الدرس التاسع: التآسي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(1)
التأسّي أمر فطريٌّ في الإنسان
الأسوة هي القدوة، والتأسّي هو الاقتداء، وهو أمر فطريٌّ يميل إليه الإنسان ويبحث عنه تلقائياً، فهو يميل إلى أن يكون أمامه نموذج حيّ يقتدي به يُجسّد المفاهيم ويأخذ المواقف ويتبنّى القرارات ويجري عملياً على طبقها، بحسب ظروفها ومقتضياتها لفظاً، وعملاً، وموقفاً.
فمنذ الصغر تجد الطفل الصغير ينظر إلى أبيه ويحاول تقليده وكذلك الفتاة تحاول تقليد أمها، وذلك واضح في تصرّفات شتّى تظهر منذ السنوات الأولى لا تخفى على أحد.
وطبعاً هذه الأسوة قد تكون أسوة حسنة وقد تكون أسوة سيئة، فالإنسان وإن كان يطلب التأسّي بالشيء الحسن بحسب نظره ورؤيته، إلا أنّه قد يضلّ الطريق ويشتبه عليه الأمر، فيتوهّم ما هو سيّئ أنّه حسن وما هو شرّ أنّه خير، فتكون الأسوة في الواقع أسوة سيئة وليست أسوة حسنة.
الأسوة نظريّة وعمليّة
والأسوة نظريّة وعمليّة، فالنظريّة هي المبادئ والقوانين والسنن الّتي يتعلّمها الإنسان ويتبنّاها كمعتقدات وقناعات وهذا مهمّ، والأهمّ هو أن يكون هنالك شخص تتجسَّد فيه تلك المبادئ والقيم وتتحرّك معه في كلّ مواقفه، وهذا هو الأسوة العملية الّتي يراها الناس أمامهم تُجسّد النظرية عملاً وسلوكاً، وهي أبلغ وأدعى للتأسّي والاقتداء.
فالأسوة العملية الحسنة هي الحقّ متحرّكاً ومتمثّلاً في شخصية متكاملة، متحرّكة أمامك ﴿لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ فالنبيّ أسوة عمليّة حسنة بتزكيةٍ وشهادة ربّانية.
وقد ورد في وصفه (ص) أنّه:"كان خُلُقه القرآن"(2)، أي أنّه جسّد القرآن الكريم عملياً في عمله وسلوكه حتّى أنّك إذا أردت أن ترى القرآن الكريم في قيمه ومفاهيمه وأخلاقه متجسّداً ومتحرّكاً أمامك تنظر إليه بعينيك فانظر إلى شخص النبي (ص) في سلوكه وكلّ حركاته وسكناته، فرسول الله (ص) أسوة عمليّة حسنة في كلّ لفظ أو فعل أو موقف.
فهو (ص) أسوة في الكلام ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾(3) فكلامه معصوم عن الخطأ والزلل، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(4).
وهو أسوة (ص) في الموقف والعمل ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾(5).
وهو أسوة وحجّة حتّى في سكوته وتقريره، لذلك كانت العبارة الأصولية: "قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة".
يقول أمير المؤمنين (ع) في وصف قربه من رسول الله (ص): "وكنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمه يرفع لي كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به"(6).
وقد قال النبيّ (ص) في حقّ أمير المؤمنين (ع): "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ"(7). فعليٌّ إذاً عندما تراه ترى الحقّ متحرّكاً معه، لا يفترقان، فعليّ أسوة عملية حسنة.
وفي الرواية عن الإمام السجّاد (ع):"نحن الصراط المستقيم " فكلّ أهل البيت عليهم السلام هم أسوة عملية حسنة للعباد، فإذا بصرتهم رأيت الاستقامة بعينها، فهم الصراط المستقيم"(8) وهم الميزان، ففي الزيارة لأمير المؤمنين (ع): "السلام على ميزان الأعمال"(9).
وقد أكّد أهل البيت عليهم السلام على شيعتهم أن يكونوا أسوة وقدوة عملية لا فقط قولية تنظيرية عندما أوصوهم بتلك الوصايا:
-فعن الإمام عليّ (ع): "..ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد"(10).
-وعن الإمام الصادق (ع): "كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم"(11).
-وعنه (ع): "كونوا لنا دعاة صامتين"(12).
-وعن الإمام الرضا (ع): "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً"(13).
