سورة يونس
(1): ﴿الر﴾: تقدم نظيره في أول البقرة ﴿تِلْكَ﴾: إشارة إلى آيات هذه السورة أو ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾: على وجه العموم ﴿الْحَكِيمِ﴾: الناطق بالحكمة والموعظة الحسنة.
(2): ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾: ليست المسألة عند الذين أنكروا الوحي والنبوة مسألة إعجاز وأن الله أعلم حيث يجعل رسالته كلا، وإنما هي مسألة حسد (أبشرًا واحدًا منا نتبعه ? 24 القمر... ما نراك إلا بشرًا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ? 27 هود) ﴿أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾: يعيش الناس في الجهل والرافة والأوهام كما نرى بالحس والعيان، وبالخصوص فيما يعود إلى الدين والعقيدة، ولا يسوغ على حكمة الله سبحانه أن يترك عباده في الضلالة والجهالة بلا رادع وهاد، ولا على عدله أن يعاقب بلا بيان ﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾: أي كان سعيهم في الدنيا صادقاً ومشكورًا عند الله ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾: ولماذا ساحر؟ أبدًا لا لشيء إلا لأن الله اختاره من دونهم، ولو نزل الوحي عليهم لكان حقًا وصدقًا.
(3): ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾: تقدم في الأعراف الآية 54 ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾: أمر الكون، لا لشيء فيه إلا وراءه قضاء وتقدير بكلمة (كن) أو بالنواميس والعناصر التي أودعها الله سبحانه في الطبيعة ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾: والأولى لا شريك، وخير شفيع عنده تعالى كف الأذى عن عباده وعياله، وهل تغفر أنت وتصفح عمن يسيء إلى أهلك وعيالك ؟.
(4): ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾: للحساب والجزاء والمصلحة العامة تستدعي ذلك، لأن من ينكر البعث يرى في الدنيا فريسة الغانم، ومن الحماقة عنده أن يضيع أية فرصة للسلب والنهب إلا إذا ضمن السلامة وأمن العقاب، أما المؤمن بالله واليوم الآخر حقا ًوواقعا فيقبل على عمله وهو على يقين من فوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيداً 30 ? آل عمران) أنى أ ﴿وَعْدَ اللّهِ حَقًّا﴾: كل أقواله تعالى وأفعاله حق لا وعده فقط (ذلك بأن الله هو الحق) ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: وفي نهج البلاغة: عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... ﴾: حيث لا يستقيم في عدله تعالى أن يستوي مصير الصالح والطالح.
(5): ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا﴾: نور القمر من الشمس، ولذا قيل: الضياء أقوى من النور والآية لم ترد لبيان شيء من ذلك، بل تشير إلى قدرة الله وعظمته ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾: أي قدر القمر وأحكم صنعه، وجعل له منازل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل تماماً كغيره من سنن الطبيعة، والهدف من ذلك ما أشار إليه سبحانه بقوله ﴿لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾: لتعلموا الأوقات التي تنظم وظائف الحياة بشتى نواحيها، وأن هذا التنظيم خاضع للتدبير الإلهي ﴿مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾: الذي هو عين الواقع والحكمة وإلا لعجز العقل البشري أن يكتشف شيئًا من أسرار الطبيعة، ويخترع أحقر الآلات والأادوات فضلاً عن سفينة البر والبحر والفضاء بل لم يكن هناك كون على الإطلاق.
(6): ﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ... ﴾: هذه الآية ونظائرها تخاطب أرباب العقول وتقول لهم: انظروا إلى الظواهر الكونية بشتى أنواعها، واربطوا بين الأسباب والمسببات لتصلوا إلى السبب الأول. وتقدم في الآية 164 من البقرة.
(7): ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا﴾: ويقولون: من مات فات ﴿وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا﴾: يضحكون إلى الدنيا، وتضحك على عقولهم الغارقة في الشهوات والملذات ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا﴾: الناطقة بوجود الخالق وعظمته ﴿غَافِلُونَ﴾.
(8): ﴿أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾: هذا هو الهدف الأساس من يوم القيامة: أن توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
(9): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾: أي يثيبهم بسبب إخلاصهم في أعمالهم الصالحة النافعة. وفي الحديث: يقول سبحانه يوم القيامة: اليون أضع نسبكم، وأرفع نسبي... أين المتقون.
(10): ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمّ... ﴾: دعاء أهل الجنة: تسبيح وتقديس، وتحيتهم في دار السلام غبطة ومحبة، أما الحمد فهو على العتق من النار اولاً وقبل كل شيء.... أبدًا ما خير بخير بعده النار.
(11): ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾: قال المشركون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. فقد استعجلوا وقوع الشر تماماً كما يستعجلون الخير، ولكن الله سبحانه لم يستجب إلى طلبهم، لحكمة بالغة، وهي أن بعضهم أسلم وأحسن، وخرج من صلب آخرين كثير من المؤمنين ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون﴾: العمه: عمى البصيرة، وكل نافر من الحق، مكابر للنصح يترك وما اختار لنفسه حتى يلقى ربه، ولا عدوان عليه في الدنيا إلا أن يعتدي، هذي هي شريعة القرآن والانسان العارف المنصف. فهل يتعظ ويعتبر الذين يدعون إلى طاعة الله بالحماقة والموعظة السيئة ؟.
