سورة يوسف

(1): ﴿الر﴾: انظر أول البقرة (الم) ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾: تلك إشارة إلى آيات هذه السورة، والكتاب المبين هو القرآن.

(2): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾: وفي هذا إيماء إلى أن من يجهل اللغة العربية يتعذر عليه أو يتعسر أن يعقل الإسلام على حقيقته وبعقيدته وشريعته وأخلاقه وآدابه، وحبذا لو أن المراجع الدينية في إيران والعراق خصصوا مبلغًا من الأوقاف العامة والحقوق الشرعية لانتشار اللغة العربية وبناء كليات لهذه الغاية في البلاد الإسلامية، وكل بلد فيه مسلمون من غير العرب، ولا أعرف خدمة للقرآن أجل وأعظم من هذه، وهل من أحد يشك في أن إحياء اللغة العربية، إحياء لكلام الله سبحانه، والعكس بالعكس.

(3): ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ﴾: الذي أثبت نبوتك وخلد ذكرك ﴿وَإِن﴾: مخففة من الثقيلة، والأصل وإنه ﴿كُنتَ مِن قَبْلِهِ﴾: الوحي ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾: عن الوحي وأنباء الغيب، وهذا دليل قاطع على أن ما جاء به محمد (ص) هو من عند الله.

(4): ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ﴾: يعقوب بن أسحق بن إبراهيم الخليل(ع) ﴿يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾: وفي قاموس الكتاب المقدس: (اسم يوسف عبري ومعناه يزيد، وأُمه راحيل، والحادي عشر من أولاد يعقوب الأثني عشر) وفي ذات يوم رأى رؤيا قصها على أبيه، وهي كما نطقت هذه الآية: رأى 11 كوكبًا والشمس والقمر سجدًا له، فاستبشر أبوه.

(5): ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا﴾: خشى عليه أبوه من حسد إخوته، فأمره بالكتمان، والحسد موكل بأهل الفضل، بخاصة من الإخوان والأصدقاء والجيران.

(6): ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾: يختارك ويصطفيك ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾: أي يعلمك ما لم تكن تعلم ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾: ونعمه تعالى لا يبلغها الإحصاء، وأكملها النبوة، ﴿وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ﴾: وهما جده وجد أبيه ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ﴾: ومعنى إتمام النعمة منه تعالى أنه وصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة.

(7): ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾: في قصة يوسف مع إخوته عبر ومواعظ تستحق أن يسأل عنها الناس، وأيضًا في حديث النبي عنها دلائل قاطعة على صدقه في رسالته.

(8): ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾: بنيامين لأبيه وأُمه راحيل، وفي قاموس الكتاب المقدس، (وكان أصغر إخوته) ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾: تتحدث هذه الآية وما بعدها عن أول جيل نشأ من بني إسرائيل، وهم أولاد يعقوب للصلب الذي يسمى إسرائيل، وهذي هي بداية تاريخ بني إسرائيل: الطعن في أبيهم النبي المعصوم وأنه في ضلال مبين، والغدر بأخيهم، والبكاء المنافق، والافتراء على من أحسن إليهم بأنه خائن وسارق، وما استسلموا إلا مقهورين مرغمين... هذا هو تاريخ بني إسرائيل منذ يومهم الأول وإلى آخر يوم.

(9): ﴿اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾: لا أحد يشرك فيه معكم تمامًا كما فعلت إسرائيل بالفلسطينيين، قتلت من قتلت منهم، وشردت البقية الباقية في شرق الأرض وغربها، وبرغم إن إسرائيل ربحت الجولة الأولى والثانية والثالثة مع العرب، فنحن على عين اليقين أن مصيرها سيكون أسوأ بكثير من مصير بني إسرائيل مع أخيهم يوسف لا لأن العرب أكثر مالاً ونفرًا، بل لأن دولة العدوان إلى زوال، وإن طال بها الأمد، وفي التاريخ ألف شاهد ودليل.

(10): ﴿قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ﴾: في قاموس الكتاب المقدس هو أوربين، اسم عبري معناه(هو ذا ابن) وكان بكر يعقوب ﴿لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾: قعر البئر وغوره الغائب عن عين الناظر ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾: المارة ﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾: عازمين لا محالة.

(11) ? (12): ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ... ﴾: استأذنوا أباهم في مصاحبة يوسف إلى المرعى، يلعب ويسعى.

(13): ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي... ﴾: اعتذر أليهم بشيئين: الأول يصعب عليه فراقه. الثاني يخاف عليه من الذئب.

(14): ﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾: جماعة ﴿إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ﴾: لا نصلح لشيء.

(15): ﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ﴾: عزموا ﴿أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾: جواب لما محذوف تقديره فعلوا ذلك غير مكترثين بغضب الله وعقوق الوالد ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ... ﴾: ألقى الله في روع يوسف أنه ناج من محنته، وأنه سوف يخبر إخوته بقبح ما فعلوا، فسكتت نفسه، واطمأن لمصيره.

(16): ﴿وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ﴾: وهم القاتلون الغادرون، ويروى أن امرأة خاصمت رجلاً عند القاضي وبكت. فقال بعض من حضر القاضي: ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة. فقال له القاضي: إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.

(17) ? (18): ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾: نجري على أقدامنا لننظر أينا يسبق الآخر ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ... ﴾: وظل هذا الكذب والافتراء طبيعة في اليهود، وسيبقى إلى اليوم الأخير ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ﴾: زينت لكم ﴿أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾: جرمًا كبيرًا ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: وهو الذي لا شكوى فيه لمخلوق.

