الفصل الثالث.

الفصل الثالث.

قال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾.

إنَّا.

ويرد هنا سؤال، وهو: لماذا قال تعالى: ﴿ إنَّا هَدَيْنَاهُ﴾ ولم يقل: (فهديناه). أو (ثم هديناه).. وقد يقال في الجواب:

إن سبب ذلك هو أن السميعية والبصيرية تعبير عن درجة عالية من الإدراك، يستطيع الإنسان من خلالها أن يبصر المعجزات، ويتفاعل معها، ويبصر ويسمع كل ما من شأنه أن يفتح باب هداية، سواء كان ذلك بالتعليم له، أم بالتدبر والتفكر في خلق الله، وربط المقدمات بالنتائج، والوسائل بالغايات والأهداف.

وذلك معناه: أن الهداية المذكورة هنا هي نتيجة تلك السميعية والبصيرية، التي نشأت عن الابتلاء، المستند إلى الأمشاجية في النطفة. فالمراد هنا كل ما يوجب الهداية، من شرع وعقل، وتفكر، وتدبر وما إلى ذلك، ولا ينحصر الأمر بالهداية التشريعية..لكن قد يقال: إن ثمة فهماً آخر للآيات، وهو أنه تعالى قد ابتدأ كلامه بصورة الاستئناف في قوله: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ موازياً لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيه﴾.. فلعله لكي يشير إلى أن الهداية للإنسان قد بدأت مذ خلقه الله نطفة، حيث صاحب هذا الخلق له إعطاءه الحالات والميزات التي بدأ من خلالها مسيرته التكاملية، فهو خلق لوحظ فيه مضمون المخلوق، وحالاته، وأشكاله، وتفاصيله.. وروعيت أيضاً في كيفية خلقه، وأوضاعه، وكونه أمشاجاً، أن يكون أهلاً للابتلاء، ثم انتقل إلى الابتلاء الذي من شأنه أن ينقله إلى مراتب أعلى.. فأوصله ذلك إلى درجة السميعية والبصيرية..

فالهدايات إذن قد بدأت منذ نشأة الإنسان، فكانت له الهداية التكوينية، ثم الإلهامية، ثم الحسية، ثم الفطرية، ثم الغريزية، ثم العقلية، ثم التشريعية، وهذا معناه أنه لو قال: فهديناه السبيل، لكان المراد بالهداية هنا هي الهداية التشريعية، لكنه لما قال: ﴿ إنَّا هَدَيْنَاهُ﴾.. عرف أن المراد: أن هدايته قد صاحبته منذ بداية خلقه..غير أن التأمل الدقيق في هذين الفهمين لمسار الكلام في الآيات يعطي: أن كلاً من هذين السياقين متمم للآخر، وليس مختلفاً معه. فإن وجود الهدايات للإنسان منذ بدء تكوينه، لا يأبى عن كونه لا يزال محتاجاً إليها أيضاً حتى بعد حصوله على السميعية والبصيرية، وذلك ظاهر لا يخفى..(هَدَيْنَاهُ): والهدايات التي أشرنا إليها آنفاً، هي التالية:

1. الهداية التكوينية، ونشوئ الإنسان وفق السنن، ولا يتعلق غرضنا بالحديث عنها..

2. الهداية الإلهامية، ومصدرها الله سبحانه.. من قبيل هداية الجنين إلى مص إصبعه، وهو في الرحم، ثم اندفاعه بعد ولادته لالتقام ثدي أمه.

3. الهداية الفطرية - وتدخل فيها الغرائزية.. وهي تنبع من داخل الإنسان، من قبيل ميل الإنسان إلى العدل، والكمال، والعلم، والفقه، وحب الذات وغير ذلك من ميول طبيعية جِبِلِّية، نابعة من صميم الذات الإنسانية، بلا حوافز من خارج ذاته..

4. هداية الحواس الظاهرة، فالسمع يهدي إلى الأصوات الرخيمة، والمنكرة. والبصر يهدي إلى الأشكال، والأجسام، والألوان. والذائقة تهدي إلى أصناف الطعوم، كالحلاوة، والمرارة، والملوحة، ونحو ذلك. والشامّة تهدي إلى الروائح الكريهة والطيبة. واللامسة تهدي إلى الخشونة والنعومة، والصلابة، والليونة، والحرارة والبرودة إلخ..5. هداية الحواس الباطنة، لمعان قائمة بالنفس، كالإحساس الوجداني بالخوف، والحزن، والفرح، والأمن، وما إلى ذلك.