(12): ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾: مضطجعًا ﴿أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا﴾: لو نزل أدنى مكروه بمن استعجل الشر لفقد الصبر، ولجأ إلى الله خاضعاً متذللاً في شتى حالاته لنكشف عنه ما نزل به ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾: أبداً لا عهد له بمن استجار به واستجاب لتضرعه! وهكذا اللئيم يجحد الجميل صلافة، وينكر المعروف بكل وقاحة.
(13): ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ... ﴾: تقدم في الآية 6 من الأنعام.
(14): ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ... ﴾: استخلفناكم في الأرض من بعد القرون الأولى، لننظر: هل تعملون خيرًا أو شرًا، فنعاملكم بما تستحقون.
(15): ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا﴾: بكتاب آخر ﴿أَوْ بَدِّلْهُ﴾: أو أبقه ولكن احذف منه ما نكره، وبالإجمال قال المشركون لرسول الله: كيف نؤمن بهذا القرآن وهو ينادي بالتوحيد والمساواة، ويدعو إلى التجديد وترك العادات، ائت بما نريد ونهوى، وعندئذ نؤمن بك وبه... وهكذا المفسد المضلل يتخذ من هواه مقياساً للحق والإيمان، وكل ما عداه زور وهذيان ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾: هذا هو النبي في واقعه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
(16): ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ﴾: ولا أعلمكم الله به، والمعنى الله سبحانه هو الذي أنزل علي القرآن، وأمرني أن أبلغه للعالمين ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وفيه كل الطاقات والمؤهلات لتحقيق ذلك، ويستحيل على مخلوق أن يأتي بمثله، بل وعلى كل الخلائق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا... ومن أجل هذا نؤمن بأن القرآن من وحي السماء، ومعجزة خاتم الأنبياء ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾: أن من عاش في قومه أربعين عامًا من قبل أن يوحى إليه لم يقرأ فيها كتابًا أو يلقن من أحد درسًا، وحياته كلها صدق وفضيلة وأمانة - فهو أبعد الناس عن الكذب والافتراء.
(17): ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾: نسب إلى دين الله ما هو بريء منه ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾: أنكر من دين الله ما هو منه في الصميم، وهذي البدعة التي قال عنها رسول اللع الأعظم (ص): (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
(18): ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾: كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة يعبدون العزى ومناة وهبل... ﴿وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾: إفكًا وزورًا ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ﴾: أتخبرون الله بأن لديه شفعاء لا يعلم عنهم شيئا، وهو بكل شي عليم؟ وإذن إنكم لمفترون.
(19): ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ﴾: كل الناس يولدون على الفطرة النقية والسجية النقية، ومنهم من يستمر على فطرته التى فطره الله عليها بإرشاده من عقله السليم أو من رسول كريم، ومنهم من يزوغ عنها لسبب أو لآخر. ويعبد حجرًا أو كوكبًا أو إنسانًا أو ما أشبه، فيقع الخلاف بين هؤلاء تبعاً لتعدد المعبود واختلافه، وتقدم في الآية 213 من البقرة ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾: وهي تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾: في الدنيا وعرف المحق من المبطل، ولكن سبق في حكمه تعالى وحكمته أن تكون الدنيا عملاً بلا حساب، والآخرة حساباً بلا عمل.
(20): ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾: على شروطهم وأهوائهم ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ﴾: والأمر بيده وحده، ولا أملك شيئًا مما تقترحون وغيره، وسيجيبكم سبحانه عما سألتم واقترحتم ﴿فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾: لعقابكم على هذا التمادي في الغي والضلال.
(21): ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾: للمكر معانٍ، والمراد به هنا ترك الشكر على النعمة، والمعنى أن الله سبحانه إذا جعل عسر الإنسان يسرًا نسي الله وأنه تعالى هو الذي وفق ويسر الأسباب، بل يعتد بنفسه، وينسب نجاحه إلى ذكائه ونشاطه تمامًا كما قال قارون: إنما أوتيته على علم عندي ﴿قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾: والمراد بمكره تعالى عقاب الماكرين على مكرهم تسمية للمسبب باسم سببه، وتقدم في الآية 54 من آل عمران.
