سورة الكهف

(1): ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: قولوا: الحمد لله ﴿الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾: العبد: محمد، والكتاب: القرآن ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾: لا عوج في أحكامه ولا زيغ في نظامه.

(2): ﴿قَيِّمًا﴾: بل جعله مستقيمًا معتدلًا ﴿لِّيُنذِر﴾: القرآن الناسَ ﴿بَأْسًا﴾: منصوب بنزع الخافض أي ببأس وهو العذاب، والمعنى أنزل سبحانه القرآن على محمد(ص) لينذر من كذَّب الحق وأعرض عنه بعذاب شديد ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ﴾: لا الذين يؤمنون ويأكلون ولا يعملون، ولا فرق إطلاقًا بين من يجاهد بالسيف في ميدان القتال ومن يعمل في أي حقل من أجل الحياة.

(3): ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾: خالدين في نعيم الله وثوابه بلا انقطاع وزوال.

(4): ﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾: أب وابن.

(5): ﴿مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ﴾: لا حجة لهم ولا لآبائهم فيما يدعون ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾: انتصبت كلمة على التمييز، والتقدير كبرت الكلمة كلمة، أي كبر وعظم جرمها وعقابها.

(6): ﴿فَلَعَلَّكَ﴾: يا محمد ﴿بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾: لماذا تهلك نفسك بالهمّ والغم أسفًا أو تكاد تهلكها من أجل إعراض الجاحدين عنك وعن القرآن؟ دعهم وشأنهم وارفق بنفسك ولا تقهرها.

(7): ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾: في الدنيا زخرف وترف، يميز بهما سبحانه بين الطيب المستقيم على صراط الحق والهداية، وبين الخبيث الذي تتحكم به الشهوات والمغريات.

(8): ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا﴾: على الأرض ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾: كل من عليها فان، ويبقى وجه الله سبحانه وعمل الخير لوجهه.

(9): ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ﴾: المغارة الواسعة ﴿وَالرَّقِيمِ﴾: ومن معانيه الكتاب المرقوم، وفي الآية 9 من المطففين (كتاب مرقوم) فإن كان هذا هو المراد هنا فالمعنى أن أسماء أصحاب الكهف مسجلة عندنا في لوح أو كتاب أو كناية عن علمه تعالى بأسمائهم ﴿كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾: يقول سبحانه لمن يرى العجب في قصة أهل الكهف: أتظن أن أمرهم عجب في قدرة الله؟ أن سائر مخلوقاته أعظم وأعجب.

(10): ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ﴾: لجأوا إليه، واختبأوا فيه فرارًا بدينهم وضميرهم من الجبابرة الطغاة ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً... ﴾: نسترحمك، ونستغيث بك، فاكشف عنّا ما نحن فيه.

(11): ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾: ألقى سبحانه عليهم النوم الثقيل لا يستيقظون منه بحال العديد من السنين.

(12): ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ﴾: أيقظناهم من النوم ﴿لِنَعْلَمَ﴾: أي ليظهر علمنا للناس بمقدار ما لبث أهل الكهف ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾: اختلف الناس على حزبين أي على قولين في أهل الكهف وهم بعد في الكهف: كم مضى عليهم من السنين عددًا؟ فمن مُقِلَّ ومِن مُكْثِرٍ.

(13): ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿نَبَأَهُم بِالْحَقِّ﴾: كان الناس في عهد الرسول (ص) يتحدثون عن أهل الكهف رجمًا بالغيب، فقال سبحانه لنبيَّه: نحن نخبرك عن أمرهم، وفيما يلي الحكاية من أولها: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ﴾: وليسوا كهوًلا ولا شيوخًا بلغوا من الضلال والفساد عصيا ﴿آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾: شباب على فطرة الله وصفائها، يستوحشون من الباطل والضلال ولا تركن نفوسهم إلا للحق والصدق، رأوا قومهم في سكرتهم يعمهون، فخافوا على دينهم من سوء العاقبة بعلاقة الجوار، فتركوا الوطن والأموال، واعتزلوا في كهف لا يراهم فيه أحد متوكلين عليه تعالى صابرين محتسبين. ومن توكل على الله كفاه.

(14): ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: بالثبات وقوة العزم ﴿إِذْ قَامُوا﴾: تمردوا على تقاليد قومهم الذين يعبدون الأصنام ﴿فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾: أي ابتعدنا عن الحق والواقع، ثاروا على التقليد، ونطقوا بكلمة الحق والتوحيد، ولم يعدوا وراء الجاهلية الجهلاء ودين الأجداد والآباء... وهذه صورة نَّيرة خيَّرة يرسمها القرآن الكريم للشباب الطيب الثائر على الضلال والباطل، إلى جانب الصور المظلمة الشريرة للشيوخ الفاسدين والجبابرة المترفين.

(15): ﴿هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا... ﴾: الأصنام أربابًا، ولا دليل إلا العمى والجهل والإفتراء على الله والحق.

(16): ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾: الخطاب من بعض فتية أهل الكهف لبعض، وضمير الغائب(هم) لقوم الفتية، والمعنى قال بعض الفتية لبعض: ما دمتم قد تركتم قومكم، وأيضًا تركتم الأصنام التي يعبدونها من دون الله، والمشار إليها بقولهم: ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾: أي غير الله، ما دمتم على هذا ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾: حيث لا نملك مقرًا سواه ﴿يَنشُر﴾: يبسط ﴿لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته﴾: ما زال الكلام للفتية ﴿ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾: أي ترتفقون به، من الرفق، وعندئذ دخلوا الكهف، وأوكلوا أمرهم إلى الله راضين بما يختاره لهم.