أو هداية الحواس الباطنة لمعان قائمة في الذات - الجسد - كإدراك الجوع، والعطش، والألم، والتعب، والنشاط، والإحساس بثقل الأجسام وخفتها، وما إلى ذلك.

6. الهداية العقلية: وهي تتمثل في قوة يمن الله بها على هذا الإنسان، تدرك له الكثير من المعاني التي لا تنال بالحس الظاهري ولا الباطني، وربما كانت هذه المعاني نتيجة للمدركات الحسية أحياناً، أو تكون المدركات الحسية طريقاً إليها.. وقد تخرج عن هذا وذاك كما سيتضح.

هذه المعاني يحتاج إليها الإنسان في مسيرته الحياتية، وفي بنائها على أسس صحيحة وسليمة.

وهي معان تفيد في تأسيس قواعد ومنطلقات، وفي وضع ضوابط ورسم حدود لا مجال لتجاوزها.. وهذه الصور العقلية هي الأرقى والأتم في سلسلة الصور الوجودية التي يتعامل معها الإنسان..

بيان ذلك: أن الصور العينية الخارجية لها حظ من الوجود، ثم تأتي الحواس لتأخذ عنها صوراً حسية..ثم يترقى مستوى الإدراك إلى حد إدراك أحوال المحسوسات، وربما يتصرف في الصور أيضاً، فيدرك أن هذا أكبر من ذاك، أو أطول، أو يؤلف من خلالها صوراً تشتمل على عناصر مؤتلفة، فيتخيل المدينة الفلانية التي لم يرها، من خلال صور ما رآه بالفعل.

ثم هذا القسم والذي سبقه هو عبارة عن صور حسية وخيالية للأعيان الخارجية، لكن صورها تكون في الذهن، سواء أكانت الصورة لنفس الشيء، أم لحالة من حالاته..وهناك قسم ثالث: أرقى من القسمين السابقين، وهو إدراك معانٍ جزئية، ليس لها منطبق خارجي محسوس بالحواس الخمس.. لكنه موجود حقيقي يدرك بآثاره، وذلك كإدراك حب أبويه له، وخوف الخائف، وحزن الحزين..وهناك معانٍ كلية ليس لها موطن إلا الذهن، وليست صوراً للأعيان الخارجية، ولا هي من قبيل التصرف في صور المحسوسات، ولا هي معانٍ جزئية. وهي على قسمين:

أحدهما: معانٍ كلية ذهنية، محضة، مثل مفهوم الكلي والجزئي، والجنس، والفصل.

الثاني: معانٍ كلية موطنها الذهن، وظرف وجودها الخارج، مثل: الصغير والكبير، والحسن والقبح.. والوحدة والكثرة، والوجود والعدم. والعدل والظلم. فكأن لها قدماً في الذهن، وقدماً في الخارج..وكل تلك الدلالات إنما تنطلق من داخل الإنسان..

