مقدمة.

التفسير سورة ﴿هل أتى﴾

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تقديم:

والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأشرف بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين.وبعد..فهذه خلاصة دروس من تفسير سورة ﴿هل أتى﴾. وهي دروس أسبوعية كانت قبل سنوات قد خصصت لبعض المؤمنين الواعين من شبابنا حفظهم الله تعالى، وأيدهم.

وكان الأخ الكريم (وفيق سعد) قد اهتم بتسجيلها، ثم باستخراجها من أشرطة التسجيل، فجزاه الله خير جزاء وأوفاه.

وقد ظهرت لدى الأخوة رغبة ملحة في نشرها، رجاء أن ينفع الله تعالى بها، فاستجبت لرغبتهم، مقدراً لهم ثقتهم هذه، شاكراً لهم هذا الإخلاص، ومكبراً فيهم هذا الإيمان، وذلك الاندفاع الصادق لخدمة دينهم. وفقهم الله تعالى لكل خير وصلاح، وفتح في وجوههم أبواب النجاح والفلاح، إنه خير مأمول، وأكرم مسؤول.

وسيلاحظ القارئ الكريم: أننا نعتمد طريقة التفسير التجزيئي، بالإضافة إلى سعينا لاستخراج كوامن المعاني بأسلوب الاستدلال الاقتراحي، ثم بذل المحاولة للمقارنة، وتسجيل الملاحظة.. ونعني بالاستدلال الاقتراحي، أننا بعد أن نفترض بدائل للتعبير الوارد في الآية، نقارن بين الخصوصيات في البدائل، وبين خصوصيات المعنى الوارد، لنكتشف من ثم بعض جهات المعنى التي تجعل من اختيار التعبير الوارد في الآية هو المتعين، الذي لابد منه، ولا غنى عنه.. وإنما لم نعتمد التفسير الموضوعي لأننا قد اعتقدنا أن ذلك سابق لأوانه، إذ إنه يتوقف على حصحصة المعاني، واستخراجها، وجمعها، ثم المقارنة فيما بينها، ليمكن استخراج قواعد عامة وشمولية منها بصورة سليمة وقويمة.. ومن الواضح: أن القفز من هذه المرحلة إلى تلك لن يكون سوى مجازفة غير منطقية، ولا يعدو كونه اقتحاماً عشوائياً غير مبرر، وسيبقى يعيش الحرمان من الحد الأدنى من الوثوق بأية نتيجة يتوصل إليها، أو يهيأ لها، إلا إذا بقي المفسر يتردد بين المعاني القريبة، التي يتداولها الناس، والتي هي على درجة من الوضوح والبداهة..وليقتصر الجهد من ثم على تبديل الأساليب، وإعادة تنظيم ورصف نفس الأفكار المتداولة، دون أي تصرف حقيقي فيها.. وأخيراً.. فإن رجائي الأكيد من القارئ الكريم هو أن يغض الطرف عن التقصير، وأن يتحفني بما يرى ضرورة للتنبيه عليه، وأن يلفت نظري إلى ما ينبغي لفت النظر إليه. وليتقبل مني عذري، وإليه أهدي خالص شكري.. والسلام عليه وعلى كل المؤمنين ورحمة الله وبركاته..حرر بتاريخ: شهر رمضان المبارك سنة 1423 هـ.

عيثا الجبل - لبنان

جعفر مرتضى العاملي

سورة ﴿هل أتى﴾ المباركة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً / إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً / إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً / إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً / إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً / عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً / يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً / وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً / إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً / إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً / فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً / وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً / مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً / وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً / وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ / قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً / وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً / عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً / وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً / وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً / عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً / إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً / إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً / فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً / وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً / وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً / إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً / نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً / إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً / وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَ أَنْ يَشَاء اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً / يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً /﴾. (صدق الله العلي العظيم)

تمهيد:

إننا قبل أن نشرع باستعراض المعاني التي نزعم أننا بأفهامنا القاصرة قد استفدناها من آيات هذه السورة المباركة..نود التمهيد لذلك بذكر بعض الأمور التي ترتبط بهذه السورة، فنقول:

تسمية هذه السورة:

إنَّ التشرف بقراءة الأحاديث التي رويت لنا عن أهل البيت عليهم السلام يعرفنا أنهم عليهم السلام يعبرون عن هذه السورة بسورة ﴿هل أتى﴾.

