سورة الأنعام
(1): ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾: أي قولوا: الحمد لله ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾: بنظام وإحكام ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾: أي أوجد السبب الموجب لوجودهما ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾: بالرغم مما أراهم من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته.
(2): ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ﴾: أي خلق أصلكم من طين أو تراب ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً﴾: وهو أجل الموت ﴿وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَه﴾: وهو أجل النشر والبعث ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾: تشكون في الله مع قيام الشواهد والدلائل.
(3): ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ﴾: أي أنه تعالى في كل مكان بقدره وتدبيره وعلمه ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾: من خير أو شر.
(4): ﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾: المراد بالآية هنا الحجة القاطعة على وجود الله وبنبوة محمد (ص) والمعنى الظاهر أن الأدلة قائمة ومتوافرة على صدق الإسلام، وهي في غاية الوضوح والبساطة، ولا عذر إطلاقًا لجاحد، لأن هذه الأدلة لا تتطلب من العاقل إلا أن ينظر إليها بعقله دون هواه، وهكذا أكثر الناس يصرون على الرفض والإنكار بلا بحث وروية.
(5): ﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ﴾: بل وسخروا غير مكترثين دون أن ينظر إلى حججه وبيانه ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾: لا بد وأن ينكشف لهم القناع عن جزاء عنادهم وتمردهم.
(6): ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾: كان على من أنكروا نبوة محمد (ص) وحاربوه بكل وسيلة أن يعتبروا بهلاك الأمم الماضية ﴿مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾: أعطيناهم ما لم نعطكم، ثم بين سبحانه نوع العطاء بقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا﴾: تدر بالمطر ﴿وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾: أي من تحت أشجارهم وديارهم كناية عن الرخاء وكثرة الإنتاج، لأن خير الأرض من خير السماء ﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾:" ولم يغن مال أو سلطان ﴿وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا﴾: أهل عصر ﴿آخَرِينَ﴾: والعاقل من اتعظ بهم وبأمثالهم، والمعروف بين المفسرين أن الله سبحانه ترك أُمة محمد (ص) وذنوبهم إلى يوم الدين، وليست هذه كرامة المسلمين بالذات أولاً لأن عذاب الآخرة أشد. وثانيًا لقوله تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ? 178 آل عمران) أجل، الكرامة لمحمد (ص) ليبقى اسمه ببقاء الله سبحانه دنيا وآخرة، وفي شتى الأحوال فإن الصلاة على محمد وآله خير وسيلة إلى الله وشفيع اللهم صل على محمد وآل محمد.
(7): ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ﴾: كهذه الكتب المعروفة ﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ْ: مكابرة وعنادًا: ﴿إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾: وهكذا كل منافق يسمي الأشياء بأضدادها يرفع شعار الإيمان وهو مراء كذاب.
(8): ﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾: وهل يستقيم أمر الناس مع مخلوق مباين لهم خَلقًا وخُلقٌا؟ ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ﴾: أي أهلكناهم فورًا، لأنهم - والله أعلم ? لا يؤمنون به، ويقولون: هلا أرسل إلينا واحدًا منا نتبعه، كما هو شأن الإنسان، أحب شيء إليه ما يمنع عنه حتى إذا ناله طلب سواه، وهكذا إلى ما لا نهاية!.
(9): ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾: أي في صورة رجل حيث لا تحتمله العقول لو بقي على صورة الملك، ومجيئه في صورة البشر لا يغير من الأمر شيئًا ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾: لاشتبه الأمر عليهم، وقالوا: هذا إنسان لا ملك، ونحن نريد ملكًا لا إنسانًا.
(10): ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ ... ﴾: وبمخلصين ومصلحين، ولا شيء أسهل على الفم من مضغ الهواء بالسخرية والاستهزاء والغيبة والافتراء! والعبرة بالعاقبة وهي إلى وبال لا محالة.
(11): ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ..﴾: واضح، وتقدم في الآية 137 من آل عمران.
(12): ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ﴾: وساغ أن يكون النبي هو السائل والمجيب حيث لا خلاف بينه وبين المسئولين أن الله خالق الكون ومالكه والقصد إلقاء الحجة ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾: ما من شك؟ أن هذا إيجاب فضل وكرم، ولكن نسأل عن سره وسببه وهو في منتهى البساطة والوضوح، لأنه تعالى غني عن كل شيء، وإليه يفتقر كل شيء ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾: حيث لا يستقيم في عدله أن يفلت المسيئ من العقاب، ويحرم المحسن من الثواب.
