سورة التوبة

(1): ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: فتح النبي (ص) مكة في العام الثامن للهجرة، وفي العام التاسع نزلت هذه السورة، تعلن البراءة من المشركين وتنذر بالحرب كل مشرك يقيم في الجزيرة العربية، وقال المفسرون: رسول الله دفعها إلى أبي بكر ليقرأها على المشركين، ثم أخذه منه بأمر الله وأعطاها لعلي بن أبي طالب.

(2): ﴿فَسِيحُواْ﴾: أيها المشركون ﴿فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾: بعد إعلان الحرب على المشركين أمهلهم سبحانه 4 أشهر ينتقلون فيها آمنين حيث يشاءون، فإن أسلموا وإلا فجزاؤهم القتل، وهذا الحكم لا يُقاس عليه، لأنه استثنائي خاص لسبب خاص ﴿وَاعْلَمُواْ﴾: أيها المشركون ﴿أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ﴾: لا نجاة لكم منهم.

(3): ﴿وَأَذَانٌ﴾: إعلام ﴿مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ﴾: بالبراءة من المشركين ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾: وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة، وكان ابتداء الأشهر الأربعة بهذا اليوم من العام التاسع الهجري، وانتهاؤها في اليوم العاشر من ربيع الآخر من سنة عشر، وبعد هذه المدة يكون مصير المشركين في الجزيرة العربية الإسلام أو القتل ﴿فَإِن تُبْتُمْ﴾: أسلمتم أيها المشركون ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾: حيث يكون لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم.

(4): ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ...﴾: استثنى سبحانه من قتل المشركين بعد الأشهر الأربعة قومًا كان بينهم وبين المسلمين عهد المهادنة والمسالمة، وحافظوا على هذا العهد، ولم يغدروا ويخونوا ولا تعاونوا مع أعداء المسلمين عليهم. استثنى سبحانه هؤلاء، وأمهلهم إلى مدتهم جزاء على وفائهم. ومضت مع الزمن هذه الأحكام الخاصة بأهل الشرك والجاهلية وأصبحت من أخبار كان الناقصة، ولا جدوى عامة من إطالة الكلام فيها.

(5): ﴿فَإِذَا انسَلَخَ﴾: انقضى ﴿الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾: والأشهر الحرم التي يحرم القتال فيها إطلاقًا وعمومًا هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وليست هذه بمرادة هنا، بل المراد في هذه الآية الأشهر التي حرم الله فيها قتال المشركين الذين تكلمنا عنهم في الأسطر السابقة، وتبدأ من 10 ذي الحجة سنة 9هـ إلى ربيع الآخر سنة 10هـ ، وقيل: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقيل غير ذلك ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾: قسرًا ﴿وَخُذُوهُمْ﴾: أسرًا ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾: حبسًا ﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾: راقبوهم في كل طريق يمرون به، ولا تدعوا أحدًا يفلت منهم ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ...﴾: إن أظهروا الإسلام قبل الأجل المضروب، وأقاموا الشعائر الإسلامية، وأهمها الصلاة وإيتاء الزكاة ? فلا تتعرضوا لهم بسوء.

(6): ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ...﴾: إذا طلب المشرك الذي يحمل قتله أمانًا من أي مسلم فعليه أن يجيره ويعطيه الأمان على نفسه وماله، ويدعوه إلى الإسلام بالحكمة وسبل الإقناع، فإن أسلم فذاك وإلا فعلى المسلم أن يوصله إلى مكان يأمن فيه على نفسه، وكان هذا يوم كان الإسلام قويًا بأهله، أما اليوم فأهله يستجيرون بأعدائه!.

(7): ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ﴾: الله والرسول لا يفيان بعهد الكاذب الجحود، والخائن العنود ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: يشير سبحانه بهذا الاستثناء إلى أن النبي كان قد عاهد قبيلة من العرب تُدعى كنانة، فعلى المسلمين أن يفوا لها بالعهد حتى ولو أصروا على الشرك إلا أن ينكثوا العهد، فعندئذ يسوغ قتلهم، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾: وإلا فالوفاء لأهل الغدر غدر.

(8): ﴿كَيْفَ﴾: يجب عليكم الوفاء بعهد الناكثين العهد ﴿وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾: إن يظفروا بكم لا يراعوا فيكم قرابةً ولا عهدًا ﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾: إلا الحسد واللؤم والحقد، ولا يختص هذا الوصف بالمشرك أو الملحد، فكم من ملحد هو أزكى نفسًا وأوفى عهدًا من الأدعياء وحسده الرخاء.

(9): ﴿اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾: باعوا دينهم إلى الشيطان بأخس الأثمان.

(10): ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾: هم أعداء ألداء لكل طيب ومخلص لا للنبي والصحابة فقط، وهذا هو الفرق بين الآية وآية (لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة) تمامًا كما تقول لصاحبك: فلان لا يحبك، بل لا يحب الخير على الإطلاق.

(11): ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾: والفرق بين هذه والسابقة هو في جواب الشرط حيث جاء الجواب هناك (فخلوا سبيلهم) أما الجواب هنا ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾: يجري عليهم ما يجري عليهم.

(12): ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم﴾: مواثيقهم معك ﴿مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾: الذي أبرموه معكم ﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾: لا يعارض الإسلام أي إنسان في دينه أو يضطهده من أجله، بل يبين له طريق الرشد والغي، ويدع الآخرين، قال سبحانه لنجيه ونبيه: (ما عليك من حسابهم له الخيار في أن يعبر عما يشاء، شريطة أن لا يطعن في عقيدة من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ? 52 الأنعام) وقال الرسول (ص) للكافرين: (لكم دينكم ولي دين ? الكافرون).

(13): ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ﴾: عاهد الجبابرة الطغاة من قريش رسول الله (ص) على ترك القتال عشر سنين يأمن فيها الفريقان على أنفسهم وأموالهم، وكان ذلك سنة ست للهجرة، لكنهم خالفوا ونكثوا ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾: أرادوا ذلك ونفذوه ﴿وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: بأنواع التنكيل والإيذاء حين أعلن الرسول دعوة الإسلام ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾: ومعنى هذا أن الذي يؤثر الخوف من الناس على الخوف منه تعالى فهو تمامًا كالذي تطيع المخلوق في معصية الخالق، وقد فلسف الإمام علي (ع) خوف أكثر الناس من الله بكلمة واحدة، وهي (معلول) أي مريض حيث قال: كل خوف محقق إلا خوف الله، فإنه معلول.

(14): ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾: قتلاً ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾: أسرًا ﴿وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾: حقًا ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾: وهم الذين استضعفهم جبابرة الشرك قبل الهجرة وأذاقوهم ألوانًا من التحقير والتنكيل.

(15): ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء﴾: يشير إلى من أسلم بعد فتح مكة وأحسن، وكان قد طغى من قبل وبغى.

(16): ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ﴾: دون حساب وجزاء ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ﴾: لنصرة الحق وإقامة العدل ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾: أي بطانة، وأفضل الطاعات جهاد الفاسد المفسد، وأكبر المعاصي الركون إليه، وعل كل مؤمن بالله حقًا أن يكشف هوية من يسعى في الأرض الفساد.

(17): ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾: بزيارتها والتعبد فيها للأصنام، كما كانوا يفعلون أيام الجاهلية.

(18): ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ...﴾: أبدًا لا يسوغ لأحد أن يدخل المساجد، ويتعبد فيها، أو يتولى شيئًا من أمورها إلا من دان بدين الله الواحد الأحد ملتزمًا بكتابه وسنة رسوله.

(19): ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ﴾: جاء في أكثر التفاسير، ومنها تفسير الطبري والرازي والنيسابوري والسيوطي: (أن العباس بن عبد المطلب كان يسقي الناس في الحج، وإن طلحة بن شيبة كان يحمل مفاتيح الكعبة، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفاتيحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية، فقال علي بن أبي طالب: لا أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج.).

(20): ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ ...﴾: تقدم في الآية 72 من الأنفال.

(21) ? (22): ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ﴾: في تفسير البحر المحيط: (اتصف المؤمنون بصفات ثلاث: الإيمان والهجرة، والجهاد، فقابلهم سبحانه بثلاث: الرحمة والرضوان والجنان) والأصل والأساس لكل منقبة وفضيلة هو الإيمان القوي الذي لا تقف دونه الحواجز. وبدافع منه يستهين بالديار والمال والعيال، وبالحياة أيضًا.

(23): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ﴾: الوفاء للأهل والأصدقاء فضيلة ما في ذلك ريب. وبشرط أن لا يكون هذا الوفاء على حساب الدين والإيمان وإلا تحول إلى رذيلة، قال الإمام(ع): (كنا مع رسول الله (ص)، وإن القتل ليدور على الأبناء والآباء والإخوان والقرابات، فما تزداد كل مصيبة وشدة إلا إيمانًا، ومضيًا على الحق، وتسليمًا للأمر، وصبرًا على مضض الجراح). ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ﴾: في معصية الله وحرامه ﴿فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: لأنفسهم. قال الإمام أمير المؤمنين(ع): (ولا عدو أعدى على المرء من نفسه، ولا عاجز أعجز ممن أهمل نفسه فأهلكها).

