الدرس السابع: الإجارة ضوابطها وآدابها
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾(1).
تمهيد
من المسلّم به الواضح لكلّ إنسان يعقل أنّ الناس تحتاج لبعضها بعضاً لتسيير أمورها وقضاء حوائجها. فالإنسان لا يستغني عن الآخرين، ولا يقدر على ذلك حيث إنّ حوائجه كثيرة ولا يقدر على سدِّها بمفرده. ففي الطعام والشراب والمسكن واللباس وغيرها من الحاجات، يوجد العديد من المهن والصنائع والحرف فكيف له بامتهانها جميعاً؟!
هذا غير متيسّر لشخص بمفرده، فاحتاج بنو البشر لأجل التكامل فيما بينهم أن يبنوا مجتمعاً تتبادل الناس فيه الحاجات، فأنا أعطيك عملي في حرفتي وأنت تُعطيني نتاج جهدك في صنعتك وهكذا..
ومن هذا المنطلق احتاج الناس أيضاً إلى بعضهم بعضاً في الاستخدام فهناك صاحب عمل وهو يحتاج إلى عمّال سواء في الزراعة أم في الصناعة أم في التجارة، فلا تصلح الحياة الاجتماعية بأن يكون كلّ الناس أرباب عمل واحد. ومن هنا كانت حكمة الله تعالى في التباين بين الخلق في الهمم والطموحات والإرادات والعزائم..
وهذا ما يُشير إليه سيّدنا أمير المؤمنين (ع) عندما يُبيّن ما تتضمّنه الآية القرآنية المتقدِّمة من حقائق والتي منها الحكمة في خلق الناس بقابليّات متفاوتة، ومنها الحكمة في تسخير بعض الناس لبعضهم بعضاً، وكون بعضهم مستخدِماً والآخر مستخدَماً.
فإنّه (ع) استدلّ بالآية الشريفة على كون الإجارة من وجوه المعاش، وأنّها مشروعة وثابتة في الدِّين والشرع المبين وعلى أنّها لا بُدّ منها، وأنّ أمور الخلق ومعايشهم لا تستقيم بدونها. فقد نقل السيّد المرتضى قدس سره عن تفسير النعماني بإسناده عن أمير المؤمنين (ع) في بيان معايش الخلق، قال (ع):
وجه الإجارة
-"وأمّا وجه الإجارة فقوله عزّ وجلّ:
﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾(2).
فأخبرنا سبحانه أنّ الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرّفاته وأملاكه.
ولو كان الرجل منّا يضطرّ إلى أن يكوّن بنّاء لنفسه، أو نجّاراً، أو صانعاً في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه، ويتولّى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب وما يحتاج إليه من الملك فمن دونه، ما استقامت أحوال العالم بتلك، ولا اتّسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنّه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم وكلّ ما يطلب مما تنصرف إليه همّته ممّا يقوم به بعضهم لبعض، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش الّتي بها صلاح أحوالهم"(3).
فلا كلام إذاً في مشروعية الإجارة، وحاجة الخلق إليها وإلا تعسّرت الحياة على الإنسان..وإنّما الكلام في عدّة نقاط مهمّة في طيّات أبحاث الإجارة من شروط وآداب، قد يُبتلى بها الناس بالإخلال بها وهم لا يدرون، وربّما سبّب هذا الإخلال خللاً في العلاقات ما بين المؤمنين، مما استدعى ذكرها لتعلّمها وتطبيق الشريعة المقدّسة، لما فيها من درء لتلك المناكفات والمخاصمات الّتي قد تتطوّر لتفقد الإنسان تقواه وتوقعه في التهلكة.
فإذا كانت الإجارة من العقود والمعاملات الّتي شُرّعت لصلاح معايش العباد، فلا ينبغي أن يتخلّلها ما يُفسد علاقاتهم ويتطرّق بالتالي إلى إفساد الودّ والألفة فيما بينهم، فهذا ينقض الغرض، ولذلك جعلت الشريعة ضوابط وآداباً لتنظيم هذه المعاملة، وتلافي ما يُمكن أن يحدث من منازعات بين المتعاملين قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه سواء على صعيد الدنيا أم الآخرة، ومنها:
1-دفع الغرر
يجب دفع الغرر وذلك بمعلومية كلٍّ من المنفعة والعوض عليها من دون أن يشوبهما إبهام، وتحديد المدّة. ومن هنا تبنّى مشهور الفقهاء تعريف الإجارة بأنّها: "عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم"(4), وقالوا: ثمرتها نقل المنافع بعوض معلوم مع بقاء الملك على أصله(5).