- وعن الإمام العسكري (ع): "إنّ أحدكم إذا صدق في حديثه وأدّى الأمانة قيل هذا شيعيّ فيسرّني ذلك"(14)، إلى غير ذلك.
الفرق بين الأنبياء والحكماء الفلاسفة
ولو سألنا عن السبب في كون الأنبياء أكثر تأثيراً في بني البشر من الحكماء والفلاسفة، لربّما كان الجواب هو أنّ الحكماء كانوا منظّرين فحسب ولم يُعايشوا الناس ويُخالطوهم على الغالب، بخلاف الأنبياء فإنّهم كانوا يتحرّكون مع الناس ويعيشون معهم في جميع شؤونهم حتّى قال بعضهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ففي السلم والحرب وفي الرخاء والبلاء، وفي السرّاء والضرّاء، بل وفي جميع شؤون الحياة كان النبيّ يتحرّك مع الناس ليعيش معهم كلّ المفارقات والمفاصل في الحياة والاختلافات والنزاعات ليبيّن لهم ميدانياً ومن قلب الواقعة والميدان، أين الحقّ من الباطل، وأين الصواب من الخطأ، وأين العلم من الجهل، وأين السداد من الاشتباه، يُعطي لكلّ واقعة حكمها، ولربما دفع أثماناً لوجوده في قلب الحدث، ولكن كان ذلك يصبّ في خانة التضحيات في سبيل الرسالة. ففيما ينقل عن نبيّ الله نوح (ع) أنّ قومه كانوا يتعمّدون عدم الاستماع إليه وكان يصل بهم التعسّف والتعدّي على حرمته المقدّسة أنّهم يضربونه حتّى يُغشى عليه ومع ذلك عندما كان يستفيق كان يأتيهم ويتابع مسيرته الرسالية بينهم. والله تعالى يبيّن أنّ إحد الأمور الّتي كانوا يعجبون منها أنّ النبيّ كيف يكون رجلاً منهم، قال تعالى في سياق الكلام عن نبيّ الله نوح (ع): ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(15).
فهذا يُبيّن شدّة لصوق الأنبياء الكرام بالمرسَل إليهم وقربهم منهم.
بخلاف الفلاسفة والحكماء فإنّهم في الأعمّ الأغلب منظِّرون للحقائق التجريدية عن بُعد، ولم يلتحموا بالواقع المعاش للناس ليكونوا متحرّكين عملياً أمامهم لكي يؤثِّروا فيهم من الناحية التربوية، فلم يكونوا أسوة عملية مرأية لكلّ أحد، ولهذا كان الأنبياء مؤثّرين في الناس على صعيد التهذيب والتربية والتأديب والتزكية.
فالإنسان يتأثّر بعملٍ أو موقفٍ أمامه من أسوة عملية أكثر من تأثّره بسيلٍ من الكلمات، ولهذا يؤكّد القرآن الكريم على أن يكون الرسول من جنس المرسَل إليهم فيردّ إشكال من قال إنّ النبيّ ينبغي أن يكون مَلَكاً من الملائكة بقوله تعالى:﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ (16). فكيف يتأسّى الناس بمَلَك؟ فإنّهم سيقولون هو مَلَك يمتلك من الطاقات ما لا نمتلكه فكيف يكون قدوة لنا؟ فلا بُدّ أن يكون رجلاً مماثلاً في التكوين وفي الشعور والظروف حتّى يقول المتأسّي هو مثلي ففعل كذا ويُمكن لي أن أقتفي أثره وأمشي على خطاه وأقتدي به.
السرّ في أهميّة الأسوة
قد يسأل سائل ما الحاجة للأسوة والقدوة؟ فنقول: فضلاً عمّا ذكرنا آنفاً من كون التأسّي أمراً مرتكزاً في أعماق النفس الإنسانية فإنّه يوجد حاجة ملحّة لوجود الأسوة وللتأسّي بها، وذلك للدور الكبير الّذي تلعبه في طريق الوصول إلى الكمال المنشود للنفس الإنسانية وتزكيتها وتهذيبها، وهذه بعض الأمور المهمّة الّتي يُساهم فيها التأسّي:
1-الأسوة توفّر على طالب الحقّ عناء البحث والتمحيص والمرور بمرحلة الشكّ ووضع الاحتمالات والموازنة فيما بينها، ثمّ الاجتهاد والتعب والبحث عمّا يقوّي احتمالاً على آخر، فتُسهّل فرص الوصول إلى المبتغى من التهذيب والتكامل لأنّها تختزل من الأوّل الخيارات في خيار واحد متعيّن لا ثاني له وهو خيار الأسوة العملية الحسنة.
