الدرس الخامس: التطفيف
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾(1)
تمهيد
من المعلوم أنّ كلّ نبيّ من الأنبياء الكرام عليهم السلام غايته نشر التوحيد عقيدة، وإرساء الأخلاق الفاضلة سلوكاً، والأحكام الإلهية شريعة ومنهاجاً. ولكن نجد أنّ بعض الأنبياء عليهم السلام قد أكّدوا على بعض الجوانب وسلّطوا الضوء عليها كأولوية للمعالجة باعتبارها أدواء مستشرية بين الناس، ومن هذه الأدواء المعضلة المهلكة والمفسدة للمجتمع الإنسانيّ التطفيف، وعدم إيفاء الكيل والميزان، والذي كان مستشرياً وسارياً في زمن نبيّ الله شعيب (ع). وقد بيّن القرآن الكريم هذا الأمر في كلامه سبحانه عن النبيّ الكريم شعيب (ع) في عدّة من الموارد والسور.
وقد أُرسل شعيب (ع) إلى مدين الّتي هو من أبنائها، وإلى الأيكة الّتي كانت بقرب مدين. يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾(2) حيث نعته بالأخ لأهل مدين، دون أن ينعته بذلك عند الحديث عن أصحاب الأيكة بل قال تعالى:﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾(3) دلالة على أنّه (ع) لم يكن من أهل الأيكة، وكان التأكيد في كلا المهمّتين بشكل كبير على المشكلة الاجتماعية المستفحلة الّتي تجذّرت وتأصّلت في كلا المجتمعين "مدين والأيّكة"، طبعاً بعد الدعوة إلى التوحيد لأنّهم كانوا يعبدون الأصنام.
وقد بالغ النبيّ شعيب (ع) بالكلام والمواعظ لمن أُرسل إليهم، حتّى دُعي بخطيب الأنبياء، كما ورد عن الرسول الكريم (ص)، إلا أنّه للأسف لم يُجبه القوم إلا بالرّد والعصيان، وهدّدوه بالرجم والطرد من بينهم، وبالغوا في إيذائه وإيذاء من آمن معه وهم قلّة قليلة، وبقوا على ذلك حتّى سأل الله أن يقضي بينه وبينهم فأهلكهم الله تعالى.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾(4). فقد خصّص الله تعالى بالذكر هذه المعصية ونهى عنها من بين معاصيهم الأخرى بعد الأمر بالتوحيد، لما ذكرناه من شيوعها بينهم وإقبالهم عليها بحيث قد بان إفسادها للمجتمع الإنسانيّ بشكل واضح ممّا استوجب شدّة الاهتمام بالردع عنها.
وقد عقّب القرآن الكريم النهي عن التطفيف بقوله ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(5) وفيه دلالة على أنّ البخس في الميزان والتطفيف من عناصر الإفساد للمجتمع الإنسانيّ.
كيفية إفساد التطفيف للمجتمع الإنسانيّ
لا بُدّ أن نستحضر مدى حاجة أفراد المجتمع لبعضهم بعضاً، فبمجرّد أن تفترض مجتمعاً إنسانياً لا بُدّ أن تتصوّر التبادل للمنافع فيه بين أفراده ومكوّناته، فكلّ فرد يُعطي ما هو مستغن عنه في مقابل أن يستجلب ما هو بحاجة إليه، وهذا واضح في الأموال والأمتعة، وخاصّة ما يكون لها أحجام أو أوزان، فإنّ الإنسان بدأ يتبادلها مع غيره بشكل فطريّ، فأنا إذا كان عندي تمر كثير وأنت عندك قمح فائض فإنّي أعطيك صاعاً من تمر لتعطيني صاعاً من قمح، بلا أن يكون هناك ربح في الحسبان.
ثمّ تطوّرت الأمور، فصار الإنسان يُبدِّل الأمتعة بالأثمان فصارت التجارة حرفة ومهنة ثمرتها ادّخار المال وجمعه، وذلك من خلال الحصول على أنواع البضائع ثمّ عرضها على ذوي الحاجات وبيعهم إياها في مقابل ربح يُزاد على رأس مالها، وذلك مقابل الجهد الّذي يبذله البائع للحصول على الأجناس وعرضها، وهذا الربح رضي به الناس وذلك لأنّه يوفّر عليهم البحث والطلب، ويُسهِّل عليهم الحصول والوصول إلى احتياجاتهم، فإذاً هذا ربح مشروع رضي به الناس للبائع بفطرتهم، وهو فرصة للجمع والثروة.
يقول تعالى: ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(6).
والمراد أنّ الربح الّذي هو بقيّة إلهيّة هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الّذي تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين.
فإنّ المؤمن إنّما ينتفع من المال المشروع الّذي ساقه الله إليه من الطريق الحلال، وأمّا غير ذلك ممّا لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.