(19) ? (20): ﴿وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ... ﴾: قافلة، تريد الماء، وألقت بدلوها إلى البئر، فتعلق به يوسف، وفرحت به القافلة، وباعوه إلى عزيز مصر بثمن بخس زهيد.

(21): ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ﴾: وكان من أعوان الملك وأُمنائه ﴿لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي﴾: مقامه، وأحسني إليه، فقد ننتفع به في بعض الشؤون أو نتبناه، لأن العزيز كان عقيمًا ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ﴾: جعلنا له قوة ومكانة ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾: تعلمه ما لم يكن يعلم ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾: فعال لما يريد بلا صادّ واردّ.

(22): ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾: استكملت خصاله عقلاً وجسمًا ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾: والمراد بالحكم هنا الحكمة، وهي وضع الشيء في مكانه المناسب.

(23): ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا... ﴾: يقاد المرء في تصرفه وأعماله لا في أفكاره وأقواله، يقاد من ميله لا من عقله، ومن جيبه لا من قلبه، ومن شهوته ومعدته لا من إيمانه وعقيدته إلا من رحم ربك بالعصمة أو بالتقوى.. وضرب سبحانه مثلاً بامرأة العزيز للكثرة الكاثرة من النساء وللرجال الذي ينقادون بالعاطفة، ويؤثرون الشهوة على الحق والدين والعقل، وأيضًا ضرب مثلاً للقلة القليلة بيوسف الذي يؤثر الحق والخير على كل شيء، ويفنى بكله، بميوله وجميع غرائزه في طاعة الله، هذي هي بإيجاز الفلسفة السليمة الصحيحة لقصة يوسف وامرأة العزيز، بل ولحياة كل مؤمن حقًا وصدقًا وسيرته... أبدًا لا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق مهما كانت المغريات، لأن بينه وبين ذلك قوة حاجزة رادعة من الدين والإيمان.

(24): ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾: والمراد هنا ببرهان الله تعالى نهيه عن الفاحشة، وعليه يكون المعنى ما هم به إطلاقًا تمامًا كقولك: لولا فلان هلكت، وخير تفسير لهذه الآية قول الإمام علي (ع): (قد يرى الحول القلب ? البصير بتحويل الأمور الخبير بتقلبها ? وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها) ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾: السوء: كيد امرأة العزيز، والفحشاء الزنا، وقد صمم يوسف منذ البداية أن يحجم عما نهى الله عنه مهما تكن النتائج، فكان الله معه، وأعانه على ما أراد بعد أن علم منه الصدق والإخلاص.

(25): ﴿وَاسُتَبَقَا الْبَابَ﴾: أسرع يوسف إلى الباب هربًا منها، فعدت وراءه لترده إليها ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾: جذبته من قميصه وهو مدبر فقدته ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾: وفي تلك اللحظات بالذات مر العزيز زوج المرأة فرأى موقفًا مريبًا وعجيبًا: قميصًا ممزقًا وامرأة بحال غير طبيعية. وقبل السؤال ﴿قَالَتْ ? لزوجها - مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا﴾: أرأيت إلى هذا الزور والبهتان؟ هو الذي أراد السوء والفاحشة، وألح واستمات من أجلها!... أما هي فأبت ورفضت ودافعت عن طهرها وقدسها دفاع المستميت حتى مزقت ثيابه، وشكرت الله سبحانه الذي أرسل زوجها في هذه الساعة لينقذها من يوسف!.. وهكذا كل من لا يرى ويفكر إلا في قضاء شهوته سواء كانت شهوة الجنس أم المال أم المنصب أم أي شيء، وخالق الإنسان أعلم حيث يقول: (قتل الإنسان ما أكفره ? 17 عبس وفي الحديث الشريف: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص) وكذلك سائر الشهوات المماثلة، لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. وجاء في الأثر: لا يعذب الله من ترك شهوته لوجه الله.

(26): ﴿قَالَ ? يوسف - هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾: قال هذا حيث لم يجد بدًا عن رد الاتهام الكاذب، وبخاصة بعد قولها: (إلا أن يسجن أو عذاب أليم) فانتصر لنفسه بالحق، وتبرأ صادقًا مما رمت به ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا﴾: من أُسرتها أو من هو حجة عليها، فقال: ﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾.

(27): ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ﴾: فنظر العزيز إلى قميص يوسف.

(28): ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾: أيقن ببراءته والتفت إلى امرأته ﴿قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾: ويمكن الاستدلال بهذه الآية على جواز الحكم بكل وسيلة وقرينة قطعية، وإن لم يرد فيها نص بالخصوص، إضافة إلى العمومات، ومنها قوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل - 58 النساء) أي بما تعلمون أنه حق وعدل سواء أحصل لكم هذا العلم من النصوص أم من غيرها.

(29): ﴿يُوسُفُ﴾: أي يا يوسف ﴿أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾: هذا من كلام العزيز، ويبدو أن أمره كان هينًا وطبعه لينًا حيث قال لزوجته: توبي إلى الله من هذه الخطيئة وأريحينا، وأنت يا يوسف دع الخوض في هذا الحديث، واكتم أمره، ولك أجر الصديقين.

(30): ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ... ﴾: ولكن الخبر شاع وذاع، واتخذت منه أزواج الأمراء والوجهاء موضوعًا للكلام الطويل العريض كالمألوف والمعتاد عند النساء، وتوالت الحملات على امرأة العزيز، وقلن: افتتنت بغلامها، ودعته إلى نفسها، ولكنه عزف عنها وزهد فيها... ولا شيء أشد وقعًا على قلب المرأة من هذا التلويح والتجريح، وأرادت أن تبرر فعلتها أو تقتص منهن، ولذا:

(31): ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾: ما يتكأ عليه ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا﴾: حادة لتقطع بها اللحم والفاكهة ﴿وَقَالَتِ ليوسف - اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾: اشتغلن بالنظر إلى يوسف، واندهشن من جماله حتى جرحن أيديهن من غير شعور ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾: في صورة البشر.