7. الهداية الشرعية، وهي لا تأتي الإنسان من داخله - كما هو الحال في الهدايات السابقة - بل تأتيه من خارج، لتأخذ بيده إلى حيث لا يجد العقل، ولا غيره من وسائل الهداية الداخلية سبيلاً للوصول إليه، أو التعرف عليه.. ولتصوب له ما اشتبه الأمر فيه، بسبب حيلولة الغرائز والشهوات، حتى ظن الحق باطلاً والباطل حقاً، وظن السراب ماءً، فلما جاءه لم يجده شيئاً..وبعد هذا التوضيح نقول: إن كل ما يوصل إلى الغرض، فهو هداية إليه، سواء أكان بالقول أم بالعمل، شرط أن يكون للواصل درجة من المشاركة في ذلك. وبذلك تكون الهدايات التكوينية، والإلهامية، والحسية، والعقلية، وما شابه؛ داخلة في ذلك.. وإذا كانت هذه الهدايات قد صاحبت الإنسان مذ كان نطفة، فإنه منذئذ يصبح مورداً لقوله تعالى: ﴿ إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾.. وتستمر معه الهدايات، وهو يمر في مراحل الابتلاء، إلى أن يصبح سميعاً بصيراً، ثم يحتاج إلى هدايات جديدة تضاف إلى ما سبق، فتأتيه الهداية العقلية، ثم يحتاج إلى الهداية الشرعية.. فالله سبحانه قد هداه السبيل لحظة فلحظة، وآناً بعد آن.. وتمت عليه الحجة. وعليه هو أن يقرر، ويختار، فيكون ﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾.. فالهداية للسبيل إذن لم تبدأ بعد السميعية والبصيرية.. وإلا، لكان المناسب أن يقول: ثم هديناه السبيل، أو فهديناه، بل بدأت منذ بداية خلقه، واستمرت معه..ظاهرة الجحود والإيمان: ونريد أن نشير هنا إلى أن الهداية التشريعية قد جاءت في سياق الهدايات الأخرى، لتؤكدها، ولتركز مضامينها، وتستجيب لمقتضياتها، فدورها ليس سوى الإرشاد والدلالة إلى ذلك، ولا شيء أكثر من هذا..فمن لم تستيقظ فطرته، وتتعرف على مقتضياتها التي تسانخها، بل بقيت منفصلة عنها، بإملاءات الغرائز، والأهواء. والشوائب، والأغشية العازلة التي صنعتها المعاصي وغيرها، فإن سبيله الذي سيتخذه هو الجحود.. وسيجنِّد العقل وكل ما يملكه في خدمة تلك الغرائز، فيمتثل أوامرها، ويلبي حاجاتها.. ويكون وسيلة دفاع عن كل انحرافاتها.. فإذا ما كُسرت شِرَتُه، بالمعجزة القاهرة، فإنه سيندحر ويأرز في حجره.. ولكنه يبقى بانتظار الأوامر التي تصدرها له تلك الغرائز والأهواء، لأنه قد فقد السميعية والبصيرية، وأصيبت فطرته بالضعف والضمور، وألمت بها عاهات ذهبت بقوتها، وأبطلت حركتها، أو ألمت بها تشوهات جعلت حركتها باتجاهات خاطئة، ومنحرفة.

وهذا ما يفسر لنا استجابة الإمام علي (ع)، وخديجة، وأبي طالب، وجعفر، وحمزة للهدايات الإلهية، من دون حاجة إلى رؤية المعجزة، بل بتلمس فطرتهم للحق والدين، وإدراكهم الوجداني لمزاياه، وإحساسهم العميق بانسجامه مع واقع الخلق والتكوين، وحقائق الوجود، ومع الفطرة الصحيحة.. مما يجعل من كل هذه المخلوقات منظومة واحدة، تسير باتجاه واحد، وفقاً للهداية الإلهية للخلق وللوجود بكل ما ومن فيه..كما أن هذا يفسر لنا النهج القرآني، والبيان البرهاني، لأمور العقيدة فيه، ثم هو يظهر صدقية وانسجام البيان النبوي والإمامي لشؤون الدين، وحقائق الإيمان من حيث إنها تخاطب الفطرة، والوجدان، والضمير، والعقل، وتفرض النظرة التأملية لحالات الواقع ومزاياه، للانسجام معه في كل حركة تعنيه، وفي كل اتجاه.

أما أبو جهل، وأبو سفيان، وكذلك فراعنة قريش الذين قتلهم بغيهم في بدر، وأحد، والأحزاب، وغيرها.. فقد كانوا يرون المعجزات والكرامات في أتم تجلياتها.. ولكنهم اتخذوا سبيل الجحود والعناد، ولم يسلم من أسلم منهم، ولكنه استسلم للأمر الواقع، وبقي يسبح في مستنقع آسن من الكيد والتآمر على الحق، وأهل الحق..

السَّبِيلَ.. وليس الطريق!

وأما لماذا قال تعالى: هديناه (السَّبِيلَ)، ولم يقل: (الطريق).

فلعل سببه هو أن كلمة الطريق، إنما تدل على مجرد وجود موضع ممتد يسلكه الناس، وهو قد يكون واضحاً، وقد يكون خفياً، وقد يكون واسعاً، وقد يكون ضيقاً، أما السبيل فهو الطريق وما وضح منه(1).

فخصوصية الوضوح إذن مأخوذة في السبيل، ولا تفهم من كلمة (الطريق).