(24): ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾: اكتسبتموها ﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾: أي من طاعة الله ورسوله، فتؤثرون العاجلة على الآجلة في جميع تصرفاتكم ﴿وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾: كل ما نزل في كتاب الله من آيات وثبت في سنة نبيه من روايات في ذم الدنيا ? فالمراد بها دنيا الشيطان ومعصية الرحمن، أما دنيا الله وطاعته فهي السبيل الوحيد إلى رضوانه وجنته، قال رجل للإمام جعفر الصادق (ع) إني أحب الدنيا. فقال له تصنع بها ماذا؟ قال أتزوج منها، وأحج وأُنفق على عيالي، وأُنيل إخواني وأتصدق. قال الأمام: ليس هذا من الدنيا هذا من الآخرة، وعليه فمعنى الآية: للإنسان أن يحب المال والأرحام والعيال وكل ما لذ وطاب، على أن لا يتجاوز الحلال والحرام، ولا يكون شيء من ذلك على حساب الآخرين.

(25): ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾: في العديد من مواقف الحرب، منها بدر وخيبر وفتح مكة ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾: وادٍ بين مكة والطائف ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾: كان المسلمون آنذاك 12 ألفًا، فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾: وهذه هي عاقبة الغرور، فمن الإعجاب بالعدة والعدد إلى أبشع الهزائم، وثبت مع رسول الله علي بن أبي طالب حامل الراية يقاتلهم بسيفه دفاعًا عن رسول الله، والعباس آخذ بلجام بغلته، والفضل بن العباس عن يمين النبي والمغيرة بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره في تسعة من بني هاشم أيمن بن أم أيمن، وقصة حنين مذكورة في كتب التاريخ والسيرة.

(26): ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: تطلق كلمة السكينة على ثقة الإنسان واطمئنانه إلى رأيه وبرهانه وعقيدته وإيمانه، ومن ذلك قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى ? 26 الفتح) وأيضًا تطلق على التفاؤل بالخير والاطمئنان إلى الربح والنصر وهذا المعنى هو المراد هنا بقرينة السياق، ولا مانعة الجمع بين المعنيين، وعلى أية حال فإن السكينة هي المصدر الأساس للصبر والصمود في كل جهاد ونضال أيًا كان نوعه. ﴿وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾: وليس من الضروري أن تكون هذه الجنود ملائكة من السماء ما دامت لم تذكر وتطلق الآية بذلك، فإن كل شيء هو من جنوده تعالى حتى الرعب والجبن وما إلى ذلك من أسباب الضعف والهزيمة ﴿وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: بالقتل والأمر.

(27): ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء﴾: بعد أن يسلك طريق الهداية والتوبة، وقد جاء وفد من هوازن من الذين حاربوا المسلمين يوم حنين، إلى رسول الله (ص) تائبين مسلمين، فقبل إسلامهم، ورد عليهم ما طلبوه من الغنائم.

(28): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾: نجاسة ذاتية، لأن الشرك بالله ظلم عظيم من حيث هو لا بسبب طارئ ولا بد من الإشارة إلى أن القرآن الكريم يفرق في بعض أحكامه بين المشركين وأهل الكتاب، ويعتبرهما صنفين لا صنفًا واحدًا، وقد عطف المشركين على أهل الكتاب في أكثر من آية، ومن ذلك: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ? 105 البقرة) وأيضًا لا بد من الإشارة إلى أن أنصار الرأسمالية الغربية الحديثة هم بحكم المشركين تمامًا كالشيوعيين. وليسوا من أهل الكتاب في شيء وإن تستروا بقناع مسيحي، ذلك بأن الشيوعيين يؤمنون بأن المادة هي الموجود الوحيد، لأما أنصار النظام الرأسمالي الاحتكاري الحديث فإنهم من وجهة عملية لا يقيمون وزنًا للمادة، ويتسلطون على الناس عن طريق العلم المعملي، ويعملون على تجهيلهم وإبعادهم عن الله والحق بكل سبيل ووسيلة لا لشيء إلا لاستغلالهم واستنزاف مقدراتهم وأقواتهم. ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا﴾: قال أبو حنيفة: لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من غيره بطريق أولى. وقال الشافعي: يمنعون منه دون غيره من المساجد. وقال مالك: يمنعون منه ومن كل المساجد. ونحن على ذلك. لأن علة المنع النجاسة واحترام المسجد، وكل مسجد طاهر ومحترم بمجرد نسبته إلى الله تعالى ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾: أي فقرًا حيث كان المشركون يجلبون معهم الأطعمة إلى مكة المكرمة ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾: لأن أسباب الرزق عنده بعدد أنفاس الخلائق، وقد فتح سبحانه على الإسلام والمسلمين البلاد وخيراتها ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وتوجهوا بقلوبهم وأموالهم إلى مكة، أما اليوم فخيرات الحجاز تجاوزت الحد والعد، وساهمت في حضارة الغرب بقسط وافر.

(29): ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾: والمراد بهم أهل الكتاب: اليهود والنصارى كما يأتي البيان، ونفى عنهم الإيمان بالله حيث ينسبون إلى إلههم التجسيم ومم إليه مما لا يليق بجلال الله تعالى وكماله وكذلك يؤمنون بالبعث كما هو في تصورهم لا كما هو في الواقع وعند الله، ومن هنا ساغ النفي ﴿وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ﴾: كابن الله والخمر ﴿وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾: الذي لا يفرق بين أحد من أنبياء الله ورسله ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ هذا بيان للذين لا يؤمنون ولا يدينون دين الحق ﴿حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾: والكلام الآن عن الجزية تكثير ألفاظ بلا جدوى، وأيضًا الخلاف بين المسلمين وبعدهم الآن عن الدين ونظمهم الدكتاتورية وجمود الجامدين منهم ? يلجمنا عن صغار الأولين وهوان الآخرين.

(30): ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ﴾: في قاموس الكتاب المقدس: (عزرا اسم عبري معناه عون، والاسم نشأ كاختصار لاسم عزريا، وهو كاهن عاد من بابل إلى القدس) ﴿وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ﴾: في قاموس الكتاب المقدس ص 865: ( شعر (أي المسيح) في سن مبكرة أنه ابن الله الوحيد) وتقدم الكلام عن ذلك في تفسير الآية 73 من المائدة ﴿ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: أما الدليل على صدق هذا القول فهو أن ألسنتهم نطقت به!. وبعضهم يستدل على ربوبية السيد المسيح بالانجيل، ويستدل على صحة الانجيل وصدقه بربوبية المسيح (ع) ﴿يُضَاهِؤُونَ﴾: يشابهون ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾: كاليونانيين وغيرهم من المشركين ﴿قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: لعنهم كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل وعن الصواب إلى الخطأ.

(31): ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ﴾: وهم خلف السيد المسيح في الأرض ﴿وَرُهْبَانَهُمْ﴾: الذين اعتزلوا الناس في الأديرة للعبادة، ﴿أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾: ويروى أن عدي بن حاتم قال لرسول الله: لسنا نعبدهم. فقال له: أليس يحرمون ما أحل الله وتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال: بلى. قال النبي (ص) فتلك عبادتهم ﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾: أي واتخذوا المسيح ربًا من دون الله ﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ﴾: لأن الشريك لا يخلو من أحد فرضين: إما أن يسد نقصًا، وهذا ينافي الكمال المطلق، وإما أن لا يؤثر أثرًا، فيكون وجوده لغوًا.

(32): ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ﴾: نبوة محمد والإسلام ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: بالكذب والافتراء ﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾: بانتصار محمد (ص) وانتشار دينه.

(33): ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾: أي بالإسلام العقلي في عقيدته، الإلهي في شريعته، العلمي في تجربته، الحياتي في تطبيقه ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾: لا بالسيف والعنف، بل بشريعة الخير والحياة (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا ? 30 النحل).

(34): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾: كالرشوة على الحكم بغير الحق، والربا الذي فشا بين اليهود، وبيع صكوك الغفران وأذرعا في الجنة عند الكاثوليك، وفي قاموس الكتاب المقدس (وقد صنعت أصنام كثيرة من الذهب كما صنعت تيجان وسلاسل) ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: على كل غني أن يعلم ويؤمن بأن في أمواله حقًا لازمًا للفقراء والمساكين، وأن هذا الحق هو أمانة في يده يجب عليه أن يؤديها كاملة لأهلها وإلا فجزاؤه عند الله سبحانه ما نص عليه بقوله:

(35): ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾: وهذا الوعيد والتهديد الغاضب أقوى وأوضح في الدلالة على ثبوت حق الفقراء في أموال الأغنياء من قوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ? 22 المرسلات) وأيضًا يدل هذا التهديد على أن الفقراء أو وليهم الشرعي أن يقاتل الأغنياء لاستيفاء هذا الحق. وفي الدر المنثور للسيوطي وغيره من التفاسير (أن عثمان لما كتب المصاحف أرادوا أن يحذفوا واو العطف من قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب ...) كي يختص تحريم الكنز بأهل الكتاب أو بالأحبار والرهبان منهم، فعارض بعض الصحابة وقال: لتلحقن الواو، أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها.

