الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن (نموذج تطبيقي)

أهداف الدرس

1-أن يطّلع الطالب على نموذج من الإسرائيليات.

2-أن يتعرّف إلى التفسير الصحيح للنموذج المذكور.

الإسرائيليات في قصّة داوود (ع)

من الإسرائيليات الّتي تحطّ من مقام الأنبياء عليهم السلام، وتُنافي عصمتهم، ما ذكره بعض المفسّرين في قصّة نبيّ الله داوود (ع) عند تفسير قوله تعالى:

﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾(1).

فقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغويّ، والسيوطيّ في الدّر المنثور(2) من الأخبار ما تقشعرّ منه الأبدان، ولا يوافق عقلاً، ولا نقلاً، عن ابن عبّاس، ومجاهد، ووهب بن منبّه، وكعب الأحبار، والسدّيّ، وغيرهم ما مُحصَّلها: أنّ داوود (ع) حدّث نفسه؛ إن ابتُلي أن يعتصم، فقيل له: إنّك ستبتلى وستعلم اليوم الّذي تبتلى فيه، فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الّذي تبتلى فيه، فأخذ الزبور، ودخل المحراب، وأغلق بابه، وأقعد خادمه على الباب، وقال: لا تأذن لأحد اليوم. فبينما هو يقرأ الزبور(3)، إذ جاء طائر مذهّب يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن أن يأخذه، فطار فوقع على كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه، فطار، فأشرف عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل...(4)، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داوود إلى رأس الغزاة: أن اجعله في حملة التابوت(5)، وكان حملة التابوت إمّا أن يُفتح عليهم، وإمّا أن يُقتلوا، فقدّمه في حملة التابوت، فقُتل.

وفي بعض هذه الروايات الباطلة: أنّه فعل ذلك ثلاث مرّات، حتّى قُتل في الثالثة، فلمّا انقضت عدّتها، خطبها داوود (ع)، فتسوّر عليه الملكان، وكان ما كان، ممّا حكاه الله تعالى.

ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة على بعض الصحابة والتابعين، ومسلمة أهل الكتاب، بل جاء بعضها مرفوعاً إلى النبيّ (ص) !!

الكذب على النبيّ (ص)

ومن ثمّ يتبيّن لنا كذب هذه الرواية المنكرة المرفوعة إلى رسول الله (ص)، ولا نصدّق، بورود هذا عن المعصوم، وإنّما هي اختلاقات، وأكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب، وهل يشكّ مؤمن عاقل يقرّ بعصمة الأنبياء عليهم السلام، في استحالة صدور هذا عن النبيّ داوود (ع)، ثمّ يكون على لسان مَن؟ على لسان مَن كان حريصاً على تنزيه إخوانه الأنبياء عليهم السلام عمّا لا يليق بعصمتهم، وهو نبيّنا محمّد (ص) ومثل هذا التدبير السيّئ، والاسترسال فيه على ما رووا، لو صدر من رجل من سوقة الناس وعامّتهم، لاعتُبر أمراً مستهجناً مستقبحاً، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس، زكت نفسه، وطهرت سريرته، وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو الأسوة الحسنة لمن أُرسل إليهم؟!!

ولو أنّ القصّة كانت صحيحة لذهبت بعصمة النبيّ داوود (ع)، ولنفرت منه الناس، ولكان لهم العذر في عدم الإيمان به، فلا يحصل المقصد الّذي من أجله أرسل الرسل، وكيف يكون على هذه الحال من قال الله تعالى في شأنه: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾؟ قال ابن كثير في تفسيرها: "وإنّ له يوم القيامة لقربة يقرّبه الله عزّ وجلّ بها وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية في الجنّة لنبوّته وعدله التامّ في مُلكه"(6).

ولكي يستقيم هذا الباطل قالوا: إنّ المراد بالنعجة هي المرأة، وأنّ القصّة خرجت مخرج الرمز والإشارة، ورووا: أنّ الملكين لمّا سمعا حكم داوود، وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: وما جزاء من فعل ذلك؟ قال: يقطع هذا، وأشار إلى عنقه. وفي رواية: "يضرب من ها هنا، وها هنا، وها هنا وأشار إلى جبهته، وأنفه، وما تحته، فضحكا، وقالا،:أنت أحقّ بذلك منه، ثمّ صعدا".

وذكر البغويّ في تفسيره وغيره، عن وهب بن منبّه: أنّ داوود لمّا تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا يرقأ دمعه ليلاً ونهاراً، وكان أصاب الخطيئة، وهو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيّام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي، والجبال، والسواحل، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه، فيساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الشجر، والرمال، والطير، والوحش، حتّى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثمّ يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، وتبكي معه الجبال، والحجارة، والدوابّ، والطير، حتّى تسيل من بكائهم الأودية، ثمّ يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الحيتان، ودوابّ البحر وطير الماء والسباع(7). والحقّ: إنّ الآيات ليس فيها شيء ممّا ذكروا، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة والّتي عليها المعوّل، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه، ولا ما يصرف القصّة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة.