وهذا واضح الدلالة والحكمة، فإنّ التغرير بالآخرين هو الّذي يفتح باب المنازعة وطريق الشيطان إلى القلوب.
2-استحباب مقاطعة الأجير
حثّت الشريعة بشكل كبير على مقاطعة الأجير قبل العمل "أي الاتّفاق معه قبل العمل", وفي رواية الإمام الرضا (ع) مبالغة في التأكيد على الاتّفاق بشأن الأجرة قبل الشروع في العمل.
فقد روى سليمان بن جعفر الجعفريّ قال: كنت مع الرضا (ع) في بعض الحاجة فأردت أن أنصرف إلى منزلي فقال لي: "انصرف معي فبِتْ عندي الليلة"، فانطلقت معه فدخل إلى داره مع المغيب فنظر إلى غلمانه يعملون في الطين أواري "والأريّ بتشديد الياء وبدون التشديد محبس الدابّة" الدوابّ وغير ذلك وإذا معهم أسود ليس منهم، فقال: "ما هذا الرجل معكم؟"
قالوا: يعاوننا ونُعطيه شيئاً.
قال(ع): "قاطعتموه على أجرته؟"
قالوا: لا، هو يرضى منّا بما نُعطيه، فأقبل عليهم (يعنّفهم) وغضب لذلك غضباً شديداً، فقلت: جعلت فداك لم تدخل على نفسك؟ فقال: " إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة أن يعمل معهم أحد (أجير) حتّى يقاطعوه على أجرته.
واعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثمّ زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظنّ أنّك قد نقّصته أجرته، وإذا قاطعته ثمّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّة عرف ذلك لك، ورأى أنّك قد زدته"(6).
ولا يخفى ما في كلام الإمام (ع) من تشديد بهذا الشأن، فلا ينبغي التفريط به حتّى لو كان الاعتماد على الثقة بين الطرفين وأنّهما لا يختلفان وذلك لقطع منبت الفساد من جذوره.
وطبعاً هناك روايات أخرى تؤكّد وتُشدّد على هذا الأمر:
-فعن رسول الله (ص): "إذا استأجر أحدكم أجيراً فليعلمه أجره"(7).
-وعن الإمام عليّ (ع): "نهى رسول الله (ص) أن يستعمل أجير حتّى يعلم ما أجرته"(8).
-وعن الإمام الصادق (ع): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن أجيراً حتّى يعلمه ما أجره"(9)
ويندرج هذا الأمر وهو الحثّ على المقاطعة بين المستأجر والأجير تحت المبدأ الّذي ذكرناه وهو ضمان عدم المنازعة بعد العمل، أو قل تقليص فرصها إلى أقصى الحدود.
فالدِّين الحنيف يعمل في أحكامه وتشريعاته وإرشاداته على رفع مقتضيات التنازع وإرساء موجبات الودّ والرضا لكي يحفظ الحياة الإنسانية بأرقى صورها وأجلى قيمها وأبهى حللها، فتتوطّد العلاقات وتسود المحبّة والألفة بين المؤمنين، وتغيب مظاهر التنازع والشحناء وما يتعقّبها من حقد وتباغض..
إذاً، من المندوب شرعاً أن نتكلّم بالأجرة سواء كنت أجيراً لأحد، أم كنت مستأجراً له، ولا تستخفّ بهذا المستحبّ، فمثلاً:
-إذا استأجرت سيارة لتقلّك إلى مكان، حدّد المنطقة بشكل واضح، واتّفق مع السائق على الأجرة، ولا تقل تلك المقولة الّتي يردّدها أكثر الناس: "سوف لا نختلف" إلّا أنّهم وللأسف كثيراً ما يختلفون عند انتهاء العمل.
-إذا استأجرت بنّاء ليبني لك، أو حدّاداً، أو نجّاراً أو أيّ عامل لأيّ حرفة، اتّفق معه على قدر الأجرة.
-لا تقل إنّي أستحيي أن أقاطعه، فتبدأ بالعمل قبل أن تُحدِّد الأجرة.