(36): ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ﴾: لاشيء في الوجود مستقل بذاته اسمه شعبان أو نيسان، أو يوم الإثنين والأحد وإنما الموجود أرض تدور حول نفسها في اليوم وليلته دورة كاملة، فجزأ الإنسان هذه الدورة إلى 24 جزءًا، واخترع الساعة كرمز إلى دورة الأرض بالثواني والدقائق والساعات المشار إليها بانتقال العقرب من رقم إلى رقم، ثم أطلق على هذه العملية اسم الزمان الذي قسمه إلى أيام وشهور، ومعنى هذا في جوهره أن الزمان هو دورة الأرض أو الساعة بل عقربها، ولا شيء وراء ذلك، هذا ما أراده اينشتين بقوله: (الزمان ? مكان) وهذا المعنى لا يتناقض مع ظاهر الآية، لأنه تعالى هو الذي خلق الأرض وغيرها من الكواكب، وأودع فيها النواميس التي تتحكم بحركاتها المنظمة المحكمة بحيث نعرف منها أن هذا متقدم، وذاك متأخر، وأن الذي بينهما هو الحاضر، وهذا هو الزمان الذي فطر الناس على معرفته بلا كسب واستدلال، والكسل من خلقه تعالى المحكم او تدبيره المتقن ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ﴾: أشهر ﴿حُرُمٌ﴾: وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾: أي أن تقسيم الأشهر إلى 12 شهرًا وتحريم الأشهر الأربعة هذه هو الدين المستقيم، وفي هذا النص دلالة قاطعة على أن علوم الدنيا هي علوم الدين بالذات ما دامت صالحة ونافعة في جهة من الجهات ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾: باستحلال القتال واعتداء بعضكم على بعض ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾: قاتلوا عدوكم بنفس السلاح الذي يقاتلكم فيه، ونفس الطريقة التي يحاربكم بها، فهل استجبنا نحن المسلمين لأمره تعالى ونصحه؟ ولو كنا مسلمين حقًا لسمعنا لله وأطعنا، وكان معنا حافظًا ونصيرًا، كما قال سبحانه: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾: الذين وحدوا صفوفهم كافة ضد عدوهم المشترك ولم يتفرقوا شيعًا، ويسفكوا دماءهم، ويهدموا كيانهم وسلطانهم بأيديهم.

(37): ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ﴾: كان عرب الجاهلية أصحاب حروب وغارات، وأيضًا كانوا يعتقدون بتحريم القتال في الأشهر الحرم، فإذا اضطروا إلى الحرب في شهر منها كالمحرم ? مثلاً ? قاتلوا فيه، وحرموا بدلاً عنه شهر صفر الذي لا يحرم فيه القتال، وهذا هو المراد بالنسيء هنا، وهو كما قال سبحانه: ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾: بضم تحليل الحرام إلى الشرك أو إلى الحرب العدوانية ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا﴾: حيث يريدون الحرب ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾: حيث لا يريدونها، وبكلمة الدين أهواء تتبع، وأحكام تبتدع ﴿لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾: ليوافقوا عدد الأشهر الأربعة، كأن المهم هو عدد الأشهر لأنفسها.

(38): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾: بلغ النبي (ص) أن الروم اعتزموا غزو المدينة المنورة، فأعلن النفير العام لغزوة تبوك فشق ذلك على فريق من الصحابة لبعد الشقة وكثرة العدو، وآثروا إقامة على أرضهم وبيوتهم، فعاقبهم سبحانه أولاً بقوله: (ما لكم...) ؟ وثانيًا بقوله: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ...﴾: هل يليق بإيمانكم أن تؤثروا العاجلة على الآجلة؟

(39): ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾: تدعون الإيمان ولا تنفرون إلى جهاد الكافرين؟ فإن الله ينزل بكم العذاب تمامًا كما ينزله بالجاحدين، وينصر نبيه ودينه بأيدي غيركم، ولا يضر الله ورسوله تثاقل الخائفين ونفاق المنافقين.

(40): ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: إشارة إلى هجرة النبي (ص) من مكة إلى المدينة التي كانت البداية لتحطيم قوى الشر والضلال ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾: رسول الله وأبو بكر ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ﴾: خاف أبو بكر فطمنه النبي بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾: وفي تفسير الرازي أن أبا بكر قال للنبي (ص): إن الله معنا؟ قال الرسول: نعم ﴿فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾: على رسول الله حيث أوحى إليه بأن الله معه يحرسه ويرعاه كم أخبر النبي أبا بكر ﴿وَأَيَّدَهُ﴾: يوم بدر وغيره ﴿بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾: وكلمة الله هي الإسلام، وكلمة الكفر هي الأصنام:

(41): ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا﴾: جمع خفيف، وهو هنا من يستطيع الجهاد بيسر ﴿وَثِقَالاً﴾: جمع ثقيل والمراد به هنا من يستطيع الجهاد بشيء من المشقة ﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾: إن أمكن وإلا فبأحدهما وإلا فما على العاجز من حرج، ومن المسلمات الأولية في دين الإسلام أن أي عدو يحاول الاعتداء على الدين بتحريف كتاب الله أو بصد المسلمين عن إقامة الفرائض والشعائر الدينية أو بالاستيلاء على بلد من بلادهم، وعجز أهل هذا البلد عن صد العدو وقاومته ? وجب كفاية الجهاد والدفاع عن كل مسلم: الذكر والأنثى والسليم والمريض والأعمى والأعرج، من كل على قدر طاقته ماديًا أو أدبيًا، ولا يتوقف هذا الجهاد على إذن الإمام أو نائبه.

(42): ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا﴾: غنيمة باردة ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾: غير شاق وبعيد ﴿لاَّتَّبَعُوكَ﴾: وهذا من جبلة الإنسان وفطرته، قال الإمام علي (ع): (الناس أبناء الدنيا، ولا يلام الرجل على حب أمه) ولكن إذا أدى هذا الحب إلى الضرر الأشد وحب دفعه بالضرر الأخف، وفي الجهاد مصلحة عامة، وهي مقدمة على مصلحة الآحاد، لأن الضرر في فوات الأولى أعم وأشمل وأشد وأبلغ ﴿وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾: المسافة شاقة بعدًا وحرًا مع قلة الزاد إلا التقوى، وليسوا لها بأهل ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾: هذا إخبار بالشيء قبل وقوعه وقال المفسرون: هو من المعجزات!. ولكنه ليس منها في شيء، لأن هذا دأب المنافق وديدنه ﴿يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ﴾: كل من يعصي الله في شيء فهو يسيء إلى نفسه بنفسه.

(43): ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ﴾: الخطاب من الله لرسوله والمراد بالعفو هنا العتاب على وضع المعروف في غير حقه وعند غير أهله ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾: كان بعض المنافقون قد استأذن رسول الله بالتخلف عن غزوة تبوك فأذن له ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾: كان المنافقون على نية التخلف عنك، وإن لم تأذن به، ولولا الإذن لظهرت هذه النية الخبيثة المبيتة، وافتضح أمرهم بعصيانهم لأمرك.

(44): ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾: إن مجرد طلب الإذن بالتخلف عن الجهاد تهاون بالدين وجرأة على المعصية تمامًا كطلب الإذن بالفسق والفجور.

(45): ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...﴾: هذه الآية من مضامين التي قبلها، لأنك إذا قلت صاحب البيت لا يستأذن، تبادر إلى الأفهام أن الغريب هو الذي يستأذن. قيل للإمام علي (ع): صف لنا العاقل، فقال: هو الذي يضع الشيء مواضعه، فقيل: صف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت.

(46): ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾: لكل شيء موجب وسبب، ولا موجب للجهاد عندهم إطلاقًا وإلا لاستعدوا له ولم يستأذنوا بالتخلف ﴿وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ﴾: لسلوكهم طرق الضلالة والخيانة، وتمسكهم بأسبابها ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾: أخرهم ﴿وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾: بعد أن اختاروا لأنفسهم الكسل والخمول والتأخير والقعود، تمامًا كما هي حال العرب والمسلمين الآن حيث يقع الذنب عليهم لا على الإسلام في كل ما يعانونه من ويلات ومشكلات.