هذا حال المجتمع الإنسانيّ في الاحتياج إلى المبادلة بين أفراده وعدم الاستغناء عنها لكي يضمن سدّ حاجاتهم، فإذا ساد التطفيف في ذلك المجتمع حصل الفساد من ناحيتين:
الأولى: أنّه يُفسد التقدير ويبطل التدبير، فإذا كان مقدّراً حاجته بالمقدار الكذائيّ فإنّه قد أُعطِيَ الأقل، وكذلك إذا كان مقدّراً بأنه سيبادل على المقدار الكذائيّ المعيّن فإنّه أيضاً يتبيّن أنّه قد أعطى الزائد على ما أخذ.
ومن الطبيعيّ عند اختلال التدبير فإنّه سيلزم الفساد باختلال نظام المعيشة الاقتصاديّ.
الثانية: وهي في غاية الأهميّة، وهي فقدان الثقة بين أفراد المجتمع الإنسانيّ، وحصول التزلزل وعدم الاطمئنان، فتضطرب العلاقات، ويجنح المجتمع إلى الانحراف والتحايل والمكر والخديعة وإفساد القيم الإنسانية فيه، وينساق إلى التعاسة بدل التعاون بين أفراده للسير به إلى شاطئ الأمان والاطمئنان والسعادة الإنسانية.
قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(7).
التطفيف من الكبائر
لا إشكال بأنّ البخس في المكيال والميزان هو من المحرّمات. وقد دلّت على ذلك الأدلة الأربعة، القرآن والسّنة والإجماع والعقل، بل هو من الكبائر.
ولو نظرنا إلى سورة المطفّفين لرأيناها تعتبر المطفِّف غير آبه بيوم البعث والحساب، وأنّه غير شاعر بمحضر الله تعالى الّذي يراه ويسمعه، فهو غير مغفول عنه وإن كان قد نجح في استغفال صاحبه الّذي بخسه الكيل والميزان.
يقول تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*َوَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(8).
وقد ورد في الروايات أنّه ما طفّف قوم الكيل إلا مُنعوا النبات وأُخذوا بالسنين، وأنّ المطفِّف في الوزن يكون في قعر جهنّم مشغولاً دائماً بوزن جبلين من نار يوضع بينهما.
ويقول مالك بن دينار: كان لي جار احتضر فكان يصرخ ويقول: ينتظرني جبلان من نار! فقلت له: هذا يُخيّل إليك، فقال: لا، بل هو كذلك فقد كان لي ميزان أُعطي بالقليل منهم وآخذ بالزائد....
وكان أمير المؤمنين (ع) يخصّ هذا الأمر بأهميّة قصوى حيث كان يأتي سوق الكوفة ويقول: "يا أيّها الناس اتقوا الله، ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(9) (10) ".
ما هو التطفيف؟
إنّ المصداق الأوضح للتطفيف هو أن يُعطي المطفِّف للطرف الآخر أقل ممّا اتفقا عليه وزناً أو كيلاً، كما إذا اتّفقا على عشرة "كلغ" فأعطاه تسعة ونصف الكيلوغرام.
التطفيف الحكميّ
وهو أن يُعطي عشرة ولكن يجعل فيها مقدار كيلوغرام من غير المتّفق عليه ممّا لا قيمة له، فهنا في الواقع بخس الميزان لأنّه بحكم من أعطى تسعة "كلغ" لا عشرة، كما لو خلط الحنطة بالتراب، أو اللبن بالماء.
وكذلك يلحق بالتطفيف حكماً نقصان المبيع عدّاً أو قياساً ومساحة، كما لو اشترى عشر بيضات فأقبضه تسعاً، أو عشرة أذرع من القماش فأعطاه تسعة ونصفاً فإنّ هذا وأمثاله ملحق بالتطفيف المحرّم.
التطفيف في العلاقات
صحيح أنّ حرمة التطفيف والبخس في الميزان كحكم شرعيّ فقهيّ يتعلّق بمعاملة البيع والشراء، إلا أنّ روح الآيات تستدعي من الإنسان أن لا يُطفِّف في جميع معاملاته وأحكامه بشأن الآخرين.
فحقيقة التطفيف هو أن تستوفي حقّك كاملاً من الآخرين، وأمّا إذا أردت أن تُعطي فإنّك تُعطي ناقصاً وأقلّ ممّا يستحقّ!
إذا كان هذا هو ملاك وحقيقة التطفيف فانظر إلى علاقاتك ومعاملاتك فإنّك قد يصدق عليك مفهوم المطفِّف.
التطفيف في العلاقة بالله تعالى
مثلاً انظر إلى علاقتك بربِّك تبارك وتعالى فأنت تطلب من الله تعالى أن يهبك كلّ ما تبتغيه وتُريده وترى أنّ من حقِّك ذلك، بحيث إذا قتّر عليك من رزقك حصل في نفسك اعتراض، وكذلك إذا مرضت، أو دعوت الله تعالى في أمر ولم يُستجب لك...إلخ.
