الدرس الثاني عشر: التهجــّد في الليل
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾(1)
تمهيد
ممّا لا ريب فيه أنّ الذكر والفكر مطيّتا السالك إلى الله تعالى للوصول إلى المقصد والغاية وهي المعرفة والعبادة، فمن أوتي حظّه منهما مشفعاً بتوفيق الباري عزّ وجلّ فقد حاز قصب السبق في مضمار المعرفة والطاعة والعبادة.
ومن أخلّ بأحدهما فقد خاب وخسر بمقدار ذاك الخلل والتقصير، وقصرت همّته عن إدراك الهدف.
وممّا لاشكّ فيه أيضاً أنّ الذكر له مراتب من ناحية الأهميّة والمحبوبية والمطلوبية، فمنه الواجب الّذي لم تُرخِّص الشريعة بتركه كالصلوات اليومية، ومنه المندوب الّذي أجازت الشريعة تركه.
والواجبات هي أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله تعالى. والمستحبّ وإن جوّزت الشريعة تركه إلا أنّه يحتلّ مرتبة عظمى من الأهمية بعد إتمام الفرائض لجهة تقريب العبد من خالقه وإحداث مقتضى المحبّة له، فقد ورد في الرواية -عن حمّاد بن بشير قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "قال رسول الله (ص): قال الله عزّ وجلّ:
... وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبّ إلي ممّا افترضت عليه وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته"(2).
فالواجب من العبادات والأذكار مقدّم على المندوب والنوافل، حتّى ورد أنّه:
-"لا قربة بالنوافل إذا أضّرت بالفرائض"(3).
-"إذا أضرت النوافل بالفرائض فارفضوها"(4).
والمستحبّات أيضاً لها درجات ومراتب من حيث مدى أهمّيتها وقوّة تأثيرها على روحيّة السالك وعلى نسبة رقيّه المعنويّ والمعرفيّ، ومدى تقريبه من الغاية المنشودة وهي نيل الرضا والقرب من المعبود عزّ اسمه.
فالنوافل إذاً ينبغي للمؤمن الحكيم أن يُراعي فيها الأولويات إن أراد الوصول إلى المبتغى، فيعتني عناية شديدة بالمستحبّ الّذي ثبت تأكّده في الشريعة المقدّسة، ولا يُفرّط ولا يتهاون فيه بحال، وبعده في الدرجة المستحبّ مطلقاً.
وما لا يحتاج إلى نقاش في الشريعة المقدّسة أنّ صلاة الليل والتهجُّد والقيام فيه بالمناجاة والدعاء والذكر من آكد المستحبّات الشرعية.
وقد تلقّى السالكون العارفون من العلماء الربّانيين هذا التأكيد من الشريعة بدرجة عالية من الجدّية وبذل الوسع في الاهتمام به والمحافظة عليه، وبالغوا بدورهم بالتوصية به والحثّ عليه لكلّ من أراد أن يسلك طريق المعرفة والطاعة والقرب من البارئ عزّ وجلّ.
وسنذكر فيما يلي ما من شأنه أن يكون حافزاً قوياً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد لكي يكون في عداد المتهجّدين المداومين على صلاة الليل غير التاركين لها بحال من الأحوال، وسيكون الكلام في عدّة نقاط:
أوّلاً: فضل صلاة الليل في الآيات والروايات
قبل أن نذكر ما لصلاة الليل والتهجّد فيه من فضل لا بُدّ أن نُبيّن ما أشار إليه الإمام الصادق (ع) من أنّ صلاة الليل لم يُحدِّد القرآن لها ثواباً كسائر الأعمال الصالحة وما لذلك من دلالة، حيث قال (ع):
"ما من عمل حسن يعمله العبد إلا وله ثواب في القرآن إلّا صلاة الليل فإنّ الله عزّ وجلّ لم يُبيّن ثوابها لعظم خطره عنده فقال جلّ ذكره:﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ "(5) (6).