وبما أن تسميات السور القرآنية ليست مزاجية، وإنما لها دلالات وإيحاءات تتجاوز موضوع التمييز بين سورة وأخرى، فإن تسمية هذه السورة بـ ﴿هل أتى﴾ تبقى مثيرة للانتباه، حيث جاءت على شكل استفهام، ينقطع عن متابعة بيان ما وقع في مورد السؤال، كما أظهرته التسمية لسورة أخرى بسورة (براءة)، أو تسمية سورة (الأحزاب) بـ (الفاضحة)، حيث يظهر من هذا: أن الهدف هو التركيز على معانٍ ومفاهيم بعينها تستبطنها التسميات، وتشكل حافزاً للسامع أو القارئ يدفعه إلى نيل هدف بعينه، وإدراك غاية بخصوصها. وذلك بطريقة تشير للقارئ بضرورة متابعة الكلام، ليتمكن من فهم معنى تام ومقبول.

وتزيد تسمية هذه السورة بـ ﴿هل أتى﴾ على غيرها: أنها جاءت على شكل سؤال يجر وراءه سلسلة من الأسئلة، حيث تبقى كلمة ﴿هل أتى﴾ تلحّ عليه بمعرفة ذلك الذي يُسأل عن إتيانه: ما هو؟! وما حقيقته؟! ولماذا يُسأل عنه؟! ومن المخاطَب؟! وهل المخاطب هو نفس المسؤول؟! ومن المجيب؟!

وفي الإنسان فضول، خصوصاً في مثل هذه الحالات، حيث يلتقي فضوله فيها مع حب المعرفة والعلم، ومع حب اكتشاف المجهول..فهي إذن تسمية.. أريد لها أن تعطي الحافز للمعرفة، وتدفع كل سامع أو قارئ للمتابعة.. فيتحرك لمواصلة التحري، برغبة وجهوزية تامة، الأمر الذي يؤهله لأن يلاحظ خصوصيات وتفاصيل، لم يكن ليلتفت إليها لو ترك على حالةٍ من الاسترخاء والركود، بل إن السؤال نفسه سوف يحرجه ويثيره، ويجعله أمام مسؤولية البحث عن الإجابة.

أما تسمية هذه السورة بسورة (الدهر) و (الإنسان)، فهي قاصرة عن إفادة ذلك كله، إذ إن السامع لن يجد في نفسه الحافز للبحث والتقصي، ولن يشعر أنَّه مسؤول عن شيء، بل سيكون قادراً على حسم خياره، فيقرر الإحجام أو الإقدام. ويكون إحجامه أو إقدامه مرتبطاً بحوافز ودواعٍ أخرى، ومنها عدم وجود الداعي للإقدام.. ولأجل هذا.. فنحن نرى أن علينا أن نلتزم بخصوص التسمية الواردة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ولا نتعداها.

أما لماذا أريد أن يكون لاسم هذه السورة هذا الإيحاء، فقد يكون هو التأكيد على الاهتمام الإلهي بتعريف الناس بحقائق إيمانية أساسية، ربما تكثر الصوارف لهم عن متابعة مسيرة التعرف عليها.. لارتباطها بأهل البيت عليهم السلام الذين سوف تكثر العداوات لهم من قبل أهل الدنيا.. وطلاب اللبانات..

ثواب وآثار قراءة سورة ﴿هل أتى﴾.

1. في مجمع البيان: قال أبو جعفر (ع): من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس، زوجه الله من الحور العين مئة عذراء، وأربعة آلاف ثيب. وكان مع محمد (ص).

وفي كتاب ثواب الأعمال، بإسناده عن أبي جعفر (ع) مثله، غير أنه قال: ثمان مئة عذراء..

