تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، الحمد لله على محامده كلها التي لا تعد ولا تحصى أبداً، الحمد لله الذي اختار من عباده حملة كتابه، وأوجب عليهم ترتيله والعمل بما فيه، ودفعهم للمداومة على قراءته وإقرائه ووعدهم على ذلك أحسن ثوابه، والصلاة والسلام على من أنزل عليه القرآن محمد بن عبد الله وعلى آله صفوة عباد الرحمان.
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾(1).
إنَّها الشكوى الأليمة التي يبثّها رسول الله (ص) يوم القيامة... شكوى مفعمة بالأسى والحزن والحسرات يبثها صاحب القلب الكبير، في ذلك اليوم الرهيب، الذي تخشع فيه الأصوات، وتشخص الأبصار، فلا تسمع إلا همسا!
أيها الاخوة... أيتها الأخوات:
ليس منَّا أحد يضمن عدم اشتماله بهذه الشكوى ? ولات حين مناص!. وإنّنا إذا تدبّرنا مظاهر الهجر القرآني في المجتمع الإسلامي عموماً، وفي الوسط الإيماني خصوصاً، لرأينا أنهَّا واضحة وجلية... ويمكننا أن نذكر أهمَّها:
1- هجر القراءة والتلاوة:
لو سألنا أنفسنا كم من الآيات نقرأ كل يوم، وكم من السور نتلوا ونرتّل... لوجد الكثير منّا أنّه لم يفكّر أن يرسم جدولاً يومياً لنفسه لقراءة القرآن وترتيله... والله سبحانه يقول:
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾(2)، فلا عذر لأحدٍ بعد كل هذا!
وعن رسول الله (ص):
"إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال (ص): تلاوة القرآن".
وعن علي (ع) "من أنس بتلاوة القرآن لم توحشه مفارقة الإخوان".
2- هجر الاستماع:
﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(3).
قد يتصور البعض أن الاستماع ليس أمراً ضرورياً في التعاطي مع القرآن، ولكن هذا التفكير بعيد عن الحقيقة ? فإنّ في الاستماع إلى القرآن من العطاء لا يقدّر بقدر، حتى أنّ القرآن يعبر بـ ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: إنَّها الرحمة الإلهية والبركة الربّانية في الدنيا والآخرة.
روي عن رسول الله (ص):"يدفع عن قارئ القرآن بلاء الدنيا، ويدفع عن مستمع القرآن بلاء الآخرة".
3-هجر الحفظ:
روي عن رسول الله (ص): "من أعطاه الله حفظ كتابه فظنّ أنّ أحداً أعطي أفضل مما أعطي فقد غمط أفضل النّعمة".
وينبغي المواصلة على الحفظ والاستذكار حتى لا ننسى ما حفظناه، فعن الصادق (ع): "من نسي سورة من القرآن مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة، فإذا رآها قال: ما أنت فما أحسنك؟ ليتك لي".
4- هجر التدبر:
شجب القرآن الكريم أولئك الذين لا يتدبّرون في آياته ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(4).
وعن رسول الله (ص) في قوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ قال: "حرّكوا به القلوب ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة".
وتصف الآيات المباركة طبيعة استماع المؤمنين أولي العلم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾(5).
﴿... وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّاً﴾(6).
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾(7).
إنَّها القشعريرة أولاً واللين ثانياً.
إنَّ من أهم سمات القراءة الواعية هي: الحزن والهم.
عن رسول الله (ص):"إنّ القرآن نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا".
وعن الصادق (ع): "إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بحزن".
وعن علي (ع) يصف قراءة المتقين:
"أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً وظنّوا أنها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم".
يقول ابن مسعود: قال لي رسول الله (ص): يا ابن مسعود اقرأ؟ ففتحت القرآن، فواجهتني سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾، يقول ابن مسعود: رأيت عيني رسول الله (ص) تذرفان دمعاً. فقال لي: حسبك (أي: يكفيك).
أيها الاخوة... أيتها الأخوات:
إنّ القرآن الكريم قول ثقيل ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾(8)، لما يوجبه من مسؤولية وتكاليف ومهام جسام كاملة... همّ الدعوة إلى الله، وهمّ العمل والتغيير، وهمّ تحكيم القرآن على الأرض، ومواجهة كل قوى الاستكبار العالمي.
﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾(9).
1- الفرقان: 30.
2- المزمل: 20.
3- الاعراف: 204.
4- محمد: 24.
5- الاسراء: 107-109.
6- مريم: 58.
7- الزمر: 23.
8- المزمل: 5.
9- الفرقان: 52.