الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

أهداف الدرس

1-أن يتعرّف الطالب إلى أقسام التفسير الإشاري ونماذجه.

2-أن يطّلع على نماذج من التفسير الباطني الصحيح.

3-أن يدرك معايير التفسير الباطني الصحيح.

العرفان والتصوّف

يمثّل العرفان نظاماً معرفياً متكاملاً، ينطوي على جانبين أساسين: عملي ونظري، وهكذا التصوّف الحقيقي فإنّه ينطوي على هذين الاتّجاهين، ففي الجانب العملي هو التجربة الحقيقيّة للعارف يمارسها عن طريق ترويض النفس، وتنقية القلب وصقله بواسطة المجاهدات الروحيّة، وبهذا يحصل على التقوى والزهد وغيرها من الدرجات الّتي يحصل عليها الصوفي.

وأمّا الجانب النظري فهو يشابه إلى جانب كبير منه العرفان النظري. وهذا التشابه جعل الكثيرين لا يميّزون بين العرفان والتصوّف.

وهذا ما يفرض علينا البحث في تعريف العرفان والتصوّف.

العرفان النظري: هو فرع من فروع المعرفة الإنسانية الّتي تحاول أن تعطي تفسيراً كاملاً عن الوجود ونظامه وتجليّاته ومراتبه، أو فقل: هو بصدد إعطاء رؤية كونية عن المحاور الأساس في عالم الوجود وهي: "الله الإنسان العالَم"، ولذا قيل بأنّه المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيّة لا بواسطة العقل، ولا بفضل التجربة الحسّية(1).

أما العملي: فهو عبارة عن طريقة للوصول إلى الحقّ تعالى عن طريق الاشتغال بالمجاهدات والرياضات حتّى يتقوّى الإنسان ويتمكّن من معرفة نفسه لتحريرها من علائقها وقيودها لتتّصل بالخالق تعالى. وهو يحتاج إلى العمل المخلص بأحكام الدِّين.

أمّا التصوّف فهو: منهج وطريقة زاهدة، مبتنية على أساس الشرع وتزكية النفس، والإعراض عن الدنيا من أجل الوصول إلى الحقّ تعالى (وهذا طبعاً بالنسبة إلى الصوفية المقبولة شرعاً).

فالفارق بينهما إذاً هو أنّ العرفان نظرية وسلوك، والتصوّف ظاهرة اجتماعية لا تستبطن التنظير أو الرؤية.

ويستعمل العرفان في كلمات جملة من العرفاء مرادفاً للتصوّف، ولكن يُراد به التصوف كطبقة اجتماعية فارغة من البُعد النظري.

أقسام التفسير الإشاري ونماذجه

ذكرنا سابقاً أنّ التفسير الإشاري ينقسم إلى أقسام مختلفة، فأحياناً يقسّم إلى تفسير إشاري نظري وفيضي، وأخرى إلى تفسير إشاري رمزي وشهودي. وهناك من قسّم التفسير الإشاري إلى باطني غير صحيح وباطني صحيح. ونحن سنتّبع هذا التقسيم.

1-التفسير الإشاري الباطني غير الصحيح

وهنا يقوم المفسّر بتأويل آيات القرآن بالاستفادة من الشهود الباطني، أو من خلال النظريات العرفانية، المنافية لظواهر القرآن وقواعد الاستنباط من الظاهر، ودون مراعاة الضوابط المعروفة للوصول إلى الباطن أو الاستفادة من القرائن النقلية أو العقلية، ومن الواضح أنّ هذه الطريقة تنتهي إلى التفسير بالرأي.

وتنقسم هذه الطريقة إلى عدّة أنواع هي:

أ-منهج التفسير الإشاري الشهودي (الفيضي)

في هذه الطريقة يستفيد المفسّر من طريقة الكشف والشهود العرفاني، والتجليّات القلبية في تفسير القرآن، متجاوزاً حدود الظواهر.

مثال: ذكر التستري في تفسيره الباطني معنى "بسم الله" فقال: الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، الميم: مجد الله، الله: هو الاسم الأعظم الّذي حوى الأسماء كلّها، وقال بعض الصوفيين في تفسير الآية: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾: الأمر الظاهر بتطهير البيت، والإرشاد من الآية إلى تطهير القلب..وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار"(2).

ب- منهج التفسير الإشاري (النظري)

وهنا يقوم المفسّر باستخدام المباني النظرية للعرفان النظري في تفسير آيات القرآن متجاوزاً حدود الظاهر دون وجود أية قرينة عقلية أو نقلية على هذا التأويل.

مثال: نُقل عن الصوفية في تفسير الآية ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُون﴾ قال: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا وظهورنا في صوركم. وفي سورة المزمّل ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ قال: واذكر اسم ربّك الّذي هو أنت، أي اعرف نفسك واذكرها ولا تنسها فينساك الله(3).