فمن المعلوم أنّه من أساليب التعظيم لأمر ما، التعبير عنه على نحو الإطلاق من دون تقييد، وفي موردنا إنّ الله تعالى لم يُحدِّد ثواب التهجُّد بجهة أو نوع خاصّ من الثواب وإنّما نفى العلم به، ليكون منطبقاً على أيّ ضرب من ضروب الثواب وهذا غاية الفضل والعظمة والثناء.
فهذا انفراد وتمييز لهذه العبادة عن غيرها من القربات إذ لم يذكر لها ثواب محدّد في القرآن الكريم كما ذكر لكلّ من الأعمال الحسنة.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المقام:"تُرى ما قرّة العين هذه الّتي يدّخرها الله تعالى ويُخفيها حتّى لا يعلم أحد عنها شيئاً؟
وما يُمكن أن تكون؟
فلو كانت من قبيل "أنهار جارية" و "قصور عالية" ومن نِعَم الجنّة المختلفة، لذكرها الله مثلما بيّن ما للأعمال الأخرى وأطلع الملائكة عليها.
ولكن يبدو أنّها ليست من ذلك السنخ، وأنّها أعظم من أن ينوّه بها لأحد، وخصوصاً لأحد من أهل هذه الدنيا. إنّه لا تُقارن نِعَم ذلك العالم بالنِّعَم هنا، ولا تظننّ أنّ الفردوس والجنان تُشبه بساتين الدنيا، أو ربّما أوسع وأبهى، هناك دار كرامة الله تعالى ودار ضيافته.
فكلّ هذه الدنيا لا شيء إزاء شعرة واحدة من الحور العين في الجنّة، بل ليست شيئاً إزاء خيط من خيوط الحلل الفردوسية الّتي أُعدّت لأهل الجنّة.
ومع كلِّ هذا الوصف لم يجعلها الله ثواب من يؤدّي صلاة الليل، وإنّما ذكرها من باب التعظيم له.
ولكن هيهات! نحن الضعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلا لما كنّا نستمرّ في غفلتنا، ونُعانق النوم إلى الصباح. ولو أنّ يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكّر، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى..."(7).
أقول: ولو لم يكن إلا هذا لكفى لبيان قدر هذه العبادة وعظمتها عند الله تعالى، كيف وقد استفاضت الآثار الشرعية في مدحها والثناء عليها، وحثّ المؤمنين على إقامتها والمداومة عليها، وهذا بعض ما ورد بهذا الشأن:
قال تعالى:﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾(8).
وقال تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾(9).
قال إمامنا الصادق (ع) في تفسيرها: "قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزّ وجلّ ولا يريد غيره"(10).
-وفي قول الله عزّ وجلّ:﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات﴾(11).
قال (ع): "صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار"(12).
فما أعظمها من فائدة لعمل يمحو الله به بالليل كلّ سيئة اجترحها العبد في النهار، فهذا لازمه أنّ الإنسان إذا أدام صلاة الليل يكون قد ضمن صفاء نفسه من آثار الذنوب المهلكة، وهيّأها لتلقّي الفيوضات الإلهية، والتنسّمات الروحانية، فالمحافظة على طهارة النفس من آثار الذنوب هي ضمانة السعادة الأبدية.
ومدح الله تبارك وتعالى المؤمن الّذي يقوم الليل ويقنت فيه، ويسجد ويسهر في عبادة ربّه حذراً راجياً بقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه﴾ِ(13)
فعن زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: قلت له: "آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قال (ع): "يعني صلاة الليل"(14).
وقد ورد في الرواية أن مورد نزول هذه الآية هو سيّدنا أمير المؤمنين (ع).
وقد أوصاه النبي (ص) فقال له: "يا عليّ عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل"(15).
كرّرها ثلاثاً وهذا أيضا غاية في المبالغة والتأكيد على فعلها وعدم التهاون بشأنها.
