الفصل الخامس.

الفصل الخامس.

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾.

إِنَّ الأبْرَارَ.

وبعد أن بين سبحانه ما أعده للكافرين من سلاسل، وأغلال، وسعير..

واستبدل الحديث عن الشاكرين، بالحديث عن الأبرار. وهنا سؤالان:

الأول: ما المقصود بالأبرار؟!

الثاني: لم استبدل الشاكرين بالأبرار؟!..الجواب: إننا بالنسبة لهذين السؤالين نقول: إن كلمة الأبرار جمع (برٍّ) و (بار). وهي تستعمل في المعاني التالية: الصادق، المطيع، المحسن، الواسع، الصالح، القاهر.

وليس بالضرورة إرجاع هذه المعاني إلى معنى واحد، فإن وضع العرب اللفظ الواحد للمعاني المتضادة، أمر شائع، مثل كلمة: (جون) التي تقال: للأسود والأبيض، وكلمة: (قرء) التي تقال: للطهر وللحيض في المرأة وغير ذلك.

وفي جميع الأحوال نقول: إنه لكي يصدق على البار أنه بارّ، لا بد أن يصدر عنه فعل البر بقصد واختيار، بأي معنى استعملت كلمة البر..وبهذا القيد الأخير يعرف الفرق بين البر، وبين الخير. فإن الإنسان قد يفعل الخير، ولكن من دون قصد إليه، بل يتخيل أنه شر، أو أنه ليس متصفاً بالخيرية، ولأجل ذلك تجده تعالى يقول: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾(1).

وإذ قد اتضح لنا المراد بالبر، فإنه يتضح لنا الجواب على السؤال عن سبب استبدال كلمة الشاكرين، بكلمة الأبرار.

فإن كلمة شاكر خاصة بمعنى من ظهر منه العرفان بالجميل، كردة فعلٍ طبيعية تجاه المنعم، فيبادر إلى فعل ما يظهر حالة الشكر هذه..

لكن كلمة الأبرار تستبطن كل هاتيك المعاني الواسعة في دلالتها، وفي إيحاءاتها..وبذلك يتضح أيضاً: لماذا لم يعبر بكلمة (المؤمنين) بدلاً من كلمة (الأبرار)، إذ قد لا يفهم من هذه الكلمة سوى حالة واحدة، هي الإشارة إلى الحصول على حالة الأمن في ظل اعتقادٍ بعينه، وهو معنى قد حشر في زاوية صغيرة ومحدودة.. وبذلك ينحسر المعنى عن الآفاق الرحبة التي تتولى كلمة الأبرار الكشف عنها، والدفع إليها.. انسجام المعاني.. مع الآيات: فاتضح: أن كلمة الأبرار تستبطن معانٍ واسعة لها أهميتها البالغة، ولها ارتباط وثيق بمعان وصفات ومزايا تريد الآيات التالية أن تؤكد عليها.

وهي كما قلنا ستة معان، مشروطة أيضاً بالقصد والاختيار، فهي تشير إلى معنى القاهرية، الذي يلمح إلى قهر الإنسان للشيطان، ولجم نفسه الأمارة بالسوء، والسيطرة عليها، وكبح جماح الشهوات، والغرائز والرغبات، وذلك معناه: أن هذا الإنسان يملك قوة، وعزيمة، وإرادة، وحرية اختيار، ومبادرة عملية.

وصفة الصالح التي تذكر في جملة معاني البر، تشير هي الأخرى هنا إلى صلاح الفاعل، وأنه متوازن في نفسه، منسجم مع ما يؤمن به من معان وقيم، ولا يدخل مداخل السوء، بل هو يصلح الخلل في كل مورد يدخل فيه، تربوياً كان أو اجتماعياً، أو سياسياً، أو غير ذلك، لأن دخوله هذا يكون في موقعه..

واللافت هنا: أن من الأمور التي تظهرها الآيات القرآنية، هو: أن الصلاح هو المرتكز والأساس الثاني بعد مرتكز الإيمان..وهذا ما يفسر لنا السبب في أن الله سبحانه يقرن بين الإيمان وبين العمل الصالح في مختلف الموارد. والعمل الصالح هو ذلك الذي يأتي في محله وفي موقعه المناسب، بحيث يوجب فقدانه منه خللاً فيه..أما صفة الواسع، التي هي معنى آخر لكلمة (البر)، فهي تعني هنا رحابة الأفق، والوعي الشامل، وسعة الصدر، وفتح القلب للغير، والقدرة على استيعاب الآخرين، وعلى التعامل معهم، فلا انغلاق ولا انطواء، وليس ثمة من قيود أو حدود لميزاته وصفاته: في روحه، وفي عقله، وفي أخلاقه، وفي كل خصائصه الإنسانية.