2-الأسوة تضمن النتيجة السديدة وعدم الخطأ في الاحتمال الصائب، بينما على فرض البحث الشخصيّ فإنّ احتمال الخطأ والاشتباه يبقى متأتياً وماثلاً.
3-الأسوة تُسرِّع الوصول إلى الغاية والهدف المراد، وهذا مترتّب على ما ذكرنا، حيث تُطوى تلك المقدّمات الّتي يحتاجها الباحث للوصول إلى الحقّ.
4-الأسوة تقوّي مقتضى الصلاح في الأفراد، فإنّ وجود الأسوة العملية المرئية يقوّي الإذعان بإمكان تجسُّد القيم النظرية في أشخاص واقعية، وهذا يُبعد تصوّر أنّ المبادئ والقيم تبقى مخطوطة بالمداد على القرطاس مع تعذُّر تجسيدها في الواقع.
أهميّة الأسوة في حياة كلّ إنسان، واختيار الأسوة الحسنة، ونبذ الأسوة السيئة:
لا بُدّ من التأسّي، ولكن كما ألمحنا سابقاً فإنّ الأسوة قد تكون حسنة وقد تكون سيّئة.
فميل الإنسان بفطرته إلى التأسّي يدفعه إلى أن يتّخذ أسوة، فإن لم تكن حسنة فإنها ستكون سيّئة، وإن لم تكن صالحة فستكون فاسدة، فإذاً عملية التأسّي ستكون مفروغاً منها إجمالاً، إلا أنّ المهمّ هو اختيار الأسوة الحسنة بعد تمييزها عن السيّئة، وعند حصول الاشتباه بين الحسنة والسيّئة هناك تقع الكارثة.
ولا بُدّ من بيان نظرة الشريعة المقدّسة للأمور الّتي تُصبح رموزاً يُعرف بها الكفّار، فإنّها تنهى عن تعاطيها وتُبالغ في النهي حتّى ولو كانت كلمة تُقال.
فمثلاً كلمة "راعنا" وهي تتضمّن معنى ليس فيه عيب ولا قبح إلا أنّ اليهود قد جعلوا لها معنى آخر فصارت تتضمّن معنى الاستهزاء بالنبيّ (ص) فنهى الله تعالى المسلمين عن التلفّظ بها وأمر باستبدالها بكلمة "انظرنا". فحتّى كلمة لم يرض الله تعالى باستعمالها من قِبَل المسلمين لمّا تحوّلت إلى لفظ متعارف عليه لدى الكفّار فيه نيل من الحرمات، فكيف بالأعمال والمنتجات المروَّجة وكيف بالقناعات والاعتقادات والأعراف والسلوكيات، وكيف بالتقليد الأعمى لكلّ ما يقوم به الغرب الكافر؟
فإنّه من الأولى أن يكون الإسلام ناهياً المؤمنين عن التشبُّه بالكفّار في مواردها.
قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ٌ﴾ (17).
ويقول تعالى:﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (18).
قال الطبرسيّ في مجمع البيان
"المعنى: لما قدّم سبحانه نهي اليهود عن السحر، عقّبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا﴾ .كان المسلمون يقولون: يا رسول الله! راعنا أي: استمع منّا. فحرّفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا: يا محمد،! راعنا، وهم يلحدون إلى الرعونة، يريدون به النقيصة والوقيعة. فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول المسلمون، فنهى الله عن ذلك بقوله ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا﴾ ﴿وَقُولُواْ انظُرْنَا﴾ . وقال قتادة: إنّها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الإستهزاء. وقال عطا: هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهلية، فنهوا عنها في الإسلام.. وقال الباقر (ع): هذه الكلمة سبٌّ بالعبرانية إليه كانوا يذهبون..ومعنى انظرنا: يحتمل وجوهاً أحدها: انتظرنا نفهم ونتبيّن ما تعلّمنا، والآخر: فقِّهنا وبيّن لنا يا محمّد، والثالث: أقبل علينا. ويجوز أن يكون معناه: انظر إلينا"(19).