والهدايات الإلهية هي الأوضح والأظهر والأصوب، وليس هداية الفطرة، والإلهام، والحس، والمشاعر والوجدان، والعقل، والشرع، إلا ضمانات يعضد بعضها بعضاً، ويشد بعضها أزر بعض.. فكلما عجزت وسيلة جاءت الأخرى الأقوى منها لتحل محلها.. وتنجز ما عجزت عنه، فإن عجزت هداية الإلهام، جاء دور الحس، فإن عجز الحس جاء العقل. فإن عجز العقل جاء الشرع، فهداية الله تامة، وحجته بالغة، تحفظ الإنسان في جميع حالاته، وتصونه من الخطل والزلل في مختلف تقلباته..هديناه السبيل.. أو إلى السبيل؟: وليست الدلالة على السبيل من قبيل الإشارة إليه من بعيد، مع عدم وضوح معالمه، ومن دون معرفة خصوصياته سعةً وضيقاً، حزونة وسهولة.. وما إلى ذلك..بل الهدايات الإلهية يقينية وواقعية، تجعل السبيل واضحاً لا لبس فيه، سوف يلمس المهتدي بها هذا السبيل، ويجده حاضراً عنده، وكأنه قد حلّ هو فيه..وبذلك يكون تعالى قد سدّ على هذا الإنسان منافذ الاعتذار والتعلل، ولله الحجة البالغة في كل وقت وحين..(أل) عهدية أم جنسية؟: وقد يسأل سائل: هل المراد بالسبيل، السبيل المعهود؟ فتكون (أل) عهدية.. أم المراد به جنس السبيل؟!.

ويجاب عن ذلك: بأنه قد يدعى أنها عهدية، وذلك لأن الله حين خلق الكون والحياة قد رسم لهما غاية، ولا بد من سلوك طريق موصل إليها، ومن تعريف وهداية لذلك الطريق.

وقد بين الله تعالى البداية، والسبيل والغاية، بأوضح بيان، وهدى إليه أتم هداية.

وواضح: أن أي اعوجاج وانحناء في ذلك السبيل سوف يفقده صلاحية الإيصال. وفي الانحراف والعودة هدر للوقت وتضييع للجهد، وعبثية غير مقبولة. قال تعالى: ﴿ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾(2)..وهذا معناه: أن الهداية الإلهية إنما تكون إلى سبيل واحد، وهو الصراط المستقيم المتصل بالهدف، دون سواه.. والذي إذا اتضح وعرف، فإن الطرق الموجبة للضلال عن الهدف تصبح واضحة أيضاً..ويصح التعبير عنها بكلمة (سبيل) لأن ذلك هو ما يقتضيه انحصار الطريق الموصل إلى الهدف بواحد..

وذلك كله يشير إلى أن كلمة (أل) عهدية..وذلك غير دقيق، والصحيح هو أن كلمة (أل) جنسية، وذلك لما يلي:

إنه تعالى لم يقل: (إنا هديناه السبيل، إما مهتدياً أو ضالاً)، مع أن قوله تعالى: ﴿ إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبيلَ﴾ قد يغري الأوهام القاصرة. بتوقع أن يقول: إما ضالاً، أو مهتدياً، لأن جعل الإنسان يتلمس السبيل بهذا المستوى من الوضوح، والتعيُّن والتبيُّن، لا يبقي مجالاً للضلالة عنه، أو تضييعه، أو ادعاء الغفلة عن خصوصياته وحالاته، فهو مهتد إليه بصورة حتمية، فإذا حاد عنه، فإنما هو عناد، وكفر، واستكبار، وجحود.

فنسبة الوضوح في سبيل الهداية، هو في مستوى نسبة الوضوح في سبيل الضلالة. قال تعالى: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾(3). فإذا كان قد هداه النجدين، فكيف يمكن تصور ضلاله، إلا على سبيل العناد والجحود؟ وقد قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾(4).

وقال: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾(5).

وبذلك يتضح: أن (أل) في كلمة (السَّبِيل) جنسية، أي أنه تعالى قد بيِّن سبيل الغي والضلال، الذي لا يوصل، بواسطة بيانه للسبيل المستقيم الموصل، فأصبحت السبل واضحة، وعليه هو أن يختار.

لماذا بدون فاء التفريع؟:

ويبقى سؤال: لماذا لم يقل الله تعالى: (فإما شاكراً). مع فاء التفريع، بل قال: ﴿ إِمَّا شَاكِرَاً﴾؟!..ونقول: لعل السبب في ذلك: أنه تعالى يريد أن يبرز عنصر القصد والاختيار والإرادة، فكأنه قال: قد دللتك، ولك الخيار، في أن تفعل، وأن لا تفعل، فأنت الذي تقرر وتختار، وتبادر.