والمطيع أيضاً يحمل هنا معنى العبودية لله سبحانه، والطاعة له، والانسجام معه، على أساس ما يملكه من معرفة عميقة بكماله المطلق سبحانه، وبالحاجة الحقيقية إليه تعالى..أما الشاكرية فهي تعني الشعور الحقيقي بالنعم، والألطاف، والعنايات الربانية. وهذا يحتاج إلى التحمل، والصبر والمكابدة، ثم هو تعبير صادق عن الإيمان الحقيقي، والوفاء، والرجاء، والخوف من يوم كان شره مستطيراً..والإطعام الذي ظهر منهم هو من مظاهر الشكر من جهة، ومن مظاهر البر بجميع معانيه من جهة ثانية، وبذلك يكون تعالى قد أشار إلى جميع المعاني والجهات المفترضة والمطلوبة..والمحسن، وكذلك سائر الصفات التي ذكرت لكلمة (البر) تحمل في طياتها معاني السماحة والكرم، والإيثار والشعور بآلام الآخرين، والزهد.

وأخيراً، فإنه قد ذكر في جملة تلك المعاني كلمة الصادق، وهو معنى هام جداً، وله دلالاته المختلفة في تأكيد صحة ما سيخبر به الأبرار في قصة إطعامهم للطعام..وتلك المعاني كلها تجدها، أو تجد ما يعبر عنها، أو ينطلق منها، أو ينتهي إليها في آيات السور المباركة التي تتحدث عن الأبرار، وما قاموا به، وما أعده الله سبحانه وتعالى لهم..

فكلمة الأبرار تعني القاهرية. والأبرار من خلال قاهريتهم، ومن موقع اختيارهم وإرادتهم يفجرون عيون الخير تفجيراً، وهم أيضاً يفعلون ذلك من خلال عبوديتهم له تعالى﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ﴾ لا لأجل دنيا، ولا لأجل الانقياد لغريزة أو غيرها..ثم إن كلمة الأبرار تستبطن السيطرة على النفس، إلى درجة عدم الاستجابة لرغبتها الشخصية، وتقديم مصلحة الغير على مصلحتها، لأنهم: ﴿ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾..

كما إن من معاني البر (المحسن)، فالآية إذن تستبطن الإيثار، والكرم، والإحسان، لأنهم يطعمونه، لا طمعاً بمكافأة، بل انقياداً لله، وطاعة له..وهم يفعلون ذلك بوعي، وعن قصد واختيار، كما تفيده كلمة الأبرار - كما أسلفنا..وهم يخافون يوماً عبوساً قمطريراً، أو كان شره مستطيراً..

وهم مسيطرون على شهواتهم، وقاهرون لأنفسهم، وللشيطان.. في ميلها وحبها للطعام، بسبب حاجتها له، وهو أيضاً من وسائل قربهم إلى الله تعالى، فهم لا يأكلون استجابة لشهواتهم، بل لحفظ أنفسهم، وهو واجب عليهم، وللتقوِّي على الطاعات، وهو محبوب لله أيضاً..وهم يوفون بالنذر، وهذا ما تستبطنه كلمة الأبرار، لأنهم صادقون..إذن فكلمة البر تستبطن جهات عديدة:

منها ما هو إنساني..

ومنها ما هو اجتماعي في مجالات التكافل، والشعور مع الآخرين.

ومنها ما هو إيماني.. كالخوف من اليوم الآخر..

ومنها ما هو داخل في التكوين النفسي، وقوة الشخصية وسيطرة الإنسان على نفسه وعلى شهواته..

ومنها ما يتعرض للحالة الأخلاقية..وكل ما ذكرناه يدلنا على أنه لا مجال لاستبدال كلمة الأبرار بأية كلمة أخرى أبداً، وذلك لما تحمله من إشارات، ودلالات، وإيحاءات، لا توجد في أي كلمة سواها..استعمال المشترك في أكثر من معنى: ولعلك تقول: إن هذا الكلام في بيان سبب اختيار كلمة (الأبرار) يبتني على إمكانية استعمال المشترك في أكثر من معنى، وقد نفى ذلك صاحب كتاب كفاية الأصول، وغيره، على اعتبار أن الاستعمال هو لحاظ اللفظ فانياً في المعنى، وبعد أن فنيَ في المعنى الأول، فيستحيل لحاظه فانياً في غيره في آن واحد، وفي استعمال واحد.

ونقول في الجواب..

أولاً: إن تفسير الاستعمال بذلك غير ثابت، بل ربما يكون خلافه هو الأصح، أو أنه - على الأقل - هو الأرجح..

ثانياً: إن الوقوع أدل دليل على الإمكان، ونحن نرى: أن العرب يستعملون التورية في محاوراتهم. والتورية هي القصد إلى معنى، مع إرادة إفهام السامع معنى آخر منه، وقد يكون المراد إفهام كل فريق معنى، يختلف عما يراد إفهامه لفريق آخر.

فمن الثاني: ما ذكروه من أن بعضهم أجاب على سؤال: من كان الخليفة بعد الرسول (ص)، بقوله: من كانت ابنته تحته(2)..

فالسني فهم أن الخليفة هو أبو بكر، لأن ابنته كانت تحت رسول الله (ص). والشيعي فهم أنه الإمام علي (ع) لأن ابنة الرسول (عليها السلام) كانت زوجة للإمام علي (ع).