(22): ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾: إن الله سبحانه يمنح عبده العقل والإرادة والقدرة، وبالعقل يميز، وبالإرادة يختار، وبالقدرة يفعل، وعلى هذا الأساس ساغ أن تنسب إليه أفعال العباد بالكامل ﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم... ﴾: في الآية السابقة أخبر سبحانه عن وضع الإنسان إذا انتقل من عسر إلى يسر، وفي هذه الآية أخبر عن وضع الإنسان وحاله إذا انتقل من يسر إلى عسر، وأنه في الحال الأولى ينسى الله ولا يحمده على آلائه ونعمائه، لأنه في نشوة الفرح من هبوب الريح المواتية له، وفي الثانية يستغيث بالله جزعًا ومنقطعًا إليه، ويكثر الأيمان والمواعيد إذا صرف عنه السوء، أن يخلص لله ويشكر ويذكر ولا بأس في شيء من ذلك شريطة أن يفي بالعهد ولكن:
(23): ﴿فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: استجاب سبحانه لدعائهم، ونكثوا ولم يستجيبوا بل انقادوا للشهوات والملذات يبغون ويفسدون... ولا تفوتنا الاشارة إلى أن هذه الآية توحي بأن وجود الله مستقر حتى في كيان الملحد وفطرته، وأن هذا الوجود الإلهي يتجلى بوضوح حين تضيق بالملحد مسالك النجاة، وتسد في وجهه المنافذ، لأن الحجب تطرح بكاملها في هذه الساعة تماماً كما هو الشأن عند نهاية الأجل ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم﴾: من سل سيف البغي قتل به.
(24): ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... ﴾: شبه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات الأرض في جفافه بعد خضرته ونضرته ﴿حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾: إذا نزل الماء على الأرض من السماء تصبح مثل العروس إذا لبست الثياب ن كل لون، وتزينت بالزينة من كل نوع ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ﴾: متمكنون من إنتاجها ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا... ﴾: بالهلاك، وتبخرت الأحلام.
(25): ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾: إلى الإسلام، لأنه اسم سلامة، وجماع كرامة.. فيه شفاء المشتفي، وكفاية المكتفي كما في الخطبة 150 من خطب نهج البلاغة.
(26): ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى﴾: لكل من أحسن وأصاب في رأي أو عقيدة وفي قول و فعل وفي قصد أو هدف - فله المثوبة الحسنى أجرا وجزاء ﴿وَزِيَادَةٌ﴾:على ما يستحق ﴿وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾: غبرة فيها سواد، وهي هنا كناية عما يظهر في الوجه من الخوف والهلع ﴿وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾: الذين جاهدوا وصبروا وأخلصوا دينهم وعملهم لله وحده.
(27): ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾: ولا زيادة، بل (ويعفو عن كثير - 15 المائدة) ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾: تلحق أو تلصق بالمسيئين ذلة الفضيحة ﴿مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾: يمنع عنهم سوء العذاب ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ يحشر الله سبحانه المسيئين يوم القامة بوجوه كالليل الأيهم.
(28) - (29): ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾: من أحسن ومن أساء ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ﴾: إلزموا مكانكم ﴿أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ﴾: وانظروا: هل يملكون لكم أو لأنفسهم نفعًا، أو يدرأون عنكم أو عنهم ضرًا ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾: أي أنه تعالى يميز يوم الحساب بين الخلائق، ويظهر كل واحد على حقيقته. وعندئذ يتبين للمشرك أن الأمر كله لله وحده لا شريك له ﴿وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾: بل كنتم تعبدون الشيطان الذي أمركم أن تتخذوا لله أندادًا.
(30): ﴿هُنَالِكَ تَبْلُوا﴾:تجد ﴿كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ﴾: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
(31): ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء...فَسَيَقُولُونَ اللّهُ﴾: وإذا اعترف المشركون بهذه الصراحة أن الله هو الخالق والمالك، والمحيي والمميت والمدبر والمقتدر، فإذن علام النزاع والصراع بينهم وبين أنبياء الله ورسله؟ الجواب: أن الذين صدوا عن دين الله وحاربوا الرسل والأنبياء هم قادة الشرك وجبابرة الترف، وليس المستضعفون الذين لا عم لهم ولا خال، وما من شك أن المترفين الأقوياء يعترفون بكل إله يخصهم وحدهم بالقوة والسطوة، ويختار لغيرهم البؤس والرق، وجاء هذا جليًا وصريحًا، وما من شك أن المترفين الأقوياء يعترفون بكل إله يخصهم وحدهم بالقوة والسطوة، ويختار لغيرهم البؤس والرق، وجاء هذا جليًا وصريحًا في العديد من أقوالهم، من ذلك ما جاء في الآية 47 من يس: (قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه). ويأبى دين الله إلا الكف عن الفواحش والجرائم وعن الأذى وأكل المال بالباطل وإلا العدل والمساواة بين عباد الله وعياله في جميع الحقوق والواجبات ومن هنا جاء العراك والشقاق بين المرسلين والمترفين أي بين الحق والباطل.
(32): ﴿فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾: أبدًا لا واسطة إما عدل ومساواة، وإما ظلم وتعديات.
(33): ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: وهي كلمة العذاب ﴿عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ﴾:وفي طليعتهم من لا يكف أذاه عن عيال الله، ويرى لنفسه امتيازًا على سواه ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: أي حقت علهم كلمة العذاب لأنهم لا يتوبون ولا يهتدون.