(17): ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ﴾: تنحرف ﴿عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ﴾: تعدل عنهم ﴿ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ﴾: أي في مكان واسع من الكهف، فقد كان كبيرًا، وله كوة ينفد منها الهواء الطيب ونور الشمس وكانت الشمس لا تصل إلى أجسامهم لا عند طلوعها ولا عند غروبها. لأنهم كانوا في مكان من الكهف لا يصل إليه نورها ﴿مَن يَهْدِ اللهُ فَهُو الْمُهْتَدِي﴾: كأهل الكهف، سلكوا طريق الهداية، فأخد الله بيدهم ﴿وَمَن يُضْلِلْ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرشِدًا﴾: كالذين أرادوا التنكيل بأهل الكهف. وخير تفسير لهذه الآية قول الإمام عليّ(ع): من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ... ومن له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ.

(18): ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾: باب الكهف، كانت عيونهم مفتوحة كأنها تنظر إلى الأمام وأجسادهم طرية يجري الدم في عروقها، يتقلّبَون من جنب إلى جنب، وكلبهم بفناء الكهف أو بابه باسط ذراعيه كأنه الحارس الأمين ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾: لأنهم في وضع غير مألوف أو لأنه تعالى أحاطهم بصور من المهابة، وفي كتاب التسهيل لعلوم التنزيل تأليف محمد بن أحمد الكلبي: أن معاوية بن أبي سفيان لما غزا الروم مرَّ بالكهف، فأراد الدخول إليه، فقال له ابن عباس: لا تستطيع ذلك، إن الله قال لمن هو خير منك: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارًا، فبعث معاوية إليهم ناسًا، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحًا فأحرقتهم.

(19) - (21): ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ﴾: استمروا في نومهم 309 كما يأتي في الآية 25 ثم أيقظهم سبحانه من نومهم الطويل ليتساءلوا عن مدة نومهم، ويزدادوا إيمانًا بالله وبالبعث ﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ﴾: حين استيقظوا من النوم تساءلوا عن أمده: أيومًا كان أو بعض يوم؟ ثم تركوا ذلك إلى علمه تعالى، وفي شتى الأحوال فإن قول من قال منهم: يومًا أو بعض يوم، يومئ إلى أنه لم يتغّير فيهم شيء على الإطلاق كطول الشعر والأظفار كما زعم بعض المفسرين وإلا لم يكن لهذا التساؤل أو القول من معنى ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ﴾: الدراهم المضروبة، وكانت معهم حين خرجوا إلى الكهف ﴿إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ﴾: أحسوا بالجوع فاختاروا واحدًا منهم ليشتري لهم طعامًا شهيًا، وأوصوه بهذه الوصية: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾: في تنكره ذهابًا وإيابًا ﴿وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَروُا عَلَيْكُمْ﴾: إن علموا بمكانكم ﴿يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِدُوكُمْ فِي ملَِّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ وخرج واحد من الفتية إلى المدينة، يلتمس الطعام، وما إن بلغها حتى رأى الأرض غير الأرض (ورأى رجال الحي غير رجاله) فتاه في سيره وحار في أمره، وأخيرًا اهتدى إلى بعض المطاعم، فابتاع الثمن من دراهمه، ولما رأى صاحب المطعم أنها قد ضربت منذ ثلاثة قرون أو تزيد تخَّيل أن الفتى عثر على كنز، واجتمع الناس من حوله وأدلفوا إليه من كل مكان، وسألوه عن الدراهم، فأخبرهم بالقصة، فترفقوا به وأكرموه حين علموا أنه من الفتية الشرفاء الذين يتحدث التاريخ عنهم بالتقديس والإكبار، وهرعت الجموع إلى الكهف وكان الفتى قد سبقهم إلى أصحابه وأخبرهم بما كان، فتضرعوا إلى الله أن يختارهم لجواره، ويشملهم برحمته، وما أن أتموا الدعاء حتى وقعوا أجسامًا هامدة، أما أهل المدينة فقالوا: إن الله سبحانه أعثرنا على أصحاب الكهف أحياء لنؤمن بالبعث، ولكنهم تنازعوا ماذا يصنعون لهذه الأجسام الطاهرة. وأخيرًا بنوا عليهم مسجدًا كما أشار سبحانه بقوله: ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا﴾: قال بعض أهل المدينة: سدوا باب الكهف، وذروهم على حالهم ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ﴾: وهم الأكثر عددًا أو الأقوى سلطانًا ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾: فوافق الآخرون أو سكتوا ولم يعترضوا..

(22): ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا﴾: اختلف الناس منذ القديم في مكان أهل الكهف وفي أسمائهم وفي عددهم، بل وفي لون كلبهم، وذكر سبحانه في الكتاب المجيد ثلاثة أقوال: الأول أنهم ثلاثة، والثاني أنهم خمسة، ثم وصف هذين القولين بأنهما رجم بالغيب أي بلا علم بل بالحدس والظن، وإذن لا صحة لهما ولا وزن. أما القول الثالث فهو ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾: وهذا القول هو الأرجح لأمرين الأول: أنه تعالى وصف القول بالثلاثة والخمسة بالجهل والرجم بالغيب دون القول بالسبعة. الثاني أنه تعالى قال هناك: ثلاثة رابعهم كلبهم... خمسة سادسهم كلبهم بلا واو، وقال هنا: سبعة وثامنهم كلبهم بواو الاستئناف وهذه الواو تقطع الكلام ﴿قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم﴾: فيه إيماء إلى أن الأحسن والأفضل رد العلم بعددهم إلى الله تعالى حيث لا جدوى وراء هذا النزاع، ولا يتصل بالحياة من قريب أو بعيد، ولذا قال سبحانه لنبَّيه الكريم: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ﴾: لا تجادل في أهل الكهف وعددهم ﴿إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا﴾: إلا جدالا يسيرًا بلا تعمق واهتمام حيث لا فائدة كبيرة أو صغيرة ﴿وَلَا تَسْتَفْتِ﴾: لا تسأل يا محمد ﴿فِيهِم﴾: في أهل الكهف ﴿مِّنْهُمْ﴾: من أهل الكتاب ﴿أَحَدًا﴾: لأن الله قد أوحى إليك في شأنهم ما فيه الكفاية.