ومن الأول: ما روي عن الإمام الصادق (ع)، حين سئل عن الهلال، فقال (ع): ذاك إلى الإمام، إن صام صمنا، وإن أفطر أفطرنا..

وحين طلب معاوية من عقيل أو من غيره: أن يلعن علياً على المنبر، قال: ألا إن معاوية قد أمرني بلعن علي بن أبي طالب، ألا فالعنوه. وأمثال ذلك كثير..

ثالثاً: إن دلالة كلمة الأبرار على معانيها، لا يجب أن تكون بنحو استعمال المشترك في المعاني المتباينة، بل قد تكون الدلالة من خلال وجود حالات وخصوصيات للفظ تمكنه من تحمل المعاني المختلفة..

كما أن من الممكن إرجاع العديد من المعاني إلى معنى أوسع، يصلح للانطباق عليها جميعاً، كل في موقعه، وهو ما يعبر عنه بالقدر المشترك، الذي تتعاقب عليه، أو حتى تلتقي فيه الخصوصيات المختلفة، بل المتباينة..

يَشْرَبُونَ.

واللافت هنا: أن الله سبحانه حين ذكر جزاء الأبرار بدأ بالشراب، لا بالقصور، ولا بالأشجار والأنهار، ولا بغير ذلك من أنواع الفاكهة، والمطعومات، ولا غير ذلك من النعم المختلفة.

ولعل سبب ذلك هو ما ثبت من طرق السنة والشيعة، من أن أول علامات النجاة في يوم القيامة، هي الشرب من حوض الكوثر، من يد إمام الأبرار، وقسيم الجنة والنار، الإمام علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، وذلك هو المنقذ في يوم العطش الأكبر(3)..وبالمناسبة، فإن البشارة التي بشَّر بها علي الأكبر أباه، حين استشهاده هي قوله: (هذا جدي رسول الله (ص) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها)(4)، أو بقوله: (إن لك كأساً مذخورة)(5).

ومن جهة أخرى: فإن بعض الروايات تذكر: أن آخر ما يحاول فيه إبليس أن يضل به الإنسان هو: أنه حين يحضره الأجل يعطش عطشاً شديداً، فيعرض عليه إبليس قدحاً من ماء، ويقول له: (إن سجدت لي أسقيك منها، فإذا سجد له، لم يسقه أيضاً منها، ويموت كافراً)..

مِنْ كَأسٍ.

ثم إنه قد جاء التعبير في الآية بكلمة (كَأسٍ) دون كلمة قدح، أو ك-وب. ثم إنه قال: ﴿ مِنْ كَأسٍٍ﴾، ولم يقل بكأسٍ.. فلماذا يا ترى كان ذلك؟

وللإجابة على ذلك نقول: يقول أهل اللغة: إن القدح قد يكون مملوءاً، وقد يكون فارغاً. وكذلك الكوب. أما الكأس، فلا تكون إلا مملوءةً، فلا يقال: أعطني كأساً فارغة مثلاً..وذلك يوضح لنا: أن اختيار كلمة (كَأس) إنما هو لأجل بيان حالة الوجدان المستمر والدائم لما يشربونه، فهي دائمة الاتصاف بكونها ك-أساً..وبذلك يكون تعالى قد جعل الأبرار يعيشون:

1. لذة الشرب..

2. لذة الطمأنينة إلى وجدان مشروبهم..

3. لذة استمرار وجدانهم له.

فما دامت الكأس موجودة، فلن يواجههم عطش بعد الآن، فتتوافق اللذة القلبية الشعورية مع لذة الحس بالمشروب، وموافقته للمطلوب..وبهذا يتضح أيضاً سبب التعدية بـ (من) لا بـ (الباء)..فأولاً: إن الباء في مثل هذه المواضع يفهم منها أن في مدخولها معنى الآلة والوسيلة لإيصال الشارب إلى مشروبه، وذلك معناه: أن الوسيلة والآلة شيء، وما يراد التوسل بها إليه ليس موجوداً فيها بالفعل، بل هي فاقدة له، مع أن كلمة (كأس) تشير إلى حصول الامتلاء لها، وأن ما يريده الشارب موجود فيها فعلاً. فالإتيان بالباء لا يصلح هنا، إذ قد يتوهم من الباء، ما يتنافى مع إرادة التطمين بوجود المقصود كما أشرنا..

ثانياً: إن كلمة (من) تفيد التبعيض، ففيها إيحاء، بأن المشروب لن ينفد من ذلك الكأس، بسبب الشرب منه، مهما تعدد هذا الشرب، أو تواصل.. فهي دائمة الاتصاف بكونها كأساً.. ودائمة الاحتواء على ما يشرب، ما دام أن ما يشرب هو بعض ما فيها، حسبما أفادته كلمة (من) التبعيضية..(كَانَ مِزَاجُهَا): أما لماذا جاء بكلمة (كَانَ) في قوله ﴿ كَأسَاً كَانَ مِزَاجُهَا﴾، مع أنه كان يمكن أن يقول: (كأساً مزاجها).

فقد يقال: إن السبب فيه هو أن تصير كلمة (كافوراً) منصوبة، مراعاة للناحية الجمالية، الناشئة عن التناسق الظاهر من رعاية القافية في الآيات السابقة واللاحقة..