(34): ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: الخلق بالنسبة إليه تعالى يعني إيجاد شيء من لا شيء، وبالنسبة إلى غيره يعني إيجاد شيء من شيء كالدار من الأحجار، والأبواب من الأخشاب ﴿قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: إن الله وحده هو الذي يخلق بكلمة (كن) وبها أوجد الكون، ويعيد الحياة لمن مات ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾: تتحولون من الحق إلى الباطل.
(35): ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ﴾: بإقامة الحجج والبراهين وإارسال المبشرين والمنذرين ﴿قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقّ﴾: بكتابين: كتاب ينطق بلسان المقال، وهو القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم، وكتاب ينطق بلغة الأعمال، وهو الكون فكل شيء فيه هو (آية تدل على أنه واحد) ولكن هذه الآية لا يفهمها إلا ذو قلب سليم وعقل مجرد من التحيز والتقليد ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَع﴾: ما رأيكم أيها المشركون: هل يتبع طالب الحق الله الذي وهب اللإنسان عقلاً وحواسًا ليدرك ويميز وأرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الكون بآياته البينات، أو يتبع هذا الذي أشار إليه سبحانه بقوله ﴿أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ﴾: أمن كلمتان: أم ومن فأدغمت الميم الأولى في الثانية، ويهدي بفتح الياء وتشديد الدال ومعناه لا يهتدي في نفسه، إما أن لأنه فاقد الأهلية من الأساس كالأصنام، وإما واجدها ولكنه يفتقر إلى الإرشاد والهداية، وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾: أن يأخذ الهداية من غيره، والله سبحانه يعطي ولا يستعطي (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى- 50 طه) وفي نهج البلاغة: (فمن الذي هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك؟).
(36): ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا﴾: فيما يعتقدون ويدينون ﴿إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾: وهذا دليل قاطع على أن التحليل أو التحريم لا يسوغ بحال إلا بالعلم مباشرة أو بما ينتهي إليه، كقول المعصوم: خذ بما تسمعه مني أو بما تسمعه ممن تثق بدينه وعلمه، فالأخذ من المعصوم مباشرة علم، ومن الثقة ظن لا احتمال أنه قد أخطأ في النقل، ولكنه ينتهي إلى العلم، وهو أمر معصوم.َ
(37): ﴿وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّه﴾: ما كان ولن يكون أبدًا هذا القرآن إلا من عند الله ﴿وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه﴾: مما تقدمه من الكتب الإلهية ِ ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾: عطف على تصديق أي ولكن كان القرآن تصديقًا وتفصيلاً، والمراد بالكتاب هنا شريعة الله، والمعنى أن القرآن بيان كافٍ وافٍ لأحكامه تعالى وحلاله وحرامه.
(38): ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ... ﴾: تقدم في الآية 23 من البقرة، والمناسبة قرأت في مجلة آخر ساعة المصرية العدد 2254 تاريخ 4-1-1978: أن رئيس الولايات المتحدة كارتر التقى في أمريكا بالحصري شيخ المقرئين، فقال له: (أتمنى أن أسمع صوتك وترتيلك للقرآن في القريب. وأن تتاح لي هذه الفرصة) وأن الشيخ المقرىء أهداه مجموعة كاملة من المصحف المسجل المرتل.
(39): ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾: وهذ هو شأن الجاهل بجهله ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾: وفي عهدهم ومن بعدهم، وإلى آخر يوم، يكذبون ويسمون الكذب صدقًا، ويظلمون ويسمون الظلم عدلاً، ويمكرون ويسمون المكر عقلاً، ويهذرون ويسمون الهذر علمًا!.
(40): ﴿وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِه﴾: بالقرآن، يجاهدون في سبيله، وجلهم من المغلوب على أمرهم، ولا يملكون من القوة ما يتحكمون ويستبدون، ولا تصطدم مصالحهم مع الحق والعدل، ومع ذلك فلا غبار على إيمانهم، لأن الإسلام يقف دائمًا مع المستضعفين والمظلومين، ويعلن الحرب من أجلهم، ثم هل من بأس في إيمان من آمن بالله وصفاته ولا لشيء إلا لأنه حرم العدوان على أي عبد من عباده؟ ﴿وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ﴾: جهلاً أو خوفًا على مكانتهم ومصالحهم.
(41): ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ﴾: يا محمد ﴿فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ... ﴾: إن أصروا على معاندة الحق وتكذيبه فقل كلمة الله وامش (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم - 81 النمل).
(42): ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾: بآذان صم وقلوب عمي ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمّ﴾: علام تتعب نفسك، وتشغل قلبك من غير جدوى.
(43): ﴿وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ: ﴾ بعين الحقد والحسد فكيف تحاول أن يقنعوا منك ويقبلوا؟.
(44): ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾: وأغرب من كل غريب أن يقول مسلم: الإنسان مسير لا مخير وهو يقرأ هذه الآية المحكمة الواضحة.. حتى ابليس يقول لأتباعه يوم لا كذب ولا خداع: (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم -22 ابراهيم).