(13): ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾: من السكنى لا من السكون، والقصد عموم الملك لكل كائن أينما كان ومتى يوجد.
(14): ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ...﴾: وهو الخالق الرازق ﴿قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾: بطبيعة الحال لأنه هو الداعي الأول إلى القرآن والإسلام ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ﴾: أي نهيت عن الشرك كما أمرت بالإسلام.
(15): ﴿قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾: لقد وضعت هذه الآية محمدًا مع غيره على مستوى واحد أمام الله، بلا امتياز وحقوق مقدسة لأي إنسان إلا بما يقدمه من خدمة لأخيه الإنسان، ومن هنا جاءت عظمة محمد (ص) وغيره من الأنبياء والعظماء، هذا هو الإسلام في واقعه: عدل ومساواة.
(16): ﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ﴾: العذاب ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: القيامة ﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾: أي ينال رحمة الله وثوابه.
(17): ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ﴾: مهما كان نوعه ﴿فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو﴾َ: حتى الدواء الذي يشفيك من مرضك والطبيب الذي عالجك هما من خلق الله ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ﴾: يقدر على إزالته وعلى دوامه ومضاعفته ويجب أن لا ننسى أن الشرط الأساس لكل نجاح في الحياة الدنيا والآخرة هو العمل (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ? 2 العصر.. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. 39 النجم).
(18): ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾: يقصم ظهور الطغاة والجبارة.
(19): ﴿قُلْ﴾: يا محمد لمن يجحد نبوتك: ﴿أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً﴾: هل تريدون مني دليلا؟ ًفعندي أعظم دليل ﴿قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾: وكفى بالله هاديًا وشهيدًا ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾: القرآن هو الشاهد والدليل من الله على نبوة محمد، وقد تحدى وما زال كل جاحد ومعاند ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى﴾: كيف تجعلون مع الله شركاء بعد وضوح الأدلة على وحدانيته ﴿قُل لاَّ أَشْهَدُ﴾: لا أجعل مع الله إلهًا آخر ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ﴾: وهذا هو التوحيد: (قل هو الله أحد الله الصمد..).
(20): ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ﴾: الضمير في يعرفونه لمحمد (ص) والمراد بأهل الكتاب علماء اليهود والنصارى في عهد الرسول، وتقدمت هذه الآية في سورة البقرة الآية 146، وأيضًا تأتي في سورة الأعراف 157: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل).
(21): ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾: كل من كذب على الله ورسوله عامدًا متعمدًا في سلب أو إيجاب ? فهو كافر بالإتفاق، وعليه فالمراد من الظلم هنا الكفر.
(22): ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾: ولا مهرب لأحد من ذاك اليوم الشاهد المشهود ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: تعبدون من دون الله حجرًا كان أو إنسانًا أو متاعًا من ملذات الدنيا.
(23): ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ﴾: أي معذرتهم الكاذبة الكافرة ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾: أي ما كنا نعتقد بأننا على الشرك والضلال، أو أن في القيامة مواقف في بعضها يستطيعون الكذب، وفي بعضها (ولا يكتمون الله حديثًا ? 42 النساء).
(24): ﴿انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾: حيث أنكروا الشرك وهو في أعماقهم ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾: غاب عن المشركين الإله الذي كانوا يعبدونه من دون الله.
(25): ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾: يا محمد وأنت تتلو القرآن، ولكنهم لا ينتفعون به ولا بغيره من الدلائل والبينات ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾: جمع واحدها كنان وهو الغطاء ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾: أن يفهموا القرآن ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾: ثقل السمع، وصحت النسبة إلى الله تعالى، لأنه خالق كل شيء حتى السم القاتل، وأيضًا النسبة إلى الفاعل القادر المختار لتوسط الإرادة والاختيار. ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾: وكل ذاتي لا يؤمن إلاّ بذاته، ولا يقتنع إلا بمنفعته، ويستحيل في حقه أن يحتمل ويرتقب الخطا من نفسه إلا نظريًا لا عمليًا، أقول هذا عن حس لا عن حدس وبشهادة العيان والوجدان ﴿حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾: في القرآن وهم مصرون سلفًا على الكفر به على كل حال حتى وإن قام عليه ألف دليل ودليل ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾: ضلالات وخرافات.
(26): ﴿وَهُمْ﴾: المشركون ﴿يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾: عن محمد ﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾: لا يقربون من النبي ﴿وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ﴾: أرادوا الكيد للإسلام ونبيه فدارت عليهم دائرة السوء.