تذكّر أنّ الاتّفاق على الأجرة قبل العمل هو من الأحكام الشرعية المستحبّة فطبّقه ولا تتخلّف عن امتثاله ولك ثواب عليه.
3-مراعاة جانب العامل
فقد ورد في الكتاب الكريم على لسان يعقوب (ع) أنّه قال لموسى (ع):﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾(10).
هذه الآية يُستفاد منها بيان استحباب تسهيل المستأجِر المعاملة على العامِل فلا ينبغي التشديد عليه ولا أن يشقّ عليه، فقد ورد في الرواية عن رسول الله (ص) أنّ المؤمن: "سهل القضاء وسهل الاقتضاء"(11)، ومن السهولة في القضاء:
-عدم تأخير إعطائه أجره.
وهذا من الأمور الهامّة أيضاً الّتي أكّدت عليها الشريعة المقدّسة، وهنا أيضاً بالغت الشريعة في الحثّ على التعجيل وعدم التأخير حيث إنّها لم تكل ذلك إلى الصدق العرفيّ كما هو ديدنها في الكثير من العناوين والمفردات الشرعية بل حدّدت هي المصداق لعدم التأخير، فقالت على لسان الرسول الأعظم (ص):
"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه"(12).
"أعطوا الأجير أجره ما دام في رشحه"(13).
ولا يخفى على منصف ما لهذا الحكم الشرعيّ من أبعاد أخلاقية راقية، ومراعاة لأدقّ المشاعر والظروف، وتفكير بالآخرين.
أ-كأنّ السرور الّذي يُحدثه استيفاء الأجير لأجره مباشرة عقب العمل وقبل جفاف عرقه يُذهب عنه عناء كدِّه في ذلك العمل.
ب-إنّ الإيفاء السريع يستجلب المودّة بين العامل وصاحب العمل؛ فمع أنّ العامل لا يأخذ إلا حقّه إلا أنّ الوفاء السريع بنفسه هو نوع إحسان، وهذا ما بيّنه الإمام الرضا (ع) بقوله: ".. ثمّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء"(14)، فإذا سألت: لماذا الحمد على شيء يستحقّه؟ أجابك: على الوفاء.
ج-هذا يشجّع العامل على العمل مع المستأجر مرّة أخرى، فإذا ساد هذا الخُلق ساهم في تسهيل التعامل، وبالتالي في تسهيل الحركة الاقتصادية في المجتمع، بخلاف ما لو كان المستأجِر معروفاً بالمماطلة في الدفع فإنّ كلّ شيء ينعكس.
د-لعلّ العامل يكون فقيراً لا يدّخر من المال شيئاً، فهو يحتاج إلى أجرة عمله يوماً بيوم، فمع عدم استيفاء أجرته قد يضطرّ إلى الاقتراض، أو إلى تأخير الحصول على احتياجاته.
فانظر أيّها المؤمن إلى ما منّ الله عليك من شريعة عذبة وجدانية، مفعمة بالقيم الأخلاقية والمعاني الإنسانية، والإحساس بالآخر ومراعاة أدقّ مشاعره وظروفه!!
فلا تُفرِّط بها وطبّق أحكامها شاكراً الله تعالى على ما هداك إليه.
4-مراعاة جانب المستأجِر
فكما أنّ الدِّين ينظر إلى الأجير بنظرة إنسانية، فكذلك ينظر إلى المستأجِر، فإنّه لا بُدّ للأجير بدوره أن يتحلّى بالأخلاق والقيم في تعاطيه مع المستأجِر، وهذا لا يكون إلا بوجود عدّة عناصر في صفاته وأخلاقه. وقد بيّنت الآية الكريمة عمدة هذه الصفات من خلال قول بنت شعيب لوالدها (ع): ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾(15).
-القوّة: عبارة عن الكفاءة في العمل، يقول مولانا أمير المؤمنين (ع): "لا تقبلن في استعمال عمّالك وأمرائك شفاعة إلّا شفاعة الكفاية والأمانة"(16).
فالعاقل إذا أراد إنجاز عمل فإنّه يطلب ما يوصله إلى غايته على أكمل ما يكون، وهذا يتطلّب أهلية وخبرة للوصول إلى الغاية، ولا تُفيد العناصر الأخرى كالصداقة والقرابة ولا حتّى الاستقامة والصلاح، فهذه العناصر إذا تجرّدت من الكفاءة فإنّها لا توصل إلى المقصد والهدف.