(23): ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾: بلسان القطع والجزم تحرزًا من المفاجآت والمخبآت.

(24): ﴿إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾: رد عزمك على فعل الشيء في المستقبل إلى مشيئة علام الغيوب ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾: شيئًا من أمور الدنيا ﴿وَقُلْ﴾: عند النسيان: ﴿عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا﴾: من المنسي ﴿رَشَدًا﴾: وأدنى خير أو منفعة، وفي نسيان الأشياء بعض فوائد جمة.

(25): ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾: عاد سبحانه إلى فتية الكهف بعد الإستطراد بذكر النسيان والمشيئة، وبيَّن أنهم مكثوا في نومهم 309 سنوات.

(26): ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾: عند ذكر العدد قال سبحانه: قل ربي أعلم بعدتهم، وعند ذكر المدة قال جلَّ وعزَّ: قل الله أعلم بمدتهم، وقد أعلمنا بعلمه هذا صراحة: ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا ﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾: الفعل للتعجب، والهاء تعود إليه تعالى وهي فاعل، والباء زائدة، والمعنى ما أبصره تعالى وأسمعه! ﴿مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾: لا شريك لله في خلقه، ولا للخلائق من ناصر إلا هو.

(27): ﴿وَاتْلُ﴾: يا محمد ﴿مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ﴾: بلَّغ أيها الرسول ما في القرآن من أنباء أهل الكهف وغيرها ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه﴾: لا يأتيها الباطل لا تغييرًا ولا تقليمًا ولا تطعيمًا ﴿وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾: ملجأ يمنعك من الله.

(28): ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم... ﴾: كن يا محمد مع المؤمنين المخلصين الذاكرين الله قي كل حين المطيعين له في أمره ونهيه طلبًا لمرضاته وفضله ورحمته ﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾: أي عن المؤمنين، ويستحيل في حق النبي أن يزدري أحدًا من المؤمنين، كي يخاطب بالنهي عن ذلك، كيف وسبحانه يشهد بأن محمد بالمؤمنين رؤوف رحيم كما في الآية 128 من التوبة؟ وعليه فالمراد بالنهي هنا مجرد التنويه بحرمة المؤمن وفضله ومكانه عند الله تعالى ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: يشير سبحانه بهذا إلى أن مكانة المؤمن الفقير عند الله هي أرفع وأفضل من مكانة أهل الجاه والمال إلا من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَ﴾: آثر دنياه على آخرته، وهواه على طاعة الله ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾: من الإفراط وتجاوز الحد في الأقوال والأفعال. وتقدم شبيه ذلك في الآية 88 من الحجر.

(29): ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾: قد تبيَّن الرشد من الغيّ والخير من الشر، ولكل إنسان أن يختار لنفسه ما أحبَّ لها، وأسلوب الآية ظاهر بالوعيد والتهديد، ويؤيّده قوله تعالى بلا فاصل: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾: البيت من الشعر ونحوه، والمراد به هنا الطمر والغمر ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ﴾: المائع القاتل ﴿يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾: فتصبح فحمًا ﴿بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾: منزًلا ومتكًأ وفراشًا. اللهمَّ إنَّا نستجير بك من نارك، ونفُّر منها إلى رحمتك، ونتوسل إليك بنيَّك وآله الأطهار، عليهم أفضل الصلوات.

(30)-(31): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... ﴾: لما ذكر المجرمين الأشرار وعقابهم، ثنى بذكر الطيبين وثوابهم، والعدن: الإقامة، والسندس: ضرب من الحرير الرقيق، والإستبرق: الغليظ منه، والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير. وفي نهج البلاغة: كل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، وتقدم مرات، منها الآية 82 من البقرة.

(32): ﴿وَاضْرِبْ﴾: يا محمد ﴿لَهُم﴾: للجبابرة الطغاة المتعالين عن مجالسة الفقراء والمساكين، والذين قالوا لك: اطرد مَن عندك مِن المؤمنين الضعفاء، اضرب لهم ﴿مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ﴾: أحدهما مؤمن والآخر كافر ﴿جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ﴾: حديقتين من أعناب ﴿وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ﴾: أُحيطت الحديقتان بالنخل من كل جانب ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾: كالخضار والحبوب.

(33): ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا﴾: ثمرها ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾: لم تنقص من الثمر شيئًا ﴿وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾: يجري بطبيعته بلا آلة.

(34): ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾: وأيضًا كان يملك سوى الجنتين أموالًا تنج وتثمر ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾: يراجعه في الكلام: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾: ومنهما ينفخ الشيطان بريح الكبرياء في أنوف المتغطرسين.