ولو أنه جاء بفاء التفريع فلربما يُتخيل أن الشكر والكفر يأتي كنتيجة طبيعية وحتمية الحصول، سواء أكان ذلك بسبب الغفلة عن الأمر، فينساق بعفوية إليه وبدون التفات، أم بسبب النسيان بعد الالتفات، أم بسبب العمد إلى الشكر والكفر، ثم يتكرر منه فعل الكفر، حتى يصير كفوراً..

السميعية والبصيرية لا تغني عن الهداية.

وقد يقال: إذا كان الله قد جعل الإنسان سميعاً بصيراً، فإنه لا يحتاج بعد إلى الهداية، وذلك لأن سميعيته الفائقة، وكذا بصيريته سوف تجعلانه يلتفت لكل شيء، ويدرك كل ما حوله.. فلماذا عاد فقال: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾؟!

ويجاب عن ذلك:

أولاً: إن سميعية وبصيرية الإنسان لا تعني إحاطته بالأمور، ومعرفتهُ بأسرار الخلق، ولا وقوفه على الغيوب، ولا على واقع تأثيرات الأشياء بعضها ببعض، ولا على المصالح والمفاسد الواقعية..

فيحتاج إلى الهداية التشريعية الإلهية، ليضمن عدم الوقوع في الخطأ الكبير والمهلك.. لأن غاية ما يحصل عليه الإنسان هو هداية التكوين، والفطرة، والعقل. وهداية التكوين محكومة بعللها وأسبابها.. وهداية الفطرة محدودة في نطاق الدعوة إلى عناوين ومبادىء، وأهداف عامة وعالية، تكتنفها دواعٍ غريزية، تحتاج إلى ما يضبط حركتها في مسارها إلى تلك الأهداف والمبادىء، حتى لا تتجاوز الخط أو الهدف الذي حددته الفطرة لها.

وهداية العقل تبقى أيضاً مفتقرة إلى توفير المخزون الذي يستطيع العقل من خلاله أن يعطي حكمه الإرشادي من خلال التصرف فيه..

ويبقى الإنسان بعد هذا وذاك في موقع المحتاج إلى الدلالة والهداية الإلهية.. فبعث الله له الأنبياء مبشرين ومنذرين.. وعرّفوه السبيل: ﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾..ويكون هذا المستوى من السميعية والبصيرية بمثابة التأهيل لتلقي الهداية الإلهية.. ثم التفاعل معها من موقع المختار المريد.. لا من موقع الجبر التكويني، والتحريك القسري، كما هو الحال بالنسبة لبعض الكائنات، كالنباتات، ولا من موقع التحرك التكويني، والفطري، والغريزي، وحسب، كما هو الحال بالنسبة للحيوانات..وَإِمَّا كَفُوراً: ولا بد أن يلتفت قارىء هذه الآية إلى أن الله سبحانه بالنسبة للشكر قد عبَّر بصيغة اسم الفاعل.. لكنّه بالنسبة لغير الشاكر جاء بصيغة المبالغة فقال: ﴿ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾.. أي كثير الكفر وشديده..

وهذا التعبير هو الصحيح والأولى، لأن الإنسان شديد الكفر، من حيث إن الحقائق التي يحاول طمسها وتجاهلها, هي من الظهور والوضوح إلى الحد الذي تحتاج إلى جهد كبير وشدّة، ليتمكن من طمسها وحجبها. وهو أيضاً كثير الكفر, وذلك لكثرة الحقائق التي يعمل على إبعادها, وإسدال الحجاب عليها. سواء أكانت هذه الحقائق مما تدعوه إليها فطرته, أم مما يرشده إليها عقله, أم مما أوضحها له التشريع والبيان الإلهي..

قوة الوضوح في البيان القرآني.

وإن أعظم ما يواجه الإنسان في قضايا الإيمان والكفر هو الشأن العقيدي، لأنه يرتبط بأمور الغيب، ويحتاج إلى إدراك عقلي، ورؤية قلبية، وتلمس وجداني، يصل إلى حد صيرورة ذلك واضحاً وبديهياً.. وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى: ﴿ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾(6).. وعنهم (ع): (عميت عين لا تراك)..