-الأمانة: من أهمّ الأمور الّتي ينبغي أن يتحلّى بها الأجير في معاملته مع المستأجر، فمثلاً:
-إذا أمّنك على صنف معيّن من البضاعة فلا تأته بصنف آخر.
-إذا أراد جودة معيّنة في العمل، أو اشترط خصوصيّة معيّنة فأتِ بها على وجهها من دون أيّ إخلال.
-إذا أنتج العمل مخلّفات وبقايا من العين المملوكة للمستأجر لا بُدّ من إعلامه به، حتّى قصاصات القماش الّتي تبقى عند الخيّاط من قماش الثوب المخاط، فإنّه لا بُدّ أن يُعيدها إلى المالك أو يتحلّل منه.
-أن يُحافظ العامل على مال المستأجِر الّذي بين يديه، ولا يُفرِّط فيه، وإذا استطاع أن يعتبره كمالِه فليفعل، كما لو استأجرت داراّ أو سيارة.
-أن يكون أميناً على الوقت، فلا يُضيّع الأوقات بلا عمل وهو يأخذ أجرة في مقابلها.
الصدق: وهو من أهمّ الصفات أيضاً الّتي يجب أن يتحلّى بها العامل الأجير، وإلا فإنّه سيكون منحرفاً عن جادّة الصواب، فقد ورد عن رسول الله (ص):
"ويلٌ لتجّار أمّتي من لا والله وبلى والله، وويلٌ لصنّاع أمّتي من اليوم وغدّاً"(17).
أي ويلٌ لأصحاب الحرف من المواعيد الكاذبة، فيعد المتعامل معه بتسليم العمل وإنجازه اليوم ثمّ يقول إلى الغد وهكذا.. وغير ذلك من صور الكذب في المعاملة. فالنبي(ص) يقول الويل لمن يكون كاذباً من أصحاب الصنائع على هذه الوتيرة.
-إذا وعدت بأنّك ستأتي في الساعة الفلانية فلا تُخلف.
-وإذا وعدت بأن تُسلّم العمل لمن استأجرك عليه في اليوم الفلاني فلا تُخلف.
-إذا وعدت بالنصيحة في العمل والتأنّي فيه فلا تُخلف.
5-ظلم الأجير أجره من الكبائر
- فعن رسول الله (ص): "ظلم الأجير أجره من الكبائر"(18).
بعض الناس من الجهلة أو من الّذين لا يخافون الله تعالى يظنّون أنفسهم أذكياء عندما يقتطعون من أجر العامل بتحايل على قانون، أو برفع دعوى باطلة يكسبونها برشوة، أو بالقوّة وتحت التخويف..
نقول لهؤلاء إنّما تفرون لحمكم والويل لكم ممّا أعدّه الله لكم من عذاب أليم، ولعنٍ وطرد عن رحمته، وهو خصمكم يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. اسمع كلام رسول الله (ص) وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، كيف يعظِّمون هذه الخطيئة:
-فعن الرسول الأكرم (ص): "من ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله وحرّم عليه ريح الجنة، وإنّ ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام"(19).
-وعنه (ص):"إنّ الله عزّ وجلّ غافر كلّ ذنب إلا من أحدث ديناً، أو أغصب أجيراً أجره، أو رجل باع حراً"(20).
-وعنه (ص): "إنّ الله عزّ وجلّ غافر كلّ ذنب إلا رجل اغتصب أجيراً أجره أو مهر امرأة"(21).
-وعنه (ص): "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يُعطه أجره"(22).
-وعنه (ص): "ألا من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه"(23).
-عن أصبغ بن نباتة: "كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) في مسجد الكوفة، فأتاه رجل من بجيلة يُكنّى أبا خديجة، قال: يا أمير المؤمنين، أعندك سرٌّ من سرِّ رسول الله (ص) تُحدِّثنا به؟
قال: نعم، يا قنبر ائتني بالكتابة... مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم....إنّ لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على من ظلم أجيراً أجره"(24).
من آجر نفسه حظر على نفسه الرزق
هناك مطلب نريد أن نشير إليه في خاتم حديثنا وهو أنّه وإن كانت الشريعة تعتبر الإجارة في غاية الأهمية بالإطار العامّ - كما مرّ وذكرنا- لعمارة المجتمع الإنسانيّ للتوصّل إلى المآرب والمقاصد الّتي يحتاجها الإنسان ويصبو إليها، إلا أنّها من ناحية أخرى تكره للشخص أن يكون أجيراً، ويُستفاد ذلك من روايات عدّة سنذكر بعضها.