فإنّك تُريد استيفاء تمام النعم، وبالفعل نعم الله علينا لا يحصى عددها، ولكن في المقابل، أنت ماذا أعطيت لدينك ولشريعة الله تعالى؟!
أنت تُعطي القليل وتطلب من الله الكثير، تُقصِّر ولا تفي بواجب شكر النعم ومع ذلك تطلب الاستزادة منها، ألست تبخس حقّ الله تعالى بالتفريط بالكثير ممّا يطلبه منك؟!
فإنّ مناط التطفيف متحقِّق إذاً في علاقاتنا بالخالق عزّ شأنه وجلّ ثناؤه.
وقد ورد التعبير عن هذا في بعض الأدعية كما في دعاء السحر للإمام السجّاد (ع): "الحمد لله الّذي أدعوه فيجيبني وإن كنت بطيئاً حين يدعوني..".
بل بعض الناس ليس بطيئاً فحسب بل أصلاً لا يُجيب داعي الله تعالى، ومع ذلك يطلب منه تعالى كلّ شيء ويجد في نفسه أنّ له الحقّ على الله بذلك.
"والحمد لله الّذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني.."
وهنا إشارة لطيفة في المقابلة بين ما أطلب من الله تعالى وما يطلبه تعالى منّي، فأنا أطلب حينما أطلب أن يُعطيني، بينما هو تعالى يطلب أن يستقرضني أي يطلب قرضاً، والقرض يتضمّن استعادة الشيء المقترض، فالله تعالى جواد في العطاء بلا طلب استرداد، بينما العبد حتّى في الشيء الّذي وعد الله تعالى بإعادته إليه وبالأضعاف المضاعفة هو بخيل ببذله ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾(11).
أليست هذه المعاملة مع الخالق عزّ شأنه وجلّ ثناؤه معاملة تطفيف؟
نسأل الله تعالى أن يتجاوز عنّا ويرحمنا ويتلطّف بنا ويترحّم على عجزنا وضعفنا إنّه أرحم الراحمين.
التطفيف في العلاقة مع الناس
إذا كان التطفيف هو استيفاء حقّك كاملاً من الآخرين وبالمقابل عدم إيفائهم تمام حقوقهم منك، فإنّه يصدق على الإنسان في معاملته لأخيه الإنسان.
وهذا يكون في شتّى العلاقات الإنسانية، وعلى سبيل المثال:
-علاقة الابن بوالديه فإنّه يطلب منهما أن يكونا مثالين ونموذجين في عاطفتهما تجاهه، وفي دوام التفكير في مصالحه ومنافعه وتأمين ما يحتاج إليه ويستأنس به ويرتاح إليه، وإن قصّرا في النموذجية في علاقتهما به فإنّه يتبرّم وينتقدهما لأنّهما لم يكونا بالمستوى المطلوب من الأبوين.. كلّ ذلك لأنّه يُريد أن يرى من جانبهما تطبيقاً مثالياً لا يُقصِّر بأي تفصيل ولو عن غير قصد.
ولكن هذا الابن قد يكون غافلاً بالكلّية عن أنّ عليه هو الآخر واجبات مثالية نموذجية تجاههما، فكم يا ترى هو باذل ومهتمّ ومضحٍّ في سبيل برّهما وطاعتهما والقيام بحوائجهما؟
فإنّه إن أنصف لحَكَمَ على نفسه، حيث إنه يطلب الأخذ دون التفات الى العطاء فيأتي عطاؤه على فرض حصوله منقوصاً، أليس هذا روح التطفيف في المعاملة؟!
وفي دائرة الحياة الزوجية قد يُطالب الزوج زوجته بأدقّ المستحبّات ويستشهد لها بأشدّ الروايات الّتي هي بصدد بيان مرتبة راقية بل أرقى مراتب الزوجة المؤمنة الصالحة، كقوله (ص): "إنّ من خير نسائكم... العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها"(12) .ب من نفسه أن يكون الزوج النموذجيّ والمؤمن الكامل الّذي يمتثل لقول الرسول الأكرم (ص): "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(13).
أو كما عن أمير المؤمنين (ع): "...إذا غضب عليها زوجها لم تكتحل بغمض حتّى يرضى"(14).
أو قوله (ص):" لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"(15) إلى غير ذلك من التكاليف الّتي هي من صفات المؤمنة الكاملة.
ولكن بالمقابل لا يطل ويتغافل عن قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(16).
ويضرب صفحاً عن قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(17).