(35): ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾: بغطرسته وشموخه ﴿قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾: هذه إشارة إلى جنته لقرينة السياق لا إلى السموات والأرض كما في بعض التفاسير، لا غرابة في هذا الجهل والحمق، فإن الدنيا تغّر وتضّر كما قال الإمام عليّ(ع).

(36): ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾: أيضًا هذا من وحي التخمة والبطر ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا﴾: مرجعًا، والمعنى على فرض أن هناك جنة ونارًا، فإن جنَّتي في الآخرة خير منها في الدنيا. ولماذا؟ أبدًا لا لشيء إلا أن المغرور يرى الخطأ صوابًا، والصواب خطأً.

(37): ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ﴾: المؤمن واعظًا وزاجرًا: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ... ﴾: بالأمس كنت نطفة، ولك اليوم عقل وسمع وبصر، فمن أين لك هذا؟ هل هو من صنعك أم من لا شيء؟ وهل عندك من جواب معقول إلا الرجوع إلى العلة الأولى لكل موجود.

(38): ﴿لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾: ولكن أنا أقر وأعترف بأن ربي الله الذي لا إله سواه.

(39)- (41): ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾: هلا إذا أعجبتك حديقتك قلت: الحمد لله على فضله ونعمته، وأستعينه على شكره وطاعته كي يدوم لك هذا الرخاء والهناء ﴿إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا... ﴾: ما يدريك أيّها الغر الجهول أني عند الله أغنى منك وأكرم، وأنه أدخر لي في دار البقاء ما هو خير منك ومن جنتك، بل ما يدريك أن يجعلني غنيًا بعد الفقر، ويجعلك فقيرًا بعد الغنى بين عشية وضحاها؟ والحسبان من السماء: الآفة والصعيد الزلق: أرض ملساء لا تثبت عليها قدم ولا ينبت فيها شيء، وماء الغور: الغائر في الأرض.

(42): ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾: وأخيرًا وقعت الواقعة، ونزلت الصاعقة على رأس العنود المتكبر تمامًا كما حذره المؤمن المخلص، فهلك الزرع، وهوت الأشجار، وغار الماء في الأرض، وأصبحت الحديقة قاعًا صفصفًا. وحلَّ الفقر مكان الغنى، والذل والإنكسار محل التعاظم والكبرياء. هذا مصير البغاة والعتاة لمن قبل ومن بعد ﴿وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾: وليس براجع ما فات مني- بلهفٍ أو بليتٍ أو لو أني..

(43)-(44): ﴿وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ﴾: أبدًا لا ناصر ولا جابر إلا الأحد المتوحد.

(45): ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾: شبَّه سبحانه الدنيا في نضرتها بماء نزل على الأرض، فأخصبت وأنبتت من كل زوج بهيج، ولكن ما أسرع أن ذوى وجفَّ وصار هشيمًا تنثره الرياح.

(46): ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: والمراد بهذه الزينة كل ما تشتهيه الأنفس، وتلده الأعين من مأكل طيَّب، وملبس جيد، وامرأة جميلة، وصحة كاملة، ومنزلة عالية، وأمن وأمان، وما يشبه ذلك من طيَّبات الدنيا وملذاتها، كل ذلك حلال محلل إلاَّ أن يكون على حساب الآخرين أو محرمًا بنص البلاغ المبين، وخير وأفضل من كل الطيبات في الحياة الدنيا ما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾: ونفهم من هذه الكلمة الرائدة الهادية أن العمل لن يكون من الباقيات الصالحات إلا أن يكون له مثوبة ومكانة رفيعة عند الله، وأن يحقق أملا من الآمال وأُمنية من الأماني النافعة. وتقدم في الآية 14 من آل عمران.

(47): ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ﴾: يشير سبحانه بهذا إلى أهوال يوم القيامة، وأنه يقتلع الجبال من أماكنها، ويسيرها في الجو كالسحاب ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً﴾: بادية ظاهرة لا حجر وشجر ولا بناء وخباء يحجب الأبصار ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾: من الأولين والآخرين لنقاش الحساب والجزاء على الأعمال والأقوال.

(48) ? (49): ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾: يقف الخلائق بالكامل بين يدي الخالق بنظام محكم ودقيق بلا فوضى وعرقلة سير ﴿لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا﴾: بهذا يفتح سبحانه جلسة المحاكمة: قلتم في الحياة الدنيا: من مات فات، والآن ماذا ترون؟ لقد خلقناكم ورزقناكم وأمتناكم ثم أحييناكم كي نسأل ونحاسب ونثيب أو نعاقب على ما كنتم تعتقدون وتقولون وتفعلون. ثم يبدأ الحساب بوضع ﴿الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ﴾: خائفين ﴿مِمَّا فِيهِ﴾: يعطي سبحانه كل مجرم صحيفة أعماله، ويقول له: (أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا-14 الإسراء) فيقرأ ونفسه مفعمة بالخوف ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا﴾: يا حسرتنا ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغيِرَةً وَلاَ كَبِيَرةً إِلآ أَحْصَهَا﴾: بالأمس لا كتاب ولا حساب، على القطع والجزم، واليوم يا حسرتنا يا ويلتنا على ما فرطنا... ما كان أغناهم عن الحالين! والعاقل لا يجزم بما هو فوق تصوّره وإدراكه نفيًا ولا إثباتًا، بل يضعه في عالم الإمكان حتى يصدقه أو يكذبه الدليل والبرهان، ولا شيء أكثر من الشواهد على هذه الحقيقة. ومن كان يتصَّور أن الإنسان يصعد إلى القمر، وهو من الأشياء العادية، إذن فالكثير مما هو فوق التصور يمكن وجوده، ولا يعمى عن ذلك إلا جهول متخلف.

