الدرس الثالث: الولد الصالح
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿...قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾(1).
﴿... رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾(2).
طلب الذرّيَّة
ضمن تأسيس العائلة والبيت الزوجيّ الّذي قلنا إنّه يجب أن يكون رسالة على عهدة المؤمن أداؤها، توجد مسؤولية لا يجوز التقصير بشأنها ولا التهاون بها، وهي المسؤولية من الوالدين تجاه الأولاد، فلا بُدّ أن نعرف نظرة الإسلام إلى هذا الشقّ من المسؤولية وذلك من خلال عدّة نقاط:
أوّلاً: ماذا يُمثّل الولد بالنسبة للوالدين؟ وكيف يجب أن يُنظر إليه؟
لا ينبغي النظر إلى مسألة الولد بالمنظور العاطفيّ فحسب، أو على أساس أنّ الوالدين وجدا نفسيهما مجبورَين على حضانته بعد جريهما على العادة بالزواج والإنجاب في المجتمع كغيرهما، أو انسياقاً وراء الدافع الغرائزيّ والميل الفطريّ لأن يكون الرجل أباً وتكون المرأة أمّاً دون أن يكون لهما دافع رساليّ في ذلك.
بل ينبغي أن يكون الإنجاب ثمّ الرعاية، والتربية، والتنشئه على الصلاح من صلب الأمور الّتي يفرضها الالتزام الدّينيّ والخطّ الرساليّ على من يريد تأسيس عائلة في إطار الخطّ الإلهيّ الدِّيني.
نعم توجد رسالة عائليّة متّصلة بحكمة الله تعالى من إبقاء النسل لتتحقّق معرفته تعالى وعبادته ولكي تثقل الأرض بلا إله إلا الله.
عن أبي عبد الله (ع) قال: "جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يا نبيّ الله إنّ لي ابنة عمٍّ قد رضيتُ جمالها وحسنها ودينها، ولكنّها عاقر، فقال (ص): لا تزوّجها، إنّ يوسف بن يعقوب لقي أخاه، فقال: يا أخي كيف استطعت أن تزوّج النساء بعدي؟
فقال: إنّ أبي أمرني، قال: إن استطعت أن يكون لك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح، فافعل"(3).
وعن جابر عن الإمام الباقر (ع): "قال رسول الله (ص): ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ الله يرزقه نسمة تُثقل الأرض بلا إله إلا الله"(4).
وكذلك تتّصل الرسالة العائلية الّتي منها الإنجاب بالجري على مراد الرسول (ص) وتنفيذ ما حثّ عليه وأحبّه ورغب فيه وهو التناسل.
-فعن النبيّ (ص): "تناكحوا تناسلوا، أباهي بكم الأمم يوم القيامة"(5).
- وعن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): "تزوّجوا بكراً ولوداً، ولا تزوّجوا حسناء جميلة عاقراً، فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة"(6).
وكذلك يضع في الحسبان المنافع الأخروية للأولاد بعد الموت لأنّهم إن توفّوا قبل أن يبلغوا فإنّهم شفعاء للأبوين.
فعن أبي الحسن الرضا (ع) قال: قال رسول الله (ص) لرجل:.."أما علمت أنّ الولدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم يحضنهم إبراهيم، وتربّيهم سارة في جبل من مسك وعنبر وزعفران؟"(7).
وإن مات الآباء قبلهم فإنّهم يبقون كالصدقة الجارية في الأرض ينتفع آباؤهم بهم بعد موتهم، كما ورد في روايات متعدّدة من أنّه: "إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(8).
وما يترتّب من الأجر والثواب على الإنفاق والتوسعة على العيال، والقيام بما يُصلحهم مادّيّاً ومعنويّاً فإنّها مثوبات عظيمة جدّاً لا يُضاهيها شيء من عمل البرّ لو أردنا أن نسردها لطال بنا الكلام.
فإذاً الأولاد هم من موجبات الثواب ورفع درجات المرء عند الله تعالى.
وبكلمة واحدة: الإنجاب يجب أن يندفع إليه المرء من خلال إيمانه وعقيدته وارتباطه بالخالق تعالى، وبأنّه مسؤولية يُثاب عليها ويُعاقب، كما صرّح إمامنا زين العابدين (ع):
"فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه"(9).
ويقول (ع): "وإنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب والدلالة على ربّه"(10).
ثانياً: انطلاقاً من هذه المسؤولية ولكي نؤدّي هذه المهمّة ونفي لهذه الرسالة، لا بُدّ أن نعرف ما كلّفتنا به الشريعة المقدّسة تجاه أولادنا، من الواجبات والمستحبّات والمحظورات..