(27): ﴿وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ﴾: ويا هول ما رأوا ﴿فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: وهل يُرجى من رجعة العمر مامضى في الحياة الدنيا؟ فكيف بالآخرة؟
(28): ﴿بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾: لا ينجوا في الآخرة إلا من كان صريحًا واضحًا في الدنيا، وأوضح من هذه الآية على ذلك قوله تعالى: (وقال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ? 119 المائدة). ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾: وكم قرأنا وسمعنا عن مجرمين تابوا في غياهب السجن، حتى إذا خرجوا عادوا إلى الحرام والآثام.
(29): ﴿وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾: من أحمق الحمق أن نسرع إلى الحكم قبل أن نعرف الصواب من الخطأ، ونستدل بترك هذه الدار على عدم الإنتقال منها إلى دار ثانية.
(30): ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ﴾: في الدار الثانية ﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾: الذي حذّرتم من ضره وحره؟ ﴿قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا﴾: بعد أن رأوا العذاب، تقطعت بهم الأسباب.
(31): ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ﴾: وفاز المؤمنون به العاملون له ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾: فجأة ﴿قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾: أي في الحياة الدنيا ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾: آثامهم ﴿عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾: أي ملازمة لهم، والتعبير بالظهور لأن الأثقال تحمل على الظهر عادة.
(32): ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْو﴾ٌ: إلا لرجلين: رجل أذنب فتاب، ورجل يسارع في الخيرات ﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾: تقية الآمل المتخوف.
(33): ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾: يا محمد ﴿الَّذِي يَقُولُونَ﴾: عنك، ومن ذلك: (وقالوا معلم مجنون ? 14 الدخان). ولماذا مجنون؟ لأنه جاء بجديد. هكذا كل جاهل بجهله ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾: يا محمد ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾: ما كذبوك إلاّ لأنهم أعداء الحق! وسلام الله على من قال: ما ترك الحق لي صاحبًا.
(34): ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾: وما أنت بأول رسول لاقى من قومه الأذى والتكذيب ﴿فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ﴾: فهَّون عليك ولا تبال تمامًا كما فعل الرسل من قبل ﴿حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾: على المكذبين، ويأتيك هذا النصر وزيادة ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ﴾: إشارة إلى قوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون ? 172 الصافات).
(35): ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾: يريد محمد (ص) الحياة للناس، كل الناس، فيدعوهم إليها ويجتهد، فينفرون ويبتعدون، ولا وسيلة لديه إلا التوجع والحسرات، فخاطبه المولى بقوله: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا﴾: منفذًا ﴿فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ﴾: يؤمنون بسببها فافعل وإلا فسلم الأمر إلى الله، وكأن هذا الخطاب الحكيم منه تعالى لقلب نبيه الكريم روح وريحان وسكينة واطمئنان، وإن يك في أُسلوبه أشبه بالعتاب ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾: ولا شيء أهون عليه من ذلك، ولكنه عنف وإرغام، ولا طاعة وثواب لمكره مرغم ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾: أي لا ينبغي أن يكون تحسك على تكذيبهم أشبه بتحسر الذين يجهلون أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى.
(36): ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾: وهؤلاء صم لا يسمعون ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ﴾: دعهم يا محمد: إنهم سوف يموتون ويبعثون عندئذ يرون ويسمعون.
(37): ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾: أي معجزة معينة كانوا اقترحوها ﴿قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً﴾: من النوع الذي اقترحوه، ولكن لا يستجيب لطلبهم ما دام تحكمًا وتعنتًا بالباطل.
(38): ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾: في سعيها وكدحها وهدايتها إلى حوائجها، والفرق أننا نفعل ذلك عن علم وعقيدة وإرادة، أما هي فتفعل آليًا بالطبع والغريزة تمامًا كدورة الدم في جسم الحي ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾: ما من شيء يحتاج إليه الناس من أمور دينهم عقيدة وشريعة إلا وقد أنزل الله سبحانه في كتابه ببيان خاص أو بأصل عام، وتجدر الإشارة أن السنة النبوية بحكم القرآن الكريم، لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ? 7 الحشر).
(39): ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ﴾: هم كالصم لأنهم لا يستمعون إلى الحق، وهم كالبكم لأنهم لا ينطقون به، وفوق ذلك هم في الظلمات، أي ظلمات بعضها فوق بعض ﴿مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ﴾: إن اختار هو الضلال لنفسه: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ? 5 الصف) وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ: إن اختار هو لنفسه الهداية والاستقامة: (والذين اهتدوا زادهم هدى ? 17 محمد).