(32): ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾: ولو عاينتن جماله من قبل لقلتن: لامرأة العزيز كل العذر. ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ﴾: على المكشوف ﴿فَاسَتَعْصَمَ﴾: انصرف عني وأعرض ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾: وعند ذلك استعاذ يوسف من شرهن وكيدهن.

(33): ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾: آثر السجن لأنه على مرارته أحلى عاقبة من لذة الحرام ﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾: هذي هي لغة الأطهار حقًا والأبرار، لا يثورون ويشتمون إذا عرض عليهم فعل الحرام، بل يلجأون إلى الله، يسألونه المعافاة مما ابتلى به العصاة.

(34): ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾: كما استجاب له من قبل وصرف عنه كيد إخوته، ولا بأس بالبئر وبالسجن أيضًا ما دام على يقين من دينه.

(35): ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ﴾: الدلائل القاطعة على براءة يوسف ونزاهته ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾: رأى العزيز أن يضحي بيوسف والنزيه البريء، ويسجنه مؤقتًا إلى حين. لا لشيء إلا لتسكت الألسن عن زوجته، وتخف التهمة عنها.

(36): ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ﴾: في قاموس الكتاب المقدس: اكتسب يوسف ثقة السجّان فجعله وكيلاً على جميع المسجونين، أما الفتيان فهما رئيس السقاة ورئيس الخبازين عند فرعون ﴿قَالَ أَحَدُهُمَآ﴾: ليوسف وهو الساقي ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾: أي رأيت في المنام ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾: عنبًا ﴿وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾: أخبرنا عن تفسير ما رأينا، وكان يوسف قد اكتسب ثقة المسجونين بأخلاقه الكريمة ودعوته إلى الإيمان بالله وإرشاده إلى الحق.

(37)- (38): ﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾: من أهلكما في هذا اليوم وكل يوم ﴿إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾: أخبرتكم عن نوعه ﴿قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا﴾: وهذا مني إخبار بالغيب، ولا عجب ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾:الله أوحى به إليّ، وأنا أخبرتكم به، وكذلك تفسيري للمنام هو وحي من الله سبحانه، وأراد يوسف بذلك أن يثبت صدقه ونبوته كي يؤمنوا بما يدعوهم إليه من الإيمان بالله الواحد الأحد واليوم الآخر تمامًا كما قال السيد المسيح (ع): (وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ? 49 آل عمران). وبعد أن مهد يوسف بهذه المقدمة لمعجزة تدل على صدقه ونبوته، شرع بالدعوة إلى الله والحق فقال:

(39): ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾: المراد بصاحبي السجن الساكنان فيه مع يوسف، وقد دعاهما بقوله هذا إلى توحيد الله، وأقام عليهم الحجة بقوله:

(40): ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء... ﴾: لا تنفع ولا تضر ولا تدل عبادتها إلا على الجهل وسفه العقل ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾: الذي يقول للشيء كن فيكون، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾: أي المستقيم على العقل والعدل والحق والخير وصالح الفرد والجماعة، في عقيدته وشريعته وجميع أحكامه.

(41): ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا﴾: وهو الساقي ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ﴾: سيده فرعون ﴿خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ﴾: وهو الخباز ﴿فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ﴾: وهذا واقع لا محالة ﴿قُضِيَ الأَمْرُ﴾: قد بتّ، وانتهى حكمه.

(42): ﴿وَقَالَ ? يوسف - لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾: متى رجعت إلى قصر فرعون فقلله : إن يوسف سجن من غير محاكمة أو سؤال ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾: عاد الساقي إلى القصر، ولكنه نسي في زحمة أعماله أن يذكر يوسف عند فرعون ﴿فَلَبِثَ ? يوسف - فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾: قال الشيخ الطبرسي: أصح الأقوال أنه لبث في السجن سبع سنين.

(43): ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى... ﴾: رأى فرعون رؤيا عجيبة غريبة هالته وحيرته، رأى سبع بقرات هزيلات تأكل سبع بقرات سمان! ما هذا؟ بقر يأكل بقر، وفوق ذلك الضعيف الهزيل يأكل القوي السمين؟ وأيضًا سنابل يابسات تلتوي على سنابل خضر في حقل واحد! وهذا مدهش ومحير، فدعا فرعون رجال حاشيته وكهنة دولته، وقص عليهم ما رأى، وسألهم عن التأويل فلم يعرفوا واعتذروا بأن رؤياه:

(44): ﴿ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾: مختلطة وملتبسة لا يمكن تفسيرها بحال. وعندها تذكر يوسف الساقي الذي أُعيد إلى وظيفته، وأوصاه يوسف أن يذكره عند ربه، وإليه أشار سبحانه بقوله.

(45): ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا﴾: وهو الساقي ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾: تذكر بعد مدة: ﴿أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾: أرسلوني إلى يوسف الصديق. فأرسلوه إليه ولما جاء إلى السجن قال:

(46): ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ... ﴾: وقص عليه رؤيا فرعون.

(47): ﴿قَالَ ? يوسف- تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾: على دأبكم وعادتكم في الزراعة ﴿فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾: تزرعون سبع سنين متوالية، وتكون هذه السنين خصبة طيبة، وهي المشار إليها بالبقرات السمان والسنابل الخضر، وابقوا الحب في سنبله ليكون أبعد عن الفساد إلا المقدار الذي تأكلون مع مراعاة الكفاف وسد الحاجة الضرورية إدخارًا للسبع الشداد.