2. أُبَي بن كعب، عن النبي (ص) قال: ومن قرأ سورة ﴿هل أتى﴾ كان جزاؤه على الله جنة وحريراً.

3. في أمالي الطوسي، بإسناده إلى علي بن عمر العطار، قال: دخلت على أبي الحسن العسكري (ع) يوم الثلاثاء، فقال: لم أرك أمس!

قال: كرهت الحركة في يوم الإثنين.

قال: يا علي، من أحبَ أن يقيه الله شرَّ يوم الإثنين فليقرأ في أول ركعة من صلاة الغداة: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ﴾.

ثم قرأ أبو الحسن (ع): ﴿ فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾(1).

4. روي عن النبي (ص) أنه قال: من قرأ هذه السورة كان جزاؤه على الله جنة وحريراً. ومن أدمن قراءتها قويت نفسه الضعيفة. ومن كتبها وشرب ماءها نفعت وجع الفؤاد، وصح جسمه، وبرئ من مرضه.

5. قال رسول الله (ص): من قرأها أجزاه الله الجنة، وما تهوى نفسه على كل الأمور. ومن كتبها في إناء وشرب ماءها نفعت شرَّ وجع الفؤاد، ونفع بها الجسد.

6. قال الصادق (ع): قراءتها تقوِّي النفس وتشد، وإن ضعف في قراءتها كتبت ومحيت وشربها، منعت من النفس (كذا) ويزول ضعفها عنه بإذن الله تعالى(2).

7. محمد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي مسعود الطائي، عن أبي عبدالله (ع): أن رسول الله (ص) كان يقرأ في آخر صلاة الليل ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ﴾(3).

سبب نزول هذه السورة.

وقد حفلت الروايات الكثيرة، بأن سبب نزول سورة ﴿هل أتى﴾: هو أن الحسنين عليهما السلام مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وبعض من أصحابه. وجعل علي على نفسه، وكذلك الزهراء، والحسنان عليهم السلام، وفضة رحمها الله: إذا عافاهما الله أن يصوموا ثلاثة أيام شكراً لله تعالى.

فألبسهما الله سبحانه عافيةً، فأصبحوا صياماً، وليس عندهم طعام، فحصل علي عليه السلام على ثلاثة أصوع من شعير, جاء بها للزهراء عليها السلام مقابل أن تغزل جزة صوف.. فغزلت ثلث الصوف، وطحنت صاعاً من الشعير، وخبزت منه خمسة أقراص بعددهم. فصلى علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله، ثم أتى منزله، ووضع الطعام، فأول لقمة كسرها علي عليه السلام إذا مسكين قد وقف على الباب، وطلب أن يطعموه، فوضع علي عليه السلام اللقمة من يده.. ودفعوا ما على الخوان إلى المسكين، وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلا الماء القراح.

وفي اليوم التالي تكرَّرت القضية برمتها، حيث جاءهم يتيم هذه المرة، وذلك بمجرد أن كسر الإمام علي عليه السلام اللقمة، فأعطوه ما على الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلا الماء القراح.

وهكذا جرى أيضاً في اليوم الثالث، حيث جاءهم أسير من أُسراء المشركين، وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا، وتشدوننا، ولا تطعموننا.

فوضع علي اللقمة من يده، وأعطوه ما على الخوان. وباتوا جياعاً. وأصبحوا مفطرين، وليس عندهم شيء.

وأقبل علي عليه السلام بالحسن والحسين عليهما السلام نحو رسول الله (ص)، وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع.

فقال (ص): يا أبا الحسن: أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق إلى ابنتي فاطمة.

فانطلقوا، وهي في محرابها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عيناها..فلما رآها رسول الله (ص) ضمها إليه، وقال: واغوثاه، بالله أنتم منذ ثلاث فيما أرى؟

فهبط جبرئيل، فقال: يا محمد، خذ ما هيأ الله لك في أهل بيتك.

فقال: وما آخذ يا جبرئيل؟.

قال: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾(4).

وذكرت بعض النصوص: أن هذه السورة قد نزلت في الخامس والعشرين من ذي الحجة(5).

