الدرس الخامس: كتمان السر
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾(1).
قصة الآية
أمر رسول الله (ص) المسلمين بتجهيز أنفسهم لفتح مكة، وكانت هناك امرأة اسمها سارة، تتردد على مكة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وكتب معها كتاباً إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم.
فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي (ص)بما فعل، فبعث رسول الله (ص) علياً وعماراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً وقال لهم:انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فنحوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهموا بالرجوع، فقال علي (ع): والله ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لأضربن عنقك. فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله (ص)، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم، قال: فما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عريراً فيهم ( أي غريباً) وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً. فصدقه رسول الله (ص) وعذره(2).
أهمية كتمان السر
لقد حثت التعاليم الإسلامية الإنسان على التحلّي ببعض الصفات الحسنة والعمل على أن تكون سلوكاً حياتياً لديه، لما في ذلك من صلاح حياته، ولما تعود به من نفع له في هذه الدنيا. ومن هذه الصفة الاستعانة على قضاء حوائجه والوصول إلى مآربه من خلال كتمان السر، وقد ورد في الرواية عن رسول الله (ص): استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان(3).
ولكن لا يقتصر أمر كتمان السر على الأمور الشخصية الخاصّة بل إن ذلك يتناول أيضاً المسائل العامة التي ترتبط بالمجتمع وبالأمة التي يعيش فيها الإنسان.
ولذا سوف نتحدث عن كلا الأمرين
أولا: كتمان السر في الأمور العامة
إن من أخطر ما يقع به الإنسان أن يفضح أمراًً يتعلّق بالمجتمع الإسلامي كافةً،
وذلك كما في أمور الحرب والقتال، أو في المصالح العامة التي ترتبط بالمسلمين من اقتصاد، ومال وتجارة وغير ذلك.
بل حتّى فيما يرتبط ببعض معارف الدين مما قد يقوم غير المؤمنين بالتشنيع على الإسلام فيه ورد الحث على الكتمان كما في بعض معارف أهل البيت (عليهم السلام). فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (ع): كتمان سرنا جهاد في سبيل الله(4). وعن الإمام الباقر (ع): والله إن أحب أصحابي إلي أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا(5).
وما يوقع الإنسان في هذا أحد أمرين:
1-فلتات اللسان (زلّة اللسان):
يعثر الإنسان في حديثه أحياناً فينطق لسانه بأمر يؤدي إلى أن يفضح أمراًً ينبغي ستره، فإذا كان ذلك الأمر مما يتعلق بمصالح المسلمين العامة كان الضرر أكبر، وقد ورد الحث على حفظ الإنسان للسانه، ففي رواية عن الإمام الباقر (ع): إن هذا اللسان مفتاح كل خير وشر، فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضته(6).
وهذا ما يُطلق عليه الناس تسمية زلّة اللسان، فلا يكون المتكلم قاصداً لأن يفضح أمراًً من الأمور، ولكن هذه الزلّة تكون قاتلةً أحياناً ولذا ورد في الرواية عن الإمام علي (ع): زلة اللسان أشد من جرح السنان(7).
وفي رواية أخرى عنه (ع) يبيّن فيها الخطر العظيم لزلات اللسان: المرء يعثر برجله فيبرى، ويعثر بلسانه فيقطع رأسه، إحفظ لسانك فإنَّ الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فان أطلقها صار أسيراً في وثاقها(8).
والأمر يتجاوز مجرد ما يقع في الدنيا إلى المسؤولية والعقوبة في الآخرة ففي رواية عن الإمام الباقر (ع): يحشر العبد يوم القيامة وما ندى دماً فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا رب، إنك لتعلم أنك قبضتني وما سفكت دماً؟ فيقول: بلى، سمعت من فلان رواية كذا وكذا، فرويتها عليه، فنقلت حتى صارت إلى فلان الجبار فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه(9).
ويفسّر الإمام الصادق (ع) الآية الكريمة: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾(10) يقول: والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم، ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فاخذوا عليها فقتلوا(11).