(48) ? (49): ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾: تخزنون وتدخرون، والمعنى أن السنين المخصبة تعقبها سنين مجدبة، فتأكلون كل ما ادخرتم، ولا يبقى إلا القليل للبذر ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾: ثم بشرهم يوسف بأنه بعد الجدب سبع سنوات يأتي عام خصب، ينزل الغيث وهو المطر، فينبت الزرع وينمو الشجر، ويعصر الناس الفواكه والثمر خمرًا وزيتًا وأنواع الأشربة والدهون، وهذا الإخبار بالغيب معجزة ظاهرة قاطعة لكل شك وريب في نبوة يوسف. عاد الساقي أل الملك فرعون، وأخبره بما قال يوسف، فرأى فيه العلم والحكمة.

(50) ? (51): ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ... ﴾: ولكن يوسف البريء الصديق رفض طلب الملك، وأبى أن يخرج من السجن في ظلال الشك من حوله حتى عند الملك، وأصر على إعلان براءته قبل كل شيء، ولذا قال لرسول الملك: ارجع إليه، وقل له: فليحقق مع النسوة، ويسألهن عن شأني وِشأنهن، فأحضر الملك النسوة وبدأ التحقيق، فاعترفن ببراءة الصديق القديس و﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾: وما أبعد ما بين موقفها هذا، وموقفها الأول الذي قالت فيه لزوجها: (ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) وأنصحك أيها القارئ أن تنظر ما ذكرناه حول قولها هذا لزوجها، وتقارن بينه وبين موقفها الأخير، لتعلم إن الإنسان الفرد لا ضابط له على الإطلاق، وأنه يتقلب ويتحول تبعًا للظروف، فهو في بعضها معتد أثيم، وفي آخر رؤوف رحيم تمامًا كالماء يصبح بخارًا أو ثلجًا تبعًا للبيئة الملائمة، وإذن من الحمق والرعونة أن نحدد ونحكم على الفرد بلا قيد وشرط إنطلاقًا من مشهد واحد، ونتجاهل خصائصه الكامنة التي لا تبرز للوجود إلا بالمحك والمفاجآت والمخبآت.

(52): ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾: للمفسرين أقوال حول هذه الجملة، وذهب ابن كثير إلى أنها من كلام امرأة العزيز، تعترف على نفسها ليعلم زوجها أنها لم تخنه مع أي إنسان في غيبته سوى أنها راودت يوسف فامتنع، وما حدث منها إلا هذا الذنب ليعلم زوجها أنها بريئة. وليس هذا ببعيد عن السياق ولا عن الاعتبار، فإن الزوجة تهتم قبل كل شيء أن تكون نزيهة عند زوجها.

(53): ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي﴾: لا لشيء إلا لأني إنسان له نفس قد تهفو إلى ما لذ وطاب سيئًا كان أم حسنًا، ولا تسلم من عمل السوء إلا بشيء من رحمته تعالى وتوفيقه، وقد تجاوزني هذا التوفيق حين راودت يوسف، لأني كنت عن عمله في عمى عن الله ونهيه.

(54): ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾: بيوسف ﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾: أجعله خاصًا لي وموضع ثقتي ومشورتي، وحضر يوسف ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾: الملك ورأى منه رجاحة العقل وغزارة العلم ﴿قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾: ذو مكانة وأمانة على كل شيء. ثم قال الملك ليوسف: أيها الصديق نقلوا لي ما قلته في تأويل رؤياي، وأُحب أن أسمع ذلك منك، فشرع يوسف في وصف ما رأى الملك وشاهد فتعجب الملك ودهش، ثم قال له يوسف: عليك أن تزرع كثيرًا في السنوات المخصبة وتبني العديد من مخازن الحبوب، فيأتيك الناس من كل صوب، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد. فقال الملك من لي بهذا؟.

(55): ﴿قَالَ ? يوسف - اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾: أنا أيها الملك أُنقذ البلاد من شر المجاعة المقبلة لخبرتي الإقتصادية وإخلاصي وأمانتي، وكان يوسف قد مهد إلى الثقة به وبأمانته على أرواح العباد وأقوات البلاد، بما طلبه من الملك من إعلان براءته على رؤوس الأشهاد كما قد سبقت الإشارة، ولولا هذا الإعلان لحاول حواشي الملك الطعن فيه كما هو المعتاد مستغلين الشبهة التي أدت إلى سجن يوسف حتى ولو كانت الشبهة كاذبة والسجن جورًا وظلمًا، فوافق الملك على اقتراح يوسف وجعله أمينًا مطلقًا على خزائن المال والاقتصاد، وأصبح الرئيس الثاني للبلاد بعد الملك، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله:

(56): ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا﴾: يختار النزول في أي جزء منها، ويسيطر عليها ﴿حَيْثُ يَشَاء﴾: بلا معارض ومنازع. وقد استطاع يوسف الصديق بعون الله أن ينقذ البلاد من الكارثة، ويوازن بين الانتاج والاستهلاك والإدخار مما يعجز عن مثله رجال المال وأقطاب الاقتصاد في هذا العصر، ولا سر لذلك إلا الأمانة والإخلاص والعناية الإلهية كما قال عز من قائل ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾: أي أن رحمته تعالى تصيب لا محالة من أخلص في قصده، وأحسن في عمله.

(57): ﴿وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾: وهل من شيء أزكى وأسمى من نعيم قائم دنيا وآخرة لا انقطاع لمدته ولا عفاء للذته؟.