ج- منهج التفسير الإشاري( الباطني)

أنكر بعضهم ظواهر القرآن والشرع، وقالوا إنّ المقصود الحقيقي للقرآن هو الباطن فقط، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك فقالوا إنّ ظواهر العبادات والجنّة والنار إشارات إلى أسرار المذهب وأشخاص معيّنين (رؤسائهم).

مثال: قالوا إنّ المقصود من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والمسجد الحرام أشخاص معيّنين (أئمّة الباطنية) وإنّ معرفة الدِّين تكمن في معرفة ذلك الشخص.

الملاحظات الأساس على هذه المناهج

1-إنّها تقوم على أساس الشهود (حالة روحية للشخص نتيجة الأذكار والتأمُّل) الّذي يمكن أن يشتمل على مصاديق إلهية وشيطانية، ومن الصعب تشخيص الحدود بين المكاشفات الشيطانية والإلهية، ثمّ إنّها لو كانت صحيحة فهي حجّة على أصحابها فقط وبمعونة الإيمان بصاحبها تصبح حجّة على اتباعه.

2-إنّ القرآن الكريم لم ينزل على الصوفيّة فقط ليفسّروه عن طريق مبانيهم، بل نزل لعموم الناس، ولهذا فإنّ ذلك يعتبر من منهج التفسير بالرأي ولا يمكن إقامة البرهان عليه.

3-إنّ هذه الطريقة خارجة عن حدود الدلالة اللفظيّة للقرآن، فهي ليست من باب التفسير بل هي صياغة لآراء ومباني التصوّف والعرفان النظري بقوالب قرآنية.

2-منهج التفسير الباطني الصحيح

أشارت بعض الأحاديث الصادرة عن الرسول (ص) والأئمّة عليهم السلام إلى أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، بل بطوناً متعدّدة، وهذا ما دعا بعض المفسّرين إلى الاهتمام بباطن الآيات بالإضافة إلى التفسير الباطني المعتبر. وقد أيَّد هذا النوع من التفسير الإشاري الصحيح كلّ من الإمام الخميني والعلّامة الطباطبائي، لأنّه لا يتمّ فيه التأكيد على الإشراقات والشهودات القلبية والتأويلات الّتي لا تستند إلى أيّ دليل، ولا يقوم على أساس تحميل المباني النظرية على القرآن، ولا يسلك منهج الباطنية في التأويل.

نماذج من التفسير الباطني الصحيح

1-قال تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾(4). فقد جاء عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "من حرقٍ أو غرقٍ ثمّ سكت ثمّ قال: "تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له"(5).

وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع) قال: "من حرقٍ أو غرقٍ، قيل فمن أخرجها من ضلال إلى هدى، قال: تأويلها الأعظم"(6).

إنّ ظاهر الآية المتقدِّمة يتحدّث عن قتل وإحياء الإنسان، فقتل وإحياء أحدهم يعني قتل وإحياء جميع البشر، أمّا تأويلها (الباطني) فهو أهمّ وأعظم، ويأتي ذلك عن طريق إلغاء الخصوصيّة (قتل وإحياء الجسم المادّي) والحصول على قاعدة كلّية تشمل كلّ أنواع الإحياء؛ فإذا ما نجا الإنسان من الضلال وهُدي إلى صراط مستقيم فإنّ روحه سوف تحيا بروح الإيمان والاستجابة لدعوة الحقّ؛ ومثل هذا العمل يعتبر إحياءً لجميع البشر.

وفي الحديث، عن عبد الله بن سنان، عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله (ع): إنّ الله أمرني في كتابه بأمر فأحبّ أن أعمله، قال: "وما ذاك"؟ قلت: قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾(7) قال (ع): "ليقضوا تفثهم لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، قال: عبد الله بن سنان فأتيت أبا عبد الله (ع) فقلت: جعلت فداك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ قال: أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلت فداك إنّ ذريح المحاربيّ حدّثني عنك بأنّك قلت له: ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُم﴾ لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، فقال: "صدق ذريح وصدقت إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح"؟!(8).

2-كتب الإمام الخميني قدس سره في مورد الاستفادة العرفانية والأخلاقية من آيات القرآن فقال: فلو أنّ شخصاً قرأ وتأمّل في المحاورة الّتي جرت بين موسى والخضر، وطبيعة التعامل فيما بينهما وقيام موسى بشدّ رحاله مع سموّ مقام نبوّته طلباً لعلم لم يكن عنده، وكيفية عرضه حاجته على الخضر بالنحو الوارد في الآية الكريمة: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾(9)، وجواب الخضر واعتذارات موسى المتكرّرة، ثمّ استفاد من كلّ ذلك عظمة مقام العلم وبعض آداب تعامل المتعلّم مع المعلّم الّتي قد يصل ما ورد منها في تلك الآيات إلى ما يقرب من العشرين أدباً..، ثمّ قال: إنّ الكثير من استفادات القرآن هي من هذا القبيل(10).