غير أننا نقول: إننا لا نمانع في أن تكون الناحية الجمالية مقصودة أيضاً، لما لذلك من تأثير في الراحة النفسية للقارئ والسامع، ولغير ذلك..

ولكن ليس ذلك هو كل السبب، إذ لعل السبب الأولى والأهم هو أن كلمة (كان) تدل على الكينونة والتحقق. ولا شك أن إفهام هذه الكينونة للأبرار، ومن يريد الله تعالى أن يهديهم سبيل الأبرار مطلوب ومحبوب، أي أنه يريد أن يقول لهم: إن هذا المزاج ليس أمراً عارضاً، يمكن أن يزول ويتخلف، بل هو أمر داخل في كينونة تلك العين، وفي عمق حقيقة ما يحويه ذلك الكأس..ولأجل ذلك جاءت كلمة (عيناً).. لتؤكد على أن هذه الكأس لا تقبل النضوب، بل هي عين تتفجر، والمزاج الكافوري داخل في حقيقة تلك العين، وتلك الكأس، وفي كينونتها ووجودها..وكلمة (كان) هنا.. هي نظير كلمة (كان) الواردة في قوله تعالى: ﴿ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً﴾، حيث تفيد ثبوت ذلك وتحققه بصورة لا تقبل التغير والتبدل.

مِزَاجُهَا كَافورَا.ً

ويبقى سؤال: لماذا قال: (مزاجها كافوراً)، ولم يقل: (مزجت بكافور).

ويمكن أن يكون الجواب هو إرادة بيان هذه الكينونة، والأصالة، والثبات للمادتين الممتزجتين، وأن المزاجية أيضاً قد جاءت في أصل التكوين والنشأة..

ولو أنه قال: مزجت، لكان المزج عارضاً على أمرين كانا منفصلين بالأصالة، وليس للتمازج أصالة في نفسه. مع أن المقصود هو بيان أن التمازج أصيل في نشأة هذه الحقيقة القائمة فيما يشربونه من هذا الكأس.

والخلاصة: أن المراد هو إفهامنا: أن الأصالة للمزاج وللممزوج، وليست للممزوج وحده..وأما السؤال عن السبب في أنه يريد بيان هذه الأصالة لكلا الأمرين؟!.

فتتضح الإجابة عنه من خلال وضوح السبب في اختيار الكافور هنا، والزنجبيل فيما يأتي..

كَافورَاً.

ويلاحظ أنه تعالى قد ذكر الكافور هنا، دون الزنجبيل الذي ذكره في آية ستأتي..

ولعل سبب ذلك هو: أن للكافور خصوصية تناسب حياة الأبرار في هذه الدنيا، وللزنجبيل خصوصية تتناسب مع اعتباره جزاءً للأبرار في الآخرة..إذ إن للطيب المسمى بالكافور خصوصيات، ويرمز لأمور يحسن للأبرار اختيارها، والتحلي بها، لأنها تناسب حالة البر فيهم.

فالكافور طِيبٌ طَيّب الرائحة، يبعث في النفس نشوةً وارتياحاً..ومن خصوصياته: أن فيه صفة البياض والنقاء..

وهو يرمز إلى الطهارة والصفاء.

ومن خصوصياته: أنه يطغى على كل ما عداه، ويهيمن عليه، فلا مجال لما هو كريه، ومؤذ، بل لا بد له من أن يتلاشى ويختفي..ومنها: أنه كافور، أي قادر على أن يغطي، ويطمس، ويخفي كل ما لا يكون مناسباً، وكل ما هو مكروه ومنفر..وهو يهيمن حتى على بعض الغرائز، ويقهرها، ويضعف من طغيانها، حيث يقال: إن له بعض الأثر في الغريزة الجنسية..وفيه أيضاً صفة البرودة، التي قد يقال: إنها ترمز إلى حالة الهدوء والتأمل والتعقل..وكل ذلك يرمز إلى حالات نفسية، وصفات ومزايا يرغب بها الأبرار، ويسعون إليها، بحسب المعاني المتكثرة التي تختزنها كلمة: (الأبرار) حسبما ألمحنا إليه فيما سبق.

ولكن ذلك كله في الحدود التي رسمها الله لعباده، من دون ابتداع في الدين لما لم يكتبه الله على الناس..والأبرار هنا هم الذين يشربون، أي يختارون الشرب من كأس مزاجها كافوراً، كما يختارون سواه، مثل أنهم يوفون بالنذر، ويطعمون الطعام، ويخافون، و.. الخ.

فكلمة (يشربون) كأنها تشير إلى معنى كنائي عن دخول الإيمان والإخلاص والتقوى، والعمل في عمق وجودهم، فهو كما يقال: شرب كأس الموت، وشرب كأس العلم، وما إلى ذلك..فهي عين لا تنضب، بل تستغرق كل وجودهم، وتفجر فيهم الطاقات الإنسانية، تفجيراً، كما سيأتي.

حذف متعلق الشرب.