وهناك تفاصيل وخصوصيات مختلفة وردت في الروايات، لا مجال لتقصيها وتتبعها.. لأن المقصود هنا مجرد الإشارة.. لماذا أعطوا جميع الطعام؟!

وقد يتساءل البعض عن سبب إعطاء جميع الطعام للسائل، مع أنه كان يكفيه بعضه، ويكتفي الباقون بما بقي منه..وستأتي الإجابة على هذا السؤال، حيث سيظهر أن المقصود لم يكن هو مجرد إشباع ذلك السائل، بل المقصود هو إعطاؤه ما يجد معه الأمن والسكينة لأطول فترة ممكنة، ليجد الفرصة للتحرك باتجاه الخروج من الحالة التي هو فيها إلى ما هو أفضل..السورة مدنية: إن من المعلوم: أن هذه السورة مدنية، ولكن بعض الذين في قلوبهم زيغ يحاولون ادّعاء أنها من السور المكية، ولعل منشأ ذلك هو البغض والحسد لأهل البيت (ع)، الذين نزلت هذه السورة فيهم، لأنَّ نزول السورة في مكة، يبطل - بزعمهم - الروايات الكثيرة جداً، والمروية بطرق مختلفة عند السنة والشيعة، والتي تؤكد نزولها فيهم (ع).

ولكن الله تعالى يقول: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ..﴾(6).

مستند أهل الزيغ.

لعل أول من ادعى نزول السورة في مكة هو ابن الزبير(7). الذي كان قد حارب علياً (ع). وكان معروفاً بانحرافه عنه، وبغضه له..

أما ما روي من ذلك عن ابن عباس(8)، فيشك في صحته، إذ إن الرواية قد وردت عنه بخلاف ذلك أيضاً.. كما سيأتي.

ثم جاءنا أخيراً من حاول أن يستدل لذلك، ويجمع له المؤيدات والشواهد، فهو يقول:

(في بعض الروايات: أن هذه السورة مدنية.. ولكنها مكية، ومكيتها ظاهرة جداً، في موضوعها وفي سياقها، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها.

بل نحن نلمح من سياقها: أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول (ص) إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور، مما كان ينزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين، وتثبيت الرسول (ص) على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به.. كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمل، وفي سورة المدثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.

واحتمال أن هذه السورة مدنية - في نظرنا - هو احتمال ضعيف جداً، يمكن عدم اعتباره)(9) انتهى.. ونقول:

أولاً: لقد فند السيد الطباطبائي (رحمه الله) هذه المزاعم. فقال ما ملخصه: إنَّ صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ لا تختص بالسور المكية، بل هي موجودة في السور المدنية أيضاً، - مثل سورتي الرحمن، والحج - بصورة أكثر مما ورد في سورة هل أتى.

ثانياً: وأما ما ذكره من أمر النبي (ص) بالصبر، وأن لا يطيع آثماً أو كفوراً، وأن لا يداهنهم، وأن يثبت على ما نزل عليه من الحق. فهو في نهايات هذه السورة. فلتكن نهاياتها مكية - لو صح أن هذا الأمر يوجب مكية الآيات - لأن النزول كان تدريجياً.

ولو سلم أن السورة قد نزلت دفعة واحدة، فإننا نقول: إن الأمر بالصبر لا يختص بالسور المكية، فإنه تعالى يقول في سورة الكهف في الآية 28: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾.. وقد روي أن هذه الآية مدنية. وهي متحدة المعنى مع قوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾(10)، مع شدة التشابه في السياق في الموردين.

وما كان يلقاه النبي من أذى المنافقين وغيرهم من الجفاة وضعفاء الإيمان، لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة.

ولا دليل أيضاً على انحصار الآثم والكفور في مشركي مكة. بل إن بعض المسلمين كان يكسب الآثام، كما صرحت به الآيات. (انتهى كلام العلامة الطباطبائي)..(11).