وقد قلنا: إن القرآن في بياناته لأمور العقيدة، يدفع بها لتصبح شأناً حياتياً، وواقعاً عملياً، يتلمسه الإنسان في كل موقع وكل اتجاه.. ولا يتحدث له عنها بطريقة تجريدية، فلسفية، فراجع الآيات التي تتحدث عن وجود الله، وعن توحيده، وعن صفاته، وعن النبوة وعن الإمامة، وعن اليوم الآخر.. كقوله تعالى مثلاً: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾(7)، فإنه تعالى قد تحدث عن فساد الكون والحياة؛ بالشرك، وأن الإنسان سوف يفقد القدرة على العيش، وعلى إعمار الكون، وسيفتقد السعادة، ويعجز عن الوصول إلى كمالاته التي ينشدها..ولم يقل: إن تعدد الآلهة يستتبع الالتزام بفقدان أحدها، في المكان الذي يوجد فيه الآخر، ولم يشر إلى أن ذلك يستلزم حاجة الآلهة إلى المحل، أو لزوم تقدم المكان على المكين، ولا إلى لزوم وجود ما يميز هذا عن ذاك، ولا إلى غير ذلك من أمور تبقى في دائرة التأمل الفكري.. بل ترك البيانات الفكرية، التي تحصن هي الأخرى الإنسان من شبهات أهل الضلال، ترك بيانها للأئمة الطاهرين، ولذلك نجد الإمام علياً (ع) يتصدى لها، فيقول: أيَّنَ الأين فلا يقال له أين، وكَيِّف الكيف فلا يقال له كيف(8)..وقال (ع) أيضاً: مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمباينة(9).. وغير ذلك.

وقد بيَّن (ع) ذلك، بعد أن بيَّن لنا أيضاً أنه تعالى لا يمكن دخوله في تصوراتنا وأوهامنا، فقال: (كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه، مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم)(10).

فالله إذن يريد لنا أولاً أن نشعر به بقلوبنا، ونحس بآثاره في حياتنا، ليصبح واقعاً حياتياً فاعلاً وقوياً. وهكذا فعل في سائر الأمور العقائدية، كالقيامة والنبوة وغيرهما، وكذا المفاهيم الإيمانية، والدينية، بصورة عامة..

ولذلك تجد الإنسان يعيش الشعور بالله سبحانه وبقدرتهِ، ومحبته، وسائر المعاني الإيمانية في حالات الخوف والرجاء، وفي حالات الصحة والمرض، فيتوجه إليه بالدعاء، ويشعر بالفرح وبالامتنان حين يستجيب له.

فالمطلوب إذن هو الإحساس بالله سبحانه، وليس المطلوب هو تصوره سبحانه، لأن ذلك مستحيل. كما أن المطلوب هو امتلاك القدرة على دفع شبهات المضلين، والتحصن من ضلالاتهم.

هذا: وقد جاءت هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، في نفس هذا السياق، كما يظهر من ملاحظة المعاني التي أشارت إليها، في مفرداتها، وفي سياقها العام.

لماذا قال: شاكراً؟!

والسؤال هو: لماذا قال: (شَاكِراً)، مع أن الحديث هو عن الهداية والضلال؟!.. ولماذا أيضاً جاء بها بصيغة اسم الفاعل؟!..والجواب:

1. إن اختيار الشكر في هذا المورد، إنما هو لأنه من قبيل إطلاق الدعوى مع دليلها، لأن التعبير بالشكر يوجب أن يكون هناك ما يفرض الشكر، وهو النعم. فإذا أثبتت الشاكرية، فإن ثبوتها يوجب ثبوت قبح الكفر بصورة أوضح وأتم، لأن وجود النعم أوجب حتمية الشاكرية.. وحتمية الشاكرية وقيمتها يجعل الكفر من أقبح الأشياء، فإن الكفر للنعمة، وانجرار ذلك إلى الكفر بالمنعم وصفاته، وكل ما يصدر عنه، يصبح جريمة كبرى.. فكيف إذا كان الإنسان كفوراً، أي شديد الكفر وكثيره؟ فإن الأمر يصير أعظم قبحاً، وأسوأ صنعاً..وفي هذا الأسلوب من التنفير من الكفر، والحث على الطاعة ما يغني عن أي بيان.

2. إن أرقى حالات العبادة والطاعة هي تلك التي تكون نابعة من صميم الذات الإنسانية. فالالتزام بالسبيل الواضح، هو ما يدعو إليه الخلق الإنساني، وتقتضيه الفطرة الصافية، حيث لا بد أن يختار طريقة الشكر باقتضاءٍ من داخل ذاته، ومن دون حاجة إلى إلزام بأمر من الخارج. فإذا جاء الأمر التكريمي من قبل الله سبحانه، فإن اندفاعه إلى امتثاله سيكون أيضاً من مقتضيات طبعه، وخلقه الإنساني الرفيع.. لا طمعاً بنوال، ولا خوفاً من عقوبة، ولا لأجل الخروج من حالة الإحراج والإلزام حيث لا مناص.