(47): ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾: شرًا وفسادًا ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾: سعوا بينكم بالنميمة والفتنة..

(48): ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ﴾: يشير بهذا إلى سيرة المنافقين مع النبي وإصرارهم على الكيد له والمكر به قبل تبوك ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ﴾: دبروها ضدك من كل وجه ولكن الله أبطل سعيهم، وخاب من افترى وبالمناسبة نشير بإيجاز أن ما ذكره القرآن الكريم من صفات أهل النفاق والشقاق، ينطبق بالكامل على ما يسمى الآن بالحرب الباردة أو الحرب النفسية التي تثيرها وتتولاها قوى الشر والخيانة من نشر الشائعات المغرضة، وتجريح الوطنيين، وإثارة الفتن والقلاقل والاستفزازات، ووصم الحركات الوطنية بالتهديم والتخريب، وعملية الاغتيالات وتدبير المؤامرات والانقلابات، كل ذلك وما إليه يقوم به المنافقون في عصرنا بطريقة محكمة ومنظمة، بل وعلمية حيث يستخدمون أساليب ترتكز على علم النفس والاجتماع، ويدخلون إلى كل قلب من نافذته وعاطفته، أو كما قال الإمام علي (ع): (أعدوا لكل باب مفتاحًا، ولكل ليل مصباحًا).

(49): ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾: تشير هذه الآية إلى حادثة خاصة، وهي أن الجد بن قيس كان من شيوخ المنافقين، وقد اعتذر من الذهاب إلى تبوك بأنه يحب النساء، ويخشى إن هو رأى الروميات الفاتنات أن يقع بغرامهن فنزلت الآية ﴿أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ﴾: فر من سيء إلى أسوأ، من الشهوات إلى جهنم وبئس المصير.

(50): ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾: شأن الحسود اللئيم، يموت بغيظه إذا رأى نعمة على غيره ﴿وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ﴾: حذرنا ﴿وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾: بهزيمة المسلمين ولا يشمت بالمصيبة إلا خسيس وضيع. وتقدم في الآية 120 من آل عمران.

(51): ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا...﴾: نحن نؤمن بالله، ونعمل بأمره في كل شيء متكلين عليه وحده في جهادنا وسائر تصرفاتنا، ولا نخاف حربًا ولا تجمعًا ولا مكرًا من ماكر، وأيضًا لا نحزن على فشل وهزيمة، ولا نغتر بربح ونصر، لأننا نعتقد ونوقن بأن مقاليد الأمور كلها بيده تعالى.

(52): ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾: وهما النصر أو الشهادة، والمعنى أن المقاتل من غيرنا قد ينجح وقد يفشل، أما المقاتل منا فهو الرابح الناجح على كل حال، لأنه إن ظفر بخصمه فذاك، وإن قتل في سبيل الله فإلى الجنة ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ﴾: في الدنيا أو الآخرة ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾: بأن ينصرنا عليكم ﴿فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾: انتظروا فكل متوقع آت.

(53): ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾: حال أي طائعين أو كارهين، والمعنى بأي دافع أنفقتم أموالكم في سبيل الخير ﴿لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾: ولماذا؟ ﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾: والله سبحانه يتقبل من المتقين.

(54): ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾: ولو أعلنوا هذا الكفر، ولم يتظاهروا بالإيمان لقلنا: بعض الشر أهون من بعض، ولكنهم تستروا باسم الدين لمجرد الكيد والخداع وشق الصفوف في وقت وساعة العسرة، فكيف تقبل أموالهم ولا تحبط أعمالهم؟ ﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾: لأن الصلاة لله وهم لا يؤمنون به، قال الإمام علي (ع): نوم على يقين خير من صلاة في شك ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾: لنفس السبب، قال الإمام علي (ع): من أيقن بالخلف جاد بالعطية.

(55): ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: وتسأل: كيف تجمع بين هذه الآية التي تقول: إن الله سبحانه يعذب المنافقين في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد، وبين الآية 46 من الكهف القائلة بوضوح: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)؟ ولو كانت الزينة في الدنيا والعذاب في الآخرة، لاستقام الظاهر، ولكن الآيتين جعلتهما معًا في الحياة الدنيا. الجواب: إن آية الكهف تعم الناس أجمعين، والآية التي نحن بصددها تخص المنافقين الذين تركوا ذرية مؤمنة، وقد عذّب سبحانه هؤلاء المنافقين بأولادهم لأن أبناءهم اعتنقوا الإسلام، وصاروا أعداء ألداء لآبائهم، ولا شيء أثقل على المرء من أن يكون ولده عدوًا له في دينه وعقيدته، وأيضًا عذّب سبحانه هؤلاء المنافقين بأموالهم لأنهم كانوا على يقين أنها ستؤول من بعدهم إلى الذين لا يدينون بدينهم، وعليه فلا منافاة بين ظاهر الآيتين ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾: لا يتوبون بل يموتون على الكفر، ولا ترجى هدايتهم.

(56): ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾: بل من أعدى أعدائكم، ﴿وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾: يخافون منكم.

(57): ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾: حصنًا ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾: جمع مغارة ﴿أَوْ مُدَّخَلاً﴾: نفقًا ﴿لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾: يسرعون.

(58): ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾: بعيبك على تقسيمها ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ﴾: هذا هو مقياس الحق والعدل عندهم، أن يأخذوا ولا يعطوا ﴿وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾: وإذن فمن السفه أن تخاطب بمنطق الدين والعقل من لا يؤمن بشيء إلا بذاته ومصلحته.

(59): ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ...﴾: جواب أو محذوف تقديره لكان ذلك خيرًا لهم، والآية تحث الإنسان أن يعف عما في أيدي الناس، ويتكل على الله وكد اليمين وعرق الجبين، وفي نهج البلاغة: كاد العفيف يكون ملكًا من الملائكة.

(60): ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء﴾: المراد بالصدقات هنا الزكاة المفروضة، والفقير الشرعي من لا يملك بالفعل أو بالقوة مؤونة سنة كاملة له ولعياله ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾: والفرق بينهم وبين الفقراء ? كما في جوامع الجامع ? أن الفقراء يتعففون ولا يسألون والمساكين يسألون. ومهما يكن فهما يشتركان في العجز عن قوت السنة ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾: وهم الجباة الذين يجمعون الزكاة ويحفظونها فيأخذون على عملهم الأجر من الزكاة، وإن كانوا أغنياء ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾: وهم الذين يراد استمالتهم إلى الإسلام وخدمة المسلمين. وفي نهج البلاغة: قلوب الرجال وحشة فمن تألفها أقبلت عليه ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾: أي تبذل الزكاة لتحرير العبيد من الرق، وتجدر الإشارة أنه لا أمر في القرآن بالاسترقاق أو التسري، بل عالج الرق بما شرّع من أسباب العتق على أساس الحكمة، ومنها البذل من الزكاة، وما استفحل من أمر الرق بعد الإسلام إلا على أيدي تجار الغرب والكنيسة. قال أوغسطين: (إن الله قد أدخل الرق على العالم كعقاب على الخطيئة، وسيكون تمردًا على إرادته أن نحاول إلغاء هذا الرق) (مجلة الكاتب المصرية العدد 123 ص 123). ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾: وهم الذين تحملوا ديونًا عجزوا عن وفائها، شريطة أن لا يكونوا قد صرفوها في وجه غير مشروع ﴿وَفِي سَبِيلِ اللّهِ﴾: وهو سبيل الخير والصالح العام ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: المنقطع في سفره عن أهله وماله وبلده، على أن لا يكون سفره في معصية.

(61): ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾: يسمع كل ما يقال له ويصدقه ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾: لأنه لا يستمع إلى ما فيه ضرر على أي إنسان، ويرفض ما فيه ضرر. كالغيبة والنميمة ﴿يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: واللام زائدة أي يصدق المؤمنين، والمعنى الجملي أن النبي (ص) يؤمن بالله، ومن حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يصدقه فيما لا ضير فيه على الآخرين حتى يثبت العكس، ويأتي في آخر هذه السورة أن النبي (بالمؤمنين رؤوف رحيم) ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: لأن إيذاءه إيذاء لله والحق والإنسانية.

(62): ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾: خوفًا منكم أيها المسلمون ﴿وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾: لأن رضا المؤمنين من رضا الله ورسوله، وإذا تستر المنافقون من المؤمنين بحلف الأيمان فإن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية.

(63): ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ﴾: يعادي ويعاند ﴿اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾: أجل: إنهم لا يعلمون لأن العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه، كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع): فهل يتعظ الأدعياء بقول إمام الأتقياء.