صلاة الليل تُفيد فائدة الاستغفار بالأسحار
صلاة الليل مشتملة على الاستغفار بالأسحار، الّذي حثّ الله عزّ وجلّ عليه، وقد ذكر في كتابه العزيز المستغفرين بالأسحار بالثناء الجميل حيث قال عزّ من قائل:
﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار ِ﴾(16).
فعن صادق أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآية الكريمة، قال (ع):
"المصلّين وقت السحر"(17). وقال (ع): "من استغفر سبعين مرّة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية"(18).
وقال تعالى في معرض توصيفه لأهل الجنة:﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(19).
وعن إمامنا الصادق: قال: "استغفر رسول الله (ص) في الوتر سبعين مرة"(20).
وعن إمامنا أبي جعفر الباقر (ع): "من داوم على صلاة الليل والوتر واستغفر الله في كلّ وتر سبعين مرّة، ثمّ واظب على ذلك سنة كتب من المستغفرين بالأسحار"(21).
والمستغفرون بالأسحار لهم بركات عظيمة تعمّ وتشمل حتّى أصحاب الذنوب، حيث إنّ الله تعالى يدفع بهم "المستغفرين بالأسحار" العذاب الّذي استوجبه أهل المعاصي بمعاصيهم. اسمع إلى ما ورد عن النبيّ الأعظم (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ إذا رأى أهل قرية قد أسرفوا في المعاصي، وفيها ثلاث نفر من المؤمنين ناداهم جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه: يا أهل معصيتي لولا ما فيكم من المؤمنين المتحابّين بجلالي العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي، المستغفرين بالأسحار خوفاً منّي، لأنزلت بكم عذابي ثمّ لا أبالي"(22).
فالذي يُصلّي الليل يكتبه الله تعالى من المستغفرين بالأسحار الّذين عظّمهم الله تعالى في كتابه العزيز، ويجني كلّ ما ترتّب من ثمرات وثواب على الاستغفار في السحر.
ثانياً: من آثار صلاة الليل الأخروية
1- تجير من عذاب القبر ومن النار
قال الإمام الرضا (ع): "عليكم بصلاة الليل فما من عبد مؤمن يقوم آخر الليل فيُصلّي ثمان ركعات وركعتي الشفع وركعة الوتر، واستغفر الله في قنوته سبعين مرّة إلا أُجير من عذاب القبر ومن عذاب النار"(23).
2-مباهاة الله به الملائكة والمغفرة له
قال رسول الله (ص): "إذا قام العبد من لذيذ مضجعه والنعاس في عينيه ليرضي ربه تعالى بصلاة ليله باهى الله تعالى به الملائكة، وقال: أما ترون عبدي هذا قد قام من لذيذ مضجعه لصلاة لم أفترضها عليه؟ اشهدوا أنّي قد غفرت له "(24).
3-يقوم المتهجّدون يوم القيامة ويُحاسب الناس من بعدهم
قال (ص): "إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى منادٍ ليقم الّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً، فيقومون وهم قليلون ثمّ يُحاسب الناس من بعدهم"(25).
ثالثاً: آثار صلاة الليل الدنيويّة
1-تحسين الوجه في النهار
قال الصادق (ع): "من صلّى بالليل حسن وجهه بالنهار"(26).
وسأله عبد الله بن سنان عن قوله تعالى:﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُود﴾ِ(27) فقال (ع): "هو السهر في الصلاة"(28).
وقد سُئل (ع): ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجهاً؟
قال (ع): "لأنّهم خلوا بالله فكساهم الله من نوره"(29).
2-شرف المؤمن قيام الليل
نزل جبرائيل (ع) على النبيّ (ص) فقال له: "يا جبرائيل عظني فقال يا محمّد عش ما شئت فإنّك ميّت، وأحبب من شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه. شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه كفّ الأذى عن الناس"(30).
3-مطردة للداء عن الأجساد
قال الإمام الصادق (ع): "عليكم بصلاة الليل فإنّها... مطردة الداء عن أجسادكم"(31).