(50): ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا... ﴾: تقدم مرات، منها في الآية34 من البقرة ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي﴾: المراد بذرية الشيطان حزبه وأنصاره الذين يضللون الناس عن الحق والخير وكل من يسمع لهم ويطيع فقد اتخذهم أولياء من دون الله ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾: هم يعود للشيطان وأوليائه، ولكم خطاب لمن أطاعهم، وبئس للذمّ والتوبيخ، والظالمون كل من استبدل طاعة الشيطان وأوليائه بطاعة الرحمن وكتبه وأنبيائه.

(51): ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ﴾: ضمير متكلم لذات الله القدسية، وضمير الغائب للشيطان وحزبه وغيرهم من الأصنام والشركاء المعبودة والموهومة ﴿خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: يقول سبحانه: أنا وحدي خلقت الكون، ولم يكن معي حين أوجدت وأبدعت نظير أو مشير ولا شاهد أو ناظر ﴿وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾: وكذلك حين خلقت إبليس وأوليائه والشركاء المزعومة، ما أشهدت بعضهم خلق بعض ﴿وَمَا كُنتُ﴾: أيضًا ضمير المتكلم للذات القدسية ﴿مُتَّخِذَ اْلْمُضِلّيِنَ عَضُدًا﴾: أعوانًا، كيف والله سبحانه يعين ولا يستعين.

(52): ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾: سبحانه للمشركين ﴿نَادُواْ شُرَكَآءِىَ اْلذَّيِنَ زَعَمْتُمْ﴾: بأنهم ينفعون ويضرون في هذا اليوم العصيب ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾: لأنهم صم بكم، ولو استجابوا لأنكروهم وتبرأوا منهم ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا﴾: مهلكًا، والمعنى لا صلة ولا جامع مشترك غدًا بين التابع الضال والمتبوع المضل إلا الهلاك والعذاب.

(53): ﴿وَرَءَا اْلْمُجْرِمُونَ اْلنَّارَ فَظَنُّواْ أْنَهَّم مُّوَاقِعُوهَا﴾: حين رأوا جهنم أيقنوا بأن الواقعة واقعة على رؤوسهم لا محالة ﴿وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا﴾: مهربًا، وكيف والإله الطالب؟.

(54): ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾: أي بيَّنَّا بشتًّى الأساليب ﴿فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾: في العقيدة والشريعة والأخلاق بالحجج والبراهين. وتقدم بالحرف في الآية89 من الإسراء ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾: المراد بالإنسان هنا أكثر أفراده أو الكثير منهم، من باب إطلاق الكلي على بعض الجزيئات والمراد بالجدل هنا مجرد المعاكسة وعرض العضلات إن كان الجدل مع الدارسين والمتعلمين، لأن القرآن حق لا ريب فيه.

(55): ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا﴾: بالحق ﴿إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى﴾: القرآن ﴿وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾: يتوبوا إليه ﴿إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾: العذاب والهلاك ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾: وجهًا لوجه، ومعنى الآية بجملتها أنه تعالى بعد أن قال عن الإنسان انه كثير الجدال، قال: أتدرون لماذا يتمرد أكثر الناس على الحق المبين الظاهر لأنهم لا يؤمنون بل منهم من يصّر على الضلال حتى الهلاك كما جرى لكثير من الأولين بمنطق الحق والعقل، بل بمنطق القوة والعذاب.

(56): ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ﴾: بالنعيم من يسمع لأمر الله ويطيع ﴿وَمُنذِرِينَ﴾: بالجحيم من تمرد وعصى وتقدم مرات، منها في الآية 165 من النساء ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾: يخذلون الحق ويناصرون الباطل قولا وعملا ﴿وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا﴾: أقام سبحانه الشواهد والدلائل وأنذر من تمرد بعذاب أليم، فاتخذ المجرمون من الأدلة والإنذار موضوعًا للهو واللعب، وكل من عرف الحق ولم يعمل فقد اتخذ دين الله هزوًا ولعبًا.

(57): ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾: لأن الحق عنده هواه ومناه ﴿وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾: يستهين بكل كبيرة وجريمة وكأنها أحل الحلال تمامًا كمن كان يأكل الربا ويسميه اللبأ ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾: أغطية ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾: القرآن ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾: صممًا، والقصد في هذه الحكاية والإخبار عما هو واقع وكائن وليس الخلق والإيجاد. وتقدم بالحرف في الآية 25 من الأنعام ﴿وَإِن َتدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾: لأنهم يرمون سلفًا إلى هدف معَّين، لا يحيدون عنه بحال، وإذن فمن العبث أن تتعب نفسك في إرشادهم وهدايتهم.

(58): ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾: ولكن يؤجلهم عسى أن يرجعوا إلى السمع والطاعة ﴿بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ﴾: وهو يوم القيامة ﴿لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾: ملجأ، وتقدم في الآية 61 من النحل.

(59): ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى﴾: كقوم نوح وعاد وثمود ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾: هذا تهديد لمن حارب دعوة التوحيد وكلمته: أن يأخذهم سبحانه كما أخذ الذين من قبلهم وفعلوا مثل ما فعلوا.