نقول: ولأهميّة الأسوة في الحياة وشدّة تأثيرها على المجتمع والحياة فإنّ أعداء الإسلام قد عمدوا إلى استبدال الأسوة الحسنة بالأسوة السيّئة وابتكروا أشياء توافق الأهواء وروّجوا لها على أنّها نماذج الكمال والجمال، وبذلوا قصارى الجهد ليُقنعوا أمّتنا بذلك من خلال أساليب الدعاية المختلفة، وهذا طبعاً يجعل فرص الاشتباه في اختيار الأسوة الحسنة كبيرة، وبالفعل نجد الكثير من شباب أمّتنا الإسلامية الّتي هي خير أمّة أخرجت للناس تسير نحو الأسوة السيّئة.
وهذا الاختيار الخاطئ للأسوة تعمل أجهزةٌ منظّمة جهنميّة لتسويقه بين شعوبنا الإسلامية وبثّه فيهم وخاصة بين شبابهم الّذين يمثّلون عصب الأمّة وقوّتها وطاقتها، وإظهاره بمظاهر المثل العليا، بعناوين متعدِّدة كالجمال والأناقة، والتجدُّد باتّباع الموديلات الّتي لا تقف عند حدّ، والبطولات الوهمية، ويقيمون المسابقات على مدار أيّام السنة بعناوين مختلفة رياضية وغيرها، فيُصبح البطل هو من يُسدِّد الكرة لتدخل في المرمى لا من يدافع عن كرامته وشرفه، وعزّة أمّته، وقيمها، وذلك لإلهاء شعوبنا عن القضايا الكبرى والوصول بذلك إلى استعبادهم بعد استنزاف مقدّراتهم الّتي مَنَّ الله بها عليهم.
وقد نجح أعداء الدِّين والإنسانية في تسويق هذه الأسوة السيّئة الضالّة المضِلّة كأمور مهمّة تجري المنافسة على حيازتها ويكون الفرد اللامع فيها هو من يُنظر إليه كأنموذج تنشدّ إليه الأنظار وترمقه بطرفها متمنية بشوق ولهفة الوصول إلى ما وصل ونيل ما نال، وتقف الناس إجلالاً له وتتجمهر عندما يحضر، ويأتون إليه بأشياء ليتبرّكوا من تواقيعه عليها، وتُجعل صوره على المنتجات الاستهلاكية كالألبسة وشبهها وعلى الدفاتر المدرسية والكتب، ويروِّجون له حتّى وأنت تسير في سيارتك تراه في الإعلانات والملصقات..
والكلام في ذلك يطول، وما كان مُعاشاً كفتنا رؤيته بالعين مؤونة وصفه والحديث عن تفاصيله..
أيّها الشباب..
إنّ واجبكم الشرعيّ والإنسانيّ أن تعوا وتتنبّهوا لمخاطر هذه المخطّطات الشيطانية الّتي يُمارسها أعداء الله وأعداء القيم الّذين لا يؤمنون إلا بجشعهم وحبّهم الأعمى لاستعباد الشعوب وإذلالهم لكي يكونوا عبيداً لهم بأسماء ابتدعوها وجمّلوها وزخرفوها كالحرية والديمقراطية..
وبأساليب ترويجية لأمور ليس وراءها مضمون ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان﴾(20), ليتلهّى أفراد الأمّة عن القيم الحقّة والمطالبة بها وتُستنزف طاقاتهم في قضايا ليست هي بقضايا وإنّما هي أشبه بخيال وانعكاس في المرايا، وأقرب ما تكون من ألعاب الصبيان. فتنبّهوا أيّها الشبّان ولا تكونوا في الأمّة الغربان الّتي تنعق بانحلالها ودمارها، بل تبنّوا قيمها وكونوا مدافعين عنها وعن بنيانها الشامخ الّذي شيّد صرحَه المؤمنون بعرقهم، وعمّده الشهداء بدمائهم، وغذّته آلام الأسرى وآهاتهم في زنازينهم، وقوّاه صبر الثكالى ودموع اليتامى وأنّات الجرحى..
اهجروا التقليد والتأسّي بكلّ ما يكون له نوع ارتباط بالغرب الكافر وارجعوا الى مبادئنا ومفاهيمنا..ارجعوا إلى الأسوة الحسنة.. ارجعوا إلى الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين..
ارجعوا إلى محمّد وآل بيته الأطهار عليهم السلام..