4-بيوت المتهجّدين تُضيء لأهل السماء
وروى عنه الفضيل بن يسار أنّه قال: "إنّ البيوت الّتي يُصلّى فيها بالليل بتلاوة القرآن تُضيء لأهل السماء كما تُضيء نجوم السماء لأهل الأرض"(32).
5-توسّع المعيشة، وتزيد في الرزق، وتُطيل العمر
قال الإمام الرضا (ع): "عليكم بصلاة الليل فما من عبدٍ مؤمن يقوم آخر الليل فيُصلّي ثمان ركعات وركعتي الشفع وركعة الوتر، واستغفر الله في قنوته سبعين مرة إلا أجير من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومُدّ له في عمره ووسّع عليه في معيشته"(33).
-وجاء رجل إلى أبي عبد الله (ع) فشكى إليه الحاجة فأفرط في الشكاية حتّى كاد أن يشكو الجوع، فقال له أبو عبد الله (ع): يا هذا أتُصلّي بالليل؟ فقال الرجل: نعم، فالتفت أبو عبد الله (ع) إلى أصحابه فقال: "كذب من زعم أنّه يُصلّي بالليل ويجوع بالنهار، إنّ الله تبارك وتعالى ضمن بصلاة الليل قوت النهار"(34).
-وعن أبي بصير قال: شكوت إلى أبي عبد الله (ع) الحاجة وسألته أن يُعلّمني دعاء في طلب الرزق فعلّمني دعاء ما احتجت منذ دعوت به، قال: قل في دبر صلاة الليل وأنت ساجد: "يا خير مدعو ويا خير مسؤول ويا أوسع من أعطى ويا خير مرتجى ارزقني وأوسع عليّ من رزقك وسبِّب لي رزقاً من قبلك، إنّك على كلّ شيء قدير"(35).
6- يدفع بالدعاء في صلاة الليل شرّ الأعداء
عن يونس بن عمّار قال: قلت لأبي عبد الله (ع): إنّ لي جاراً من قريش من آل محرز قد نوّه باسمي وشهرني كلّما مررت به، قال: هذا الرافضيّ يحمل الأموال إلى جعفر بن محمّد، قال: فقال لي (ع):
"فادع الله عليه إذا كنت في صلاة الليل وأنت ساجد في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين فاحمد الله عزّ وجلّ ومجّده وقل: اللهم إنّ فلان بن فلان قد شهرني ونوّه بي وغاظني وعرّضني للمكاره، اللهم اضربه بسهم عاجل تُشغله به عنّي اللهم وقرّب أجله واقطع أثره وعجّل ذلك يا ربّ الساعة الساعة".
قال: فلما قدمنا الكوفة قدمنا ليلاً فسألت أهلنا عنه قلت: ما فعل فلان؟
فقالوا: هو مريض فما انقضى آخر كلامي حتّى سمعت الصياح من منزله وقالوا: قد مات(36).
رابعاً: تحذيران
1-يدأب الشيطان في أن يترك المؤمن قيام الليل
قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام:"ما من عبد إلا وهو يتيقّظ مرّة أو مرّتين في الليل أو مراراً فإن قام وإلا لجّ فبال الشيطان في أذنه ألا ترى أحدكم إذا كان منه ذلك قام ثقيلاً كسلانَ"(37).
وعن الباقر (ع): "إنّ لليل شيطاناً يُقال له الرها فإذا استيقظ العبد وأراد القيام إلى الصلاة قال له: ليست بساعتك، ثمّ يستيقظ مرّة أخرى فيقول: لم يأن لك فما يزال كذلك يزيله ويحبسه حتّى يطلع الفجر فإذا طلع الفجر بال في أذنيه، ثمّ انصاع يمصع بذنبه فخراً ويصيح"(38).
2-لا ينبغي للمؤمن أن يترك صلاة الليل بحال من الأحوال
قال الإمام الصادق (ع): "ليس من شيعتنا من لم يصلِّ صلاة الليل"(39).
