الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

أهداف الدرس

1-أن يعدِّد الطالب إلى أهمّ الصحابة المعروفين في التفسير.

2-أن يطّلع على ابن عباس نموذجاً في التفسير.

تمهيد

لا شكّ أنّ الصحابة، ممّن ﴿رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾(1) كانوا هم مراجع الأمّة بعد الرسول (ص) إذ كانوا حاملي لوائه ومصادر شريعته إلى الملأ، نعم كانوا على درجات من العلم والفضيلة، ولا يشكّ أحد بأنّ الإمام عليّ (ع) الّذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير(2) كان في صدارة هؤلاء الصحابة والتلامذة النجباء لرسول الله (ص)، وعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه أحد لملازمته للنبيّ (ص).

المفسّرون من الصحابة

اشتهر بالتفسير من الصحابة أربعة، لا خامس لهم في مثل مقامهم في العلم بمعاني القرآن، وهم؛ عليّ بن أبي طالب عليهما السلام: وكان رأساً وأعلم الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، كان أصغرهم وأوسعهم باعاً في نشر التفسير.

ولهذا نرى أنّه من الضروري الإطلالة الإجمالية على دور هذه الشخصيّات في علم التفسير، ونختم الكلام بنموذج شبه تفصيلي.

من أعلم الصحابة بمعاني القرآن

1-الإمام عليّ بن أبي طالب عليهما السلام

قال ابن عباس: جلّ ما تعلّمت من التفسير، من عليّ بن أبي طالب (ع). وقال: عليٌّ عَلِمَ علماً علّمه رسول الله، ورسول الله علّمه الله فعِلم النبيّ من عِلم الله، وعلم عليّ من علم النبيّ، وعلمي من علم عليّ (ع). وما علمي وعلم أصحاب محمّد (ص) في علم عليّ إلّا كقطرة في سبعة أبحر(3).

وقال ابن مسعود: إنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن(4).

ويصف الإمام (ع) نفسه وموضعه من رسول الله (ص) فيقول: "سلوني عن كتاب الله، فإنّه ليست آية إلّا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أو جبل"(5). "والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيمَ نزلت، وأين نزلت إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً"(6).

2-عبد الله مسعود

هو من السابقين إلى الإيمان، وأوّل من جهر بالقرآن بمكّة، وأوذي في الله من أجل ذلك، وكان من أحفظ الناس لكتاب الله، وكان النبيّ (ص) يُحبُّ أن يسمع القرآن منه، وكانت له مكانة سامية في التفسير لذا كان يقول: "والّذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت" وروي عنه الكثير لا سيّما من قبل كبار المفسِّرين من التابعين، والمتّفق عليه أنّه أخذ العلم من عليّ (ع) بعد رسول الله (ص) وليس من غيره بتاتاً. وكان ابن مسعود ممّن شدّ وثاقه بولاء آل بيت رسول الله (ص)، لم يشذّ عن طريقتهم المُثلى منذ أوّل يومه إلى آخر أيّام حياته(7).

3- أُبيّ بن كعب

أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار.

عدّه الشيخ الطوسي رحمه الله في رجاله(8) بهذا العنوان من أصحاب رسول الله (ص) وقال يكنّى أبا المنذر شهد العقبة مع السبعين وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله (ص) بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. شهد بدراً والعقبة وبايع لرسول الله (ص). ومثله بحذف اسم آبائه إلى كنيته ما في الخلاصة في قسم المعتمدين(9)، وقد نقل عنه في التفسير الكثير.

4- عبد الله بن عباس

حبر الأمّة وترجمان القرآن وأعلم الناس بالتفسير تنزيله وتأويله تلميذ الإمام عليّ (ع)، وقد بلغ من العلم مبلغاً قال في حقّه الإمام عليّ (ع): "كأنّما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق"(10). ولا غرو في ذلك فإنّ الرسول (ص) قد دعا له بقوله: "اللهم فقّهه في الدِّين وعلّمه التأويل"(11) وقال (ص): "ولكلّ شيء فارس، وفارس القرآن ابن عباس"(12).

ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتربّى في حِجر النبيّ (ص) ثمّ الإمام عليّ (ع)، ومن ثمّ كان من المتفانين في ولاء الإمام (ع).

وكان يراجع سائر الاصحاب ممّن يحتمل عنده شيء من أحاديث الرسول وسُننه، فكان يأتي أبواب الأنصار ممّن عنده علم من الرسول، ويستطرق الأبواب لكبار الصحابة ليسأل عمّا يريد. قيل لطاووس (13): لزمْتَ هذا الغلام يعني ابن عباس لكونه أصغر الصحابة يومذاك وتركْتَ الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) ؟ قال: "إنّي رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله (ص)، إذا تدارؤوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس"(14).