حقّ الولد على أبيه
يقول الله تعالى:﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾(11).
هناك كارثة عدم الشعور بتلك المسؤولية الّتي ذكرناها في النقطة السابقة، وبالتالي عدم معرفة ما يجب أن نفعله تجاه أولادنا، نعم نحن نُهيّئ لهم الخبز والجبن واللحم، ولكن ليس بالخبز فقط يحيا الإنسان.
فلنلقِ نظرة على ما ينبغي تقديمه للأولاد جرياً على مقتضى ما قدّمناه من رسالية في بناء وتشكيل الأسرة، ولنستفد من حقّ الولد الوارد في رسالة الحقوق لإمامنا زين العابدين (ع)، يقول (ع):
"وأمّا حقّ ولدك فتعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب والدلالة على ربّه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه ولا قوّة إلا بالله"(12).
أوّلاً: يذكِّرك الإمام (ع) بأنّ الولد بما هو ولد وبما فيه من خير أو حتّى شرّ هو منسوب ومضاف إليك. يقول الإمام علي في وصيّته للإمام الحسن عليهما السلام : "وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني"(13).
فليس لك أن تتبرّأ منه كما قد يتفق وتتبرأ من صاحب أو صديق، بل لا بُدّ أن يبقى الأمل دائماً بإصلاحه والشعور بالمسؤولية تجاهه لردِّه إلى الرشد والصلاح - طالما أنّه لم يتحوّل إلى عدوٍّ لله وللدِّين وإلا فإنّ خطاب "إنّه ليس من اهلك" - الّذي نزل بشأن ابن النبيّ نوح (ع) - سوف يشمله وينطبق عليه، يقول الإمام علي (ع):
"الولد غير الصالح كالإصبع الزائد إن قطعته آلمك وإن تركته شانك".
وإنّما قال (ع) في رسالة الحقوق: "في عاجل الدنيا" لأنّه في الآخرة تنقطع الإضافات والأنساب: ﴿فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾(14).
ثانياً:إنّك مسؤول عن عدّة أمور ترجع إلى السعادة الدنيوية والأخروية وهي كالتالي:
أ-إنّك مسؤول عمّا ولّيته من الأدب، فإنّه كما ورد عن أمير المؤمنين (ع): "لا ميراث كالأدب". والأدب هو الأمور الّتي تجعل الإنسان متميّزاً عن السوقة والجهلة والسفهاء والحمقى، بأن يأتي الإنسان في كلّ موقف بما يُناسبه ممّا يستحسنه العقلاء ويُقرّه الشرع والحكماء، فللكلام أدبه، وللجلوس، وللطعام، وللمشي، وللضحك، وللصوت... لكلّ فعل، أو موقف، أو حديث، أدبه الخاصّ به، فأنت مسؤول عن توليته هذه الآداب، فاسأل نفسك هل تعتبر ذلك تحت نطاق مسؤوليتك، أم أنّك لو تعطّفت بالالتفات إلى العائلة والأولاد يقتصر انعطافك على تأمين الطعام والكسوة وأمثال ذلك من الأمور البدنية؟!
وأمّا الأمور المعنويّة الّتي منها تلقين الآداب لأولادك فهذا ليس من الأولويات عندك؟
ب-أنت مسؤول عن دلالة أولادك على ربِّهم تعالى، فهل تُلقّنهم دروس التوحيد والعقيدة يا تُرى بحسب ما تقتضيه أعمارهم منذ الصغر، تغرس في نفوسهم الإيمان بالله تعالى حتّى ينشؤوا ويترعرعوا وقد تغلغل الإيمان في أعماقهم وجرى في دمائهم؟
أنت مكلّف أن تُهيّئ لأولادك الثقافة والعلم والأجواء الفكرية والاجتماعية من صداقات ولقاءات وغيرها لكي يصلوا إلى العقيدة الصلبة في معرفة الله تعالى، وأيضاً ما يقوّيها ويُساعد على تثبيتها، ولا يجوز تركهم بلا دلالة، فأنت الدالّ ويجب عليك تهيئة الدليل وتقريبه إليهم لكي يصلوا إلى الدلالة الواضحة على الله تعالى. نعم الوالدان مكلّفان بذلك ولا يجوز لهما إهمال هذا الجانب. وللأسف قد يكون الأمر بالعكس بأن يُترك الأولاد وشأنهم يُخالطون الفاسدين المفسدين الّذين يؤثِّرون سلباً على عقيدتهم.