(45): ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ﴾: هذا تذكير وتحذير لمن يتمادى في الغي والضلال ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾: يتعارف الموتى في موقف من مواقف يوم القيامة، ثم ينقطع التعارف، ويشتغل كل بنفسه لتراكم الأهوال وثقل الأغلال.
(46): ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾: بحيث ترى بعينك يا محمد الانتقام في الحياة من الذين كذبوك ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾: قبل أن نعذبهم في الدنيا أو ندع عذابهم فيها ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾: يوم الحشر﴿ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾: بعدك، فمن تاب منهم وعمل صالحًا فقد فاز وإلا فحسبه جهنم وبئس المهاد.
(47): ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾: يبشرها وينذرها حيث لاعقاب بلا بيان ﴿فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ﴾: بالبينات الدالة على صدقه وكذبوه ﴿قُضِيَ بَيْنَهُم﴾: أي بين النبي ومن كذب برسالته ﴿بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾: بنقص من ثواب من أطاع، ولا بزيادة في عقاب من عصى.
(48): ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ: لا زلت تهدد وتحذر، فمتى تفعل وتنفذ؟.
(49): ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ﴾: تقدم في الآية 188 من الأعراف، وتكرر بأسلوب آخر، وغير بعيد أن يكون القصد من هذا التكرار والتوكيد ألا يقول المسلمون بمحمد ما قاله النصارى بعيسى. وفي الترجمة العربية لكتاب دراسات في حضارة الإسلام لـ (هاملتون) أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد:( فالإسلام حين وضع الإنسان أمام الله بلا واسطة، أكد بالضرورة مدى التباين بين اللهو الإنسان) ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ... ﴾: لفنائها وجزائها، وتقدم بالحرف في الآية 34 من الأعراف.
(50): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا﴾: ليلاً ﴿أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾: هذه الآية بجملتها جواب عن قول الجاحدين: متى هذا الوعد؟ فأمر سبحانه نبيه أن يقول لهم: أي العذابين تستعجلون: الذي يأتيكم وأنتم نيام أو الذي يأتيكم وأنتم قيام بأعمالكم؟ وإذا لم يكن شيء من ذا ولا ذاك، فأين المفر من يوم الجمع للحساب والجزاء.
(51): ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾: حذرناكم من سوء العاقبة، فسخرتم ولم تحتاطوا لأنفسكم، فهل معنى هذا أنكم لا تؤمنون وتصدقون إلا بعد الهلاك والتدمير؟ فذلك الحمق بعينه.
(52): ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْد﴾: الذي كنتم به تكذبون.
(53): ﴿وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾: العذاب الذي وعدتنا به يوم القيامة، وما من شك أن هذا السؤال جاء بوحي من إيمانهم السابق بأن محمدًا هو الصادق الأمين ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾: وآمن الكثير بمحمد (ص) لصدقه وإخلاصه وخلقه.
(54): ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾: من هول العذاب وشدته، ولكن لا فدية ولا معذرة في ذلك اليوم ﴿وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ﴾: حيث لا ينغع الندم سرًا كان أم علنًا ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾: تقدم بالحرف في الآية 47 من هذه السورة.
(55) - (56): ﴿أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ... ﴾: هو مالك الملك، وخالق الموت والحياة، وإذا وعد أنجز وعده لا محالة.
(57): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُم﴾: أي القرآن وهو عظة لأنه يأمر بالواجبات، وينهى عن المحرمات، وهو ﴿وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾: من الشكوك والشبهات والأحقاد والآفات ﴿وَهُدًى﴾: للناس إلى حياة أفضل ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾: للطيبين الذين يحبون الخير، ويعملون به لوجه الله والخير (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا -82 الإسراء).
(58): ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾: المراد بفضل الله ورحمته هنا الهداية إلى الحق والخير والنجاة من عذاب الله وغضبه، وما من شك أن العاقل يفرح بالآجلة لا بالعاجلة، وفي نهج البلاغة: (ما بالكم تفرحون بالسير من الدنيا تدركونه، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه).
(59): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم﴾: أخبروني ﴿مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ﴾: أحله الله لكم بالكامل ﴿فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً﴾: لا صلة لهذة الاية بحياة الناس في العصر الراهن، وإنما هي إشارة إلى ما كان عليه أهل الجاهلية حيث كانوا يحرمون بعض ما أحل لهم كما مر في الآية 103 من المائدة، والكثيرون في عصرنا يحللون ما حرم الله، فهم أسوأ حالاً من أهل الجاهلية.
(60): ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: أي هل يتصور الذين يحللون ويحرمون من تلقائهم أن الله يتركهم غدًا بلا عقاب على كذبهم وافترائهم ؟ إذن لا فرق بين من اتقى ومن عصى، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
(61): ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ﴾: أي الشأن ﴿مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾: أيها الناس أو أيها المسلمون ﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾: شاهدين به عالمين، والمعنى ما من حال يكون عليها النبي وأمته إلا وهي في علم الله ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾: من أفاض في العمل إذا اندفع فيه، وهذا أيضًا في علم الله ﴿وَمَا يَعْزُبُ﴾: يبعد ويغيب ﴿عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ... ﴾: وبالاختصار أن الله بكل شيء عليم.