2-المودّة مع أعداء الدين:
إنّ ممّا حذّر منه الإسلام بشدّة مما يُوقع الإنسان في إفشائه لسر يتعلّق بالمسلمين أن تكون له مودّة مع أحد من أعداء الدين، لمصالح تتعلق به وترتبط مع ذلك العدو الذي يكيد بالمسلمين، وهذا هو الذي وقع فيه حاطب بن أبي بلتعة. وتؤكد الآية الكريمة أن هذه المودّة لن تكون إلا من طرف واحد، وإلا فإنّ هؤلاء لن يظهروا لكم المودّة إطلاقاً.
عن الإمام علي (ع): "إياك أن تحب أعداء الله، أو تصفي ودك لغير أولياء الله، فإن من أحب قوماً حشر معهم"(12).
ثانيا: كتمان السر في الأمور الخاصّة
كما ينبغي للمرء أن يسعى ليكتم سرّه في الأمور الخاصة، ويترتب على ذلك فوائد عديدة أشارت إليها الروايات:
أ- ان يملك الإنسان أمره:
فإذا نوى الإنسان أمراً وأبقاه سراً عند نفسه أمكن له أن يعدل في رأيه أو أن يسعى به دون أن يعيقه أحد، فعن الإمام علي (ع): من كتم سره كانت الخيرة في يده (13)، وعنه (ع): سرك أسيرك فإن أفشيته صرت أسيره (14).
ب-أن ينجح الإنسان في أمره:
الحياة بطبعها ساحة للتنافس، يسعى كل إنسان لينال منها، ومن الطبيعي أن يغتنم كل فرصة تمر أمامه، فإذا كان أمامك فرصة تنال فيها خيراً فاستعن على الوصول إلى ذلك بالكتمان فقد ورد عن الإمام علي (ع): أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان(15)، وعن الإمام الجواد (ع): إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له(16).
ج- الحذر من الخيانة:
إذا أودعت سرك عند غيرك قد يخونك فقد ورد في الرواية عن الإمام علي (ع): انفرد بسرك ولا تودعه حازماً فيزل ولا جاهلاً فيخون(17).
والخيانة قد تصدر حتّى من شخص صديق لك، ففي رواية عن الإمام الصادق (ع): لا تطلع صديقك من سرك إلا على ما لو اطلعت عليه عدوك لم يضرك، فإن الصديق قد يكون عدواً يوماً ما(18).
خلاصة الدرس
- كتمان السر سبب لقضاء الحوائج، والوصول إلى الغايات سواء فيما يتعلق بالفرد أو بالمجتمع.
- يجب على الإنسان حفظ الأسراًر العامة التي ترتبط بمصالح المجتمع الإسلامي.
- الأسباب التي توجب إفشاء السر إما زلات اللسان، فعلى الإنسان حفظ لسانه، أو المودة للمشركين فعلى الإنسان أن يبرأ منهم.
- لكتمان السر في الأمور الشخصية فوائد عديدة: بأن يملك الإنسان أمره، وينجح فيه، ويحذر من الخيانة.
أسئلة حول الدرس
1- كيف تفسّر قول الإمام الصادق (ع): كتمان سرنا جهاد في سبيل الله؟
2- ما هي أعظم مخاطر زلة اللسان؟
3- كيف يضمن الإنسان النجاح في عمله؟
4- لماذا وردت النصيحة من الإمام علي (ع) بكتمان السر حتى عن الصديق؟
1- الممتحنة:1.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 18 ص 235-236.
3- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 630.
4- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 72 ص 70.
5- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 223.
6- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 75 ص 178.
7- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 4 ص 2779.
8- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 68 ص 293.
9- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 370.
10- البقرة:61.
11- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 371.
12- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 497.
13- نهج البلاغة- الإمام علي ? الحكمة رقم 162.
14- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1282.
15- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1282.
16- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 72 ص 71.
17- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 20 ص 327.
18- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1283.