وربما يمكن تأييد أن الحديث إنما هو عن فعل الأبرار في هذه الدنيا، بأن المتعلق للشرب لم يذكر في الآية. فلم يقل: يشربون أي شيء!! فهل يشربون ماءً ممزوجاً بالكافور؟ أم يشربون لبناً، أم عسلاً، أم ماذا؟!

وربما يكون ذلك لإفساح المجال لفهم ذلك المعنى الكنائي المستوعب، لكل ما تقتضيه صفة الأبرارية، التي تتسع للعديد من المعاني، وتكون معاني الأبرارية فيهم هي التي جعلتهم يفجرون تلك العين تفجيراً عظيماً..المزاج متأصل في عمق الذات: وإذا تابعنا المعنى في سياقه الكنائي هذا، وتجاوزناه إلى كونه قادراً على الإلماح إلى المعاني التي يراد الإيحاء بها إلينا على سبيل التعلم والإرشاد لكونها ممكنة في حقنا، وإن كانت غير متصورة في حق الأبرار، وهم الأئمة الأطهار عليهم السلام، فإذا تابعنا المعنى في هذا السياق فإنه يصبح بإمكاننا تصوره حقيقة كامنة في داخل وجود البشر وذواتهم.. فنتصور النفس الأمارة، التي تسعى في العادة لإثارة روائح كريهة، قد أصبحت أسيرة النفس اللوامة، ويهيمن عليها العقل، والشرع، والفطرة الهادية، وغير ذلك من وسائل الهداية، التي أصبحت بمثابة الكافور الذي يهيمن على وجودهم كله بروائحه الطيبة والذكية، والقاهرة والقوية، ويبعث في النفس طمأنينة وسكوناً، وبرداً، وهدوءاً، يحجزها عن التوثب لما هو حرام، وتحتفظ - من ثم - بحالة النقاء والصفاء، والطهارة، التي تتجلى للناس طيبا كافورياً، رائعاً وقوياً..وتصبح النفس الأمارة مع الكافورية في عناق، وفي انسجام، وتمازج حقيقي، وتصير أمارة بالصلاح وبالخير وبالتقوى، بعد أن كان من المفروض أن تكون على ضد ذلك، وتتحول بذلك هي والنفس اللوامة إلى بركان يفجر ويثير كل كوامن الخير والصلاح في تلك العين الغزيرة، ويفجرها تفجيراً قوياً بوسائل قادرة على هذا التفجير..وهذه الأصالة الحقيقية، والتمازج الراسخ، والنابع من عمق الذات، يجعل كل قوى النفس: من غريزة، وطموح، وميزات وصفات - يجعلها - طافحة بالخير، وتمثل طاقة وعنفواناً له، وثورة فيه، وتصبح كل هاتيك الغرائز والطموحات يهيمن عليها كافور النفس اللوامة، مغمورة به، يتعاونان على إنتاج المزيد من النقاء، والطهر، والخلوص، والصفاء..الأبرار.. وعباد الله: ثم إنه تعالى قد عبر أولاً بالأبرار، ثم ساق الحديث باتجاه عباد الله، فقال: ﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ﴾..وربما يكون ذلك - وحده - مبرراً للاعتقاد بأن المراد بالأبرار في الآية، موجودات عالية جداً، تجلت بهم صفات البر بصورة حقيقية وتامة، فاستحقوا هذا المقام المحمود.. وهم خصوص أهل البيت (ع) الذين لا بد أن يكونوا الأسوة والقدوة للناس جميعاً.

والحقيقة هي: أن أبرارية أولئك الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم، كانت هي الطريق الذي أوصلهم إلى درجة العبودية الحقيقية، التي هي أسمى مقام، وأشرف وسام.. كما أشرنا إليه أكثر من مرة..

فالعبودية بالمعنى الأتم، قد تجلت في النبي الأكرم (ص)، في أهل بيته الأبرار الأطهار عليهم الصلاة والسلام..

وهذا يعطينا: أن الآية لا تريد فقط أن تحدد الأسوة والقدوة للناس.. وإنما تريد أن تقول أيضاً: إن الأبرارية قد أوصلت الأبرار إلى مقام العبودية..وأخيراً نقول: إنه تعالى قد تحدث عن فعل الأبرار بصيغ تناسب الحياة الأخروية. فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً / عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾.. وذلك لكي يجسد لنا مدى فاعلية وتأثير تلك الصفات، ومدى أهميتها، وحسنها، وخلوصها.. ليدفعنا إلى سلوك طريقهم، والالتزام بنهجهم، والاهتداء بهديهم، والاقتداء بهم..اختلاف سياق الآيات:

