الدرس الثامن: الرقابة الالهية والرقابة الذاتية
﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾(1).
قصة الآيات
أن في قبيلة بني الأبيرق المعروفة نسبياً كان ثلاثة أشقاء هم "بشر" و "بشير" و "مبشر" سطا أحدهم وهو "بشير" على دار أحد المسلمين ويدعى "رفاعة" فسرق سيفه ودرعه وكمية من الغذاء، فأُخبر النبي (ص) بالواقعة. ولكن الأشقاء الثلاثة اتهموا شخصاً من المسلمين اسمه "لبيد" الذي كان يسكن في دار واحد معهم، فتألم لبيد ألماً شديداً من هذه التهمة الباطلة واستل سيفه وتوجه إلى الأشقاء الثلاثة صارخاً في وجوههم قائلا: "أتتهمونني أنا بالسرقة وأنتم أجدر بهذا العمل؟ فأنتم هم أولئك المنافقون الذين كنتم تهجون النبي وتنسبون أبيات الهجو إلى قريش، فأما أن تثبتوا ما تنسبونه لي من تهمة، أو أن أهوى بسيفي على رؤسكم ". فلما رأى أخوة السارق ذلك حاولوا استرضاء "لبيد" ولكنهم لما علموا أن القضية قد وصلت إلى أسماع النبي لجأوا إلى أحد متكلمي قبيلتهم فطلبوا منه أن يذهب مع جمع من الناس إلى النبي ويتظاهر بأن الحق إلى جانبهم ليبرئ السارق ويتهم من أخبر النبي بتلفيق التهمة على شقيقهم، وقد قبل النبي (ص) استناداً إلى واجب العمل بظاهر الأمور شهادة تلك المجموعة وأنب من جاءه بالخبر على عمله. وقد تألم ذلك الشخص الذي كان يعرف نفسه بريئاً... فنزلت الآيتان المذكورتان لتعلنا براءة الرجل، وتؤنبا مرتكبي الخيانة الحقيقيين(2).
الرقابة الإلهية
إن ما يحتاج إليه أي قانون حتى يثمر ويصل الناس إلى الغرض الرئيسي من إقراره هو الرقابة على من يتخلّف عن القانون لمعاقبته. وعنصر الرقابة هذا في القوانين الموضوعة من قبل البشر يكون ضعيفاً، لأن الرقابة تكون بشرية، وهي مما يمكن أن يتم اختراقها من جهات عدّة، فينجو المجرم من العقاب فيها.
ولكن القانون الإلهي المنزل للبشرية يتمتع بالرقابة الإلهية، وهذه الرقابة تملك صفاتاً خاصةً لا ينالها أي قانون آخر، وتتمثل في:
1-أنها عامة تشمل كل شيء ولذا يصفها الله عز وجل بالتالي: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا﴾(3).
2-أنها لا تحيط بها موانع تعيق قيامها أو تحققها، ونحن نقرأ في دعاء كميل: فأسألك بالقدرة التي قدرتها... أن تهب لي في هذه الليلة وفي هذه الساعة كل جرم أجرمته... وكل سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم
بحفظ ما يكون مني وجعلتهم شهوداً علي مع جوارحي وكنت أنت الرقيب علي من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم.
3-تعدد الشهود والرقباء، قال تعالى:﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾(4).
الرقابة الذاتية لدى المسلم
مضافا إلى ما تقدّم مما يمتاز به القانون الديني الإسلامي، فإن الإسلام سعى لتقوية عنصر الرقابة الذاتية لدى الإنسان المسلم، وهذا العنصر هو من أقوى ما يمكن أن يشكل ضمانةً لعدم اختراق القانون، لأنّ الإنسان الذي لا يمكنه أن يخفي عن نفسه ارتكابه للإثم أو مخالفته للشرع، وإن أمكنه أن يخفي ذلك عن الناس، أو أن ينسى الله عز وجل في لحظة من اللحظات، لن يُقدم على المخالفة وارتكاب الذنب.
في الرواية عن الإمام علي (ع): اجعل من نفسك على نفسك رقيباًً واجعل لآخرتك من دنياك نصيباً(5).
وعنه (ع): رحم الله عبداً راقب ذنبه وخاف ربه(6).