(40): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم﴾: التاء للمخاطبين ومحلها مع الميم الرفع، والكاف حرف لا محل لها من الإعراب حيث لا يجتمع خطابان معربان في فعل واحد، والمعنى أخبروني ما رأيكم أو حالكم ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾: القيامة ﴿أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ﴾: كل مشرك وملحد إذا اشتد به البلاء، ويئس من أهل الأرض ? يلجأ فطريًا وآليًا إلى رب السماء خاضعًا متضرعًا من غير شعور وتصميم، ولا تفسير لهذا إلا أن النفس ترجع إلى خالقها بالطبع والغريزة حيث لا عقبات ولا حاجز من الشهوات.
(41): ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾: حيث لا ملجأ إلا إليه ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء﴾: وإن لم يشأ لم يكن ﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾: في الرخاء يذكرون الشيطان، وينسون الرحمن، وفي الشدائد تنعكس الآية، وهكذا عند الشدائد تستحق الحقائق.
(42): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ﴾: أرسلنا بالبينات فكذبوهم ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء﴾: من البؤس، وهو الفقر وشدة الحاجة ﴿وَالضَّرَّاء﴾: من الضر وهو البلاء والداء العياء ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾: ويتوبون إلى الله تعالى كما قال:
(43): ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾: أدبهم سبحانه بسوطه كي يستقيموا ﴿وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾: فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
(44): ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾: ذكرهم سبحانه قبل كل شيء بالقول، ثم البأساء والضراء ولكن لا حياة لمن تنادي ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾: من الرزق والرخاء لإلقاء الحجة والاستدراج بالنعم ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ﴾: من فضل الله، وازدادوا بطراً وأشرا ﴿أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً﴾: انزل بهم العذاب على حين غفلة ﴿فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾: متحيرون آيسون من النجاة والرحمة.
(45): ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾: أي آخرهم، ولم يترك منهم أحدًا
(46): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ ...﴾: يذكر سبحانه العصاة والطغاة بقدرته ويحذرهم منها عسى أن يتوبوا ويثوبوا، وفي نهج البلاغة: فوالله لقد ستر حتى كأنه قد غفر ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ﴾: نكرر العظات في شتى الأساليب، ولا مزدجر ومغير.
(47): ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ﴾: أخبروني ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً﴾: بلا إنذار وإشعار ﴿أَوْ جَهْرَةً﴾: مع الإنذار والإشعار ﴿هَلْ يُهْلَكُ﴾: دنيا وآخرة ﴿إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾: أما الأبرار فلهم أجرهم مرتين بما صبروا.
(48): ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ﴾: بالثواب ﴿وَمُنذِرِينَ﴾: بالعقاب ﴿فَمَنْ آمَنَ﴾: بالله مخلصًا ﴿وَأَصْلَحَ﴾: من عمله ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾: وهل يخشى البريء من سلطان الحق وسيف العدل؟.
(49): ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ﴾: ولذا يخافون العدل في دار الأمان.
(50): ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾: أبدًا لا أحد يملك مع الله سيئًا حتى الأنبياء ﴿وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾: إنما الغيب لله ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾: وهكذا يحدد محمد (ص) نفسه في أنه يقف مع كل الناس أمام سلطان الله وقدرته على قدم المساواة، فأين مكان الحقيقة المحمدية في كتاب الله، وأنها الروح الذي سرى في جميع الكائنات والنور الذي خلق الله منه جميع الموجودات؟ وأعظم ما في محمد وآل محمد أنهم بلغوا من كمال البشرية وجلالها الغاية والنهاية بحيث لا موجود فوقهم إلا خالق الوجود وخالقهم وكفى بذلك عظمة وكرامة ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾: أبدًا لا أحد يقاس بمحمد وآل محمد. فهم المطهرون من الرجس والدنس تطهيرًا بإرادة الله، ومودتهم حق وفرض على الناس في كتاب الله.
(51): ﴿وَأَنذِرْ بِهِ﴾: القرآن ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ﴾: وهم لمهتدون بالفعل ومن ترجو هدايتهم بالإنذار والتكرار ﴿لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾: بعض الذين يستمعون إليك يا محمد يؤثر فيهم كلامك، ويشعرون بالخوف من الله في أعماقهم، فامض معهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فإنهم يهتدون ويتقون.
