الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

أهداف الدرس

1-أن يتعرّف الطالب إلى نموذج تطبيقي للتفسير على ضوء المنهج الاعتزالي.

1-الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة

إنّ الشفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين جميع أُمم العالَم من قبلُ وخاصةً بين الوثنيّين واليهود. نعم إنّ الإسلام قد طرحها مهذَّبة من الخرافات. ومن وقف على آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشفاعة يقف على أنّ الشفاعة حسب اعتقادهم كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم أو أوثانهم في حطّ الذنوب وغفران آثامهم، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ويرتكبون الذنوب، تعويلاً على ذلك الرجاء، فالآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها تحت شرائط خاصّة كلّها راجعة إلى الشفاعة بهذا المعنى فلو نُفِيَت فالمنفي هو هذا المعنى، ولو قُبِلت فالمقبول هو هذا المعنى. إنّ الآيات الواردة في مجال الشفاعة على سبعة أنواع لا يصحّ تفسيرها إلّا بتفسير بعضها ببعض، وتمييز القسم المردود منها عن المقبول.

ومع ذلك نرى أنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها، وما هذا إلّا للموقف الّذي اتّخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب، في أبحاثهم الكلامية، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.

قال القاضي عبد الجبار: إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا، (تتنزّل) منزلة الشفاعة لِمن قتلَ ولدَ الغير، وترصّد للآخر حتّى يقتله، فكما أنّ ذلك يقبح، فكذلك هاهنا(1).

والّذي دفع القاضي إلى تصوير الشفاعة في حقّ المذنب بما جاء في المثال، هو اعتقاده الراسخ بالأصل الكلامي الّذي يعدّ أصلاً من أُصول منهج الاعتزال (خلود العاصي إذا مات بلا توبة في النار) وفي الوقت نفسه يعرب عن غفلته عن شروط الشفاعة، فإنّ بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه كما تقطع الأواصر الروحية بالشفيع، فأمثال هؤلاء العصاة محرومون من الشفاعة، وقد وردت في الروايات الإسلامية شروط الشفاعة وحرمان طوائف منها.

ولو افترضنا صحّة ما ذكره من التمثيل فحكمه بحرمان العصاة من الشفاعة اجتهاد في مقابل نصوص الآيات وإخضاع لها لمدرسته الفكرية.

يقول الزمخشري في تفسير قوله سبحانه: ﴿أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾(2): ﴿وَلاَ خُلَّةٌ﴾ حتّى يسامحكم أخلّاؤكم به، وإن أردتم أن يحطّ عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حطّ الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل لا غير(3).

يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد نفي الشفاعة بالمعنى المتعارف بين اليهود والوثنيّين لأجل أنّهم من المشركين، وانقطاع صلتهم عن الله سبحانه، وبالتالي إثباتها في حقّ غيرهم بإذنه سبحانه ويقول في الآية التالية: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ﴾، وأمّا أنّ حقيقة الشفاعة زيادة الفضل لا حطّ الذنوب فهو تحميل للعقيدة على الآية، فلو استدلّ القائل بها على نفي الشفاعة بتاتاً لكان أولى من استدلاله على نفي الشفاعة للكفّار، وذلك لأنّ المفروض أنّ الشفاعة بمعنى زيادة الفضل لا حطُّ الذنوب، وهو لا يتصوّر في حقّ الكفّار لأنّهم لا يستحقّون الثواب فضلاً عن زيادته.

2-هل مرتكب الكبيرة يستحقّ المغفرة أم لا؟

اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار إذا مات بلا توبة(4) وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين:

الأُولى: يقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(5).

فالآية ظاهرة في أنّ مغفرة الربّ تشمل الناس في حال كونهم ظالمين، ومن المعلوم أنّ الآية راجعة إلى غير صورة التوبة وإلّا فلا يصحّ وصفهم بكونهم ظالمين، فلو أخذنا بظاهر الآية فهو يدّل على عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، لرجاء شمول مغفرة الربّ له، ولمّا كان ظاهر الآية مخالفاً للأصل الكلامي عند صاحب الكشّاف، حاول تأويل الآية بقوله: "فيه أوجه:

1-أن يريد بقوله ﴿عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ السيئات المكفّرة لمجتنب الكبائر.