3- ورد في قصّة النبيّ يوسف (ع) أنّ إخوته وفي سبيل إحكام خطّتهم لإبعاد يوسف عن أبيه قالوا لأبيهم: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(11). ظاهر الآية يحكي عن حياة يوسف ومكر إخوته لإبعاده عن أبيه، في حين أنّ هناك عبرة يمكن استخلاصها من هذه القصّة وهي أنّ المخالفين لطريقة الهداية يحاولون أن يسرقوا أولادكم بحجّة اللعب والقضايا المادّية، فلا بدّ أن تحذروا من ذلك. وهذه المسألة يمكن تطبيقها في كلّ وقت بعد إلغاء الخصوصيات الزمانية والمكانية والأفراد المذكورين في القصّة، واستخراج قاعدة كلّية وعبرة تصلح للجميع، ويمكن أن نجد لهذه القصّة مصاديق كثيرة في الوقت الحاضر، فالمستعمرون وعن طريق استخدام طرق متعدِّدة من اللعب يسعون إلى فصل جيل الشباب عن أمّتهم وإلقائهم في التيه والضياع. فالقرآن لم يقصّ علينا قصص لنتسلّى بها، بل للعبرة.

عن الإمام الرضا (ع) قال: "إنّ رجلاً سأل أبا عبد الله (ع): ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلّا غضاضة؟ فقال: لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة"(12).

معايير التفسير الإشاري الصحيح

1- الالتفات إلى ظاهر الآية وباطنها في آنٍ واحد، أي يجب عدم إغفال ظاهر الآية في التفسير، فعلى المفسّر أن لا يدّعي بأنّ تفسيره (المعنى الإشاري) هو المراد الوحيد للآية، وهذه الضابطة تستفاد من كلام العلّامة الطباطبائي وغيره.

2-رعاية المناسبة القريبة بين ظاهر الكلام وباطنه؛ أي ينبغي أن لا تكون الدلالة الباطينة أجنبية عن االظواهر، لا مُناسبة بينها وبين اللفظ، فإذا كان معنى التأويل هو المفهوم المنتزع من الكلام، فلا بدّ أن تكون هُناك مناسبة لفظية تستدعي هذا الانتزاع.

3- عدم منافاة التفسير الإشاري للأدلّة القطعية والآيات المحكمة في القرآن.

4- الاستفادة من القرائن المعتبرة العقلية والنقلية (الآيات والروايات).

خلاصة الدرس

-هناك تقسيمات متنوِّعة للتفسير الإشاري، وأفضلها تقسيمه إلى قسمين: التفسير الإشاري الباطني الصحيح وغير الصحيح.

-يعتمد التفسير الإشاري الباطني غير الصحيح على النظريات العرفانية أو الشهود العرفاني والأمر الذوقي والّذي لا يتمتّع بأيّ ضابطة؛ ممّا ينتهي بالمفسِّر إلى الوقوع في التفسير بالرأي.

-يُقسّم التفسير الإشاري غير صحيح إلى ثلاثة أقسام: تفسير إشاري شهودي (فيضي)، وتفسير إشاري نظري، وتفسير إشاري باطني.

- معايير التفسير الإشاري الصحيح عبارة عن: الالتفات إلى الظاهر والباطن معاً، رعاية المناسبة القريبة بين الظاهر والباطن، الدقّة في إلغاء الخصوصية من الكلام، عدم مخالفة التفسير الإشاري لمحكمات القرآن والأدلّة العقلية.


1- محاضرات في الأيديولوجية المقارنة، محمّد تقي مصباح اليزدي، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني، ص 20 21، دار الحق، قم، ط 1.

2- أنظر: هذه الأمثلة وغيرها بالتفصيل في: دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 204 205، والتفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هاذي معرفة، ج 2، ص939 وما بعدها.

3- أنظر هذه الأمثلة وغيرها بالتفصيل في: دروس في المناهج والإتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 204 205، والتفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 939 وما بعدها.

4- سورة المائدة، الآية: 32.

5- تفسير الصافي، لطف الله الكلبايكاني، ج 2، ص 31، قم، منشورات إسلامي، 1370هـ.

6- م. ن.

7- سورة الحج: الآية: 29.

8- الكافي، ج4، ص549.

9- سورة الكهف، الآية: 66.

10- ﭙرواز درملكوت مشتمل بر آداب الصلاة (رحلة إلى الملكوت ضمن كتاب آداب الصلاة بالفارسية) الإمام الخميني، ج 2، ص 114.

11- سورة يوسف، الآية:12.

12- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 62، ص 15.