولذلك كان اختيار هذه الكلمة متعيناً في هذا المورد..(وَيَخَافونَ يَوْماً.. فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ): وقد يلاحظ هنا: أنه تعالى قد ذكر أنهم يخافون من اليوم ذي الشر، ولكنه عاد فعبر في الآيات التالية بقوله: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾. فالخوف من اليوم الذي فيه الشر، لكن الوقاية تعلقت بالشر مباشرة، فلماذا هذا التنوع في التعبير يا ترى؟!

ونقول: لعل سبب هذا التنوع التعبيري هو: أن الذي لا بد أن يواجهه الأبرار هو نفس ذلك اليوم.. ولكن ليس بالضرورة أن ينالهم شره، إذ إنهم قد يتمكنون من التحرز من شروره بالأعمال الصالحة، أو بوقايةٍ منه تعالى لهم، قد استحقوها.

فهم يخافون يوماً قادماً عليهم، ويعرفون أن فيه شروراً ومحاذير. ولكن ليس بالضرورة أن يلحقهم من تلك الشرور شيء بسبب وقاية الله تعالى لهم منها. فلا محذور في التعبير هنا بقوله: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً﴾.. ثم يقول تعالى: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾..

(مُسْتَطِيرَاً):

ثم إنه تعالى يصف ذلك الشر بقوله: (مُسْتَطِيرَاً) أي يتطلّب أن يطير، وأن ينتقل من مكان إلى مكان.. وهذا التعبير يشير إلى سرعة في الانتقال من جهة..

وإلى تطلُّب هذا الانتقال، والسعي إليه، من جهة أخرى..

ولعل هذا التطلُّب للانتقال السريع، إلى حد الطيران، والذي جاء من دون تحديد للمكان الذي ينتقل إليه، يدل على:

أن الانتقال سيكون في كل اتجاه..

وأنه لا معنى للتنبؤ به..

وأنه ليس مما يخضع للسيطرة من خلال ذاته..

وأنه لا يمكن التنبؤ بالمواقع التي يطير إليها..

وأنه يصل إليها بسرعة فائقة..

وهذا بلا شك يثير الخوف الحقيقي من يوم يكون هذا حال الشر فيه، فإن الشر غير محدد النوع، كما أنه لا مجال للشعور بالأمن في ظروف كهذه.. لأن توقعه صعب، فلا يعرف متى يصل ومن أي جهة يأتي، ولا أين يحل..

والخوف من أمر كهذا. يتطلب درجة عالية من الحذر، كما أنه يحتاج إلى إعداد قوي، ومتنوع الاتجاهات، بحيث يستطيع أن يواجه جميع الاحتمالات..

كما أنه يجب أن لا يقتصر على أنواع معينة من القدرات، في ماهيتها، وفي كيفياتها، وفي تأثيراتها، فإن جميع الأنواع يجب أن تكون حاضرة، وقادرة، ومؤثرة، وفاعلة..

فليس الخوف هنا مجرد خشية قلبية، بل هو يحمل معه: الحذر العملي، والرصد، والممارسة، والتحصن، والاستعداد.

وفي المقابل فإن استطارة هذا الشر، وقدرته على الانتشار، وعدم التحكم به والسيطرة عليه، إنما يستند إلى أسبابه وعلله. فإن كونه كذلك لم يكن على سبيل العبث، والصدفة. بل له مكوناته، ويعتمد على مؤثرات أوجبت ذلك فيه.. لأن الشر ليس من خصوصيات ذات ذلك اليوم من حيث هو زمان. بل هناك مثيرات له، ومحركات، ومؤثرات فيه، هي التي أوجدته، وحركته، وأعطته خصائصه تلك التي أشرنا إليها.

ومن هذه المؤثرات والمثيرات نفس أفعال الإنسان في هذه الدنيا. كما أنه سبحانه حتى حينما أوجد جهنم ليعاقب بها العصاة، فإنه قد أعطى للبشر وسائل الوقاية منها..فالبشر كلهم سوف يمرون من فوق جهنم، ولكن هناك من تهيء له أعماله مناعة منها، وحصانة تجاهها، وهناك من يبقى بدون دفاع، وليس له من دونها قناع، بل تجعله أعماله أكثر قابلية للتفاعل مع تلك النار، وبحساسية بالغة أيضاً..ولأجل ذلك عبر تعالى بكلمة: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾.. أي أوجد ما يحجز عنهم ذلك الشر، ويمنعه من الوصول إليهم. ولم يقل تعالى: إنه قد أزال الشر، وأبطل وجوده.. كما أنه لم يقل: وقاهم من شر، لأن هذا التعبير إنما يعني أن الشر آت إليهم، وهو قد منعه من الوصول إليهم، وحال بينهم وبينه..

وذلك يستبطن أمراً باطلاً، وهو: أن ثمة معاص لدى الأبرار، اقتضت وصول الشر إليهم، لكن التفضل والعفو الإلهي قد حال دون ذلك..مع أن الله تعالى لا يريد ذلك جزماً..

ولذلك قال: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾، دون أن يأتي بكلمة (من) إذ إن أعمالهم لم تتسبب في إثارة الشر. ولم توجد أسباب استطارته، بل إن ورعهم وتقواهم قد منع من توجهه إليهم من الأساس. فهو لا يصل إلى مكان وجودهم، ولا يطير إليها. فهم محفوظون منه بأعمالهم، بل إن أعمالهم هي التي تخمده وتزيله، وتطفىء ثائرته.


1- سورة الملك الآية30.

2- سورة الواقعة الآية71.

3- سورة الواقعة الآية72.

4- سورة الواقعة الآية58.

5- سورة الواقعة الآية59.

6- سورة الواقعة الآية63.

7- سورة الواقعة الآية64.

8- سورة الواقعة الآية68.

9- سورة الواقعة الآية69.

10- سورة المائدة الآية55.

11- سورة يوسف الآية 59.

12- سورة الرحمن الآية9.

13- سورة القيامة الآيات3/5.

14- الغدير ج7 ص359 وتاريخ الطبري ج2 ص67 والبداية والنهاية ج3 ص63 والسيرة النبوية لابن هشام الحميري ج1 ص172، والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص474.

15- سورة الرعد الآية28.

16- سورة البقرة الآية 260.

17- سورة القيامة الآية2.

18- سورة القيامة الآية1.

19- سورة آل عمران الآية28.

20- نهج البلاغة ج4 ص53، الكافي ج2 ص84 , وعلل الشرائع ج1 ص12، والخصال ص188، وسائل الشيعة ج1 ص63 ط مؤسسة آل البيت.

21- بحار الأنوار ج41 ص14 وج67 ص186.

22- سورة التوبة الآية49.

23- سورة المعارج الآيتان 6/7.