وله في فضائل أهل البيت ولا سيّما الإمام عليّ (ع) أقوال وآثار باقية، إلى جنب مواقفه الحاسمة، ويكفيك أنّه من رواة حديث الغدير، مفسِّراً له بالخلافة والوصاية بعد النبيّ (ص) وكان الإمام الباقر (ع) يحبّه حبّاً شديداً، وقد كُفّ بصره بعد واقعة الطّف، لكثرة بكائه على مصائب أهل البيت عليهم السلام، وكانت وفاته سنة (68ه-)(15).

أ-توسّعه في التفسير

لم تمض العشرة الأولى من وفاة الرسول (ص) إلّا ونرى ابن عبّاس قد تفرّغ للتفسير واستنباط معاني القرآن. بينما سائر الصحابة كانت قد أشغلتهم شؤون شتّى، نراه صارفاً همّته في فهم القرآن وتعليمه واستنباط معانيه وبيانه، فكان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة الكبار ولا سيّما من الإمام عليّ (ع) باب علم النبيّ (ص)، وكان يعقد الحلقات القرآنية في مسجد النبيّ (ص) بأمر من الإمام عليّ (ع).

لكن بموازاة انتشار العلم منه في الآفاق، راج الوضع على لسانه ونسبت إليه الكثير من الروايات، لمكان شهرته ومعرفته في التفسير. ومن ثمّ فإنّ التشكيك في أكثر المأثور عنه أمر محتمل.

ب-منهجه في التفسير

أخذ ابن عباس العلم عن الإمام عليّ (ع) وتتلمذ على يديه وتلقّى التفسير عنه سواء في أصول مبانيه أم في فروع معانيه. وسار على منهج مستقيم في استنباط معاني القرآن، ولم يَحد عن منهج السلف الصالح في تفسير القرآن وفهم معانيه.

وحدّد ابن عباس معالم منهجه في التفسير بقوله: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذَر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله"(16).

فالقرآن فيه مواعظ وتكاليف يجب على المسلمين معرفتها والعمل بها، وفيه غريب اللغة ومشكلها، ممّا يمكن فهمها وحلّ مُعضلِها، بمراجعة الفصيح من كلام العرب، وفيه مسائل عن المبدأ والمعاد وفلسفة الوجود لا بدّ من الرجوع في تفسيرها إلى أهل العلم والمعرفة، وبقي المتشابه ما لا يعلمه إلّا الله أو من أطلعهم الله عليها وهم النبيّ (ص) والصفوة من أهل بيته عليهم السلام.

وعلى ضوء هذا التقسيم الرباعي يمكننا الوقوف على مباني التفسير الّتي استند إليها ابن عباس في تفسيره للقرآن الكريم:

1-مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته

إذ خير دليل على مراد أيّ متكلّم، هي القرائن اللفظيّة الّتي تحفّ كلامه، والّتي جعلها مسانيد نطقه وبيانه، وهكذا بالنسبة إلى القرائن المنفصلة (من دلائل العقل..)، والقرآن فيه من العموم ما كان تخصيصه في بيان آخر، أو تقييد لمطلقاته، وليس لأيّ مفسِّر أن يأخذ بظاهر آية ما لم يفحص عن صوارفها وسائر بيانات القرآن الّتي جاءت في غير آية.

ومن هذا القبيل ما رواه السيوطي عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾(17) قال: "كنتم أمواتاً قبل أن يخلقكم؛ فهذه ميتة، ثمّ أحياكم؛ فهذه حياة، ثمّ يميتكم فترجعون إلى القبور؛ فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة؛ فهذه حياة. فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾(18).

2-رعايته لأسباب النزول

والّتي لها دورها الخطير في فهم معاني القرآن؛ حيث الآيات والسور نزلت نجوماً، وفي فترات وشؤون يختلف بعضها عن بعض، ولولا الوقوف على تلك الأسباب الواردة في شأن النزول لما أمكن فهم مرامي الآيات. ولهذا اهتمّ ابن عباس واعتمد لفهم معاني القرآن على معرفة أسباب النزول، وكان يسأل ويستقصي عن الأسباب والأشخاص الّذين نزل فيهم قرآن وسائر ما يمسّ شأن النزول.

عن ابن عباس قال: لم أزل حريصاً أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ (ص) اللّتين قال الله تعالى بشأنهما: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا.....﴾(19) حتّى حجّ عمر وحججت معه... فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة(20).

وبلغ به الأمر في تقصّيه لأسباب النزول أن يعرف الحضريّ من السفريّ، والنهاريّ من الليليّ، وفيم أُنزل، وفيمن أُنزل، ومتى أُنزل، وأين أُنزل، وأوّل ما نزل، وآخر ما نزل...(21)

3-اعتماده المأثور من التفسير المرويّ

وهذا واضح من خلال تتبّعه آثار الرسول وأحاديثه، واستطراقه لأبواب الصحابة العلماء، ليأخذ منهم ما حفظوه من سنّة النبيّ وسيرته الكريمة، وقوله: "ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام "، إنّما يعني اعتماد المأثور من التفسير(22).