(64): ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾: أي فيهم، قال صاحب المغني: تأتي على بمعنى في كقوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة ? 15 القصص) أي في حين غفلة ﴿سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم﴾: لم يحذر المنافقون حقيقة وواقعًا من نزول الوحي في شأنهم لأنهم لا يؤمنون بالله حتى يؤمنوا بوحيه ورسوله، ولكن قال بعضهم لبعض ساخرًا: احذروا أن تنزل سورة في شأنكم، والدليل على ذلك قوله تعالى بلا فاصل: ﴿قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾: وقد فضح سبحانه أمر المنافقين، وأظهر ما في نفوسهم في هذه السورة وغيرها، وأنذرهم بغضبه وعذابه.

(65): ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾: وهذا القول وحده كاف في فضيحتهم، يدعون الإيمان بالله، وفي الوقت نفسه يعترفون باللعب في مقدساته! ﴿قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ﴾: أبدًا لا فرق بين هؤلاء المنافقين الذين استهزؤا بالله مكتبه ورسله وبين الذين يحرفون الدين تبعًا لغاياتهم وأهوائهم، لأن كلا منهما أبطن غير ما أعلن، وقال غير ما فعل.

(66): ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾: لم يؤمن المنافقون طرفة عين، فكيف ساغ خطابهم بقوله سبحانه (بعد إيمانكم)؟ الجواب: قبل أن يعترفوا بالاستهزاء كانوا كافرين واقعًا مسلمين ظاهرًا للنطق بالشهادتين، فجرى عليهم حكم الإسلام، وبعد الاعتراف بالاستهزاء صاروا كافرين واقعًا ظاهرًا، فجرى عليهم حكم المرتدين، وعليه يكون معنى قوله: (قد كفرتم بعد إيمانكم) قد أظهرتم الكفر بعد أن أظهرتم الإيمان ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ﴾: لأنها اهتدت وأنابت ﴿نُعَذِّبْ طَآئِفَةً﴾: لأنها أصرت على الكفر والنفاق.

(67): ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ﴾: شرًا وكفرًا ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾: وجاء في الحديث أن رسول الله (ص) قال: (كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟ قالوا: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف) ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾: عن إنفاق في سبيل الخير ﴿نَسُواْ اللّهَ﴾: وهو موجود في كيانهم بصنعه وآثاره ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾: بحرمانهم من رحمته.

(68): ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ ...﴾: بقصم الظهور والويل والثبور بعد الإعذار والإنذار.

(69): ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾: الخطاب للمنافقين المعاصرين لرسول الله (ص) وأنهم فعلوا مثلما فعل المنافقون الأولون مع أنبيائهم ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ﴾: بنصيبهم من زينة الحياة الدنيا ﴿فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ﴾: بنصيبكم منها ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ﴾: أي أنتم أيها المنافقون في عهد محمد (ص) تمتمًا كالمنافقين الذين من قبلكم شرًا وقبحًا وضلالة ﴿أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾: ودارت عليهم الدوائر وسيصيبكم ما أصابهم، فاتعظوا بالذين خلوا من قبلكم قبل أن يتعظ بكم من يأتي بعدكم.

(70): ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾: ممن كان أطول منهم أعمارًا، وأعمر ديارًا، وأبعد آثارًا ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾: أخذهم الطوفان ﴿وَعَادٍ﴾: قوم هود، أُهلكوا بريح صرصر عاتية ﴿وَثَمُودَ﴾: قوم صالح، أخذتهم الرجفة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴿وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ﴾: عوقبوا بسلب النعمة ﴿وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ﴾: قوم شعيب أُخذوا بعذاب الظلة ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾: قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها، وتقدم الكلام عن ذلك في سورة الأعراف ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾: فكفروا بها، فأخذهم الله بذنوبهم.

(71): ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾: يناصر بعضهم بعضًا، في مقابلة قوله تعالى: (المنافقون بعضهم من بعض) ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾: على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾: الإيمان عمل بمشيئة الله، ولا إيمان بهذا إلا بهذا العمل، هذا هو الإسلام: علم وعمل، فبأي شيء يأتي الدين الجديد، والشريعة الجديدة؟

(72): ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ...﴾: هذا في مقابلة قوله تعالى: وعد الله المنافقين والمنافقات... وجاء في وصف الجنة: (فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت) وكفى بالجنة جزاء أوفى للمؤمنين والمحسنين في عصرنا الراهن، أن لا يروا فيها أحزابًا متطاحنة، وتكتلات متشاحنة، ودولاً تتنافس على الحكم في الشعوب المستضعفة، وأحلافًا عسكرية، وأسلحة جهنمية وشركات احتكارية، ودسائس ومؤامرات، ومشردين ولاجئين... إلى العديد من النكبات والويلات.

(73): ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾: استعمل النبي (ص) معهم سياسة اللين، فما أجدت فأمره الله سبحانه أن يعاملهم بما هم أهل له، أن يغلظ عليهم ويجاهدهم... ولكنه لم يبيّن نوع الجهاد: هل هو بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر؟ ومعنى هذا أن الله قد ترك ذلك إلى تقدير النبي (ص) فيجاهدهم بما يراه من الحكمة والمصلحة.

(74): ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾: ما ذكر سبحانه كلمة الكفر التي نطقوا بها كيلا يتعبد المسلمون بقراءتها، وما من شك ? كما يبدو من سياق هذه الآية وما سبق ويأتي من الآيات- أنها كلمة سوء في النبي (ص) والوحي والذين آمنوا، أطلقها المنافقون حين خلا بعضهم إلى بعض، وما أكثر الطعن وقول الزور والخيانة بالغيب ? على ألسنة المنافقين والمذبذبين! ﴿وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾: أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام، انظر تفسير الآية 66 من هذه السورة ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾: حين رجع النبي (ص) من تبوك تآمر عليه 12 رجلاً من الصحابة 8 من قريش و4 من غيرهم، وهموا بأن يدفعوه من راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة ليلا، فأخذ عمار بن ياسر زمام ناقته يقودها، وحذيفة بن اليمان يسوقها وحين أرادوا الدنو من النبي ضرب حذيفة وجوه رواحلهم حتى أبعدهم ﴿وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾: ضمير نقموا وأغناهم يعود لبعض المنافقين، والمعنى أن هؤلاء الذين يدبرون الحبائل لرسول الله كانوا فقراء فصاروا أغنياء من الغنائم وعطاء الرسول، فجعلوا موضع الشكر لهذه النعمة كفرانها ﴿فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ...﴾: بالرغم من جرأة المنافقين على الله ورسوله، وما قالوه من كلمة الكفر، وما حاكوا من حبائل أيام الحرب والسلم، بالرغم من ذلك وفوق ذلك عرض سبحانه عليهم العلاج والدواء، وهو الندم والتوبة التي لا تكلفهم أي ثمن، وتعود عليهم بكل خير دنيا وآخرة... فهل هذا مجرد جود وحلم أو وراءه شيء آخر؟ الجواب: هو حلم وجود ما في ذلك ريب، وأيضًا هو خير وقوة للإسلام والمسلمين بمن تاب منهم وأحسن، وهذا هو الحد الفاصل بين صاحب العقيدة والمبدأ والمنافق الانتهازي الذاتي، الأول ينظر المصلحة العامة، ويعمل بموجبها ويفنى فيها بكله، فيغفر ويصفح ويفتح باب الخير لكل من أراد عملاً بدينه ومبدئه، والثاني يجرم وينتقم عند النصر، لأنه لا يرى إلا همه وهمَّ ذويه... وأخيرًا فقد تاب فريق من المنافقين، وأبلوا البلاء الحسن في نصرة الإسلام.

(75) ? (76): ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ ...﴾: نزلت في ثعلبة الأنصاري الذي قال لرسول الله (ص): أدع الله أن يرزقني مالاً. فقال له: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فأقسم ثعلبة لئن رزقه الله ليعطين لكل ذي حق حقه. فدعا له النبي، ولما كثر ماله تشاغل به، حتى ترك صلاة الجمعة والجماعة، وامتنع عن أداء الزكاة.

(77): ﴿فَأَعْقَبَهُمْ﴾: فخذلهم الله وأعرض عنهم، فكانت عاقبة هذا الخذلان والإعراض ﴿نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾: تمكن النفاق في قلوبهم لا ينفك عنها إلى يوم يموتون وينشرون ﴿بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾: قال الرسول (ص): آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان.

(78): ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ﴾: الذي تنطوي عليه صدورهم ﴿وَنَجْوَاهُمْ﴾: التي يتهامسون بها فيما بينهم.

(79): ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: اللمز: العيب، والتطوع: التبرع، وضمير الجماعة في (يلمزون) للمنافقين، وحديث القرآن عنهم تمامًا كحديثه عن اليهود، بلغ الغاية والنهاية، والسر أن جرائم الفريقين لها أول بلا آخر﴿فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾: إذا تصدق المؤمن المفل بمبلغ طاقته، سخروا منه وقالوا: إنه يذكّر بنفسه ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾: أي يعذبهم عذاب الساخرين، فهو من باب تسمية العقوبة على الذنب باسم الذنب.