(58): ﴿وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾: وصلت أخبار يوسف إلى البلاد المجاورة، ومنها أرض كنعان حيث يقيم يعقوب أبو يوسف وإخوته، فقال يعقوب لأولاده: يكاد الجدب يأتي على كل ما نملك، فاقصدوا عزيز مصر، لتبتاعوا منه القوت والطعام، وكان يوسف لا يعطي إلا حمل بعير توفيرًا للمؤن، فرحلوا جميعًا ما عدا أخاهم بنيامين، أبقوه عند أبيه يتعزى به ﴿فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾: عرفهم ولم يعرفوه، وأنى لهم بمعرفته، وقد ألقوه في غيابة الجب، وهذا سلطان كبير وخطير؟ وسألهم تمهيدًا للحديث عن أبيه ما الذي أقدمكم إلينا؟ قالوا: للميرة. قال: من أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان، وأبونا يعقوب نبي الله. قال: هل له أولاد غيركم؟ قالوا: كنا أثني عشر، فهلك أصغرنا في البرية، وبقي شقيقه، فاحتبسه أبوه يتسلى به. فأكرم يوسف وفادتهم، وأمر رجاله بخدمتهم.

(59): ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾: جهاز الإنسان: ما يحتاج إليه مسافرًا كان أو حاضرًا حيًا أو ميتًا، كل بحسبه، والمعنى بعد أن هيأ يوسف لإخوته ما جاءوا من أجله ﴿قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ﴾: في المرة الثانية حيث جاء ذكره من قبل في حديثهم مع يوسف ﴿أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾: أديت إليكم ما ترغبون، وكذلك أفعل حين تعودون.

(60): ﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ... ﴾: فلا تقربوا بلادي.

(61): ﴿قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾: نحرص ونجتهد لإقناع أبيه.

(62): ﴿وَقَالَ ? يوسف - لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ﴾: دسوا ما قدموا به من البضاعة عوضًا عن الطعام الذي أخذوه - في أمتعتهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا﴾: أي يعرفون هذه اليد الكريمة التي أعطت ولم تأخذ ﴿إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾: لعل إرجاع البضاعة إليهم يبعثهم إلى العودة إلينا، وهذا ما حدث كما تأتي الإشارة.

(63) ? (65): ﴿فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾: في المرة الثانية يشيرون بذلك إلى قول يوسف: وإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا... ﴾: ولا تخف عليه، فذكرهم بما قالوا من قبل: يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له ناصحون ﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ﴾: التي أمر يوسف بردها ووضعها في رحالهم ﴿رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾: أسرعوا إلى أبيهم فرحين و ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي﴾: وراء هذا الإكرام والإتمام ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾: نأتيهم بالميرة وهي الطعام زائدًا

﴿كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾: نحن بحاجة ماسة إلى الزيادة في الطعام لحمل أباعر لا بعير واحد لكثرة العيال وسوء الحال.

(66): ﴿قَالَ - لهم أبوهم- لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ... ﴾: أذن لهم بأخيهم بنيامين على أن يحلفوا بالعهود والمواثيق أن يرجعوه إليه سليمًا معافى إلا أن تنزل واقعة ليس لها دافعة ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾: واطمأن إليه ﴿قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾: حافظ وشهيد بيني وبينكم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه.

(67): ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ﴾: قال الشيخ الطبرسي وغيره من المفسرين: كان أولاد يعقوب ذوي جمال وبهاء وهيبة وأُبهة، فخاف عليهم النظرة، وليس هذا ببعيد عن عاطفة الأبوية، ولكن عاد واستدرك، وكما هو شأن الأنبياء والأتقياء وقال ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾: إن أراد بكم سوءًا فلا مرد له.

(68): ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم﴾: من الأبواب المتفرقة ﴿مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾: تمامًا كما قال لهم أبوهم: (وما أُغني عنكم من الله من شيء) حيث اتهموا بالسرقة، وأخذ منهم أخوهم بنيامين، ورجعوا إلى أبيهم من دونه منكسرين ﴿إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾: ولا حاجة له من الدنيا إلا سلامة يوسف وأخيه بنيامين، واجتماعه بهما قرير العين، وقد أتم الله له ما أراد على أحسن حال ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾: ضمير أنه يعود إلى يعقوب، وكل نبي يعلمه الله من لدنه علمًا، ويؤدبه بآدابه، ومنها الصبر الجميل على البلاء، والتوكل عليه تعالى في السراء والضراء، وعدم اليأس من رحمته، وكل هذه الخلال والخصال توافرت في يعقوب.

(69): ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ﴾: ومعهم شقيقه بنيامين رحب بهم وأكرمهم ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾: اختلى ببنيامين و ﴿قَالَ - له - إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ﴾: يوسف فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾: فلا تحزن ولا تأسف ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: بي وبك فيما مضى، فإن الله سبحانه قد أحسن إلينا وجمع شملنا، ولا تخبرهم بما أعلمتك.

(70): ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾: أعطاهم الطعام الذي جاءوا من أجله ﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾: بنيامين، والسقاية لغة: وعاء يسقى به، والمراد بها هنا: الصواع بدليل قولهم: (نفقد صواع الملك، والصواع والصاع بمعنى واحد ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: نادى منادٍ ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾: القافلة ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾: فدهش أولاد يعقوب لهذه التهمة.

(71) ? (73): ﴿قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾: ضمن المنادي حمل بعير من الطعام لمن يرجع الصاع من تلقاء نفسه ﴿قَالُواْ - أولاد يعقوب - تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾: ويوسف يعلم بأنهم ليسوا بسارقين، ولكنه أراد أن يفصل شقيقه بنيامين عنهم، ويبقيه عنده، ولا يمكن ذلك إلا بمبرر عند إخوته، وكان من شريعة آل يعقوب استرقاق السارق، فدس غلمان يوسف بأمر منه الصاع برحل أخيه، وقال للمنادي أذن (يا أيتها العير..).