4-اضطلاعه بالأدب الرفيع

فقد نزل القرآن بالفصحى من لغة العرب، فما أشكل من فهم معاني كلماته، لا بدّ لحلّها من مراجعة الفصيح من كلام العرب المعاصر لنزول القرآن.

وكان ابن عباس صاحب ذوق أدبي رفيع وثقافة لغويّة عالية، فكان يقول: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الّذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه(23). فقد سُئِل ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾(24). قال: العزون: الحِلَق الرقاق، وعن قوله تعالى: ﴿إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِه﴾(25) قال: نُضجه وبلاغه، وعن﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُون﴾(26)، قال: السفينة الموقرة الممتلئة، وعن ﴿جَدُّ رَبِّنَا﴾(27)، قال: عظمة ربّنا، وفي كلّ ذلك استشهد بقول الشعراء(28).

تفسير ابن عباس

هناك تفاسير منسوبة إلى ابن عباس، منها: ما رواه مجاهد بن جبر برواية حميد بن قيس، وأبي نجيع يسار الثقفي، وقد طُبع أخيراً باهتمام مجمع البحوث الإسلامية بباكستان سنة (1367ه-)، والثاني: تفسير ابن عباس عن الصحابة، لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلوديّ المتوفى سنة (332ه-)، والثالث: تفسير ابن عباس الموسوم ب- "تنوير المقباس" من تفسير عبد الله بن عباس، في أربعة أجزاء، من تأليف محمّد بن يعقوب الفيروز آباديّ صاحب القاموس (729 817ه-)(29).

خلاصة الدرس

-كان الصحابة ممّن رضي الله عنهم مراجع الأمّة بعد النبيّ (ص)، وعلى رأسهم الإمام عليّ (ع) في بيان معاني القرآن الكريم.

-اشتهر بالتفسير من الصحابة أربعة: الإمام عليّ (ع) وكان رأساً وأعلم الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن عباس.

-كلّ الشواهد التأريخية وما رواه ابن عباس تشير إلى أنّ ابن عباس أخذ علم التفسير عن النبيّ (ص) والإمام عليّ (ع)، وهكذا عبد الله بن مسعود، وأُبي.

-أعتُبر ابن عباس حبر الأمّة وترجمان القرآن لسعة علومه واطلاعه على معاني القرآن وأسباب النزول.

-استند ابن عباس في تفسيره للقرآن إلى عدّة أمور هي:

1-مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته.

2-رعايته لأسباب النزول.

3-اعتماده المأثور من التفسير المروي.

4-إضطلاعه بالأدب والشعر العربي الرفيع.


1- أنظر سور: المائدة، الآية:119، المجادلة، الآية: 22، البيّنة، الآية:8، التوبة، الآية:100.

2- نهج البلاغة، الخطبة: 3 (الشقشقية).

3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 89، ص 105 106.

4- الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج 2، ص 509، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.

5- تفسير العيّاشي، محمّد بن مسعود العيّاشي، ج 8، ص 283، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

6- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 190.

7- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 193.

8- رجال الطوسي، ص22، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415هـ.

9- خلاصة الأقوال، العلّامة الحلّي، ج1، ص66، مؤسّسة نشر الفقاهة، ط1، 1417هـ.

10- م. ن، ج 3، ص 19.

11- م. ن.

12- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 22، ص 343.

13- هو طاووس بن كيسان اليماني، وروي أنّه أدرك خمسين من الصحابة. عدّة الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب السجّاد عليه السلام، مات رحمه الله تعالى سنة 106 هـ. أنظر: رجال الطوسي، ج3، ص 94.

14- أنظر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج 2، ص 330 334 رقم: 4781.

15- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 198ـ 203.

16- تفسير الطبري، أبو جعفر بن جرير الطبري، ج 1، ص 26.

17- سورة غافر، الآية: 11.

18- سورة البقرة، الآية: 28، وراجع الدّر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي: ج5، ص347، دار الفكر، ط1، 1403هـ.

19- سورة التحريم، الآية: 4.

20- الدّر المنثور، جلال الدين السيوطي، ج 6، ص 242.

21- أنظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 1، ص 51ـ 57 و60ـ 64، و68ـ 76 وغير ذلك.

22- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 210.

23- م. ن، ص 212.

24- سورة المعارج، الآية:37.

25- سورة الأنعام، الآية: 99.

26- سورة الشعراء، الآية: 119.

27- سورة الجن، الآية: 3.

28- أنظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 2، ص 56ـ 88.

29- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 254ـ 256.