(62): ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾: وولي الله هو محمد(ص) لقوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ? 80 النساء) وطاعة العترة الطاهرة هي طاعة الله والرسول لأنهم عدل القرآن بنص حديث الثقلين على رواية مسلم وغيره كثير.
(63): ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾: أي يترجمون العلم والدين بالأفعال لا بالأقوال.
(64): ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾: والمراد هنا قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ? 7 الزلزلة) وكل ما يرادفه في كتاب الله وسنة نبيه.
(65): ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا﴾: دعا محمد (ص) الخلق إلى الحق والعدل والمساواة، فقامت قيامة المستبدين والمستأثرين، ونعتوه بما هم به أحرى وأولى، فاستشعر النبي الألم والحزن من كذبهم وبهتانهم، فقال سبحانه لنبيه الأكرم: لا تبال بما يقولون، فإن الله وحده هو المعز المذل، وسيذل بك وبمن اتبعك جبابرة البغي والضلال.
(66): ﴿أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ... ﴾: كل شيء في قبضته تعالى، وهو القادر على نصرة دينه ونبيه والانتقام من أعدائه، أما الذين يدعون من دونه قهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًا ولا حجة ودليلا ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾: يتصورون تصورًا باطلاً.
(67): ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ﴾: مظلمًا ﴿لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾: للاستراحة من متاعب النهار ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾: تبصرون فيه للكدح من أجل الحياة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾: كل عاقل يدرك هذه الكمة البالغة ويربط بينها وبين وجود عليم حكيم.
(68) - (69): ﴿قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا﴾: ولماذا الولد؟ ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ... ﴾: في ذاته وصفاته عن كل شيء وكل شيء يفتقر إليه، وفي نهج البلاغة: لم يلد فيكون مولودًا، ولم يولد فيصير محدودًا.
(70): ﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا﴾: أي ذلك متاع أو لهم متاع.
(71): ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾: اقصص يا محمد على الذين كذبوك خبر نوح مع قومه: كيف أهلكهم الله بالغرق، عسى أن يحذر قومك من الهلاك ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ﴾: عظم وثقل عليكم ﴿فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ﴾: ومن توكل على الله كفاه ﴿فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ﴾: من أجمع الأمر إذا عزم عليه ﴿وَشُرَكَاءكُمْ﴾: الذين تعبدون واتفقوا على حربي ﴿ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾: مستورًا، بل افعلوا بي ما شئتم أمام الملأ إن استطعتم ﴿ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ﴾: امضوا فيّ عزمكم ﴿ولا تُنظِرُونِ﴾: لا تنتظروا.
(72) - (73): ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ... ﴾: فإلى حيث ألقت رحلها... وأجري عند الله ومقامي هو أقبلتم أم أدبرتم، وتقدم في الآية 72 من الأعراف.
(74): ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ... ﴾: يدعونهم بالحجة والرحمة إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم فقابلوهم بالكبرياء والبغضاء، فصبروا وضحوا وتسامحوا ولكن قومهم رفضوا حتى رأوا العذاب.
(75): ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ.. ﴾: تقدم بالتفصيل والتطويل في الآية 103 وما بعدها من الأعراف وبالاجمال فإن تجربة موسى (ع) مع فرعون قد أجدت فيما يعود إلى هلاك فرعون، ولكن اليهود من بعده قد تركوا أسوأ الأثر والخبر.
(76): ﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا﴾: وهو المعجزات المشار إليها ﴿قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾: تمامًا كما قالت قريش عن محمد (ص)، أما اليوم حيث لا إيمان بالسحر فإنهم يقولون عنه فوضوي خارج على النظام.
(77): ﴿قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ﴾: والحق يستهدف هداية الناس إلى الواقع ﴿أَسِحْرٌ هَـذَا﴾: والسحر يزيف الواقع ويحرفه ﴿وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُون﴾: وهل يفلح المشعوذ الدجال؟.
(78): ﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾: تصرفنا ﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾: هذه معزوفة يرددها من يحافظ على الأوضاع الفاسدة التي تضمن له منافعه ومكاسبه... فالمسألة مسألة خوف على المصالح والسلطان، لا مسألة آباء وأصنام ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ﴾: هذا قول فرعون وجلاوزته لموسى وأخيه (ع), وبهذا يفصح فرعون وملأه عن تخوفهم على ملكهم وطغيانهم، ولذا قالوا ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾: بل مقاومين ومحاربين دفاعًا عن منافعنا وامتيازاتنا.
(79): ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾: وهو لا يعلم ما يخبيء الدهر له.
(80): ﴿فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى﴾: مستخفًا بهم وبسحرهم وفرعونهم ﴿أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ﴾: لأن الله سبحانه وعده الفوز والنصر.