وما أحسن ما قال الإمام القاضي عيّاض: "لا تلتفت إلى ما سطّره الأخباريّون من أهل الكتاب، الّذين بدّلوا، وغيّروا، ونقله بعض المفسِّرين، ولم ينصّ الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والّذي نصّ عليه في قصّة داوود: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ وليس في قصّة داوود، وأوريا خبر ثابت(8).

والمحقّقون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي، قال الداوديّ: ليس في قصّة داوود وأوريا خبر يثبت، ولا يُظنّ بنبيٍّ محبّةُ قتلِ مسلم، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "من حدّث بحديث داوود على ما يرويه القُصّاص جلدته مائة وستّين جلدة"، وذلك حدّ الفرية على الأنبياء(9)، وهذا الكلام مرويّ عن الإمام الصادق (ع) أيضاً(10).

التفسير الصحيح للآيات

وإذا كان ما روي في تفسير هذه الآيات من الإسرائيليات الباطلة، فما التفسير الصحيح لها؟

والجواب: إنّ الذي أوضحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أنّ شخصين تسوّرا جدران محراب النبيّ داوود (ع) ليحتكما عنده، وأنّه فزع عند رؤيتهما، ثم استمع إلى أقوال المشتكي الّذي قال: إنّ لأخيه تسع وتسعون نعجة وله نعجة واحدة، وإنّ أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه، فأعطى النبي داوود (ع) الحقّ للمشتكي، واعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلماً وطغياناً، فالتفت النبي داود (ع) إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر، وقال: من البديهي أنّه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه.

على أيّة حال، فالظاهر أنّ طرفي الخصام اقتنعا بكلام النبي داوود (ع) وغادرا المكان. ولكن النبي داوود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنّه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين، فلو كان الطرف الثاني مخالفاً لإدعاءات الطرف الأوّل -أي المدّعي- لكان قد اعترض عليه، إذاً فسكوته هو خير دليل على أنّ القضية هي كما طرحها المدّعي. ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على النبي داوود (ع) أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثمّ يحكم بينهما، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا، وظنّ أنّما فتنه الباري عزّ وجل بهذه الحادثة. وهنا أدركته طبيعته، وهي أنّه أوّاب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعاً تائباً إلى الله العزيز الحكيم.

وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضاً: الأولى مسألة الامتحان، والثانية مسألة الاستغفار. القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين، إلّا أنّ الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها تقول: إنّ النبي داوود (ع) كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية، كدخول الشخصين عليه من طريق غير اعتيادي وغير مألوف، إذ تسوّرا جدران محرابه، وابتلائه بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني، رغم أنّ حكمه كان عادلاً. ورغم أنّه انتبه بسرعة إلى زلّته، وأصلحها قبل مضي الوقت، ولكن مهما كان فإنّ العمل الّذي قام به لا يليق بمقام النبوّة الرفيع، ولهذا فإنّ استغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى، وإنّ الله شمله بعفوه ومغفرته. والشاهد على هذا التفسير هو الآية التي تأتي مباشرة بعد تلك الآيات، والتي تخاطب النبي داوود (ع): يا داوود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. وهذه الآية تبيّن أنّ زلة النبي داوود كانت في كيفية قضائه وحكمه. وبهذا الشكل فإنّ الآيات المذكورة أعلاه لا تذكر شيئاً يقلّل من شأن ومقام هذا النبي الكبير(11).

خلاصة الدرس

-من الإسرائيليات الداخلة إلى التراث الإسلامي في تفسير القرآن الكريم قصّة النبيّ داوود (ع) وحاشا لنبيٍّ أن يقع بمثل ما ورد.

-إنّ التفسير الصحيح المتعلّق بالنبيّ داوود هو: أنّ النبي داوود (ع) كان ذا علم واسع في أمر القضاء، وأراد الله (تعالى) أن يمتحنه، فلذا أرسل إليه الشخصين من طريق غير اعتيادي، وابتلاه الله (تعالى) في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني، رغم أنّ حكمه كان عادلاً. فاستغفاره (ع) كان لعدم استماعه إلى الطرف الثاني.


1- سورة ص، الآيات: 21ـ 25.

2- الدر المنثور, جلال الدين السيوطي, ج5, ص300-302.

3- كتاب داوود عليه السلام.

4- قمنا بحذف بعض العبارات مما لا يليق ذكره فضلاً عن نسبته إلى نبيّ عليه السلام.

5- صندوق فيه بعض آثار أنبياء بني إسرائيل، فكانوا يقدّمونه بين يدى الجيش كي ينصروا.

6- تفسير ابن كثير، ج 4، ص 35.

7- تفسير البغوي، ج 4، ص 57 58.

8- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عيّاض، ج 2، ص 158، دار الفكر، بيروت، 1409هـ 1988م.

9- لأنّ حدّ القذف لغير الأنبياء عليهم السلام ثمانين، فرأى عليه السلام تضعيفه بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام وفي الكذب عليهم رمي لهم بما هم براء منه، ففيه معنى القذف لداود بالتعدّي على حرمات الأعراض والتحايل في سبيل ذلك.

10- أنظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 8، ص 472؛ بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 14، ص 29.

11- التفسير الأمثل،الشيخ مكارم الشيرازي،ج14،ص481و483.