وهذا معناه أنّه ليس من شيعتهم المخلصين المقرّبين، وهو غاية المبالغة في الدفع نحوها والتحفيز على القيام بها وعدم تركها.
وليس من شيعتهم أيضاً من لم يعتقد فضل صلاة الليل وأنّها سنّة مؤكّدة.
فلا ينبغي لك أيّها المؤمن أن تترك صلاة الليل في حضرٍ أو سفر، في فراغٍ أو شغل، في قوّة أو ضعف، في صحّة أو مرض، في راحة أو تعب، في شتاء أو صيف، في حرٍّ أو برد، لما لهذه الشعيرة من آثار على دين المرء ودنياه، فمن أراد النجاة من عذاب القبر ودواهيه وظلمته فإنّ قيام الليل بمثابة السراج الّذي يُنير له ذاك المقام في البرزخ، ومن أراد في الدنيا الرزق واليمن والتوسعة، والعمر المديد، فإنّ صلاة الليل توصله إلى ذلك كلّه، ومن أراد الآخرة والمقام المحمود فيها والنجاة من حسابها وأهوالها فعليه بصلاة الليل فإنّه واجد ذلك كلّه.
ومن علم ذلك كلّه وتهاون في هذه العبادة الجليلة فإنّ أدنى ما يقال فيه إنّه غير موفّق، وقد يُقال إنّه ضعيف اليقين والإيمان بالغيب، فعليه أن يبذل قصارى جهده لتقوية إيمانه ويقينه، ودفع الشيطان عنه، ورياضة النفس الأمارة بالسوء المحبّة للراحة والاسترخاء لكي يطوِّعها فتكون تحت حكم العقل والشرع لينال سعادة الدارين إن شاء الله.
التوسعة في البدائل
وإنّ الشريعة قد جعلت تسهيلات كبيرة جدّاً وكثيرة من خلال جعل البدائل عند الاضطرار بل حتّى اختياراً، لكي لا يتذرّع المكلّف بشيء لترك صلاة الليل، أي لتضمن إتيان المكلّف بها والمداومة عليها دون أن يكون عنده أيّ عذر لتركها.
فصلاة الليل مشروعة أداءً وقضاء وتقديماً عن وقت الأداء. وهناك تدرُّج في الفضيلة في أوقات الأداء، فأفضل أوقاتها السحر وكلّما اقتربت من الفجر كان أفضل، ويُمكن إقامتها أداءً ابتداءً من منتصف الليل، ويُمكن تفريقها بأن يؤخّر ركعتي الشفع وركعة الوتر إلى السحر قبيل الفجر.
ومن فاتته في وقت الأداء فإنّه يُستحبّ له قضاؤها، بل ورد في الرواية عن أبي عبد الله (ع) قال: "كان عليّ بن الحسين (ع) يقول: إنّي لأحبّ أن أدوم على العمل وإن قلّ، قال: قلنا: تقضي صلاة الليل بالنهار في السفر؟ قال: نعم"(40).
وعن صفوان الجمّال قال: كان أبو عبد الله (ع) يُصلّي صلاة الليل بالنهار على راحلته أينما توجّهت به(41).
وعن الإمام الصادق (ع): "قضاء صلاة الليل بعد الغداة وبعد العصر من سرّ آل محمّد المخزون"(42).
فالقضاء مشروع في الليل والنهار وفي الليل أفضل.
والقضاء أفضل من التقديم عن منتصف الليل.
ويجوز الاقتصار على الشفع والوتر.
ويجوز تقديمها عن وقتها، أي أن يأتي بها قبل منتصف الليل، وذلك لعدّة طوائف:
الذي يخاف الاحتلام، والذي يخاف أن لا يستيقظ، والمسافر الّذي يخاف فوتها.
-وتجوز من جلوس
ولمن لا يقدر على القيام فله أن يُصلّي نافلة الليل من جلوس، بل له الصلاة من جلوس اختياراً، إلا أنّه يُستحبّ عندئذ أن يجعل كلّ ركعتين ركعة واحدة.