فكيف سبيل الجمع بين الضرورة للاستئجار والاستخدام وإلا فتتعسّر الحياة كما بيّنّا، وبين كراهية أن يكون الإنسان أجيراً؟
والجواب: إنّ الشريعة قد راعت أمرين مهمّين وحافظت عليهما في وقت واحد، فقد راعت الحاجة في المجتمع الإنسانيّ للاستخدام بأن شرّعت الإجارة ووضعت لها قوانينها وضوابطها، وراعت مسألة الدفع بالشخص نحو الترقّي وعدم رضاه بالمرتبة الدنيا إذا كان يمتلك قابليّة الإنتاج بالمستوى الأعلى وكان عنده طاقة فكرية إدارية تخوّله أن يكون صاحب عمل ومديراً له بنفسه، فمثل هكذا شخص لماذا يبقى أجيراً مستخدَماً؟!
وبذلك تكون الشريعة موصلة كلّ قابلية إلى منتهى كمالها وإلى غاية ما يمكن أن تصل إليه، فمن لا يمتلك الطاقة والطموح والقابلية والهمّة تراه يبقى أجيراً ولا ضير عليه، غاية الأمر الكراهة، وحتّى الكراهة قد ينتفي موضوعها مع عدم القدرة على الأكثر والأرفع من ذلك..
ولا يخفى ما لهذه الأحكام المتناغمة فيما بينها من رؤية تكاملية جامعة تُراعي المصالح المتعدِّدة في وقت واحد من دون تناقض ولا تضارب، كما قد يتراءى من الوهلة الأولى لأصحاب الأنظار القاصرة الغافلين عن سرِّها وحكمتها.
وأيضاً لا يخفى على البصير ما تتركه هذه الآثار الشرعية على اقتصاد المجتمع الإسلامي فإنّها تحثّ على الاستزادة من الرزق والإنتاج.
فمفادها أنّ الإنسان له رزق قسَمه له الله تعالى إذا طلبه بنفسه فإنّه سيستوفيه بأكمله ويكون تحت ملكه وفي حوزته، بينما إذا آجر نفسه فإنّ أجرته ستكون محدّدة بحدٍّ لا تتجاوزه مهما اجتهد وأتعب نفسه والباقي لصاحب العمل، فيكون بذلك قد حظر على نفسه قسماً من الرزق المقسوم له فيما لو كان مستقلّاً في عمله، فإذا انفلت من عقال الإجارة لغيره وطلب الرزق فإنّه سيصله كلّ المقسوم له، أي مقدار الأجرة والجزء الآخر الّذي كان يفوِّته على نفسه فيما لو كان أجيراً.
-فعن إمامنا الصادق (ع): "من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق"(25).
-وفي رواية أخرى:"وكيف لا يحظره؟! وما أصاب فيه فهو لربّه الّذي آجره"(26).
-وعن عمّار الساباطيّ: قلت لأبي عبد الله (ع): "الرجل يتّجر فإن هو آجر نفسه أُعطي ما يُصيب في تجارته".
فقال(ع): "لا يؤاجر نفسه ولكن يسترزق الله عزّ وجلّ ويتّجر، فإنّه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق"(27).
1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- سورة الزخرف، الآية: 32.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 19، ص 103.
4- القواعد الفقهية، السيّد البجنوردي، ج 4، ص 61.
5- قواعد الأحكام، العلامة الحلّي، ج 2، ص 281.
6- وسائل الشيعة "الإسلامية"، الحرّ العاملي، ج 31، ص 245.
7- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج 1، ص 26.
8- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 4، ص 10.
9- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 289.
10- سورة القصص، الآية: 27.
11- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 196.
12- الخلاف، الشيخ الطوسي، ج 3، ص 486.
13- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج 1، ص 26.
14- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 289.
15- سورة القصص، الآية: 26.
16- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، ص 276.
17- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 160.
18- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج103، ص 170، 27.
19- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 513.
20- عيون أخبار الرضا (ع)، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 36.
21- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 14، ص 31.
22- كنز العمال: 43826.
23- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 14، ص 30.
24- م.ن، ج 14، ص 30.
25- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 90.
26- م. ن.
27- راجع: م.ن.