وقد روي عن أمير المؤمنين (ع): أن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار(11).

فحالة الشاكرية حالة إرادية اختيارية، أخلاقية، وإنسانية. وهي تعبير فطري صادق، ينبع من داخل الذات، بما لها من أصالة، وما للمزايا والكمالات الإنسانية والأخلاقية من تجذر وعمق.

أما لماذا عبر باسم الفاعل، فقال: (شَاكِراً) ولم يقل شكوراً، ليتجانس مع كلمة (كفوراً).. فلعله ليفيد أمرين:

أحدهما: أن الإنسان لا يمكن أن يكون شكوراً، أي كثير الشكر، على نحو الحقيقة، بل هو لا يستطيع إنجاز شكر واحد لله تعالى.. لأن كل شكر يحتاج إلى وسائل لإنجازه، وهذه الوسائل هي نعم جديدة، يحتاج أيضاً إلى أداء شكر كل واحدة منها، وما أكثرها.

ثانيهما: أن اسم الفاعل (شاكراً) يشبه الفعل المضارع (يشكر) في إفادة فعلية التلبس بالشكر..كما أنه لكونه اسماً مجرداً عن إفادة التجدد، فهو يدل على الثبات والدوام، لهذا الشكر، وليس فيه دلالة على التصرّم والانقضاء.

كما أنه لم يقل: إما أن يشكر أو يكفر، لأن ذلك يدل على مجرد صدور الفعل منه، ولو مرة واحدة، ولا يفيد أية خصوصية أخرى مع أن المقصود هو بيان ذلك بلحاظ خصوصيته الأخلاقية، وغيرها مما ألمحنا إليه..لماذا: (وَإمَّا كَفُورَاً)؟!

وأما السبب في أنه تعالى قد جاء بصيغة المبالغة في قوله: ﴿ وَإمَّا كَفُورَاً﴾ فلعله:

أولاً: فيما يرتبط بالنعم، فإن كثرة النعم تتطلب من الكفور كثرة المحاولات لإخفائها، وكل نعمة لها سترها الخاص بها..

وفيما يرتبط بالحقائق والاعتقادات، وسواها، فإنه أيضاً يحتاج إلى كثرة الستر للحقائق.. وتعدد الإنكار للأمور العقائدية وغيرها..

فكلمة كفور تشمل كفر النعمة، وكفر المنعم، والكفر بالنبي الذي يخبر عنه، وبالأئمة الذين يسعون إلى إقامة دينه، ثم الكفر بيوم الجزاء، ليتخلص ويتملص من المسؤولية..فالقول بأن المقابلة بين الشاكر والكفور تجعل المعنى الأول، وهو كفر النعمة، أنسب بالمعنى..

قول غير دقيق.. بل التعميم هو الأنسب، خصوصاً وأن شكر النعمة هو الآخر يستبطن الاعتراف بكل الاعتقادات الآنفة الذكر، ومنها صفات الله تعالى، لأن النعم تثبت تلك الصفات، لأنها من مظاهرها وتجلياتها، غير أن الشكر لا يتعرض لتلك النعم، وإن كان يستلزم الاعتراف بها من قبل الشاكر، كما أن جحود صفات الله لا يمكن أن يتحقق معه الشكر..

وبذلك يتضح: لماذا لم يقل: مؤمناً أو كافراً، إذ إن ذلك يوجب اختصاص الكفر بالكفر العقائدي. فهذه الآية تستبطن تحويل الشأن العقيدي إلى أمر حياتي.

فجاء بصيغة المبالغة، لأجل بيان هذه الكثرة الحقيقية لكفره..

ثانياً: إن كثرة صدور الطمس والإخفاء للنعم يكشف عن خلل حقيقي في أخلاقيات ذلك الشخص وفي إنسانيته، ويدل على خبث باطنه، وشدة طغيانه، وحرصه على طمس نعم الله سبحانه، والتنكر لها، مع أن الله تعالى يقول لنبيه (ص): ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾(12)، لأن إظهارها يزيد في معرفة الناس بالله، وفي توجههم إليه بحوائجهم. ولأجل ذلك قلنا: إن التعبير بالشاكر والكفور، هو الأصح من التعبير بقوله: إما ضال أو مهتدٍ..