(52): ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾: صباحًا ومساء ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾: تعالى ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾: في الآية 4 من القلم و128 من التوبة، يشهد سبحانه لنبيه الكريم بأنه على خلق عظيم وبالمؤمنين رؤوف رحيم، وهنا يقول له: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم... فتكون من الظالمين) إذن هناك سر.. أجل، وخلاصة هذا السر أ مجلس الرسول (ص) لا يكاد يخلو من فقراء المؤمنين فقال له بعض من نفخ الشيطان بأنفه من أهل الشرك: اطرد هؤلاء المساكين حتى نأتيك، ونسمع منك. فنزلت الآية لتفهم الذين طلبوا الطرد أنهم أولى به، وأن المساكين أفضل شأنًا عند الله وأعظم قدرًا.
(53): ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾: ابتلينا المترفين الذين يستهلكون ولا يعملون، بالكادحين البائسين ﴿لِّيَقُولواْ﴾: المترفون، واللام للعاقبة مثل لدوا للموت ﴿أَهَـؤُلاء﴾: الكادحون ﴿مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا﴾: تمامًا كما قال فرعون عن موسى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين... فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ? 53 الزخرف) ﴿أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾: لا طبقات عند الله في المال والجاه والنسب، بل درجات في الجهاد والعمل النافع حتى الإيمان والإخلاص عمل كله، ولا إيمان ولا إخلاص بلا عمل.
(54): ﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا﴾: ليس المراد بالمؤمن من اسودت جبهته من أثر السجود وكفى، بل من ابيضت نفسه وطابت، وصفت دخيلته وخلصت من الحقد والحسد ﴿فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾: تحية أهل الجنة ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ﴾: تفضلاً منه وكرمًا ﴿الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾: بسفاهة لأن من أقدم على عمل السوء عن علم وعمد فهو أسوأ حالاً من الجاهل ﴿ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ﴾: صادقًا ﴿وَأَصْلَحَ﴾: في عمله مخلصًا ﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: ومن رحمته أنه يحب التوابين.
(55): ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ﴾: في صفات الصالحين والطالحين ﴿وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾: ونفهم من هذا أن فضيحة المجرمين والخائنين مندوبة وفضيلة.
(56): ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ﴾: عقلاً ووحيًا ﴿أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ﴾: وأي عاقل يعبد ما لا يضر ولا ينفع ﴿قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ﴾: لأنها تقود إلى الهاوية ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا﴾: كما ضللتم.
(57): ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾: آمنت بالله عن علم وبرهان ﴿وَكَذَّبْتُم بِهِ﴾: عن جهل وتقليد، ولا يتبع جهلكم وأهواءكم إلا من فقد رشده وعقله ﴿مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾: حين دعاهم النبي إلى الإيمان ﴿قالوا له﴾: أمطر علينا حجارة من السماء. قال لهم: هذا بيده تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ﴾: يقول الحق ويفعله.
(58): ﴿قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾: بإهلاك من ظلم منكم غضبًا لله تعالى.
(59): ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾: أي لا شيء يغيب عن علمه تعالى ﴿لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾: حيث لا شريك له في شيء ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...﴾: كمالُه تعالى مطلق من كل وجه، ومعنى هذا أن علمه عين ذاته وغير مستفاد، وأيضًا معناه أنه يحيط بكل شيء علما ولو غاب شيء عن علمه كسقوط ورقة عن شجرة أو حبة في ظلمات الأرض ? لأخل ذلك بكماله، تعالى عن ذلك.
(60): ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾: النوم ضرب من الوفاة حيث تتعطل الحواس عن أعمالها ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾: ما كسبت جوارحكم ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾: أي في النهار، يوقضكم من نومكم ﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى﴾: لتستوفوا آجالكم ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾: بعد الموت ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: من خير أو شر.
(61) ? (62): ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾: بالموت والفناء والكرب والبلاء. ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾: كرب ومصائب، وكدح ومتاعب، وحساب وعقاب، هذا هو الإنسان، وهذه حياته ومع ذلك يرى نفسه شيئًا مذكورًا.
(63): ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾: كناية عن الشدائد التي لا ينجو منها صغير ولا كبير ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾: متضرعين بألسنتكم ومسرين في أنفسكم ﴿لَّئِنْ أَنجَانَا﴾: الله ﴿مِنْ هَـذِهِ﴾: المصيبة ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: هذي لغة التجار، يشكرون الله لا إخلاصًا له، بل بشرط أن يعطيهم النجاة والخلاص من الآلام، وهكذا يتعاملون مع الشيطان يعطونه الدين والعقل والضمير بشرط أن يعطيهم شيئًا من متاع الدنيا وزخرفها، ولكن الله سبحانه يعامل كلا بما هو أهل (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيًا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
(64): ﴿قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾: إن الله سبحانه ينجيكم ويشفيكم مما يعجز عنه أهل الأرض بالكامل، ولكن تعودون بعد الشفاء والنجاة إلى الرذائل والسيئات.