(80): ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ...﴾: جاء في صحيحي مسلم والبخاري أنه لما مات المنافق عبد الله بن أبي طلب ابنه أن يصلي عليه النبي فصلى، ولما قيل له في ذلك قال: إن الله خيرني فاخترت. النبي (ص) اختار، والله أعلمه بأنه لا يغفر لابن أُبي، وكلمة سبعين في الآية كناية عن الكثرة، وقال طه حسين في كتاب مرآة الإسلام: (بعد أن أحصى الله من سوء أعمال المنافقين وفضح من ذات نفوسهم أظهر من غضبه شيئًا عظيمًا فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم...

(81): ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ﴾: ذهب النبي (ص) والمؤمنون إلى تبوك، وقعد المنافقون عن الغزو مع القواعد فابتهجوا بمقعدهم هذا أي ابتهاج ﴿خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ﴾: أي بعده ﴿وَكَرِهُواْ...﴾: الجهاد بالنفس والمال، وكل من كره الجهاد في سبيل الله فهو منافق أو في حكمه ﴿وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ﴾: ومن فر من الحر فهو من السيف أفر ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾: أُعدت للمنافقين والمجرمين.

(82): ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً﴾: في الدنيا الفانية ﴿وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا﴾: في الآخرة الباقية.

(83): ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ﴾: ردك ﴿إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾: وإنما قال إلى طائفة منهم ولم يقل إليهم، لأن بعض الذين تخلفوا ندموا وتابوا إلى الله توبة نصوحًا ﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ﴾: أي إذا طلب منك يا محمد الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بلا عذر ﴿فَقُل﴾: لهم: ﴿لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا﴾: هذه المقاطعة من أشد العقوبات وقعًا على النفوس ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: أي في غزوة تبوك ﴿فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ﴾: النساء والصبيان والعجزة. وبهذا ألزمهم سبحانه بما ألزموا به أنفسهم.

(84): ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾: كان النبي (ص) يجري على المنافقين أحكام الإسلام عملاً بظاهر الحال، وكان إذا صلى على ميت، أي ميت وقف على قبره يستغفر له، فنهاه سبحانه عن الصلاة على المنافقين والوقوف على قبورهم لكفرهم ونفاقهم.

(85): ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ...﴾: تقدم في الآية 55 من هذه السورة.

(86): ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ...﴾: تشير هذه الآية إلى المترفين الأغنياء الذين يرون لأنفسهم حقوقًا مقدسة يمتازون بها على الفقراء، وقد سماهم القرآن الكريم بأولي الطول أي القوة والسعة ويقال لهم في عصرنا الطبقة الرأسمالية، والإسلام يرفض تقسيم الناس على أساس المال والاقتصاد، ويساوي بين الجميع في كل الحقوق والواجبات، ولا يرى لأحد من فضل إلا بما يقدم من جهاد وتضحيات لخدمة الإنسان والصالح العام، وكان النبي (ص) يدعو أولي الطول إلى الجهاد كسائر الناس، فتأخذهم العزة والغطرسة، ويطلبون أن يعفيهم من ذلك.

(87): ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ﴾: النساء والصبيان والمرضى ﴿وَطُبِعَ﴾: أي طبع الزهو والغرور ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾: أنه لا طبقات مالية في دين الله ولا فوارق اجتماعية، وأنه يساوي بين البشر دون النظر إلى الجنس والغنى والفقر.

(88): ﴿لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ...﴾: إذا تخلف المنافقون والمترفون عن فضيلة الجهاد فإن لها أهل أصفياء يضحون بالنفس والنفيس في سبيل الحق والعدل بنية خالصة مخلصة، ويحتقرون القاعدين عن الجهاد حتى ولو عاشوا في رفاهية وترف.

(89): ﴿أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ﴾: للأصفياء المجاهدين وهم الرسول والذين آمنوا معه ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ...﴾: تقدم في الآية 72 من هذه السورة و15 من آل عمران.

(90): ﴿وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾: جاء قوم إلى النبي (ص) من سكان البادية، ليأذن لهم بالتخلف عن الغزو معتذرين بالفقر وكثرة العيال ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾: وهؤلاء جماعة من المنافقين ما جاءوا إلى النبي (ص) ولا اعتذروا إليه ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: وضمير منهم يعود إلى الأعراب وحدهم لأن الذين كذبوا الله ورسوله كلهم كافرون لا بعضهم، أما أهل البادية المعتذرين فمنهم المؤمن الصادق في عذره، ومنهم المنافق.

(91): ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ﴾: أسقط سبحانه جهاد الغزو في سبيل الله عن الضعفاء، والمراد بهم الشيوخ المتقدمون بالسن، والمرضى، والذين لا يملكون نفقة الجهاد، ولا يجدون من يبذلها لهم، أسقطها سبحانه عن هؤلاء مع الأجر والثواب أيضًا ﴿إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ﴾: بأن يؤدوا ما عليهم من واجبات كحراسة المدينة والمحافظة على عيال المجاهدين الغائبين وأوالهم، وما إلى ذلك مما يطيقون ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾: أي من لوم وعتاب فضلاً عن الإثم وعقوبته، وهذا أصل شرعي عام، يتفرع عليه العديد من الأحكام ? وعلى سبيل المثال ? أن تستودع مالاً عند آخر، فإذا تلف فلا يضمن الوديع إلا إذا ثبت بالبينة الشرعية أنه قصر وتهاون.

(92): ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾: نزلت هذه الآية في جماعة من الفقراء أتوا النبي (ص) وهو يتهيأ لغزوة تبوك وقالوا له: لا نملك راحلة للذهاب معك، وطلبوا منه مركبًا يحملهم، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فسحت أعينهم بالدمع.

(93): ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء﴾: الفقراء يتسابقون إلى الجهاد والنضال، وهم لا يملكون شيئًا، والأغنياء يملكون كل شيء، وهم مع القواعد والخوالف... ولا بدع فقد بنت الجماهير الفقيرة العاملة وما زالت تبني المدن والمصانع، وتشق الطرق والأنهر وتقيم السدود والمعاهد، والمترفون بين العود والكأس ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ...﴾: تقدم قبل لحظة في الآية 87.

(94): ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾: يقول سبحانه لنبيه: بعد أن تعود أنت والمؤمنون من تبوك إلى المدينة، يعتذر المنافقون إليكم عن تخلفهم، فلا تقبلوا منهم عذرًا، وقولوا لهم: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾: أبدًا لا نصدقكم في شيء مما تعتذرون لأن الله سبحانه أوحى إلى نبيه بما تخفي صدوركم من شر ونفاق، أجل إذا تبتم وأثبتم بالأفعال لا بالأقوال أنكم صادقون في إيمانكم، ورأى ذلك منكم الله ورسوله والمؤمنون فعندئذ نركن إليكم ونطمئن ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...﴾: لا مفر من موقف العرض والحساب وموضع الثواب والعقاب، وهناك تبلى السرائر، وتنكشف الضمائر.

(95): ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ﴾: رجعتم من غزوة تبوك ﴿إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾: لكي تسكتوا عنهم ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾: تجاهلوهم احتقارًا وازدراء ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾: هم أقذار، وأنتم أطهار، فابتعدوا عنهم..

(96): ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾: حلف المنافقون في المرة الأولى طلبًا للصفح وخوفًا من العقاب، كما دل قوله تعالى : (لتعرضوا عنهم) وحلفوا في المرة الثانية طلبًا للرضا وطمعًا في الثواب، ويسهمون معكم في المغانم كما قال سبحانه في الآية 15 من الفتح: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم) ﴿فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾: وكذلك المؤمن، لأن رضاه من رضا الله، وفي الحديث: من رضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم.

(97): ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾: ليس هذا تقسيمًا للناس على أساس البداوة والحضارة، كيف؟ وقد أخبر سبحانه في الآية الآتية أن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولو كانت البداوة إثمًا لحرمها الله تمامًا كما حرم الكفر والنفاق، إن القرآن يقسم الناس على أساس العلم والتقى والجهاد، أما هذه الآية فهي مجرد إشارة إلى ما للظروف والبيئة من تأثير، وإنها تفعل بالأرواح كما تفعل بالأجسام، وإلى هذا يومئ قوله تعالى: ﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾: ببعدهم عن العلم وأهله والثقافة وأسبابها. وفي الحديث: من لم يتورع في دين الله ابتلاه بسكنى الرساتيق.

(98): ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا﴾: غرامة وخسرانًا، فلا يتفق إلا مكرهًا، وكذلك من أهل المدينة والحضارة، بل أكثرهم لا يتفقون إطلاقًا ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾: ينتظر القضاء على الإسلام والمسلمين ليستريح من الزكاة.