ثالثاً: إن المعيار في مكية السورة ومدنيتها هو النقل والرواية، لا القياسات والاستحسانات. فإن كان ثمة من رواية تدّعي أنَّ السورة مكية، فلا بد من محاكمتها كرواية، وملاحظة ما فيها من نقاط ضعف وقوة على هذا الأساس.. وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق.. وعلى كل حال.. فإن ثمة العديد من الأدلة على عدم صحة الرواية التي ذكرت: أن عبد الله بن الزبير قد اعتبر هذه السورة مكية، بالإضافة إلى أن ابن الزبير متهم في ما يرويه، خصوصاً إذا كان في سياق إنكار فضائل علي (ع) وآله الطاهرين. فإنه هو المحارب لأمير المؤمنين والمعلن بالتنقص له، ولأهل بيته الطاهرين، حتى إنه ترك الصلاة على النبي في أربعين صلاة جمعة، بحجة: أن له (ص) أهيل سوء يخاف أن يتلعوا بأعناقهم، أو نحو ذلك.

وكذلك الحال بالنسبة للرواية بذلك عن ابن عباس، الذي كان في زمنه (ص) صغيراً لا عبرة بما يرويه في ذلك السن.. خصوصاً وأنها معارضة بمثلها عنه، كما سنرى.

رابعاً: لقد روي عن الإمام علي (ع): أن السورة مدنية(12).

وكذلك روي عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن(13) فراجع..

خامساً: قد ذكرت الروايات الكثيرة المروية من طرق أهل البيت (ع) وغيرهم: أن السورة قد نزلت في مناسبة مرض الحسنين (عليهما السلام)، وصيام علي والزهراء، والحسنين (ع) ثلاثة أيام، وصدقتهم بطعامهم في هذه الأيام الثلاثة المتوالية.

والحسنان (عليهما السلام) إنما ولدا في المدينة كما هو معلوم.

سادساً: إن آيات السورة ذكرت إطعام الطعام للأسير، ولم يكن في مكة أسرى..

إلا أن يقال: إن الكلام قد جاء في الآية على سبيل الافتراض، لا على سبيل الحقيقة.

ولكنه احتمال ضعيف يخالف سياق آيات السورة.. كما أنه يخالف الروايات التي تحدثت عن سبب نزولها.

وأما احتمال أن يكون الأسير أسيراً عند قريش، فهو بعيد أيضاً، إذ لم نعرف عن قريش أنها كان لديها أسرى من حروب خاضتها.

سابعاً: وحتى لو كانت هذه السورة مكية، فإن ذلك لا يضر في صحة رواية نزول السورة في أهل البيت (ع)، فقد أثبتنا أن السورة كانت تنزل أولاً.. ثم وبعد مضي مدة من الزمن تحصل الأحداث التي ترتبط آيات تلك السورة بها، فينزل جبرئيل بتلك الآيات مرة ثانية..(14).


1- تفسير نور الثقلين ج 5 ص 467.

2- تفسير البرهان ج 4 ص 409 و 410 وراجع تفسير نور الثقلين ج5 ص467.

3- وسائل الشيعة (ط دار إحياء التراث العربي) ج4 ص796 وج3 ص40 عن التهذيب للشيخ ج1 ص170 وعن عيون أخبار الرضا ص308.

4- راجع تفسير نور الثقلين ج 5 ص 474 و 477 عن الأمالي للشيخ الصدوق والبرهان (تفسير) ج 4 ص 412 و 413.

5- تفسير نور الثقلين ج 5 ص 473 عن مناقب آل أبي طالب..

6- سورة الصف الآية 8.

7- الدر المنثور ج6 ص297 عن ابن مردويه.

8- المصدر السابق عن النحاس.

9- في ظلال القرآن ج 6 ص 377 ط دار الشروق سنة 1402 هـ.

10- سورة القلم الآية48.

11- تفسير الميزان ج20 ص135 / 136 وراجع: سورة النور الآية 11 وسورة النساء الآية 112.

12- راجع تفسير نور الثقلين ج5 ص468 وتفسير الميزان ج20 ص133 كلاهما عن مجمع البيان.

13- راجع الدر المنثور ج6 ص297 عن البيهقي، وابن مردويه، وتفسير الميزان ج20 ص131 و132 عن الدر المنثور، وعن الإتقان أيضاً عن البيهقي في الدلائل، وعن ابن الضريس.

14- فراجع كتابنا: مختصر مفيد ج4 ص45 ـ 83.