-يُشرع أداؤها راكباً
ويجوز أداؤها حتّى وإن كان ماشياً أو راكباً على دابّته، وإن لم يكن مستقبل القبلة، فيما إذا كان على طهارة:
-روى محمد بن مسلم قال: قال لي أبو جعفر (ع): "صلِّ صلاة الليل والوتر والركعتين في المحمل"(43).
-وعن صفوان الجمّال قال: "كان أبو عبد الله (ع) يُصلّي صلاة الليل بالنهار على راحلته أينما توجهت به"(44).
أخي العزيز هل بقي لك من عذر بعد معرفة عظمة ثواب وآثار هذه الطاعة والموهبة الربانية، وبعد التعرُّف إلى هذه التسهيلات والخيارات المتعدِّدة الّتي أتاحتها الشريعة المقدّسة للمكلّفين كي لا تفوت عليهم آثار هذه الشعيرة الإلهية الراقية؟
أعد النظر وفكِّر واشحذ سيف الهمّة والإرادة واعزم على البدء فوراً بصلاة الليل واستعن بالله تعالى فإنّه هادٍ لمن استهداه ومعين لمن استعانه، وما توفيقنا إلّا منه تعالى عليه توكّلنا وإليه المصير.
ولا تُحي الليل باللهو واللغو على التلفاز والإنترنت، فيضيع عمرك وتضيع آخرتك.
خامساً: تأكيد العلماء الربّانيين على صلاة الليل، قولاً وعملاً
العلماء الربّانيون أكّدوا على المداومة على صلاة الليل وعلى عدم تركها، حتّى أنّهم صرّحوا بأنّ السالك لا يصل إلى المقامات الروحانية العرفانية إلا إذا كان مؤدّياً لصلاة الليل، يقول المرحوم الملكيّ التبريزيّ:
وحكى لي شيخي في العلوم الحقّة: "أنّه ما وصل أحد من طلّاب الآخرة إلى شيء من المقامات الدينيّة إلا إذا كان من المتهجّدين".
-يقول العلّامة الطباطبائيّ قدس سره: "عندما تشرّفت بالنجف الأشرف للدراسة ونظراً لقرابة الرحم، كنت أحياناً أتشرّف بزيارة المرحوم القاضي وذات يوم كنت واقفاً في مدرسة في النجف فمرّ المرحوم القاضي من هناك وعندما وصل إليّ وضع يده على كتفي وقال: يا بنيّ إذا كنت تُريد الدنيا فصلِّ صلاة الليل وإذا كنت تُريد الآخرة فصلِّ صلاة الليل.
قد أثّر فيّ هذا الكلام إلى حدّ أنّي بعد ذلك وطيلة خمس سنوات رجعت بعدها إلى إيران لم أترك مجلس السيّد القاضي".
-زينب عليها السلام ليلة الحادي عشر لم تترك صلاة الليل.
سبحان الله ما أعظم هؤلاء الّذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، إنّهم أولياء الله حقّاً والحوراء زينب عليها السلام من رموزهم.
في ليلة الحادي عشر وما أدراك ما ليلة الحادي عشر؟
نساء وأطفال، أرامل ويتامى، ذعر.. رعب.. قلق.. فقدان للحامي.. فقدان للرأفة والرحمة من القلوب الجافية الغليظة الّتي لم يبق فيها ذرّة من إنسانية، جوع، عطش، نظر إلى المجهول...
أجساد مطرّحة على وجه البيداء لا تزال تنزف مزمَّلة بدمائها..
في هذه الأجواء.. الّتي بمجرّد تصوّرها يدخل الرعب، والألم، والأسى في القلب، كانت زينب عليها السلام وما أدراك ما زينب وما كان دور زينب؟
هي قائدة قافلة الأسرى والحارسة لها..