وفي رواية عن الإمام الصادق (ع): من خلا بذنب فراقب الله تعالى ذكره فيه واستحيى من الحفظة غفر الله عز وجل له جميع ذنوبه وإن كانت مثل ذنوب الثقلين(7).
وأما كيف تكون المراقبة فيذكر علماء الأخلاق أن ذلك يتحقق بأن يراقب نفسه عند الخوض في الأعمال، فيلاحظها بالعين اللائمة والمعاتبة، فإنها إن تركت طغت وفسدت، ثم يراقب في كل حركة وسكون، بأن يعلم أن الله تعالى مطلع على الضمائر، عالم بالسراًئر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف.
المراقبة في الطاعة والمعصية
عندما نتحدث عن ضرورة مراقبة النفس، فلا يتوهمن أحد ان المراقبة تعني فقط الحذر من الوقوع في المعاصي والآثام، أي في الذنوب فقط، بل المراقبة ينبغي أن تكون في ثلاثة مواطن:
1-المراقبة في المعصية: بأن يفكّر الإنسان عندما يُقدم على أي فعل من الأفعال، فيحذر من أن يكون في ذلك معصية الله عز وجل. ولو زلت قدمه فوقع في المعصية راقب نفسه فسعى لإظهار الندم والتوبة، وإذا كان لغيره حق عليه أعاد له حقه.
2-المراقبة في الطاعة: فعندما يأتي بعبادة من العبادة أو طاعة من الطاعات وإن لم تكن عبادة، سعى لأن تكون خالصة لله عز وجل ولأن يقصد بها وجه الله، وأن يحذر من الوقوع بعد الإتيان بها بما يوجب بطلانها، كما لو أحسن على إنسان، ثم ابتدأ بالمنّة عليه وإظهار ما له من الفضل عليه. فإن طاعته تذهب هباء.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(8).
و(المن): أن يرى نفسه محسناًً، ومن ثمراتها الظاهرة: الإظهار، والتحدث به، وطلب المكافأة منه، بالشكر والخدمة والتعظيم. و(الأذى): التعيير، والتوبيخ، والاستخفاف، والاستخدام، والقول السيء، وتقطيب الوجه.
والتشبيه الوارد في الآية هو بأن تتصور قطعة حجر صلد تغطيه طبقه خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثم عرض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأن أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سيء، بل لأنَّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه. قشرة خارجية من التربة لا تعين على نمو النبات الذي يتطلب الوصول إلى الأعماق لتتغذى الجذور.
3- المراقبة في المباحات: وذلك من خلال المواظبة على رعاية الآداب الشرعية في المباحات، فإن لكل فعل مباح من الأكل، الشرب، النوم، السفر... إلخ، آداباً خاصةً إذا سعى الإنسان للمحافظة عليها تمكن من أن يكون من المراقبين لأنفسهم(9).
خلاصة الدرس
- كل قانون تتوقف الفائدة المرجوة منه على وجود رقابة تشرف على تطبيق القانون.
- تمتاز الرقابة في القانون الإلهي بميزات لا تجدها في قانون آخر وتتمثل ب-: أ- أنها عامة وتشمل كل شيء. ب- أنها لا تحيط بها أية موانع. ج- تعدد الشهود والرقباء.
- حث الإسلام على تربية عنصر الرقابة الذاتية لدى المسلم.
- المراقبة على أنواع ثلاثة: أ- المراقبة في المعصية ب- المراقبة في الطاعة، بعدم إبطالها. ج- المراقبة في المباحات، برعاية آداب العمل.
أسئلة حول الدرس
1- لما يتوقف القانون على وجود رقابة على تنفيذه؟
2- ما هي ميزات الرقابة الإلهية؟
3- كيف تفسر الرقابة الذاتية في الطاعات؟
4- كيف تفسر الرقابة الذاتية في المباحات؟
1- النساء:108-112.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 3 ص 436 ? 437.
3- الاحزاب:52.
4- فصلت:19-22.
5- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1108.
6- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1051.
7- وسائل الشيعة (آل البيت) الحر العاملي ج 15 ص 221.
8- البقرة:264.
9- جامع السعادات محمد مهدي النراقي ج 3 ص 76.