فإنّ ربّكم وهو أولى بكم قد اختار لكم أسوة حسنة، أفتختارون غير ما اختار لكم الله ربّ العالمين، حيث قال عزّ من قائل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر﴾َ(21)
بعض نماذج التأسّي السيّئ في مجتمعنا
هذه بعض النماذج لأمور استفحلت في أجوائنا وبين شبابنا وفتياتنا إلى حدٍّ كبير، وقُلنا بعض النماذج لأنّ التأسّي السيّئ قد يكون مستشرياً في مجتمعاتنا في مناحٍ متعدِّدة وبأشكال وأساليب متنوّعة إلى درجة قد يصعب استقصاء نماذجها:
1-طريقة اللباس والتجديد للمقتنيات بحسب الموديلات
أوّلاً: يستلزم الاستهلاك المذهل الّذي يقوّي اقتصاد الغرب المستعمر وشركاتهم المصنّعة فهم المصمّمون والمنتجون ونحن المستهلكون لمنتجاتهم والمنفقون لبضائعهم. ولا خير في أمّة مستهلكة تُتلف وتُجدّد، أو حتّى تُجدّد من دون إتلاف بل فقط جرياً وهرولة وراء الموديلات الّتي هي فكرة ماكرة لترويج وبيع أكبر كمية ممكنة ممّا تُنتجه معاملهم ومصانعهم.
ثانياً: الخروج عن الكثير من عاداتنا ومبادئنا في اللباس وطريقته وشكله ولونه، وتطبيق ما صمّمه هؤلاء.
فالنبيّ (ص) علّمنا الأمور المستحبّة الحميدة فيما يتعلّق باللباس، والألوان، وطريقة اللّبس، ومقدار ما يُنفق عليه، وكيفيته بأن يكون محتشماً، إلى غير ذلك، وبالمقابل تجد اللّباس غير المحتشم للفتيات والشباب، بل وغير العقلائيّ كأن يكون البنطال ممزّقاً من أماكن محدّدة مثلاً، أو قد زال صبغه من بعض الأماكن دون بعضه الآخر، أو يُظهر قسماً من الظهر، أو طويلاً يجعل جزءاً من أسفله ملتقطاً لما يمرّ به من أوساخ الأرض..
أو يجعل الشعر بطريقة مقزّزة تُعيد الإنسان إلى العصر الحجريّ والقرون الوسطى. والرسول الأسوة (ص) يقول: "من اتّخذ شعراً فليحسن ولايته أو ليجزّه"(22). وقال لأحدهم لم يمتشط ما مضمونه: أما عندك ممشاط! مستنكراً عليه أن يخرج إلى المجتمع من دون أن يُمشّط شعر رأسه.
2-التأسّي بالرياضيين وما يُسمّى بالفنّانين
وهذا لشدّة ما يروّج له إعلامياً يستلب الألباب عند شريحة عظمى من أبنائنا وبناتنا بل وحتى قسم من الكبار للأسف.
فترى فلاناً يُقلّد من يتّخذه المثل الأعلى له من الرياضيين أو ما يُسمّى بالفنّانين في لباسه وفي طريقة مشيه وكلامه وطريقة قصّه لشعره..الخ
ويُتلف الوقت والمال على تشجيع الفنّان، واقتناء صوره وما يتعلّق به ويرمز إليه، ويزهو بنفسه فخراً عندما يشتري سترة لا تُساوي فلسين بمبلغٍ من المال فقط لأنّها عليها اسمه أو تحمل صورته، ويدخل في المنازعات والخصومات لأجله. هل تجد أيّها العاقل تسخيفاً للعقول وتسفيهاً للأحلام أكثر من ذلك؟
3-التأسّي بالعادات الاجتماعية أفراحاً وأتراحاً
طريقة العرس أو مناسبات الفرح وتفصيلاتها..
وهذا أيضاً لا يقلّ عن أضرابه ممّا ذكرنا، فإنّك تقضي عجباً من إنسان يعدّ نفسه في المجتمع من المثقفين، أو من المحسوبين على التديّن والمتدينين، يُصبح فجأة في موقف من المواقف الاجتماعية مرهوناً لبروتوكولات وعادات لا يُدرى مصدرها قد تعارف جملة من الناس على فعلها وتطبيقها حرفاً بحرف، وإن لم يقم بها بل وإن أخلّ بحلقة من حلقاتها فإنّه يخاف أن يُصبّ الويل والثبور عليه من الآخرين بأنّ عرسه أو مناسبته لم تكن بالمستوى المطلوب، فيجد نفسه سجين قضبان التأسّي الفارغ سواء أقنع نفسه به أم أقدم عليه خوفاً من دون اقتناع.