(60): ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ﴾: إذا أطلقت كلمة موسى في القرآن الكريم فهم منها موسى بن عمران (ع) أما فتاه فالمراد به يوشع بن نون أو يشوع كما في التوراة، وفي قاموس الكتاب المقدس: انه كان خادمًا لموسى، ثم عيَّنه لقيادة بني إسرائيل، ثم خليفة له ﴿لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾: لا أزال سائر حتى أصل إلى هذا المكان وقيل: هو ملتقى البحر الأبيض والبحر الأحمر ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾: زمنًا، طويلا والمعنى إما أن أبلغ مجمع البحرين، وإما أن أبقى سائرًا إلى ما شاء الله.

(61): ﴿فَلَمَّا بَلَغَا﴾: موسى وفتاه ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾: بين البحرين ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾: قيل: إن سائلاً سأل موسى: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فأوحى سبحانه إليه: عند مجمع البحرين رجل يعلم ما لا تعلم. قال: كيف لي به؟ قال تعالى: تحمل معك حوتًا ميتًا فحيث تفقده فالعالم هناك، فحمل الحوت وجدَّ في السير هو وفتاه حتى بلغا مجمع البحرين، فأخذت موسى سنة فنام، وفي أثناء نومه قفز الحوت إلى البحر، فكانت هذه آية من آيات الله لموسى، وكان ذلك بمرأى من يوشع، وحين استيقظ موسى من نومه قال له: هلمَّ نتابع السير.

(62): ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾: تعبًا، طلب موسى من يوشع الغداء، بعد أن تجاوزا المكان الذي قفز منه الحوت إلى البحر.

(63): ﴿قَالَ﴾: يوشع ﴿أَرَأَيْتَ﴾: أخبرني ما رأيك فيما حدث ﴿إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ﴾: أن أُحدَّثك عن قصة ﴿الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾: كيف عادت الحياة إليه بعد الموت، واهتدى تلقائيًا إلى البحر.

(64): ﴿قَالَ﴾: موسى ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾: هذا هو المكان الذي نريده بالذات ﴿فَارْتَدَّا﴾: رجعا ﴿عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾: يقصان أثرهما ويسيران على هدايته.

(65): ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾: قال المفسرون: المراد بالعبد هنا الخضر، وبالرحمة النبويّه، وبالعلم الوحي بالغيب، وسواء أكان المراد الخضر أم غيره فإن هذا الوصف الجليل يجري على الأنبياء من دون ريب.

(66): ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾: موسى كليم الله ومن أُولي العزم والشرائع، لا يستنكف أن يتعلم ما خفي عنه ممن هو دونه مكانة أو يستويان، ذلك بأن العلم النافع كالتعبد لله، بل أفضل، وفي الحديث: من رأى أنه قد علم- مستغنيًا بما لديه- فقد جهل. وفي نهج البلاغة: ما أكثر ما نجهل... ومن ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله.

(67): ﴿قَالَ﴾: الخضر لموسى ﴿إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾: نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد، وعلل ذلك بقوله:

(68): ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾: لأني أعلم من غيب الله ما لا تعلمه أنت، وهو منكر في ظاهره دون واقعه، وأيضًا أنت تعلم من غيبه تعالى ما لا أعلمه أنا.

(69): ﴿قَالَ﴾: موسى للخضر ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾: استثنى مشيئة الله خشية أن لا يملك نفسه إذا رأى منكرًا ولو في الظاهر.

(70): ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾: شرطي عليك أن لا تسألني عن شيء مما تنكر حتى أكون أنا المفسر له.

(71): ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا﴾: سار موسى والخضر على ساحل البحر حتى مرت بهما سفينة فحملتهما ولكن الخضر خرق السفينة بلا مبرر ظاهر، فثارت العاطفة الإنسانية في نفس موسى و﴿قَالَ﴾: للخضر: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾: عجبًا، وأخذ موسى ثوبه، وحشا به الخرق على عهدة الراوي.

(72): ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾: فاعتذر موسى.

(73): ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾: وتدل هذه الآية بظاهرها أن النسيان في غير التبليغ عن الله جائز على الأنبياء، أما فيه فمحال، لأن النبي في هذه الحال بالخصوص هو لسان الله وبيانه ﴿وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾: لا تضيق عليَّ في صحبتي لك.

(74): ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ﴾: ثار موسى على خرق السفينة فكيف بقتل النفس، ولذا غضب و﴿قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾: ينكره الدين والعقل والناس.

(75): ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا﴾: مرة ثانية يذكره الخضر بالشرط، وأيضًا مرة ثانية يعتذر موسى.

(76): ﴿قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾: من قبل كان الشرط من موسى أن لا يسأله والآن موسى بنفسه يشترط على نفسه ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا﴾: قطعت عليَّ كل عذر أتعلل به.

(77): ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾: طلبا منهم طعامًا ﴿فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾: بخلا ولؤمًا، وشر القرى قرية لا يضاف فيها ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ﴾: يكاد ﴿أَنْ يَنقَضَّ﴾: أن يسقط ﴿فَأَقَامَهُ﴾: الخضر وأصلحه بلا مقابل، فعجب موسى من ذلك ﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾: أتصلح الجدار مجانًا لقوم رفضوا ضيافتنا؟ هلا طلبت أجرًا على عملك لنشتري به ما يسد الرمق وجَوعة المضطر؟.

(78): ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾: فارقه بعد أن أخبره بحكمة ما أنكر وقال:

(79): ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾: فيصيبون بها رزقًا يعينهم على مطالب الحياة، ولكن ملكًا ظالمًا كان يغتصب كل سفينة، فخرقتها رحمة بالمساكين، حتى إذا رآها الملك الطاغية زهد فيها، وتركها لأهلها.