(74): ﴿قَالُواْ - غلمان يوسف - فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ﴾: الخطاب لأولاد يعقوب، والقصد من هذا السؤال أن يعترفوا صراحة بهذا الحكم:

(75): ﴿قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾: والجملة الثانية توضيح وتوكيد للجملة الأولى، وهذا اعتراف صريح من أولاد يعقوب بأن السارق يؤخذ عبدًا أو أسيرًا، وعليه يسوغ ليوسف أن يأخذ أخاه ويضمه إليه، ولا يحق لهم أن يمانعوا ويعترضوا.

(76): ﴿فَبَدَأَ﴾: المفتش تورية ﴿بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ﴾: فأخذه منهم بحكم اعترافهم وإلزامًا لهم بما يدينون ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾: أي أوحينا إليه بهذا التدبير كي لا يعترض أولاد يعقوب إذا أخذ يوسف أخاهم أسيرًا، وسمي كيدًا لمكان التورية، وهي جائزة شرعًا، شريطة أن لا تحلل حرامًا، ولا تحرم حلالاً ﴿مَا كَانَ﴾: يوسف ﴿لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾: وهو فرعون مصر، لأن عقوبة السارق في شرعه وقضائه السجن أو الضرب، ولا يريد يوسف مكروهًا لأخيه، فأوحى الله إليه بهذا التدبير ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء﴾: درجات بالعلم والأخلاق، لا طبقات بالاستغلال والثروات.

(77): ﴿قَالُواْ﴾: إخوة يوسف ﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾: يعنون يوسف! ومن قبل هذه الفرية قالوا: أكله الذئب، وقالت امرأة العزيز: أراد بها السوء! وغريبة الغرائب أن المفسرين أخذوا بتهمة إخوة يوسف له، واختلفوا في تعيين الشيء المسروق أو المتهم به حتى بلغت أقوالهم خمسة فيما رأيت، وأطرفها قول بعض الصوفية: إن يوسف سرق قلب أبيه ﴿فَأَسَرَّهَا﴾: أي مقالتهم: (سرق أخ له) ﴿يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾: مر فيلسوف بسفيه فشتمه، فسكت ولم يلتفت إليه، وحين سئل الفيلسوف عن تجاهله قال: لا أتوقع من الغراب تغريد البلابل ﴿قَالَ﴾: يوسف ﴿أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾: من اتهامي بالسرقة، وإنها بكم أحق وألصق، والمؤمن الحق لا يزعجه الافتراء الكاذب ما دام على ثقة من عدل الله وعلمه، وهل من درس أبلغ وأنفع من قول الرسول الأعظم (ص): (ان لم يكن بك غضب علي فلا أُبالي).

(78): ﴿قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا... ﴾: بعد إلزامهم بأن العدل عندهم يقضي باسترقاق أخيهم التجأوا إلى الرجاء أن يرحم ويصفح أو يأخذ الفداء والبدل.

(79): ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ﴾: نعوذ به ونلوذ ﴿أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ﴾: فهو وحده المطلوب دون سواه.

(80): ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا﴾: بعد اليأس من تنازل العزيز عن بنيامين، انفرد أولاد يعقوب عن الناس وتناجوا فيما بينهم: ماذا يصنعون؟ وأي شيء يقولون لأبيهم ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ.. ﴾: سنًا، قد استحلفكم أبوكم أن تردوا عليه بنيامين، فماذا تقولون له بعد أن فجعتموه بيوسف من قبل، فهو لا يصدقكم، وإن نطقتم بالصدق.

(81): ﴿ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ﴾: واخبروه بما حدث ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾: ما توقعنا أن يحدث ما حدث حين أعطيناك العهود والمواثيق.

(82): ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾: اسأل أهل مصر فكلهم سمعوا حديث السرقة ﴿وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾: وأيضًا اسأل القافلة التي جئنا معها، قالوا هذا وأكثر من هذا لأبيهم، فقال لهم عين ما قال حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب.

(83): ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: وهل من وسيلة في هذا الموقف وأمثاله إلا الصبر.

(84): ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾: تجدد حزنه على يوسف، وترك الناس جانبًا منصرفًا إلى همه وحزنه ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ﴾: أُصيبتا بالقرحة ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾: لا يظهر حزنه لأحد، بل يتجرعه ويتجلد على حساب جسمه وأعصابه.

(85): ﴿قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾: ما لك لا تفارق ذكر يوسف في ليل ونهار ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾: مريضًا ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾: مع الأموات, وأية جدوى من الحزن والبكاء؟ فارفق بنفسك وبأهلك، وبالمناسبة نشير إلى أن الله سبحانه أدبنا نحن أُمة محمد (ص) بآداب القرآن الكريم، وأمر أحدنا إذا أُصيب بمصيبة أن يقول: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك المهتدون ? 157 البقرة).

(86): ﴿قَالَ﴾: يعقوب ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ﴾: لا إلى الناس، والمراد بالبث هنا الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه، فيبثه وينفثه بلسانه ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: أرجو من الله كل خير، وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة، ولكن لا أعلم أين هو؟ وكيف حاله؟ ولذا قال لبنيه:

(87): ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ﴾: تعرفوا واستعلموا ﴿مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ﴾: أي من فرجه ﴿إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾: والجاهلون، لأن المؤمن لا ييأس، وأيضًا العاقل لا ييأس، بل يحاول ويناضل، وليس تاريخ الإنسانية إلا جهادًا ومحاولة مستمرة، والكسول الجبان هو الذي يقعد مع القواعد، ويلقي اللوم والمسئولية على الحظ أو على الذين من حوله، أما الشجاع الطموح فيسير إلى آخر الشوط مستعينًا بالله وجهاده والصبر على كل شدة ومنحة، وهذا هو سبيل الناجحين والخالدين أوصى بنيه أن يعودوا إلى مصر مرة ثالثة، فسمعوا ورجعوا إلى العزيز.