(65): ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ﴾: كالصواعق والطوفان ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾: كالخسوف والزلازل ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾: يخلطكم أو يجعلكم أحزابًا متطاحنة ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾: يقتل بعضكم بعضًا ﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾: نقيم للناس الحجج على الحق، عسى أن يعملوا به.
(66): ﴿وَكَذَّبَ بِهِ﴾: بالقرآن ﴿قَوْمُكَ﴾: قريش ﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾: ولذا جحدوه وعاندوه ﴿قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾: بل بشير ونذير.
(67): ﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾: لكل خبر يوم يعرف فيه صدق المخبر من كذبه.
(68): ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ...﴾: تقدم في الآية 139 من النساء ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾: النهي عن مجالستهم ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: فان الوحدة خير من جليس السوء.
(69): ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ﴾: لا يجب على المؤمنين أن يحاسبوا المستهزئين بآيات الله، إن حسابهم على من إليه إيابهم ﴿وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾: ولكن على المؤمنين التذكير والتحذير بالحسنى عن هذا المنكر.
(70): ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾: الدين قدس الأقداس لأنه لله من الله، والاستخفاف به هرطقة وإلحاد ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾: فباعوا دينهم بدنياهم ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾: بالقرآن ﴿أَن تُبْسَلَ﴾: ترتهن ﴿نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ﴾: ناصر ﴿وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾: المراد بالعدل هنا الفداء، و(كل) مفعول مطلق لأنها مضافة إلى المصدر ﴿أُوْلَـئِكَ﴾: إشارة إلى من التخذ دينه لعبًا ولهوًا ﴿الَّذِينَ أُبْسِلُواْ﴾: ارتهنوا ﴿بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾: يغلي في البطون.
(71): ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا﴾: لا دنيا ولا آخرة ﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ﴾: وتصلح هذه الآية تحديدًا للرجعي، وأنه من يرتد عن الهدى إلى الضلال، وعن الحق إلى الباطل، وعن الرشد إلى الغي كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا: هذا تمثيل لمن ران الحمق على قلبه وعقله وضل الطريق الهادي ، فأشفق عليه أحبابه وأصحابه، ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ﴾: وحدد سبحانه هداه في كتابه بالصراط المستقيم أو بالاستقامة قلبًا ولسانًا وعملاً ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: ونعتصم به وحده.
(72): ﴿وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ﴾: حيث لا إسلام إلا بها فإنها رمز التوحيد والتسليم لأمر الله ﴿وَاتَّقُوهُ﴾:أي اتقوا معصية الله.
(73): ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾: أي بما فيها من نظام ونواميس لا يستقيم الكون إلا بها ﴿وَيَوْمَ﴾: أي حين ﴿يَقُولُ كُن فَيَكُونُ﴾: وفاعل هذين الفعلين ضمير مستتر، والتقدير يقول للشيء كن فيكون ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾: مبتدأ وخبر ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ﴾: كناية عن بعث ما في القبور ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾: والمراد بالغيب هنا ما غاب عن المخلوق، لأن الخالق لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء كما في الآية 61 من يونس وغيرها.
(74): ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ﴾: قال الشيعة الإمامية: هذا اسم عمه أو جده لأمه، وأُطلق على الأب مجازًا، ويعزز هذا القول ما جاء في التوراة سفر يشوع الاصحاح 23 فقرة 2 أن اسم أبي إبراهيم تارح ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾: وفي مذهب الشيعة: لا مشرك إطلاقًا في آباء محمد (ص) وأجداده، وكل أُمهاته وجداته من مطهرات من الفحشاء ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾: بعبادة الأصنام.
(75): ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾: أيقن إبراهيم (ع) بوحي من عقله الكبير وفطرته النقية بأن قومه على ضلال في الكثير من عاداتهم بخاصة عبادتهم الأصنام، فثار ثورة عاقلة واعية عليهم وعلى ما يعبدون، بل يسوغ أن نسمي هذه ثورته هذه بالكونية لأنه انطلق من عجائب الكون وآياته إلى توحيد الخالق وعظمته.