(80): ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾: وكان هو في سن البلوغ، وقد كفر بالله، وعاث في الأرض فسادًا، وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق(ع): أنه كان يعمل جاهدًا لحمل أبويه على الكفر والإلحاد، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾: أن يستبد بهما ويطغى عليهما في تكليف الكفر، ولهذا استحق القتل، وعن الإمام عليّ (ع): ما زال الزبير معنا حتى أدرك فرخه عبد الله.

(81): ﴿فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ﴾: فرجونا الله سبحانه أن يرزقهما مولودًا مطيعًا لله بارًا بأبويه، ولا نعمة من الله على عبده بعد الإيمان أفضل من هذه ﴿زَكَاةً﴾: طهرًا ﴿وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾: لأن القريب من قربه الدين والخلق الكريم لا من قربة النسب أو السبب.

(82): ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ﴾: قال سبحانه في آية سابقة: (أتيا أهل قرية) وقال هنا: (في المدينة) ومعنى هذا أن القرية تطلق على المدينة ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ﴾: تحت الجدار ﴿كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾: فيه إيماء إلى أن لصلاح الأب بعض الأثر لحفظ الابن والعناية به ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾: أن يبلغا الحلم والرشد ﴿وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾: كان تحت الجدار مال مدفون، ومتى سقط الجدار ظهر المال للعيان، وترك للغصب والنهب، فأقمته حرصًا على المال، حتى إذا كبر الغلامان استخرجاه بطريق أو بآخر وانتفعا به ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾: بل بوحي منه تعالى ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ﴾: ما أنكرت وعارضت، وعليك أن تنتفع بهذا الدرس، ولا تحكم على الشيء بقول مطلق، وأنت لا تعرف منه إلا وجهه الظاهر، بل تمهل وانظر إلى الشيء من جميع جهاته، فإن لكل باطنًا قد يكون على مثاله، وقد يكون على الضد منه. وقد تساءل كثيرون عما فعله الحضر من خرق السفينة وقتل الغلام، وإقامة الجدار بلا سبب ظاهر؟ وملخص الجواب: أولا هذه حوادث خاصة في وقائع معّينة، تمت بوحي من الله إلى نبي من أنبيائه، وليست مبادئ عامة وقواعد كلية، يطبقها الفقيه حسب نظره واجتهاده. ثانيًا إن خرق السفينة يتفق تمامًا مع قاعدة دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف. وإقامة الجدار تفضل وإحسان على كل الفروض والتقادير، أما قتل الغلام فقد كان على جرمه المادي المشهور، حيث كان شابًا تجاوز سن القصور والطفولة، بدليل أنه كان يجاهد أبويه على الكفر والإلحاد كما سبقت الإشارة،والآية الكريمة ظاهرة في ذلك، لأن الطفل الصغير أعجز من أن يطغى على أبويه.

(83): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا﴾: سأل اليهود محمد (ص) عن أخبار ذي القرنين لمجرد الإخراج، وما دروا أن الله يسانده ويمده بالجواب المفحم المخرس، وعلى السنة المألوفة المعروفة: اختلف العلماء والمفسرون من الأولين والآخرين في هوية ذي القرنين وحقيقته دون أن يأتوا بنتيجة مقنعة.

(84): ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾: أعطاه سبحانه في الدنيا الملك العظيم، وهيأ له من أسباب القوة كل سبب من العدة والعدد، وفوق ذلك توفيق الله وعنايته.

(85): ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾: استعمل أسباب القوة في مواضعها بدقة وحكمة، ومن أجل هذا أثمر عمله، وعمَّ نعمه، وخلد أثره.

(86): ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾: ذهب ذو القرنين إلى بلاد المغرب مجاهدًا في سبيل الله ﴿وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾: الحمأ: الطين الأسود، والمعنى انتهى ذو القرنين في سيره إلى بحر على شاطئه طين أسود بحيث يتراءى للعين أن الشمس تغيب فيه وتختفي ﴿وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا﴾: أمة ضالة كافرة ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾: تدعو يا ذا القرنين هذه الأمة الضالة إلى الإيمان وصالح الأعمال فمن استجاب فلا سبيل لك عليه (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين 193 البقرة) ومن أصر على الكفر والضلال فأنت مخيَّر بين عقابه وإمهاله عسى أن يتوب ويؤوب إلى الرشد، وإن قال قائل: إن الآية لم تشر إلى من سمع وأطاع فكيف حشرته في تفسيرها؟ قلنا في جوابه: إن كثيرًا من المفسرين قالوا: إن الله ترك لذي القرنين التصرف في أهل تلك البلاد دون استثناء! وهذا لا يتفق مع عدالته تعالى بحال، وإذا كان سبحانه ترك ذكر السامع المطيع فلأنه معلوم لذي القرنين وغيره بحكم الفطرة والبديهة.

(87): ﴿قَالَ﴾: ذو القرنين ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ﴾: نفسه بالإصرار على الفساد والضلال ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾: بما يستحق ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ﴾: يحاسبه ويعاقبه.

(88): ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى﴾: هذا هو الحق العدل: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره- 8 الزلزلة.

(89): ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾: ثم رجع ذو القرنين من بلاد الغرب إلى بلاد الشرق مجاهدًا في سبيل الله كما قال سبحانه:

(90): ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾: أي بلاد الشرق ﴿وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا﴾: لا بيوت تسترهم ولا أشجار تظلهم من الشمس، وكانوا أشبه بوحوش الفلوات، ولم يذكر سبحانه ماذا فعل ذو القرنين بهؤلاء.