والذي يقرأ آيات هذه السورة يجد أن السياق قد اختلف في بيان النعم الإلهية للأبرار..فهو حين ذكر صفات أفعال الأبرار، لم يذكر أي نعمة، إلا نعمة الشرب من عين كان مزاجها كافوراً.. كما أنه قد اعتبر أن هذا الشرب هو فعل للأبرار، يمارسونه باختيارهم وبإرادتهم.. وأنهم هم الذين يثيرون العين التي يشربون منها، ويفجرون ماءها تفجيراً..وهذا السياق منسجم تماماً مع السياق الذي بيّن به صفات أفعالهم في الدنيا..وكأنه يريد أن يقول لنا: إن هذا الشرب، وإن كان أخروياً، لكنه لم يأت على سبيل الجزاء، وإنما جاء تجسيداً لفعلهم في الدنيا، فهو شبيه بفعل المطاوعة الذي هو نتيجة الفعل من الفاعل، كما في قولك: كسرته فانكسر، أو لويته فالتوى، ونحو ذلك..ولأجل ذلك، نسب الشرب إليهم، وأنه.. بفعلهم واختيارهم، ثم ذكر أن ما يشربونه يكون مزاجه من جنس الكافور. أما الذي سوف يعطى لهم على سبيل الجزاء، فهو من جنسٍ آخر، وهو الزنجبيل، وسيأتي إن شاء الله الحديث عن الفرق بينهما، وعن سبب اختيار (الزنجبيل) بالذات..للتوضيح والبيان:

ولكي تتضح الخصوصية التي أراد الله سبحانه أن يفهمنا إياها من خلال التبديل السياقي للآيات، نقول: إنه تعالى حين أراد أن يصف حالهم وأعمالهم قال: ﴿ إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأس كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً / عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾.

﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾.

﴿ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً..﴾.

﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً / إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً / إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾.

وحين جاء دور الجزاء الإلهي لهم، نجد السياق يتغير، فهو تعالى يقول:

﴿ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾.

﴿ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾.

﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾.

ويقول أيضاً:

﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾.

﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا﴾.

﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً..﴾.

﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ..﴾.

ويقول سبحانه: ﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً / عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً﴾.

فلم يقل: يشربون. بل قال: ﴿ يُسْقَوْنَ﴾، فنسب الفعل لغيرهم.

ولم يقل: بكأس. ولم يقل: كافوراً. كما أنه، وإن كان قد وصفها بأنها عين، ولكنه لم يذكر تفجيرها من قبل الأبرار..ثم إنه تعالى يتابع بيان ما يجزيهم به.. إلى أن يقول: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾.

وذلك كله يفيد: أن ثمة معان، وخصوصيات معينة، يريد الله سبحانه لنا أن نتوجه إليها، لأنها ذات قيمة وأهمية تفرض علينا أن نثقف أنفسنا بها.

كل ما في القرآن مهم لنا.

وملاحظة أخرى نسجلها هنا هي: أن نفس اختيار الله سبحانه من الأواني ما هو من الفضة، ومن الأكواب ما هو قوارير، ومن العين ما يسمى بالسلسبيل.. يؤكد لنا على حقيقة: أن ثمة معان دقيقة يريد لنا أن نتلمسها، ومقاصد هامة يريد لنا أن ننالها، وغوامض يريد لنا سبر غورها، وأن ثمة أسراراً لا بد من الوصول إليها.

وحيث إن الحديث قد بلغ بنا إلى هنا، فإنني أحب لفت النظر إلى أمر هام، هو: أن البعض قد يدَّعي: أن أمثال هذه الأمور التي نتوقف عندها ليست بذات أهمية.. ثم هو يحاول التشنيع علينا بالقول: إن الغربيين قد وصلوا إلى القمر، وفقهاؤنا وعلماؤنا لا يزالون يبحثون في أحكام الحيض والاستحاضة..

فلماذا ندقق في المراد من الأرائك، ولماذا نبحث عن السلسبيل، وعن القطوف الدانية، وعن الأكواب من فضة، وعن عرش بلقيس، وعن الطوفان، وعن صنع السفينة، وعن قصة الهدهد، وعن آية تحريم ما حرمه النبي (ص) على نفسه يبتغي مرضاة أزواجه، وعن الحيض، وعن شكوك الصلاة، وعن الاستئذان قبل صلاة الفجر، وعن آية الدين التي هي أطول آية في القرآن.. إنه يقول: إن البحث عن ذلك وعن نظائره: لا يجدي، ولا يفيد شيئاً.

وأن اللازم هو البحث عن الإسلام السياسي، وعن النظرية الاقتصادية الإسلامية، وعن دور المرأة في السياسة، وعن ديمقراطية الإسلام، وعن العولمة، وعن حركة الأرض، أو حركة الشمس، وعن.. وعن..

ونقول: إن هذا كلام باطل جزماً، ولا يحق لأحد أن يطلق مثل هذه الدعاوى، التي تستبطن الاعتراض على الله سبحانه.. فإنه إذا كان الله سبحانه يريد أن يفهمنا هذه الأمور، وإذا كان الرسول هو الذي ذكر لنا ذلك كله، وغيره حتى أحكام الحيض وغيرها، فإن الله ورسوله أعلم بما يصلحنا، وإن البشر أذل وأحقر من أن يعترضوا على مقام العزة، والجلال، والعظمة الإلهية، وعلى ساحة قدس الرسول الأعظم (ص)..على أن من البديهي: أن أحداً ممن يسعى لكشف الحقائق القرآنية وغيرها، لم ينكر لزوم ممارسة جميع العلوم النافعة الأخرى أيضاً.. ولكن بشرط واحد، وهو حفظ التوازن ومعرفة الناس لأحجامهم، ولحدودهم، فلا ينصبون أنفسهم آلهة، ويحكمون بدون روية، ومن دون علم، في أمور يقول خالق الكون والحياة، والحكيم العليم، والبصير الخبير، إنها ضرورية، وهامة، وحساسة، ولا بد منها، ولا غنى عنها..