أليس الحريّ بالمؤمن الّذي يحترم مبادئه وقيمه أن ييمّم وجهه شطر كتاب الله وسنّة رسوله الأكرم (ص) وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، فيستخرج الدرر منها ويجري على مقتضاها الّذي هو أصل الفطرة الّتي فطر الله الناس عليها، فيكتسب البركة ويجني رضا الله تعالى ويكون قد احترم نفسه وتقاليده وقيمه ولم يُقلّد تقليداً أعمى ولم يذهب إلى أسوة سيّئة؟
4-التأسّي بالمناسبات والأعياد
إنّ ديننا دين القيم والشفافية والوجدانيات والعواطف المقدّسة، دين الرقّة والأحاسيس الّتي لا تتنافى مع حكم العقل والشرع. وقد جُعلت مناسبات للتعبير عن هذه المشاعر الإنسانية الراقية الّتي ترقى فيها المعاني والمضامين السامية، فليس عندنا نقص ولا جدب ولا جفاف في مناسباتنا المعبِّرة الّتي تربطنا بالمعاني المقدّسة حتّى نستمدّ ونسترفد ونستورد من الآخرين مناسبات وتعبيرات.
فلماذا نُقلّد بمناسبة قد أسموها باسم يُعبِّر عن الحبّ "عيد العشّاق"؟ أليس قد ورد عن المعصومين عليهم السلام "وهل الدِّين إلا الحبّ"(23)، وكم هي مناسباتنا كثيرة الّتي يُمكن أن نُعبّر فيها عن حبّنا العفيف تجاه من نحبّ.
وليس الحبّ الّذي في عقيدتنا إلا العفاف والطهر بين أطراف تجمعهم علاقات شرعية بخلاف ما وضع من قبل الآخرين، فإنّهم لم يُقيموا وزناً للعقد الشرعيّ فشمل الحبّ عندهم العلاقة غير الشرعية، نستجير بالله. فكيف تتبنّى أيّها المؤمن هكذا مناسبة موضوعة من هكذا أناس لتُعبِّر فيها عن حبّك الّذي هو الطهر بعينه؟
وكذلك فيما يُسمّى بعيد رأس السنة أو أعياد الميلاد، فما الخلفية المقدّسة للسنة الميلادية كي أتخذ ليلة رأس السنة ليلة متميّزة، أحسب لها الحساب قبل مدّة من الزمن؟ هل فقط لأنّ الكثيرين في العالَم يُحيونها فأنا عليّ أن لا أكون غيرهم؟!
هذا المنطق عجيب. فلو أنّ لهؤلاء عيداً للفاحشة هل كنت لتقول أنا عليّ أن لا أنفرد عنهم! هذا منطق الغوغاء من الناس الّذين أعاروا تفكيرهم للآخرين ولم يحترموا إنسانيتهم.
وبالفعل إنّ رأس السنة هو عيد الفواحش يكثر فيه الزنا وشرب الخمر ولعلّ أكثر ليلة يُعصى فيها الله تعالى هي تلك الليلة!
أخيراً نقول: إنّ الّذي يقبل شيئاً من دون تفكير فقد بخس الشيء الّذي أكرمه الله به وفضّله لأجله على جميع المخلوقات وهو التفكير والتعقُّل، فكما أنّ ادّعاء شيء بلا دليل قبيح وليس له قيمة، فكذلك أخذ شيء وتبنّيه من دون دليل فهو تسخيف للعقل وللإنسان.
1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 800.
3- سورة النجم، الآية: 3.
4- سورة الحشر، الآية: 7.
5- سورة النجم، الآية: 2.
6- نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، الخطبة القاصعة، ج 2، ص 157.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 10، ص 432.
8- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1609.
9- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 97، ص 287.
10- نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج 3، ص 70.
11- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 77.
12- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 1، ص 116.
13- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 245.
14- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 372.
15- سورة الأعراف، الآية: 63.
16- سورة الأنعام، الآية: 9.
17- سورة البقرة، الآية: 104.
18- سورة النساء، الآية: 46.
19- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 335.
20- سورة النجم، الآية: 23.
21- سورة الأحزاب، الآية: 21.
22- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 2، ص 129.
23- الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 80.