(81): ﴿فَلَمَّا أَلْقَواْ﴾ : حبالهم وعصيهم ﴿قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾: وهو باطل من أصله ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾: بل يزيله ويمحقه.
(82): ﴿وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾: الحجج الدامعة والبراهين القاطعة ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾: لأن كراهيتهم لا تعطل مشيئة الله.
(83): ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى﴾: قبل إلقاء العصى وإيمان السحرة ﴿إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾: الفتيان والشبان من بني اسرائيل لأن الشبان من كل قوم كانوا ومازالوا يتحمسون لكل جديد، ولكنهم آمنوا بموسى ﴿عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾: رؤوس الاسرائيليين وأرباب المصالح من اليهود ﴿أَن يَفْتِنَهُمْ﴾: خافوا أن يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدوا عن دينهم ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ﴾: طاغية مستبد ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾: في استبداده وطغيانه لا يقف عند حد.
(84): ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ﴾: لا قوة لي ولا لكم تصد طغيان فرعون عنكم ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ﴾: وثقوا بوعده إن العاقبة للمتقين ﴿إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾: وقد ذكر لهم ثلاثة أصناف: الإيمان، وهو التصديق في القلب، والإسلام، والمراد به هنا الانقياد والاستسلام لأمره تعالى، والتوكل، وهو الإخلاص والتفويض إلى الله وحده... فن جمع هذه الأوصاف كان الله معه.
(85): ﴿فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا﴾: وتركنا إليه أمرنا ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً﴾: محل عذاب ﴿لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: الكافرين فرعون وقومه.
(86): ﴿وَنَجِّنَا﴾: خلصنا ﴿بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾: الظالمين الذين اضطهدوهم وظلموهم.
(87): ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾: لا تخرجا منها وابقيا فيها واتخذا مساكن لبني إسرائيل يأوون إليها، ويعتصمون بها ﴿وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾: متقابلة في جهة واحدة، أي اسكنوا جميعًا، في حي واحد ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾: لأنها ترمز إلى الإخلاص لله، وتجمع القلوب على الإحساس المتحد ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: بالنجاة من فرعون وملائه في الدنيا وبالجنة في الآخرة.
(88): ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: نزلت هذه الاية في زمن لم يكن الناس يعرفون شيئًا عما تحتويه قبور الفراعنة ثم كشف الحفر والتنقيب فيها عن هذه الأموال والزينة التي نص عليها القرآن، وهذا شاهد محسوس لا يقبل الشك والريب في أن القرآن وحي عن علام الغيوب ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ﴾: اللام للعاقبة مثل لدوا للموت ﴿عَن سَبِيلِكَ﴾: أي كان عاقبة الانعام عليهم من الله بالزينة والمال، وإن ضلوا وعصوه بدلاً من أن يطيعوه ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾: بمحقها وتدميرها ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: من الشدة والبلاء ضد الراحة والرخاء ﴿فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيم﴾: هذه الجملة معطوفة على ليضلوا عن سبيلك، والمعنى: أن عاقبة تقلب فرعون وملائه في نعم الله أن ضلوا وأصروا على الكفر، وأن لا يؤمنوا إلا عند حدود العذاب حيث لا يقبل الإيمان.
(89): ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾: انزال الآفات على أموال فرعون وملائه والمصائب والشدائد على قلوبهم ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾: على الجهاد في سبيل الدعوة إلى الحق ﴿وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾: عظمة الله وحكمته. وجاز هنا نهي المعصوم عن الذنب لأنه من الله، لا من سواه، فإن من شأنه الأعلى أن يأمر وينهى ما دونه كائنة ما تكون منزلته.
(90): ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا﴾: سبق نظيره في سورة البقرة الآية 50 وسورة الأعراف الآية 138 ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾: وبالأمس كان ينتفخ ويقول: أنا ربكم الأعلى ﴿قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾: وهذا هو شأن الخسيس اللئيم يتعاظم عند النعماء، ويتصاغر عند البأساء.
(91): ﴿آلآنَ﴾: وبعد أن فات ما فات تقول: آمنت ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾: حيث كان الخيار بيدك في التوبة والرجوع إلى الحق، ولكنك طغيت وبغيت ﴿وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾: فذق جزاء عملك بالغرق والهلاك.
(92): ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾: لا بروحك ونلقي بجثتك على نجوة من الأرض ليشاهدها من كان بعظم من شأنك ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾: يتعظ بها كل من تحدثه نفسه بالسير على طريق الفساد ولكن ما أكثر العبر، وأقل الإعتبار ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾: وغير مغفول عنهم.
(93): ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: أنزلناهم ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾: أي منزل صدق، والمراد بالصدق هنا الخصب بدليل قوله تعالى: ﴿وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: ولكنهم كفروا بانعم الله ﴿فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْم﴾: المراد بالعلم هنا توراة موسى التي تحتوي على الإخبار بنبوة محمد (ص) وكان اليهود قبل نزولها متفقين جميعًا على دين الشيطان كفرًا وضلالاً، وبعد التوراة اختلفوا فرقًا وشيعًا.
