الدرس الثاني: التسويف والاصرارعلى التوبة
﴿لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(1).
قصة الآيات
إن ثلاثة من المسلمين وهم: "كعب بن مالك" و"مرارة بن ربيع" و"وهلال بن أمية"، امتنعوا من المسير مع النبي (ص) والاشتراك في غزوة تبوك، إلا أن ذلك ليس لكونهم جزءاً من المنافقين، بل لكسلهم وتثاقلهم، فلم يمض زمان حتى ندموا. فلما رجع النبي (ص) من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن تقصيرهم، إلا أن النبي (ص) لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة، وأمر المسلمين أيضاً أن لا يكلموهم. لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعيةً عجيبةً وشديدةً، حتى أن أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النبي (ص)، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلا أن النبي (ص) لم يأذن لهم بالمفارقة، لكنَّه أمرهم أن لا يقتربوا منهم. إن فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال. ومن المسائل التي أثرت تأثيراً روحياً شديداًً، وأوجدت صدمةً نفسيةً عنيفةً لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال: كنت يوماًً جالساً في سوق المدينة وأنا مغموم، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي، فلما عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها: إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا، فتغير حالي وقلت: الويل لي، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!
خلاصة الأمر:
إن عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام، إلا أنهم لا يكلمونهم قط، ومضت مدة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم، لكن دون جدوى في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال: إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا، فلماذا لا يعتزل كل منا صاحبه، صحيح أننا مذنبون جميعاً، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضاً، ولم يتكلموا بكلمة واحدة، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيراً... وبعد خمسين يوماًً من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك(2).
إياك والتسويف
فرض الله عز وجل على الإنسان تكاليف، ولهذه التكاليف وقتها المحدد، والتخلّف عن هذا الوقت موجب لضياع هذا الواجب ويتحمل الإنسان مسؤولية ذلك، والشيطان قد لا يتمكن من إغواء الإنسان وإيقاعه مباشرة في ترك فعل الواجب، ولكنه يفتح أمامه أبواب أخرى يوقعه من خلالها في المعصية ومن ذلك التسويف، فيمنّيه بتأخير الواجب إلى أن ينتهي وقته فيعصي الله كما حصل مع الثلاثة الذين تعرضت لهم الآية.
التسويف ملازم للهلاك
وهكذا يهلك بني آدم، كهلاك الغريق، إذ يصيبه الهلاك بشكل تدريجي وهو يشعر به ولكنه لا طريق له للخلاص منه ففي رواية عن الإمام الباقر (ع): إياك والتسويف، فإنه بحر يغرق فيه الهلكى(3).
كيف نواجه حالة التسويف؟
1-الأجل يأتي بغتة
من الأمور التي يتمكن فيها الإنسان من الغلبة على التسويف أن يلتفت دائما إلى أن الأجل والموت يأتي فجأة، حيث لا يتمكن بعده من أن يتدارك شيئاًً، دون سابق إنذار أو تحذير وهذا ما وردت به الرواية عن أمير المؤمنين (ع): فتدارك ما بقي من عمرك، ولا تقل: غدا وبعد غد، فإنما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف، حتى أتاهم أمر الله بغتةً وهم غافلون(4).
فليعلم الإنسان أنّه ليس له من ساعته إلا هذه التي يعيش فيها، ولذا هل يضمن لو سوّف فعلاً من الأفعال الواجبة عليه أنه يتمكن من الإتيان به؟ وقد ورد في الرواية عن رسول الله (ص): يا أبا ذر! إياك والتسويف بأملك، فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غد لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وان لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم(5).
والإنسان لما كان لا يدري متى يحين أجله، بل يأتيه بغتة دون سابق إنذار كيف يقوم بتأخير التوبة، ورد في الرواية عن أمير المؤمنين (ع): (مسوف نفسه بالتوبة، من هجوم الأجل على أعظم الخطر)(6).
2-الطمع بالمغفرة الإلهية
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾(7).
ذهب بعض المفسرين إلى تفسير لفظة "من قريب" بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فوراً، ويندموا على ما فعلوه بسرعة، ويتوبوا إلى الله، لأن التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا يمكن هذا إلا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإنسانية، وتعشعش في الخلايا(8).
أهمية الإصرار على التوبة
من الدروس المستفادة من هذه القصة أنّ على الإنسان أن يصرّ على التوبة، ولا ييأس من مغفرة الله عز وجل، فرغم التضييق الذي عاشه هؤلاء الثلاثة إلا أنّ ذلك لم يثنهم عن طلب التوبة والمغفرة.
وذلك بأن لا يقع في اليأس من روح الله ويعلم أن الله عز وجل فتح له باب التوبة لكي يتوب عنه وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله: "ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عنه باب الزيادة، ولا ليفتح لعبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة، ولا ليفتح لعبد باب التوبة ويغلق عنه باب المغفرة"(9).
بل إن من كبائر الذنوب اليأس من رحمة الله، لأن الإنسان الذي يقع في المعصية ثم يقع في اليأس من رحمة الله، لا يُقدم على التوبة بعد ذلك، لأنه سوف يرى نفسه غارقاً في الذنوب لا يُمكنه الخروج منها، وذلك خلافاً لمن يقع في المعصية ولا يقع في اليأس فإنّه يبقى أقرب إلى الله عز وجل وقد ورد في الرواية عن رسول الله (ص): الفاجر الراجي لرحمة الله تعالى أقرب منها من العابد المقنط(10).
وعن أمير المؤمنين في وصيته لولده الحسن: أي بني، لا تؤيس مذنبا، فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير، وكم من مقبل على عمله مفسد في آخر عمره، صائر إلى النار، نعوذ بالله منها(11).
خلاصة الدرس
- من الأبواب التي يدخل منها الشيطان ليوقع الإنسان في المعصية أن يمنّيه بتسويف الإتيان بالواجب.
- نواجه حالة التسويف: 1- بالالتفات إلى أنّ الأجل يأتي بغتة. 2- الطمع بالمغفرة الإلهية.
- على الإنسان الإصرار على التوبة، فإنّه باب من أبواب قبول توبته، والحذر من الوقوع في اليأس من رحمة الله.
أسئلة حول الدرس
1- ما هو التسويف؟ وكيف يقع الإنسان فيه؟
2- كيف يمكن لتذكر الأجل أن يقضي على حالة التسويف؟
3- ما هو المراد من قوله تعالى: (ثم يتوبون من قريب)؟
4- لماذا كان اليأس من رحمة الله مؤدياً للهلاك؟
1- التوبة:117-118.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 6، ص 246-247.
3- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 75 ص 164.
4- الأنوار العلامة المجلسي ج 70 ص 75.
5- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 74 ص 75.
6- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 344.
7- النساء:17.
8- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 3 ص 155.
9- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 6 ص 36.
10- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 3 ص 2632.
11- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 74 ص 239.