(88): ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ﴾: رديئة بالامس طغوا على يوسف وبغوا، وألقوا به في غيابة الجب كأنه حصاة أو نواة، واليوم يقفون بين يديه يتذلّلون ويخضعون متوسلين: ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾: فيا له من درس لمن يستصغر الضعفاء، ويتحرك بكبرياء؟ وهذا كتاب الله والعيان والتاريخ من فرعون إلى نابليون، إلى هتلر، كل أولاء يقولون: ما من أحد تصور نفسه كبيرًا أو عظيمًا إلا وأصبح بعد حين أحقر من حقير.

(89): ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾: هل علمتم: عتاب يحمل في أحشائه النصح والرحمة، وفي الوقت نفسه ينفث فيه المصدور همه، ويشفي غيظه، وبهذا الموقف وأمثاله يثبت المرء قيمته كإنسان يستحق التبجيل والاحترام.

(90): ﴿قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ﴾: قالوا هذا وانتظروا الجواب، فكانت هذه المفاجأة التي لا تخطر لهم على بال: ﴿قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا﴾: بما ترون من النعم وجمع الشمل ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾: وكذلك عباد الله يشكرون ويقدرون من أحسن وعمل صالحًا إلا حقودًا عيّابًا يكره الطيبين لسوء طويته، ويكرهونه لسوء سيرته.

(91): ﴿قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا﴾: علمًا وعقلاً، وكمالاً وجمالاً، وأخيرًا بالجاه والسلطان... والحر الكريم يعترف بالفضل عن سجية وأريحية، أما الحقود الحسود فيموت بغيظه، ولا يعترف لأحد بمكرمة وفضيلة إلا لعلة أسرة قاهرة.

(92): ﴿قَالَ﴾: يوسف ﴿لاَ تَثْرَيبَ﴾: لا عقاب ولا تأنيب ﴿عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ﴾: نطق يوسف بكلمة العفو من مركز القوة والسلطان ، لأنه لا يعمل لنفسه، بل للإنسانية جمعاء، وهكذا رجل الحق والمبدأ يخالف الهوى ويتساهل في أشياءه الخاصة، فإن وقع ظلم أو حيف إلى الدين أو الآخرين ثار كليث الغاب، وما أقرب الشبه بين موقف يوسف من إخوته وبن موقف الرسول الأعظم (ص) من الطلقاء، وهم أعداؤه، حيث قال لهم: فد عفوت عنكم.

(93): ﴿اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا﴾: قال بعض المفسرين: هو قميص موروث من إبراهيم الخليل. وقال آخرون: بل جيء به يوسف من الجنة. وقال بعض الصوفية: هو الهيئة النورانية! ولا مصدر لهذه الأقوال إلا الرجم بالغيب. والعاقل يستخلص العبرة من الفرق بين الولد العاق العقور كإخوة يوسف حيث فعلوا ما فعلوا بأعز الخلق على أبيهم، وجاءوه. بالقميص الأول الذي جرى عليه الأذى والعمى، وبين الولد البار الشكور كيوسف وقميصه الثاني الذي كان لأبيه حياة وشفاء وسعادة وهناء.

(94): ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾: خرجت من مصر متجهة إلى يعقوب ﴿قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾: تسفهون رأيي، وغير بعيد أن يكون هذا الوجدان والإحساس بريح يوسف بالقلب لا بالأنف، فكما يحس الإنسان بأنفه وفمه وبصره وسمعه يحس أيضًا من الأعماق، بخاصة إذا كان من الأتقياء، وبصورة أخص الرسل والأنبياء.

(95): ﴿قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾: لقد مات يوسف، ولا يعود ما قد ولّى.

(96): ﴿فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ﴾: صدقت نبوءة يعقوب، وتحققت أمنيته، و ﴿قَالَ﴾: للذين يئسوا من رحمة الله: ﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: يعلم من الله أنه مع المتقين والصابرين، ولا ييأس من فضله ورحمته إلا جاهل أو جاحد.

(97): ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾: ندموا على ما كان، وتابوا لله، واستشفعوا بأبيهم.

(98): ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ﴾: لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ﴿الرَّحِيمُ﴾: بعباده المستحق منهم وغير المستحق.

(99): ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾: فضمهما إلى بيته وعائلته، وأنزل إخوته في مكان آخر، وفي قاموس الكتاب المقدس، أن اسم أُم يوسف راحيل، وهو اسم عبري معناه شاة، وأنها ماتت عند ولادة بنيامين. وعليه فالمراد بأمه في الآية امرأة أبيه، وقيل: إنها خالته أُخت أُمه ﴿وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ﴾: أي امكثوا معي في مصر، واتخذوها وطنًا لكم، ولا يسوغ أن تبقى كلمة الدخول هنا على ظاهرها حيث لا يستقيم عجز الكلام مع صدره إذ يصبح المعنى هكذا بعد أن دخلوا مصر قال لهم: ادخلوا مصر، وجاء في الأخبار أن فرعون أقطعهم أرضًا خصبة، وظلت سلالة يعقوب فيها إلى عهد موسى.