علماً أنه حتى الثقافة الدينية أيضاً، لابد أن تكون متوازنة وشاملة للأخلاق، والعبادات، والتفسير، والحديث، والأحكام، الخ.. فإنه لا يغني شيء عن شيء، فكل شيء لا بد منه في موقعه، إذ إن الإخلال به، فيه إدخال للنقص على موقع يفترض أن يكون على غير تلك الصفة، ولربما يكون الإخلال به إخلالاً بالمسيرة الحياتية، وبسعادة الإنسان، فإنه لا يمكن أن يسد الصعود إلى القمر، الفراغ الذي يحدثه الجهل بأحكام الحيض، أو بأحكام الشكوك في الصلاة، أو بأحكام البيع، أو ما إلى ذلك. ولا تسدّ أحكام الحج الفراغ في أحكام الصوم، وفي النواحي الأخلاقية، أو في فهم معاني القرآن ومراميه.. الخ..كما أن ما هو ضروري في الحياة لا ينحصر في الأمور المادية، ولا في اختراع الآلات المتطورة. فقد يستغني الإنسان عن هذه الاختراعات، ويستغني عن الصعود إلى القمر، ولكنه لا يستغني عن الصلاة، ولا عن أحكام الحيض والجنابة مثلاً..وقد عاشت البشرية المئات والآلاف من السنين، بدون كل تلك الاختراعات، ولكنها لم تستغن عن الصدق، وعن الوفاء بالوعد، وعن.. وعن..

إن كل ما يريد الله أن يعلمنا إياه مهم جداً لنا أما الذي لا يهتم الله تعالى ورسوله (ص) به، فإن بإمكاننا تأجيله، أو حتى الاستغناء عنه..

إن الله سبحانه يريد أن يبني الشخصية الإنسانية (على المستوى الشخصي، والاجتماعي، والسياسي، وغير ذلك) بناءً متوازناً.. لأن أي خلل يحدث في أي جهة من جهات وجود الإنسان، وحياته، فإنه سيؤثر سلباً على الجهات الأخرى، حتى في حياته الاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك.

كما أنه حين يستجمع الإيمان بالغيب كل عناصره، فسيكون أثره الإيجابي في حياة الإنسان أكثر بروزاً مما لو كان في بعض جوانب هذا الإيمان خلل أو نقص، فإن ذلك سيؤثر على درجة الالتزام، وعلى التفاعل مع العبادة، وعلى الطاعة، وعلى درجة الإخلاص في العمل، والخلوص في النوايا..

بل نحن بحاجة إلى جميع ما حكاه الله عن الماضين، وعن أحوال الدنيا.. كقصة الطوفان، وعرش بلقيس، وما جرى للهدهد. وتهديدات سليمان له.. ثم اكتشافه عرش بلقيس.. وحمله إليها رسالة النبي سليمان (ع). وإلى المعرفة بصناعة النبي نوح (ع) للفلك، وما إلى ذلك، لأن القرآن قد حكى ذلك كله لنا، ليثقفنا به، وليبني به شخصيتنا ومفاهيمنا، ومشاعرنا والخ.. وما ذلك إلا لأن الإسلام كل متكامل، يريد أن يبني عقل الإنسان، وفكره، وعقيدته، وثقافته، وعاطفته، ومشاعره، ومفاهيمه، ومزاياه، وخصائصه الأخلاقية، وغرائزه، وحتى بنيته الجسدية أيضاً..

ويريد أن يبني المجتمع الإنساني وفق ضوابط وقواعد، وقيم. وإن أي خلل يحدث في أي موقع وأية جهة، فسوف يؤثر سلباً على الجهات الأخرى، وليس بالضرورة أن نكتشف نحن ذلك الفساد وكيفياته، وحالاته، وتأثيراته..فليس لأحد أن يصنف قضايا الدين والإيمان، ومعارف القرآن، فيقول: هذا مهم، وهذا ليس بمهم. فإن إثارة شعور من هذا القبيل فينا سيؤثر على طاعتنا لله، وعلى معرفتنا به، وقربنا منه، وعلى حميمية مشاعرنا تجاهه.

فإذا كان هناك ما ليس بمهم، فالله تعالى هو الذي يحدده، ويشير إليه. وأما ما اهتم الله ورسوله به، فسجله الله في كتابه الكريم، وكلَّف جبرئيل بتنزيله، وأوكل إلى النبي (ص) تبليغه، وكُتاب الوحي بتدوينه، والألسن بتلاوته، والملائكة بتسجيل الثواب عليه؟!.. فلابد أن يكون مهماً لنا، تجدر بنا معرفته، والاستفادة منه، والاهتمام به..وألا تعتبر هذه النظرة إلى ما جاء به الرسول الأكرم (ص) عن الله سبحانه، نوعاً من الاستهتار والاستخفاف بالله وبرسوله، . وألا تدل على خلل في البنية الإيمانية، ونقص في الثقافة القرآنية؟!..