(76): ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾: أي ستره ﴿رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي﴾: كان قومه يعبدون الكواكب فيما يعبدون، فقال محاكاة لزعمهم: هذا ربي، فاطمأنوا إليه ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾: غاب الكوكب تحت الأفق، أيقظ عقولهم، ولفت نظرهم إلى أن الآلهة التي تنقلب من حال إلى حال و﴿قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾: وعبادتهم، لأن الخالق لا يحول ولا يزول ولا يجوز عليه الافول.
(77): ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ﴾: مستدرجًا قومه: ﴿هَـذَا رَبِّي﴾: لأنه أسطع نورًا من الأول وأكبر حجمًا ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾: القمر وغاب، إذن ما زالت المشكلة قائمة ﴿قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾: ما زال إبراهيم (ع) يستدرج قومه، ويسير معهم، لأنه على العلم اليقين بأنه الهادي المهدي.
(78): ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾: ولا رجعة بعد هذه الطلقة الثالثة ولذا ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾: بريء من هذه الكواكب التي جعلتموها شريكة لخالقها.
(79): ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا﴾: مائلاً عن عبادة الكواكب إلى عبادة الواحد الأحد.
(80): ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ﴾: ولا حجة لديهم إلا هذا التقليد الأعمى: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾: إلى التوحيد بالفطرة والعقل ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾: من الكواكب وغيرها، لأنها لا تضر ولا تنفع ﴿إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا﴾: حتى لو أن صنمًا مما تعبدون قطعني إربًا إربًا، أبقى راسخ الإيمان بالله وحده، وأقول هو سبحانه سخره وسلطه علي ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾: فلا يصيبني أي شيء إلا بعلمه وإرادته.
(81): ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾: أتريدونني أن أخاف من أصنام لا حول لها ولا قوة ﴿وَلاَ تَخَافُونَ﴾: أنتم ﴿أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾: ولا تخافون افتراءكم بأن له شركاء من خلقه ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ﴾: الفريق الموحد أو الفريق المشرك؟.
(82): ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾: لم يخلطوا إيمانهم الخالص بأية شائبة من الشرك ﴿أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾: هذا بيان للفريق الناجي من عذاب الله الآمن من غضبه وأنهم أهل التوحيد.
(83): ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾: أي الحجج التي نطق بها إبراهيم، وأفحم بها قومه ألهمناه إياها، وكل حجة أو كلمة يحق بها الحق، ويبطل بها الباطل فهي حجة الله وكلمته ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء﴾: في الإسلام درجات متفاوتات في العلم والإيمان والإخلاص، وقد بلغ إبراهيم أرفعها، لا في المال والجاه والأنساب.
(84): ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾: لإبراهيم (ع) ﴿إِسْحَقَ﴾: للصلّب مباشرة من زوجته سارة ﴿وَيَعْقُوبَ﴾: ابن اسحق وابن الابن ابن ﴿كُلاًّ﴾: من اسحق ويعقوب ﴿هَدَيْنَا﴾: وأيضًا ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾: لأنه أقدم من إبراهيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ﴾: ذرية نوح أو إبراهيم ﴿دَاوُودَ﴾: ابن ايشا، ومعناه في العبرية محبوب ﴿وَسُلَيْمَانَ﴾: بن داوود، ومعناه في العبرية رجل سلام ﴿وَأَيُّوبَ﴾: اسم عبري، ولا يعرف معناه كما في قاموس الكتاب المقدس الذي ننقل عنه ﴿وَيُوسُفَ﴾: ابن يعقوب، اسم عبري، ومعناه يزيد ﴿وَمُوسَى﴾: بن عمران ومعناه في اللغة المصرية ولد، وفي العربية منتشل ﴿وَهَارُونَ﴾: وهو بكر أبيه وأكبر من أخيه موسى بثلاث سنوات كما في قاموس الكتاب المقدس. ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾: حتى ولو لم يكونوا أنبياء ومرسلين.
(85): ﴿وَزَكَرِيَّا﴾: وفي اللغة العربية زكر الإناء: امتلأ ﴿وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.
(86): ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾: بن إبراهيم من زوجته هاجر المصرية، ومعناه في العبرية يسمع الله ﴿وَالْيَسَعَ﴾: وفي قاموس الكتاب المقدس: (اليشع اسم عبراني معناه الله خلاص) ﴿وَيُونُسَ وَلُوطًا﴾: ابن أخي إبراهيم الخليل ﴿وَكُلاًّ﴾: أي كل واحد من هؤلاء المذكورين ﴿فضَّلْنَا﴾: أي فضلناه في النبوة ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: في زمانه هو لمكان نبوته لا في كل زمان وإلا لكان كل واحد من هؤلاء الأنبياء أفضل من كل الأنبياء السابقين عليه واللاحقين له، وهذا عين التناقض والتهافت حيث يكون كل واحد فاضلاً ومفضولاً في آن واحد.