(94) - (95): ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ﴾: الخطاب في ظاهره لمحمد، وفي واقعه لكل من يشك فيما تحدث عنه القرآن من قصة موسى وغيره من الأنبياء ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾: أي علماء التوراة التي نزلت على موسى وعلماء الإنجيل المنزل على عيسى ﴿لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: المراد بالامتراء الشك، والمعنى بلغ الناس يا محمد أن من يشك أو يكذب بالذي أنزل إليك من ربك فهو من المعذبين الخاسرين.
(96): ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: أي استحقوا عذاب ربك هم الذين ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
(97): ﴿وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيم﴾: أصروا على العناد والمكابرة حتى ولو قام ألف دليل أللهم إلا أن يشاهدوا العذاب، ولا إيمان بلا طاعة ورضا.
(98): ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ﴾: قال الرواة والمفسرون: كان قوم يونس بنينوى من أرض الموصل يعبدون الأصنام، فنهاهم عن الكفر، وأمرهم بالتوحيد، فأجابوه بالتمرد والعناد، ولما يئس منهم رحل عنهم مغاضبًا، وما ابتعد عنهم إلا قليلاً حتى أتتهم طلائع الهلاك، فتابوا إليه تعالى مخلصين، فكشف عنهم ﴿عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾: أي أبقاهم إلى آجالهم المكتوبة.
(99): ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾: ولو شاء سبحانه أن يلجيء الناس إلى الإيمان بمشيئته التكوينية بحيث لا يستطيعون الكفر بحال- لما وجد على ظهرها كافر. ولو فعل لم تكن للإنسانية عين ولا أثر حيث لا إنسانية بلا حرية، وتقدم في الاية 48 من المائدة وغيرها ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾: أبدًا لا جبر ولا إكراه في الإيمان، لأنه من عمل القلب، ولا سلطان عليه إلا الذي خلقه هكذا، وجعله في حمى محمي حتى من صاحبه، وأيضًا ليس لأحد- غير الله- وان كان نبيًا أن يحاسب أو يعاقب إنسانًا على رأي أو عقيدة إلا أن يسفك دمًا أو يفسد في الأرض.
(100): ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾: ما من نفس تؤمن بالله تلقائيًا وبلا سبب موجب، بل تؤمن بالنظر إلى لطائف صنعه وعجائب خلقه، والدليل على إرادة هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾: والمراد بالرجس هنا الكفر المقابل للإيمان.
(101): ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: والمعنى أن النظر في خلق السموات والأرض يؤدي إلى الإيمان بالله وترك هذا النظر يؤدي إلى الكفر به تعالى، وعليه يكون الكافر مقصرًا ومستحقًا للعقاب، لأن الله بين له الدليل القاطع، فاعرض عنه، وأبى أن ينظر إليه ﴿وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾: أي الذين يعرضون عن الأسباب الموجبة للإيمان وهي الآيات البينات التي أقامها سبحانه في الكون، والكتب المنزلة والأنبياء المرسلة.
(102): ﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ﴾: عاقبة أهل الفساد والضلال واحدة سواء أكانوا من الأوائل أم الأواخر ﴿قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾: واضح، وتقدم في الآية 71 من الأعراف.
(103): ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾: لأنهم كانوا مصدر خير في كل مجال من مجالات الحياة العامة ﴿كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: المجاهدين الذين يعتز الاسلام يعلمهم وإخلاصهم ونزاهتهم.
(104): ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي﴾: أي تجهلون حقيقته فهذا هو في منتهى الوضوح والبساطة: ﴿فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾: وذكر النبي (ص) الوفاة بالخصوص لمجرد الإشارة إلى أنه تعالى هو الذي يحاسب ويعاقب بعد الوفاة، أما آلهة المشركين فإنها لا تعقل ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: أي أن النبي يبدأ بنفسه في كل ما يدعو الناس إليه.
(105) - (106): ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾: أخلص لله في جميع أعمالك منحرفًا عن الباطل إلى الحق ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ... ﴾: الله يعلم أن نبيه الكريم أعدى أعداء الشرك والمشركين والظلم والظالمين، وعليه فليس النهي هنا للزجر، بل لمجرد البيان بان الظلم والشرك شيء عظيم.
(107): ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾: هذا درس بليغ لكل من يسعى على قدم الغرور، ويذهل عن المصير، وانه بيد الله تعالى، وما الطاقات والعضلات إلا وسيلة يسوقها سبحانه حيث يشاء.
(108): ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ﴾: وليس بعد الحق إلا الضلال، وللانسان أن يختار لنفسه ﴿أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾: ما أنا موكل بكم من الله سبحانه حتى تكونوا به مؤمنين، وإنما أنا بشير ونذير..
(109): ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾: حتى ولو كفر كل الناس ﴿وَاصْبِرْ﴾: على كل ما تعانيه في سبيل دينك وإيمانك ﴿حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ﴾: حتى يفتح الله بينك وبين من نصب لك الحرب والبغضاء ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾: بحسابه وجزائه.