(99): ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ...﴾: وينفق في سبيل الله لوجه الله ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾: أي رغبة في دعائه بالبركة والاستغفار، وعملاً بهذه الآية يدعو علماء الشيعة لمن يؤدي إليهم حقًا ماليًا من حقوق الله ﴿أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ...﴾: كل نفقة لوجه الله تقرب صاحبها من الله وتدخله في رحمته، وفي الحديث: الصدقة تطفئ غضب الرب. وأفضل الصدقات كف الأذى عن الناس.

(100): ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾: الذين صلوا للقبلتين: المسجد الأقصى والمسجد الحرام كما في الكثير من التفاسير ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ﴾: وكل من آمن وعمل صالحًا فهو من التابعين للسلف الصالح. قال إمام المتقين وسيد الساجدين: اللهم الحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وخذ بي سبيل الصالحين ﴿رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ﴾: بطاعتهم وإخلاصهم ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾: بما أفاض عليهم من رحمته ونعمته.

(101): ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ﴾: في قلب المدينة المنورة وضواحيها منافقون لا يقف شرهم عند حد ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ﴾: يا محمد لأنهم يظهرون لك المودة ﴿نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾: وما يضمرون من كيد وحقد لكل صالح وناصح ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾: ومعنى هذا أنهم يعذبون ثلاث مرات: الأولى عند قبض الأرواح حيث تضرب منهم الملائكة الوجوه والأدبار كما نصت الآية 50 من الأنفال، والمرة الثانية عذاب القبر لحديث (قبر الكافر حفرة من حفر جهنم، وقبر المؤمن روضة من رياض الجنة) والعذاب الثالث يوم يقوم الناس لرب العالمين.

(102): ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ﴾: ولم يعتذروا بالأكاذيب، وفي الحديث: (من رأى أنه مسيء فهو محسن) وفي نهج البلاغة: سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾: أحسنوا أحيانًا. وأساءوا حينًا ﴿عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾: إن كانت كفة الحسنات أثقل وأرجح أو استوت الكفتان على الأقل.

(103): ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾: الخطاب في (خذ) للنبي (ص) وضمير الغائب في(أموالهم) للأغنياء، والمراد بصدقة، الحق الإلهي المفروض كتابًا وسنة وإجماعًا، والإمام المعصوم ينوب عن النبي في هذا الأخذ، فإن لم يوجد فعلى الأغنياء أن يعطوا هذا الحق لأهله بنفس راضية تمام الرضا ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وبالسكن الراحة، والمعنى ادع أيها الرسول بالبركة والمغفرة لكل غني يؤدي ما عليه من حقوق مالية، لأنه يغتبط بدعائك هذا، وترتاح إليه نفسه.

(104): ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾: وأنه بسطها ويسر أسبابها لجميع عباده، ودعاهم إليها مرة بالترهيب ومرة بالترغيب ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾: أي يقبلها، ويثيب عليها، وفي الحديث: تقع الصدقة في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل ﴿وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾: أي يهب الرحمة والمغفرة لمن تاب وآمن، وجاء في الآثار: التواب هو الذي قابل الدعاء بالعطاء، والإعتذار بالإغتفار، والإنابة بالإجابة، والتوبة بغفران الحوبة.

(105): ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: من يعمل الخير فهو مرضي عند الله والرسول والطيبين، ومن يعمل الشر فهو مكروه عند الجميع، وفي الأشعار: (لا يذهب العرف بين الله والناس) ﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...﴾: واضح، وتقدم قبل قليل في الآية 94 من هذه السورة.

(106): ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ﴾: مؤجلون ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾: إن أصروا على الذنب ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾: إن تابوا.

(107): ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾: عرضت الآيات السابقة الصراع بين قوى الشر والنفاق من جهة وقوى الخير من جهة ثانية، أما هذه الآية فإنها تعرض الأسلوب ونوع المؤامرات التي يدبرها ويحيكها المنافقون بدفة ضد المؤمنين المجاهدين، وأنهم يرفعون نفس الشعارات ونفس العلم الذي ترفعه قوى الحق وأنصار الحق لتغطية المقاصد العدوانية والأهداف المضادة، وهي تفريق كلمة المسلمين والإضرار بهم، وجعل المسجد مكانًا للكفر ومعقلاً لحرب الله ورسوله، ويسمى هؤلاء في العصر الراهن بأنصار الثورة المضادة. وخلاصة الحكاية التي أشارت إليها آية مسجد ضرار أن منافقي المدينة بنوا مسجدًا تحت ستار الاجتماع للعبادة، أما القصد الخفي منه فهو الهدم والتخريب وتحطيم قوى الإسلام والمسلمين، فأخبر سبحانه نبيه بهذا القصد والعزم، فأمر صلى الله عليه وآله بهدم المسجد، وأن يتخذ مكانًا لإلقاء الجيف والقمامة، وفي عالم اليوم عشرات من مساجد الضرر والضرار، ولكن باسم معهد الدراسات أو نادي الثقافة والرياضة أو الجمعية الدينية أو المكتبة العامة أو في شكل كتاب أو صحيفة أو محاضرة، وما إلى ذلك مما يهدف إلى محق الدين والوطن والقيم الإنسانية ﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى﴾: يسيء المنافق ويحلف، لأنه يشعر من الأعماق أنه مفتر كذاب، فيستتر بكثرة الإيمان، ومن هنا قال سبحانه: (ولا تطع كل حلاف مهين ? 10 القلم).

(108): ﴿لاَ تَقُمْ﴾: يا محمد ﴿فِيهِ أَبَدًا﴾: في مسجد ضرار لا للصلاة ولا لغيرها ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾: البناء القوي المتين مسجدًا كان أو غير مسجد هو أن يوضع فيه الحجر الأول، حجر الأساس، على تقوى الله، وعليها تقوم دعائمه، ولا عفاء لهذا البناء مهما طال الأمد ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾: وأحق هنا بمعنى حقيق وجدير، وليست للتفضيل بين مسجد التقوى ومسجد ضرار، فقد روي أن النبي (ص) كان لا يمر بطريق هذا المسجد ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾: إن مسجد التقوى يؤمه المتقون للعبادة والعمل الصالح لا للنفاق والتآمر.

(109): ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ﴾: إن الذي أقام عمله وبنيانه بالكامل على الخطة والخريطة التي رسمها الله سبحانه لعباده ورضي عنها هو ﴿خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾: والشفا: حرف في الشيء وطرفه، والجرف: جانب الوادي، وهار من الإنهيار، والمعنى ليس البناء القائم على أساس قوي متين كالبناء القائم على حافة النهر وفي معرض السيل، وهذا الفرق بين البنائين يصدق تمامًا على الفرق بين المؤمن والمنافق، والمخلص والخائن، وعلى كل مجال من مجالات الحياة كالحكومات والمؤسسات والشركات والصداقات وجميع العلاقات.

(110): ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ﴾: أي هدم مسجد المنافقين ﴿الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً﴾: وغيظًا ﴿فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾: والمعنى أن أهل مسجد ضرار امتلأت قلوبهم حقدًا وغيظًا بسبب هدمه، ولا يزال هذا الحقد والغيظ يفتك في قلوبهم حتى يقطعها إربًا إربًا.

(111): ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾: المشتري هو الله سبحانه والبائع المؤمنون، والثمن الجنة، والمثمن الأنفس والأموال، والواسطة في إتمام الصفقة بين البائع والمشتري محمد (ص). فهل من متجر رابح أزكى من هذا وأبقى؟ وفي نهج البلاغة: كل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.

(112): ﴿التَّائِبُونَ﴾: أي أن الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم هم التائبون من الذنوب ﴿الْعَابِدُونَ﴾: وكل عمل صالح ونافع لوجه الله والخير فهو عبادة، بل كف الأذى عن الناس من أفضل العبادات ﴿الْحَامِدُونَ﴾: الله في السراء والضراء ﴿السَّائِحُونَ﴾: في الأرض لطلب العلم أو الرزق الحلال أو أي عمل يخدم الإنسان وينفعه ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ﴾: المصلون ﴿الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾: أي ينشرون دعوة الحق، ويناصرونه أينما كان ويكون، ويعتبر الأمر بالمعروف أنجح وسيلة من وسائل الإعلام، ولذا حث عليها الإسلام، واستمسك بها الأنبياء وغير الأنبياء، وكانت الخطة الإعلامية لمحمد (ص) سماحة الخلق، ورحابة الصدر، ورجاحة العقل. والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبفضل حكمته وصفاته رفرفت راية الإسلام على شتى بقاع العالم ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ﴾: وهي حلاله وحرامه.