(100) _ (101): ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾: أجلسهما على سرير الملك ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا﴾: تكريمًا لا تعبدًا، لأن العبادة لا تسوغ إلاَّ لله ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾: يشير بهذا إلى قوله في أول السورة: يا أبتي إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ... ﴾: يعدد آلاء لله حامدًا شاكرًا، وفي نهج البلاغة لم تعظوا نعمة الله على أحد إلا زاد حق الله عليه عظيمًا ﴿أَنتَ وَلِيِّي﴾: تتولى أمري وتقوم به ﴿فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾: لا تمتني إلاّ وأنت عني راض، وهذه اللحظة هي الأصل والأساس، وفيها يتقرر المصير.

(102): ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾: الخطاب لمحمد (ص) والمعنى أن ما أخبر به محمد عن يوسف لم يشاهده بنفسه أو يقرأه في كتاب أو يسمعه من إنسان، وإذن فهو وحي من الله دال على صدقه ونبوته ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾: ما كنت حاضرًا مع إخوة يوسف ﴿إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ﴾: عزموا على إلقائه في الجب ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾: بيوسف ويكيدون له، ما كنت حاضرًا معهم وعندهم، ولكن الله سبحانه أخبرك بذلك وأوحى به إليك، لتخبر عنه بدورك، ويكون إخبارك هذا حجة لله ولك على من جحد برسالتك.

(103): ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾: اجتهد محمد (ص) وحرص كل الحرص على دعوة الناس إلى الحق، وأقام الأدلة الوافية الكافية على صدقه، فأبى أكثر الناس أن يؤمنوا ويصدقوا كما قال سبحانه: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل فأبى أكثر الناس إلاّ كفورًا ? 89 الإسراء) وإذن فالذنب ذنبهم لا ذنب محمد (ص) وأدلته، وفوق ذلك أن رسالة محمد أثبتت على مدى القرون وإلى آخر يوم، سمّوها وكمالها، ومع هذا بقيت الكثرة الكاثرة على جحودها، والسر أن الإنسان يقاد من شهوته ومعدته لا من عقله وفطرته كما أشرنا أكثر من مرة.

(104): ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾: وهنا يكمن سر الإعراض عنه! إنه دعاء إلى الحق، والحق ثقيل إلاّ على الأبرار وهم أقل من القليل.

(105): ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾: كأن الله سبحانه يقول لنبيه الكريم، هون عليك ولا تحزن إذا كفروا بك وبما تملك من الأدلة والبراهين، فإني خلقتهم من لا شيء ورزقتهم، وأسبغت عليهم نعمتي ظاهرة وباطنة، وأقمت لهم الأدلة على وجودي في أنفسهم وفي الآفاق، ومع ذلك جادلوا وعاندوا وجحدوا.. فأمهلت وسترت وما عاجلت، فعلام تحزن أنت وتبتئس بما يفعلون؟ وفي نهج البلاغة: (فوالله لقد ستر حتى كأنه قد غفر).

(106): ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾: من جحد بالله أكثر ممن آمن به، وأكثر المؤمنين به هم والجاحدون بمنزلة سواء، لأنهم يعبدون مع الله إلهًا آخر لا يوحدون، والشرك في حكمه تعالى أعظم من الإلحاد، وللشرك أشكال وألوان: من عبادة الأصنام إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، ومن الرياء إلى عبادة المال...

(107): ﴿أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ﴾: أي كارثة تغمرهم وتبيدهم.

(108): ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي﴾: أي طريقتي وسنتي، وهي ﴿أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾: والدعاء إلى الله تعالى دعاء إلى العلم والعقل والحق والعدل في حياة الناس أفرادًا وجماعات. هذا هو الإسلام في جوهره، فهل يفتقر إلى الدليل على صحته وصدقه؟ وأي عاقل يقول: ما الدليل على وجوب العمل بالحق والعدل وإتباع العلم والعقل؟.

(109): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ﴾: يا محمد ﴿إِلاَّ رِجَالاً﴾: لا نساء ولا ملائكة ﴿نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾: أي كسائر الناس معروفين بأنسابهم وبلادهم وأخلاقهم ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ... ﴾: تقدم في الآية 137 من آل عمران و 11 من الأنعام.

(110): ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾: من إيمان المشركين، وعلموا علم اليقين بأنه لا أحد يؤمن إلاّ من قد آمن من قبل ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾: أي بعد أن طال أمد العذاب ظن الرسل أن بعض أتباعهم الذين آمنوا بهم قد ارتابوا بما وعد به أنبياؤهم ﴿جَاءهُمْ نَصْرُنَا﴾: بعد إن طال الانتظار وضاق الحال، وظن الناس بالله وأنبيائه الظنون جاء الفرج، قال الإمام علي (ع): عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرجاء.

(111): ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾: قص سبحانه على نبيه أخبار الأنبياء السابقين، ومنها خبر يوسف مع إخوته، وفي هذه القصص والأخبار العديد من الفوائد الجديرة بالتفكير والتدبير، منها أن العاقبة للصابرين المتقين، وأن دائرة السوء تدور على الطغاة المفسدين، ومنه أن هذه القصص حجة كافية في الدلالة على نبوة محمد (ص) لأنها إخبار بالغيب، وغير ذلك ﴿مَا كَانَ﴾: هذا القرآن ﴿حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾: من دون الله ﴿وَلَـكِن﴾: كان ﴿تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: من كتب سماوية ﴿وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ﴾: من العقيدة وأدلتها، والشريعة وأحكامها، والأخلاق وتعاليمها ﴿وَهُدًى﴾: لمن طلب الهداية ورغب فيها ﴿وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾: ولم يلبسوا إيمانهم بحقد وظلم، وحسد ولؤم. وهو سبحانه المسؤول أن يعاملنا بلطفه ورحمته بالنبي وعترته، عليه وعليهم أفضل الصلوات.