فيُسيء العِشْرَة بالقول والفعل ويُسيء الخُلق، فتكون النتيجة أنّه يُريد أخذ تمام الحقّ من غيره ولكن، إذا أعطى فإنّه يُعطي منقوصاً، وهذا بخس في الكيل في المعاملة الزوجية.
ونفس الكلام يجري على الزوجة عندما تُطالب زوجها بكلّ ما تُريد فإذا ألجأته الحياة إلى تقصير ما في التوسعة أو في أمر من الأمور الّتي تعتقد الزوجة بأنّها من حقّها فإنّها تخرج عن طورها وتبدأ بالتقريع وإلقاء اللوم والتعنيف..
بينما نجدها مضيّعة لأبسط حقوق الزوج غير حافظة لقدسيّة الحياة الزوجية، غير مستعدّة للتضحية في سبيل زوجها بل مفرِّطة فيما عليها تجاهه. وهذا بخس في الميزان في العلاقة الزوجية من قِبَل الزوجة.
وكذلك في سائر العلاقات الأخرى ينبغي للمؤمن أن يتحرّى الإنصاف مع الآخرين، وقد عبّرت الروايات عن أخذ الحقّ وإعطائه وعن عدم البخس في ميزان العلاقات الإنسانية بالإنصاف، وشدّدت بشأنه أيّما تشديد، حيث ورد في رواية شريفة عن أبي عبد الله (ع) أنّه من أشدّ ما فرض الله على العباد: "إنصافك الناس من نفسك"(18).
وإذا سألت عن قاعدة جامعة وميزان كامل للإنصاف في المعاملة فخذها كلمة من أمير الفصاحة والبلاغة أمير المؤمنين (ع) في سياق وصيته للإمام الحسن (ع): "يا بُنيّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تُحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك"(19).
صدقاً هذه الكلمات المتألّقة لو أنّها تُنقش على لوح القلب لتكون دائماً هي المعيار في علاقاتنا وتكون حافزاً لأخذ المواقف والقرارات على طبقها ومؤدّاها لصلحت أخلاق الناس ولعشنا في المدينة الفاضلة، فإنّها جمعت شتات مسائل الأخلاق.
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾(20):
وحيث إننّا نتكلّم عن حرمة التطفيف، وقبح الكيل بمكيالين، فمن المفيد أن نُلفت النظر إلى صورة من البخس في الميزان هي موجودة عند بعض الناس للأسف وهي أنّ الإنسان لحبّه لذاته وأنانيّته يحبّ أن يُقدِّر الآخرون له أيّ عمل أو جهد أو إنجاز قام به، ويتوقّع منهم الثناء الجميل والتكريم، ويرى أنّه جدير بذلك ومستحقّ له، وقد تسمع منه مبالغة في وصف ما حقّقه وتحسينه وإبراز مميّزاته..
بينما إذا قام غيره بما يُماثل عمله بل وحتّى بما هو خير من عمله وأكمل، نجده لا يُعطيه الحدّ الأدنى من التحسين والثناء عليه، بل قد يقوم ببعض ما يحطّ من قيمته بالقول أو الفعل، بالصراحة أو بالتعريض والتلميح..!
فصاحب هذا السلوك المشين عليه أن يتذكّر قول الله تعالى:﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾.
وليعد عن هذا الخُلق السيّئ، وليُنصف الآخرين في جهودهم وإنجازاتهم وما بذلوه ليحقّقوا ما حقّقوه، وليُحبّ لغيره ما يُحبّه من الآخرين لنفسه.
وهذا له مصاديق كثيرة نترك لكم تحديدها بعد أن لفتنا النظر إلى أصل هذا المرض العضال.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف وأن يُجنّبنا كلّ بخس وتطفيف
فعن رسول الله (ص): "طوبى لمن طاب خلقه، وطهرت سجيّته، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه"(21).
وعن أمير المؤمنين (ع): "الإنصاف أفضل الفضائل"(22).
1- سورة الأعراف، الآية: 85.
2- سورة العنكبوت، الآية: 36.
3- سورة الشعراء، الآيتان:176- 177.
4- سورة هود، الآية: 84.
5- سورة الشعراء، الآية: 183.
6- سورة هود، الآية: 86.
7- سورة الإسراء، الآية: 35.
8- سورة المطففين، الآيات: 1ـ 5.
9- سورة هود، الآية: 85.
10- انظر: جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج16، ص 724.
11- سورة البقرة، الآية: 245.
12- تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 7، ص 400.
13- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 325.
14- م.ن، ج 5، ص 508.
15- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 20، ص 171.
16- سورة البقرة، الآية: 288.
17- سورة النساء، الآية: 19.
18- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 66، ص 405.
19- نهج البلاغة، الشريف الرضي، شرح الشيخ محمّد عبده، ج 3، ص 45.
20- سورة الأعراف، الآية: 85.
21- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 15، ص 284.
22- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 51.