الدرس الثالث: مقاصد القرآن (2)

أهداف الدرس:

?أن يتعرّف الطالب إلى بعضٍ من مقاصد القرآن: معرفة المعاد، الأخلاقيّات الإيمانيّة.

ثالثاً، معرفة المعاد وبيان أحواله‏

هناك جانب آخر أخذ حيزاً هامّاً من مطالب ومضمون النصّ القرآنيّ، وذلك في بيان مسألة الإيمان باليوم الآخر وإقامة الأدلّة والبراهين على إثباته.

حتّى أنّ القرآن الكريم يُلحق مسألة الإيمان باليوم الآخر في كثير من المواضع بالإيمان بالله مباشرة إثباتاً ونفياً، فيصف المؤمنين بأنّهم هم الّذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويصف الكافرين بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.

والقرآن في حديثه المستفيض عن المعاد أراد إثباته أوّلاً للجاحدين به والمنكرين للبعث والحساب، فساق الأدلّة النظريّة والبراهين العقليّة وأتبعها بأمور وجدانيّة يراها الإنسان بأمّ عينه.

﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾(1).

ثمّ ببيان حوادث جُربت في التاريخ وأورد قصّتها القرآن لمزيد يقين كقصّة أصحاب الكهف وقصّة العُزير الّذي أماته الله مائة عام ثمّ بعثه.

ولئن كان للحديث عن البعث والحساب بعض أسبابه الّتي تعود إلى إنكار العرب الباتّ للبعث، ولكنّ بعضه الآخر كان لضرورة ترسيخ هذه العقيدة في نفوس المؤمنين لما لها من تأثير بالغ في سلوك الإنسان فإنّه لا شي‏ء يُمكن أن يدفع الإنسان للتنازل عن المتاع الزائد عن الحدّ المدفوع إليه بغريزته والالتزام بالحدود الّتي رسمها الله إلّا الإيمان الجازم بأنّ ما يتركه في الدنيا طاعة لله يلقاه في الآخرة مضاعفاً، ولا يزول أبداً.

ويغدو حديث القرآن عن الآخرة بمثابة شريط حافل بالمشاهد الحيّة حتّى لكأنّ الإنسان يُخيّل إليه أنّه يراها عياناً وليست حديثاً عن المستقبل. إنّه شريط يجمع بين مشاهد العذاب ومشاهد النعيم ليختار الإنسان أيّهما شاء.

قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾(2)

وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا﴾(3)

ويقول نعوذ بلطفه من عذابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(4).

رابعاً، الأخلاقيّات الإيمانيّة في القرآن‏

موضوع آخر من موضوعات القرآن الكريم ومقصد من مقاصده هو الأخلاقيّات الإيمانيّة وما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون بوحي من إيمانهم، في مقابل ما هم عليه الكافرون والفاسقون بوحي من ضلالتهم.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "ومن مقاصده ومطالبه الدعوة إلى تهذيب النفوس وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة وتحصيل السعادة. وبالجملة كيفيّة السير والسلوك إلى الله تعالى، وهذا المطلب الشريف منقسم إلى شعبتين مهمّتين:

إحداهما: التقوى بجميع مراتبها المندرجة فيها التقوى عن غير الحقّ، والإعراض المطلق عمّا سوى الله.

وثانيهما: "الإيمان بتمام المراتب والشؤون المندرجة في الإقبال على الحقّ، والرجوع والإنابة إلى ذاته المقدسة، وهذا من المقاصد المهمّة لهذا الكتاب الشريف وأكثر مطالبه ترجع إلى هذا المطلب إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة"(5).

والأخلاق ليست شيئاً ثانويّاً في هذا الدّين، كما إنّها شاملة للسلوك البشري كلّه ولا يوجد عمل واحد يخرج عن دائرة الأخلاق فالصلاة لها أخلاق هي الخشوع، والكلام له أخلاق وهو الإعراض عن اللغو، والتعامل مع الآخرين له أخلاق هي الوفاء والصدق ورعاية العهد.

وقد قال تعالى بحقّ الرسول الكريم (ص): ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(6). ولكنّه أيضاً (أي الخُلق) من خصوصيّات الإيمان ومقتضياته.

وقد عُني القرآن بإبراز الجانب السلوكيّ الأخلاقيّ للعقيدة المنحرفة قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾(7).

يقابل ذلك إبراز السلوك الأخلاقيّ الصحيح المصاحب للعقيدة الصحيحة: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(8).

فالقرآن هو مفتاح سعادة الإنسان وباب فلاحه: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾(9). وهو شفاء ورحمة لكلّ من تمسّك به، وفي ما يلي نماذج من آيات القرآن تكشف عن عمق معانيه ودقّة أفكاره في مجال نظام السير والسلوك إلى الله تعالى:

أ-العلاقة مع الله:

فالقرآن الكريم يوثّق الإيمان في القلب ويربط ذلك القلب بالله في جميع أحواله لأنّه يربط الأحوال كلّها والوجود كلّه بالله سبحانه: فالمولد والممات بيد الله، والرزق بيد الله بجميع ألوانه وأشكاله، وبيده الضرّ والنفع، ثمّ البعث والحساب والثواب والعقاب؛ أمورٌ كلّها بيد الله.