(113): ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى﴾: جاء في تفسير الطبري والرازي والمنار والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي في سبب نزول هذه الآية: (أن جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا، فنزل قوله تعالى: (ما كان للنبي الخ...) وهذا القول أرجح الأقوال وأصحها. وقيل: (نزلت في أبي طالب لأنه مات على غير الإسلام. وهذا أبعد ما يكون عن الحق والواقع، لأن النبي (ص) حين مات عمه أبو طالب بكى وطلب له من الله الرحمة والمغفرة، وأمر ولده عليًا بتغسيله وتكفينه بشهادة ابن سعد في طبقاته ج1 ص123 طبعة سنة 1957. وشهادة صاحب السيرة الحلبية ج1 ص467 باب وفاة أبي طالب: (أن عليًا حين أخبر النبي بموت أبيه أبي طالب بكى وقال لعلي: اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه). وفي سيرة ابن هشام ص247 من القسم الأول طبعة سنة 1955: (أن أبا طالب قال لولده علي: (أن محمدًا لم يدعك إلا إلى خير فالزمه) ولا معنى للإسلام إلا الإعتراف بأن دعوة محمد خير يحب اتباعه وطاعته.

(114): ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ...﴾: وعد إبراهيم الخليل (ع) أباه أن يستغفر له كما في الآية 4 من الممتحنة، فأوحى سبحانه إلى خليله إن أباك لن يؤمن، بل يموت كافرًا، فانقطع رجاؤه وتبرأ منه ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾: هو الذي يكثر التأوه والبكاء والدعاء خوفًا من الله.

(115): ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾: إذا عمل المؤمن عملاً محرمًا عن جهل بالتحريم كم لو استغفر لقريبه المشرك ? فإن الله لا يضله (أي لا يؤاخذه) إلا بعد البيان والإعلام، فإن خالف بعد هذا استحق العقاب.

(116): ﴿إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...﴾: واضح، وتقدم في الآية 158 من الأعراف.

(117): ﴿لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾: المراد بالتوبة على النبي (ص) والذين أطاعوه في اليسر والعسر ? الرحمة والرضوان، وليس الصفح عن الذنب ﴿مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾: أصاب المسلمون قسوة وشدة في غزوة تبوك، فكان العشرة يتناوبون على بعير واحد، والرجلان يقتسمان تمرة واحدة، فانهارت أعصاب بعض الصحابه، وهموا أن يفارقوا الرسول (ص) ولكنهم لم يفعلوا، بل صبروا واحتسبوا ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾: أي تاب سبحانه على هؤلاء، والمراد بالتوبة عليهم أنه تعالى يعاملهم معاملة الذين لم يهموا بالفرار وترك الرسول.

(118): ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾: هم كعب بن مالك وهلال بن أُمية ومرار بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق، بل عن تهاون وتكاسل، فلما رجع رسول الله (ص) إلى المدينة عتب عليهم وأمر الناس بمقاطعتهم ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾: على سعتها كأنهم لا يجدون فيها مقرًا ولا ممرًا ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾: من الغم والخوف من الله ﴿وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ﴾: أبدًا لا أحد ينال ما عند الله إلا بمعونته ومرضاته ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾: أي أن الله تعالى يقبل التوبة لكي يتوبوا، ولا يعتذروا ويقولوا: لو فقبل الله منا التوبة لتبنا. وفي الصحيفة السجادية: (اللهم اقبل توبتي كما وعدت، واعف عن سيئاتي كما ضمنت، وأوجب لي محبتك كما شرطت ولك يا رب شرطي أن لا أعود) ﴿إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾: تقدم بالحرف قبل قليل في الآية 104.

(119): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾: ليس المراد بالصدق هنا مجرد عدم الكذب في الحديث، لأن كثيرًا من الناس لا يكذبون، ومع ذلك لا يجوز الإقتداء بهم في كل شيء بل المراد بالصادقين هنا النبي وأهل بيته المعصومون من الخطأ والخطيئة بنص الكتاب والسنة.

(120) - (121): ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ﴾: أذا قاد الرسول الأعظم جيشًا لنصرة دين الله والحق، فعلى كل مسلم أن يسرع إليه، ويضع نفسه وما ملكت يداه رهن إشارته، وبالخصوص أهل مدينة الرسول وضواحيها ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾: ولا يؤثروا راحتهم ومصلحتهم، ويدعوه يكابد الشدائد والمصائب من دونهم ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾: هذا بيان وتعليل لفضيلة الجهاد، والظمأ العطش ﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾: تعب ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾: جوع ﴿وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾: ولا يتصرفون تصرفًا يسيئهم ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾: إصابة من أسر وقتل ونحوه ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾: وآلم شيء لقلب الوطني الحر أن تطأ قدم العدو تراب أرضه وبلده... أبدًا لا فرق عنده بين أن يطأ ذرة واحدة من وطنه أو يطأ رأسه وقلبه رغمًا عن أنفه، والنبيل الكريم يستهين بالموت والمال والعيال في هذا السبيل، وما أباح الإسلام حربًا إلا دفاعًا ولغاية أفضل وأكمل.

(122): ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾: لا يجب على الناس أن ينفروا بالكامل للتفقه بالدين أو الجهاد، لأن ذلك خطر على الحياة، بل الجهاد مع غير المعصوم فرض كفاية لا فرض عين إذا قام به البعض سقط عن الكل، وكذلك طالب العلم تمامًا كالتجارة والصناعة والزراعة ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾: لا بد أن ينفر من كل بلد أو قبيلة جماعة إلى بلد العلم، يتعلّمون ويعملون ويُعلّمون حين ينتهون من الدراسة التي تؤهلهم للإرشاد والتبليغ ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾: أي على الجاهل أن يسمع من المرشد ويطيع وسئل الإمام جعفر الصادق (ع) عن معنى قول النبي (ص): اختلاف أُمتي رحمة؟ فقال: ليس المراد بالاختلاف النزاع وإلا كان اتفاقهم عذابًا، بل المراد التردد في الأرض لطلب العلم.

(123): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ﴾: أي الذين تتصل أرضهم بأرضكم، وفيه حث على سد الثغور وبناء الخطوط الدفاعية على الحدود. وفي الصحيفة السجادية: اللهم حصن ثغور المسلمين، واشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين ﴿وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾: قوة وشدة بتوحيد الصفوف وجمع القلوب وتمام العدة وكريم الأخلاق ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾: المجاهدين أهل البغي والفساد.

(124): ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾: من القرآن ﴿فَمِنْهُم﴾: من المنافقين ﴿مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا﴾: أي إعجاز أو جديد في هذه السورة، يستدعي الإعجاب أو الإيمان بالقرآن أو زيادته؟ هذا ما يقوله بعض المنافقين لبعض إذا أنزلت سورة، وكم رأينا بالوجدان والعيان من حسود حقود يكذب على نفسه، ويستخف بفضائل أهل الفضل، وينعتها بكل قبيح... ولو كان له عشر واحدة منها لتفاخر به على الأولين والآخرين! وليس هذا بأعجب وأغرب من الدماء التي تراق باسم الحرية، والحقوق التي تهدر باسم الديمقراطية، والأموال التي تنهب باسم الإنسانية! ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾: يزداد المؤمن هدى ويقينًا بآيات الله، ويسترشد بها إلى طريق الجنة والرضوان.

(125): ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾: النفاق كداء السرطان يتفاقم يومًا بعد يوم.

(126): ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾: المراد بالفتنة هنا افتضاح المنافقين على الملأ وإظهار حقيقتهم لدى الجميع، وذلك بأن الله سبحانه كان يخبر نبيه الأكرم بما يبيتون ويمكرون، وكان النبي (ص) بدوره يعاتبهم ويفضحهم، وقد تكرر هذا في كل عام مرة أو أكثر.

(127): ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾: تكلموا بلغة العيون وغمزها متسائلين﴿هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا﴾: قد ينزل الوحي على رسول الله، والمنافقون في مجلسه، فيثقل عليهم سماعه، ويحاولون الفرار، ولكن يخشون أن يراهمْ أحد المؤمنين عند خروجهم فيفتضحوا، ولذا يتساءلون: هل من سبيل إلى الفرار خفية؟ ثم يتسللون كاللصوص ﴿صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم﴾: عن رحمته ومغفرته.

(128): ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾: رحمة للعالمين، ولكن الرحمة لا تتم وتتحقق إلا أن تستجيب لها النفوس، وتتفاعل معها المشاعر ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾: يشق عليه أن يلقي كائن على وجه الأرض مكروها ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾: حتى بالجافي الغليظ المتوحش، في ذات يوم جاءه إعرابي وشده ببرده في قسوة حتى أثرت حاشية البرد في عاتقه، وقال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله، فانك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك. فلم يزد الرسول على أن قال: المال مال الله وأنا عبده ويقاد منك ما فعلت. قال الإعرابي: لا. قال النبي: ولم؟ قال: لأنك لا تكافي السيئة بالسيئة، فضحك الرسول، وأمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تمر.

(129): ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾: هذي هي مهمة كل مبلِّغ أن يعرض عمن أرض، ويتوكل على الله، ومن يتوكل عليه كفاه، ومن شكره جزاه، ونستغفره من التقصير.