وأخيراً.. فإننا بالنسبة لقوله: ﴿ إِمَّا شَاكِرَاً وَإِمَّا كَفُورَاً﴾ نلاحظ: أنه تعالى لم ينظر إلى جهة صدور الفعل، وحركته الخارجية، وخصوصياته، بل نظر إلى طبيعة الشكر، والكفران، من حيث كونهما صفتين أخلاقيتين داخلتين في تكوينه النفسي الداخلي..فالشكرية حالة إنسانية أخلاقية، والكفورية حالة لا أخلاقية ولا إنسانية.

الأخلاق أساس الدين.

ونحن نعلم: أن الأخلاق هي أساس الدين، لأن الهدايات كلها: ومنها الفطرية، والإلهامية، والعقلية، والتشريعية قد تتوفر للإنسان، ولكنه - مع ذلك - لا يهتدي بهداها، وذلك بسبب خلل أخلاقي، ونقص في المزايا الإنسانية في داخل نفسه.. ففرعون مثلاً، وكذلك إبليس، قد توفرت لهما جميع أنواع الهدايات، لكن الخلل الأخلاقي المتمثل باستكبارهما وعلوهما قد أوصلهما إلى الإبليسية، وإلى ادعاء الربوبية والفرعونية، رغم أنهما يملكان أقوى الأدلة المثبتة للقضايا العقائدية. ومنها رؤية المعجزات القاهرة، ومعاينة الكرامات الباهرة، والبراهين العقلية، والفطرية كلها، ولكن ذلك كله لم يؤثر في هدايته، واختار الجحود الذي تحدث الله عنه حين قال: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾.

وذلك كله يعطينا: أن الكفر حالة عناد واستكبار، وخلل أخلاقي بالدرجة الأولى..فرق آخر بين الكفر والشكر: وهناك فرق آخر بين الكفر والشكر، وهو أن من لا يعترف بالشهادتين، فهو ينكر جميع الحقائق المترتبة على التوحيد. بنفس إنكاره للتوحيد، وينكر ما يترتب على النبوة بنفس إنكارها أيضاً..وأما إذا أقر بالتوحيد، فهو يحتاج إلى ممارسة كل مفردات الشكر، ليكون شاكراً بالفعل.. إذ إن اعترافه بالتوحيد إنما يكفي عن التوحيد دون سواه. أما العبادات مثلاً، كالصلاة، والزكاة، والصدق.. و.. و.. فلا يغني عنها شيء، حتى التوحيد..

فظهر أن كفره بالتوحيد يسقط كل ما عداه عن الصلاحية، وهو بمثابة تعدد صدور الكفر منه بالنسبة لكل واحدة، واحدة.. لكن إيمانه به لا يغني عن شيء مما عداه، فلا بد من الإتيان به على حدّه الذي قرره الله عز وجل..المجبرة، وآية الهداية: وأخيراً.. نشير إلى أن المجبرة قد ادّعوا: أن الله سبحانه لم يهد الكافر.. لكن هذه الآية قد جاءت صريحة في تكذيب هذه الدعوى، حيث قررت أن الهداية الإلهية تشمل الكافر والمؤمن بلا فرق..


1- لسان العرب ج 6 ص 162 ط دار إحياء التراث.

2- سورة الأنعام الآية153.

3- سورة البلد الآية 10.

4- سورة الأنعام الآية 149.

5- سورة النمل الآية 14.

6- سورة إبراهيم الآية10.

7- سورة الأنبياء الآية 22.

8- بحار الأنوار ج36 ص283.

9- نهج البلاغة ج1 ص16، واثنا عشرة رسالة للداماد ج2 ص43 وبحار الأنوار ج4 ص247 وج54 ص177 وج74 ص300 وتفسير نور الثقلين ج5 ص260.

10- بحار الأنوار ج66 ص293.

11- راجع: نهج البلاغة ج3 قسم الحكم، الحكمة رقم 237 والبحار ج41 ص14 عنه وج75 ص69 عن المناقب لابن الجوزي وعن تحف العقول. وراجع ج67 ص18 و197 و255 وج8 ص200 عن الكافي، وعن عقائد الصدوق وعن علل الشرائع ج1 ص12.

12- سورة الضحى الآية11.