فالله تعالى في كتابه يعرّفنا بنفسه لنعرفه كما ينبغي لجلال وجهه. فهو يُعرّفنا نفسه بأنّه: ﴿السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾. وأنّه ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾(10), وأنّه ﴿ما يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ...﴾(11). ليولّد في قلوبنا ذلك الإحساس برقابة الله، فنحرص على نقاوة أعمالنا ومشاعرنا.

ويعرّفنا بأنّ ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(12). وأنّ بيده ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾.

لنتطلّع إليه وحده في السرّاء والضراء، ولنواجه المصاعب والشدائد بالصبر والتعلق به وبفرَجِه المنزَل من عنده.

ويعرّفنا بأنّه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾(13). ﴿وأنّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ﴾(14).

يعلّمنا بذلك أن لا يشغلنا القلق على الرزق وإن البشر ليسوا هم من يتصرفون في أرزاقنا، بل ذلك كلّه بيده وحده وكذلك يعرّفنا بأنّه هو الّذي يحيي ويميت، وليس هذا شأن فحسب بل هو بعدُ ملك ومالك يوم الدين.

هذا ما تقرّره هذه الآيات الكريمة وغيرها من كتاب الله ليعيش القلب آفاق معرفة الله تعالى ومنهجاً وسلوكاً، وتكون حياته كلّها مع الله.

ب-العلاقة مع الآخر:

وكما عُني القرآن بإبراز الجانب السلوكي والأخلاقي للعقيدة المنحرفة وندّد به وبأصحابه، كذلك أولى عنايةً واضحةً بإبراز السلوك الأخلاقيّ الصحيح وأفق التعاطي الصحيح مع الآخرين.

﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(15).

﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(16)

فمنطق القرآن هو ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾(17)

ج-الاستقامة:

ويمكن بحقّ أن نلخّص مبادئ‏ء الإسلام كلّها بكلمة الاستقامة، فإنّها الكلمة الشاملة للاستقامة في العقيدة بما فيها التوحيد عن الشبيه، والاستقامة في الأعمال والأخلاق وجميع التعاليم.

ومعنى الاستقامة هو أن نقف عند حدود الله ولا ننحرف عن الحقّ إلى الباطل وعن الهداية إلى الضلال. أن نسير بعقيدتنا وأقوالنا وأفعالنا على الصراط المستقيم، فعن الإمام علي (ع)قال: "قلت: يا رسول الله أوصني، قال: قل ربّي الله، ثمّ استقم، قال: قلت: ربّي الله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب، فقال (ص): ليهنئك العلم يا أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً و نهلته نهلاً"(18) .

يقول تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(19).

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾(20).

﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(21).

﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(22).

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(23).

﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾(24).

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(25).

خلاصة الدرس

-من مقاصد القرآن معرفة المعاد وبيان أحواله‏ وقد أخذ حيّزاً هامّاً من مطالب ومضمون النصّ القرآنيّ، من خلال بيان مسألة الإيمان باليوم الآخر وإقامة الأدلّة والبراهين على إثباته.

-ومنها الأخلاقيّات الإيمانيّة وما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون بوحي من إيمانهم، في مقابل ما هم عليه الكافرون والفاسقون بوحي من ضلالهم. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ومن مقاصده ومطالبه الدعوة إلى تهذيب النفوس وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة وتحصيل السعادة..."

-يرسم القرآن للإنسان خريطة للعلاقة مع الله ومع نفسه ومع الآخرين...

-ويؤكّد على أهميّة الاستقامة بوقوفنا عند حدود الله وعدم الانحراف عن الحقّ إلى الباطل.

أسئلة

1-كيف تحدّث القرآن الكريم عن المعاد؟

2-بيّن أهميّة الأخلاقيّات الإيمانيّة في القرآن؟

3-ماذا تعني الاستقامة، ولماذا لخَّصت مبادئ الإسلام؟


1- سورة ق، الآيات:9-11.

2- سورة القمر، الآيتان: 54- 55.

3- سورة الإنسان، الآيات: 20- 23.

4- سورة التحريم، الآية: 6.

5- راجع: القرآن الثقل الأكبر، ص29-40.

6- سورة القلم، الآية: 4.

7- سورة القلم، الآيات: 9-16.

8- سورة الفرقان، الآية: 63.

9- سورة طه، الآيتان: 1 ـ 2.

10- سورة طه، الآية: 7.

11- سورة المجادلة، الآية: 7.

12- سورة الزمر، الآية: 63.

13- سورة الذاريات، الآية: 58.

14- سورة الرعد، الآية: 26.

15- سورة الشورى، الآيات: 40 ـ 43.

16- سورة الممتحنة، الآية: 8.

17- الأعراف، الآية: 199.

18- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج40، ص178.

19- سورة الملك، الآية: 22.

20- سورة هود، الآية: 112.

21- سورة الأنعام، الآية: 79.

22- سورة الأنعام، الآية: 162.

23- سورة الفاتحة، الآية: 5.

24- سورة الكهف، الآية: 110.

25- سورة العنكبوت، الآية: 69.