إن عدم إدراكنا لأهمية بعض الأمور، وعدم إحساسنا المباشر بفائدتها، لا يعني أنها عديمة الفائدة، أو قليلة الأهمية - أليس نعلم أن الله يقبل الصلاة بقراءة سورة الكوثر، ولا يقبلها بقراءة سورة البقرة، إذا نقصت منها آية واحدة؟!.

إن هذه التصنيفات المرتجلة، والتي تفوح منها روائح كريهة لنزعات الهوى، وتأثيرات إبليسية، ووسوسات شيطانية، لم تستند إلى أي دليل شرعي أو عقلي قطعي، وهي تحدث قطعاً أضراراً بالغة في مختلف الحالات، وعلى جميع المستويات.

إن القرآن هدى للمتقين بكل كلماته وحروفه، وإشاراته ودلالاته، وفي مختلف قضاياه، وقصصه وإخباراته، وفي كل المجالات التي تحتاج إلى الهداية: ومنها الأخلاق، والعقائد، والأحكام.. و..إن مشكلتنا هي نقص الثقافة القرآنية والحديثية عن الرسول الأكرم (ص) والأئمة الطاهرين (ع) ثم في التخمة القاتلة بالأفكار المسمومة التي تلقاها هؤلاء الناس عن أهل الضلال والانحراف، والانبهار غير الواعي بما يلقونه إليهم من زخرف القول غروراً، مع أنهم لو رجعوا إلى أنفسهم لوجدوا أنه ليس في كلام الله تعالى ورسوله (ص) والأئمة (ع) لغو ولا هذر، بل كله يأتي وفق الحكمة، والمصلحة، غير أن هؤلاء يقولون: نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض.

إن الإسلام يريد لنا ثقافة واحدة، منسجمة، ومتوازنة، وعميقة، وصحيحة، وواقعية، لها طابع واحد، هو الواقعية التي لا يمكن إدراكها بدون الهداية الإلهية.. وبدون ذلك فسيكون الخلل العظيم، والخطر الجسيم في الوعي، وفي الالتزام، وفي التفكير، وفي المشاعر، وفي الصفات والمزايا، وفي الصفاء الروحي، وفي العلاقات، وفي المواقف، وفي السلوك، وفي كل شيء.. لأن للثقافة التأثير القوي والعميق في ذلك كله..وآخر كلمة نقولها هي:

أن الجهل بالعقيدة ينعكس جهلاً بالله، وبالدين، وبالأحكام، وبالعبادات، وبالمعاملات، التي يكون لها بدورها انعكاساتها وآثارها السلبية على الفرد، وعلى المجتمع..والخلل في البنية الإيمانية ينعكس خللاً في الأخلاق والسلوك والتعامل مع الآخرين، التي بدورها لها انعكاساتها وآثارها السلبية على العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

والخلل في البنية الثقافية القرآنية يحدث تفاوتاً في الفهم، وتبايناً وانقساماً في الآراء والمواقف، ويخلق حالة من عدم الانسجام، وعدم التوازن في المجتمع، لا يعود ينفع معها الحديث عن أولويات اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو غيرها..

والله تعالى يريد أن يبني الإنسان بما هو إنسان من الداخل، كما يريد أن يبنيه من الخارج في وقت واحد، ويريد أن يبنيه في كل شؤونه الروحية، والنفسية، والعقلية، والفكرية، والمفاهيمية، والثقافية، والعقائدية، والأخلاقية، والمشاعرية، والعاطفية، الخ..

كيف يتحدث القرآن عن الغيب؟

ومهما يكن من أمر، فإن الله تعالى حين يخبرنا في كتابه الكريم عن الأمور الغيبية، التي لا ينالها العقل والحس، فإنه يصوغ الفكرة بقوالب لفظية، كنائية، أو مجازية، أو غيرها، لتتمكن عقولنا من أن تنالها، ثم يحول هذا المعقول إلى شأن حسي، مشاعري، حياتي، وحيوي للإنسان..

فالقوالب اللفظية تقرب الغيب إلى العقل، ثم يحولها إلى الحس، لتنساب في المشاعر، ولتصبح جزءاً من الكيان والذات.

وهكذا الحال في مختلف شؤون الدين، والإيمان، والتشريع، وغيرها مما حملته لنا الآيات الشريفة، والروايات الكريمة.

وقد جاءت بيانات هذه السورة المباركة وفق هذه القاعدة، فلنتابع البحث عن معاني آياتها، من خلال وعي مفرداتها..


1- سورة البقرة الآية 216.

2- بحار الأنوار ج104 ص17، وشجرة طوبى ج1 ص267.

3- راجع كتاب المزار ص335.

4- بحار الأنوار ج45 ص44، والعوالم ص287.

5- راجع: مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31 والعوالم (مقتل الحسين ×) ص 95 ومقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم ص 324.