2-أو الكبائر بشرط التوبة.

3-أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال(6).

وأنت خبير بأنّ كلّ واحد من الاحتمالات مخالف لظاهر الآية أو صريحها.

الثانية: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾(7).

والآية واردة في حقّ غير التائب، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً، فيعود نتيجة ذلك عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبائر في النار، ولمّا كان مفاد الآية مخالفاً لما هو المحرّر في المدرسة الكلامية للمعتزلة حاول صاحب الكشاف تأويل الآية فقال:

الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين بقوله تعالى: ﴿لِمَن يَشَاء﴾ كأنّه قيل: "إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك" على أنّ المراد بالأوّل من لم يتب وبالثاني من تاب، نظير قولك: إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لايبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله(8).

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية وقد ساقته إليه مدرسته الكلامية فنزّل الأوّل في غير مورد التوبة، والثاني موردها، حتّى تتّفق الآية ومعتقده.

كما أنّه لا دلالة في الآية على تقييد الثاني بالتوبة، لأنّه تفكيك بين الجملتين بلا دليل، بل هما ناظرتان إلى صورة واحدة وهي صورة عدم اقترانهما بالتوبة فلا يغفر الشرك لعِظَم الذنب ويغفر ما دونه.

ومن هذا القبيل أيضاً، تفسيره لقوله سبحانه: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾(9).

فقد فسّره الزمخشري على ضوء مذهب الاعتزال من خلود أصحاب الكبائر إذا ماتوا بلا توبة في النار، وجعل هذه الآية من أدلّة عقيدته، فقال: هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم وخطب غليظ، إلى أن قال والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، ثمّ لا تدعهم أشعبيتهم وطمّاعيتهم الفارغة، واتّباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(10).

فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل، وهو تناول قوله ﴿وَمَن يَقْتُلْ﴾ أي قاتل كان من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلّا أنّ التائب أخرجه الدليل، فمن ادّعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله(11).

إنّ ما ذكره الزمخشري بطوله قد ذكره القاضي عبد الجبّار على وجه الإيجاز، وقال: وجه الاستدلال أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه، وعاقبه، وغضب عليه، ولعنه وأخلده في جهنّم(12).

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ دلالة الآية بالإطلاق، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم، والمسلم القاتل إذا تاب، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفضّل عليه بالعفو، فليس التخصيص أمراً مشكلاً.

وثانياً: أنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن، أو قتله لإيمانه وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات. ومثل هذا يكون كافراً خالداً في النار.

خلاصة الدرس

-إنّ المعتزلة كثيراً ما فسّروا من الآيات القرآنية على ضوء مذهبهم ومنهجهم الّذي يتّبعونه وقد ذكرنا نماذج من تفاسيرهم:

1-الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة

إنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها، وما هذا إلّا للموقف الّذي اتّخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب، في أبحاثهم الكلامية، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.

2-هل مرتكب الكبيرة يستحقّ المغفرة أم لا؟

اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار إذا مات بلا توبة وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين:

الأُولى: يقول سبحانه:﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

الثانية: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكروه خلاف ظاهر الآية وقد ساقتهم إليه مدرستهم الكلامية.


1- شرح الأُصول الخمسة، عبد الجبّار المعتزلي، ص 688.

2- سورة البقرة، الآية: 254.

3- الكشّاف، الزمخشري، ج 1، ص 291 في تفسير الآية رقم 254 من سورة البقرة، دار الكتاب العربي، مصر، 1385هـ 1966م.

4- أنظر: أوائل المقالات، الشيخ المفيد، ص 14، وشرح الأصول الخمسة، عبد الجبار المعتزلي، ص 659.

5- سورة الرعد، الآية: 6.

6- الكشّاف، الزمخشري، ج 2، ص 158.

7- سورة النساء، الآية: 48.

8- الكشّاف، الزمخشري، ج 1، ص 401 في تفسير الآية المذكورة.

9- سورة النساء، الآية: 93.

10- سورة محمد، الآية: 24.

11- الكشّاف، الزمخشري، ج 1، ص 416.

12- شرح الأصول الخمسة، عبد الجبار المعتزلي، ص 659.