(91): ﴿كَذَلِكَ﴾: إشارة إلى أمر ذي القرنين ﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا﴾: لا ريب في أنه تعالى أحاط بكل شيء علمًا.

(92): ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾: ثم رحل ذو القرنين رحلة ثالثة.

(93): ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾: بين جبلين في طرف من أطراف الأرض. وفي مجلة العربي الكويتية العدد 184 ص134: أن الجبلين في القوقاز ﴿وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾: لا هم يفهمون لغة ذو القرنين ولا هو يفهم لغتهم، ولكنه فهم مطالبهم بالحركات والإشارات أو بواسطة مترجم بدليل قوله تعالى:

(94): ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾: في العدد المذكور قبل لحظة من مجلة العربي نقل عبد المنعم النمر مدير البعثات والثقافة بالأزهر عن أبي الكلام آزاد أن الموطن الأصلي ليأجوج ومأجوج منغوليا وقبائلها الرحل وأن مكان السد بين بحر قزوين والبحر الأسود حيث توجد جبال القوقاز، وأن سد الصين غير سد ذي القرنين لأن الأول بُني سنة 264ق.م والثاني في القرن السادس ق.م ونحن هنا وفي التفسير الكاشف نروي عن الآخرين، ولا نجزم بشيء إلا بما يدل عليه القرآن الكريم.

(95): ﴿قَالَ﴾: ذو القرنين للذين طلبوا منه أن يبني لهم سدًا ويجعل لهم خرجًا ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي﴾: من سلطان ومال ﴿خَيْرٌ﴾: من خرجكم ومالكم، فأنتم أحوج إليه مني، ولكن ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾: من يد عاملة وما أشبه ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾: سدًا وحاجزًا.

(96): ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾: قطعًا منه، وفيه إيماء إلى أن سد ذي القرنين كان من الحديد لا من الحجر ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾: أي جانبي الجبلين المحيطين بالفتحة التي سدها ﴿قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾: أي أشعلوا النار على السد، وانفخوا فيها بالكير، ففعلوا حتى صار الحديد نارًا ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾: وهو النحاس المذاب، فأتوه به، فصبَّه على الحديد المحمي، فالتصق بعضه ببعض، وصار جبلا من حديد.

(97): ﴿فَمَا اسْطَاعُوا﴾: يأجوج ومأجوج ﴿أَن يَظْهَرُوهُ﴾: أن يصعدوا عليه ﴿وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾: لصلابته وكثافته.

(98): ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾: شكر الله سبحانه على فضله وتوفيقه لخدمة الناس والقيام بما يعود عليهم بالخير والصلاح ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي﴾: وهو الأجل المحدد لهذا السد ﴿جَعَلَهُ دَكَّاء﴾: مستويًا مع الأرض كأن لم يكن شيئًا.

(99): ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾: أي أن يأجوج ومأجوج ينتشرون في الأرض بعد خراب السد، ويفسدون على الناس حياتهم ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾: وهذا اليوم هو خاتمة المطاف للحياة الدنيا.

(100): ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾: تبرز جهنم للمجرمين قبل دخولها ليروا ما فيها من عذاب ونكال، فيكتووا بنارين: نار الرعب ونار الحريق.

(101): ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي﴾: تغافلوا عن الهدى، وتعاموا عن الحق ﴿وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾: أثقل شيء على مسامعهم أمر الله بالخير والمعروف ونهيه عن الشر والمنكر، ولا بدع فلكل من الهوى والتقى أهل.

(102)-(104): ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا... ﴾: أخسر الناس صفقة، وأخيْبَهم سعيًا من يرى جهله علمًا، وشره خيرًا، وإساءته إحسانًا، وسفهه حلمًا، وخداعه عقلا، وهدره بلاغة، وجبنه حذرًا... وما أكثر هذا الصنف في أولاد آدم. ومن أحمق الحمق أن تحدثه وتستمع لحديثه.

(105): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ... ﴾ : أولئك إشارة إلى الأخسرين أعمالا، سواء أكفروا بالله واليوم الآخر من الأساس، أم آمنوا بهما، ولكن رأوا سيئاتهم حسنات وجهالاتهم بينات.

(106): ﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾: وكل من يدعي العلم بدين الله كذبًا وافتراء فهو والساخرين الهازئين بآيات الله ورسله- بمنزلة سواء عند الله.

(107)-(108): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... ﴾: بعد تهديد الكافر بعذاب أليم وعد سبحانه المؤمن العامل بجنات النعيم، على سنة الله في الترغيب والترهيب.

(109): ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي﴾: البحر هنا: الجنس يشمل كل البحار، والمداد: الحبر وكلماته تعالى: قدرته على إيجاد الشيء لا من شيء ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾: أي زدنا على البحر أضعافًا مضاعفة، ذلك بأن الكون ومن فيه وما فيه من فيض قدرته تعالى، وهي غير ذاته التي لا أول لأولها ولا آخر لآخرها.

(110): ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾: فلا تقولوا ما قاله النصارى في المسيح بن مريم، ولا أمتاز عنكم بشيء إلا أنه ﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ﴾ وإلهي ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: يستوي عنده كل البشر في الحقوق والواجبات لا فضل أو امتياز إلا بالتقوى والعمل الصالح النافع ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾: ويبتغي عنده مقامًا محمودًا ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾: ومنه كف الأذى عن الناس ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾: ومن الشرك بالله أن يعبد المرء هواه. اللهمَّ أنت الواحد بلا شريك، والمالك بلا تمليك، نسألك العون على طاعتك وشكرك بالنبي وآله عليه وعليهم أفضل الصلوات.