هي الراعية والحاضنة للأطفال واليتامى.. والجامعة لهم بعد أن هاموا على وجوههم في البيداء...
هي المتعثّرة بأذيالها متردّدة من جهة إلى جهة..
السياط تتلوّى على متنيها.. الأشواك تُدميها.. قلبها يلتهب ناراً..
في هذا الخضمّ وهذه الأجواء الّتي كلّ ما فيها يدعو إلى الرهبة والألم والقلق والتي كان الجهد فيها والضنك والتعب يستوعب الكيان ويهدّ الأركان توجّهت زينب إلى ربّها ولم تترك صلاة الليل، إلا أنّها كانت منهكة في جهد لا يوصف، فلم تطق بأبي وأمي أن تؤدّي صلاة ليلها من قيام، لم يكن لديها طاقة على القيام، ولكن لم يصدّها ذلك عن إقامة الصلاة، فصلّت صلاة الليل من جلوس.
سلام الله عليك يا زينب...
اللهم اجعلنا من محبّيها وارزقنا التأسّي بها واحشرنا معها يا ربّ العالمين.
-الإمام الخمينيّ قدس سره وصلاة الليل
يقول أحد المقرّبين من الإمام الخمينيّ قدس سره: إنّه منذ خمسين سنة لم يترك صلاة الليل في حال الصحة أو المرض، في السجن وفي الأحوال الاعتيادية، أثناء النفي وحتى على سرير المرض كان يُصلّي صلاة الليل.
مرض قدس سره في قُمّ وبناء على أمر الأطباء كان لا بُدّ أن ينتقل إلى طهران. وكان الجو بارداً وكان الثلج والمطر يتساقطان، والجليد يُغطّي الشوارع، وبقي قدس سرهعدّة ساعات في سيارة الإسعاف، وبعد الوصول إلى مستشفى القلب صلّى أيضاً صلاة الليل.
-وفي ليلة قدومه من باريس إلى طهران كان الجميع في الطائرة نياماً بينما الإمام قدس سره كان في الطبقة العليا من الطائرة يُصلّي صلاة الليل...وكان يبكي بحيث إنّ مضيفي الخطوط الفرنسية تعجّبوا وسألوا هل هناك ما يؤذيه..
فقال أحد من كان يرافقه إنّها عادته في كلّ ليلة.
- وعندما اعتقل في قُمّ ونُقل إلى السجن زمن الشاه صلّى صلاة الليل بحيث قد أبكى بعض من كان معه..!
1- سورة الإسراء، الآية: 79.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 352.
3- نهج البلاغة، قصار الحكم، 39.
4- نهج البلاغة، قصار الحكم، 279.
5- سورة السجدة، الآيتان: 16ـ 17.
6- التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 4، ص 156.
7- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره, ص 323- 233.
8- سورة الإسراء، الآية: 79.
9- سورة المزمل، الآية: 6.
10- الوسائل، الإسلامية، ج5، 269.
11- سورة هود، الآية: 114.
12- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 473.
13- سورة الزمر، الآية: 9.
14- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 444.
15- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 484.
16- سورة آل عمران، الآية: 17.
17- التفسير الأصفى، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 142.
18- م.ن.
19- سورة الذاريات، الآيتان: 17ـ 18.
20- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ج 1، ص 165.
21- م.ن. ج1، ص 165.
22- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 7، ص 381.
23- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 320.
24- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج8، ص157.
25- إرشاد القلوب، الديلمي، ص86.
26- الهداية، الشيخ الصدوق، ص 150.
27- سورة الفتح، الآية: 29.
28- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 152.
29- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 157.
30- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 471.
31- م.ن، ص 472.
32- م.ن، ص 473.
33- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 320.
34- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 474.
35- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 551.
36- م.ن، ص 512.
37- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 321.
38- م.ن، ص 321.
39- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 162.
40- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 4، ص 92.
41- م.ن، ص 92.
42- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، 185.
43- م.ن، ج 4، ص 90.
44- م.ن، ص 92.