ج-المعونة لابنك على طاعة الله تعالى معرفته لله تعالى، فأنت تأخذ بيده إلى معرفة الله تعالى، ومعلوم أنّ المعرفة تستدعي الطاعة، فعليك بمساعدته أيضاً على أن يكون تقياً مطيعاً لله تعالى.
وهذه الطاعة لها جنبتان
الأولى: طاعة الله فيك أي تُساعده على برِّك، فقد ورد أنّه رحم الله من أعان ولده على برِّه، فعن يونس بن رباط عن الإمام أبي عبد الله (ع) قال:
"قال رسول الله (ص): رحم الله من أعان ولده على برِّه.
قال "الراوي": قلت: كيف يُعينه على برِّه؟
قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يُرهقه، ولا يخرق به، فليس بينه وبين أن يصير في حدٍّ من حدود الكفر إلا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم"(15).
أي عليك أن لا تحمّله أكثر مما يُمكن له أن يحمل بل تقبل منه ما تيسّر، ولا تُتعبه، فعليك أن تكون واقعياً في النظر إلى قابليّاته لا أنّك دائماً تُطالبه بالأمور الكبيرة وتُعيّره وتؤذيه بالقول له: إنّك غير نافع وغير مجدٍ وأمثال تلك العبارات.. لأنّه لم يأت بما قد رسمته أنت له في نفسك ومخيّلتك.. وبالتالي تُحرجه وتُخرجه عن إطار رضاك عنه وتكون قد اضطررته إلى عقوقك وبالتالي إلى معصية الله تعالى.
الثانية: أن تُعينه على طاعة الله في نفسه، أي تُساعده على أن يكون تقيّاً مطيعاً لله تعالى بينه وبين ربِّه، وذلك بتحفيزه على فعل الطاعات وترك المحظورات والمحرّمات والتدرُّج بمراتب التقوى.
ولا بُدّ من الالتفات إلى ما أراد الإمام (ع) التنبيه عليه وهو أنّ هذه المسؤوليات ليست مجرّد أمور مستحبّة، لك تركُها، بل أنت معاقب إذا فرّطت فيها ومثاب على مراعاتها وتعاهدها، وذلك نفهمه من قوله (ع): "فمثاب على ذلك ومعاقب..فاعمل بأمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه".
وأيضاً من حقِّ الولد على والده:
أن يختار أمّه.
أن يُحسِّن اسمه.
أن يُعلِّمه القرآن.
أن يزوّجه إذا بلغ.
أن يعلم بأنّه أمانة في عنقه يتمّ حفظها بتربيته تربية إيمانية بما ذكرنا آنفاً.
أن يرزقه طيّباً، أي "يُطعمه رزقاً حلالاً ولا يُطعمه من مال حرام".
أن يدعو له فيما بينه وبين الله تعالى.
أن يُكرمه، "أكرموا أولادكم"(16).
المبادرة إلى التربية قبل فوات الأوان: "بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة"(17).
تعليمهم الصلاة أبناء سبع، فعن رسول الله (ص):"علِّموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعاً واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً"(18).
أن يضعه موضعاً صالحاً.
ثالثاً: بعد معرفة مسؤوليّتنا الكبرى تجاه أبنائنا، وأنّ الشريعة كلّفتنا تهيئة الأجواء الصالحة والمناخات الملائمة لهم لكي يكونوا صالحين، وتربيتهم على المبادئ والقيم الحميدة، وصدّهم عن كلّ ما يكون مظنّة فساد أو انحراف ديني أو خُلقي، بعد معرفة هذا لا بُدّ من التعرُّف إلى أساليب التربية الصالحة الّتي من خلالها نصل إلى الغاية المنشودة، وهذا يستدعي اهتماماً كبيراً ومتابعة مستمرّة، ومراقبة وعناية غير منقطعة، وهذه المسؤولية لا تتلاءم أبداً مع اللامبالاة والتهاون.
1- سورة آل عمران، الآية: 38.
2- سورة الفرقان، الآية: 74.
3- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 333.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 20، ص 15.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 41، ص 153.
6- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 41، ص 33.
7- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 334.
8- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 23.
9- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 15، ص 176.
10- م.ن، ج 5، ص 176.
11- سورة النساء، الآية: 11.
12- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 15، ص 176.
13- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 200.
14- سورة المؤمنون، الآية: 101.
15- الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 50.
16- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 21، ص 476.
17- م.ن، ج 21، ص 477.
18- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج 1، ص 56.