(87): ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾: من هنا للتبعيض، والمعنى وهدينا بعض آباء من ذكرنا من الأنبياء وبعض أولادهم وبعض أخوانهم، لأن من ذرياتهم وإخوانهم كانوا كافرين، بل لم يكن لعيسى ويحيى نسل وذرية ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: هذا المديح والثناء تمهيد لقوله تعالى:
(88): ﴿ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾: ليست هداية الله وقفًا على فرد دون فرد ولا على فئة دون فئة ولا هو أكثر رعاية وعناية بعبد دون عبد من عباده، بلهو، جلت حكمته، لكل من استمع وأطاع، وتأتي الرعاية منه تعالى والمعونة على قدر التقوى والإخلاص. ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: وأيضًا هو سبحانه في غضبه وعذابه لمن عصى تمامًا كما هو في مرضاته وثوابه لمن أطاع، من استقام فإلى الجنة، ومن زل فإلى النار ايّا كان ويكون.
(89): ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾: كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داوود ﴿وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾: والمراد بالحكم هنا معرفة القضاء وفصل الخطاب، والنبوة أعم وأشمل ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء﴾: المشركون وغيرهم ممن جحد نبوة محمد (ص) ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا﴾: بنبوة محمد ورسالته ﴿قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾: وهم المؤمنون بالله ورسوله المخلصون في أقوالهم وأفعالهم.
(90): ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾: ولا محل لهذه الهاء من الإعراب، وتسمى هاء السكت والوقف، والمعنى سر على طريقة الأنبياء في الإيمان بالله وتوحيده والإخلاص له ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾: كل من يطلب من الناس أجرًا على عمل فهو يعبد الله على حرث ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾: وليست الذكرى للتجارة والمساومة، بل لمجرد الإرشاد والهداية.
(91): ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾: كل من جعل مع الله إله آخر أو أنكر كتابه من كتبه أو رسولاً من رسله- فهو جاهل بالله وعظمته، فكيف بمن جحده من الأساس أو آمن به وأنكر أن يكون له رسول أو كتاب، وإلى هؤلاء أشار سبحانه بقول: ﴿إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾: جحدوا كل كتاب سماوي لا لشيء إلا عنادًا للقرآن تمامًا كمن يقول: فلان خسيس وشحيح لأنه ما أفاض علي من ماله ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى ...﴾: قال الشيخ الطبرسي: (إن اليهود هو الذين أنكروا نزول الكتب من السماء على وجه العموم لا لشيء إلا (مبالغة في إنكار نزول القرآن فأُلزموا بما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى) وهذا التفسير هو الأقرب والأصح لأن اليهود يعتقدون أن النبوة هدى هبة من الله لهم وحدهم ووقفًا عليهم من دون العالمين... حتى خالق الخلق مختص بهم ومتجنس بهويتهم وحميم يدافع عنهم ويعمل بمنفعتهم دون الخلائق أجمع. اقرأ التوراة سفر التثنية الإصحاح الرابع والعاشر وغيره، وأيضًا إقرأ للفيلسوف اليهودي اسبنوزا كتاب رسالة في اللاهوت الفصل الثالث رسالة العبرانيين.
(92): ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ﴾: القرآن ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾: على محمد ﴿مُبَارَكٌ﴾: صفة للقرآن، أما بركات محمد والقرآن فقد عمت الشرق والغرب، وتحدث عنها القاصي والداني ﴿مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: يعترف بأنبياء الله ورسله بلا استثناء حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ﴿وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾: وهي مكة المكرمة، وخصها سبحانه بالذكر حيث منها انطلقت دعوة القرآن ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾: وانطلقت هذه الدعوة من مكة إلى جوارها، ومن الجوار إلى الأقرب فالأقرب ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾: وضمير (به) للقرآن، وهو بشير ونذير للعالمين المطيع منهم والعاصي، أما الأول فيبشره النبي بالثواب إن استمر على الطاعة، وينذره بالعقاب إن انحرف وخالف، وأما الثاني فينذره بالعقاب إن استمر بالمعصية، ويبشره بالثواب إن تاب وأناب.
(93): ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾: كل من قال: هذا حرام الله، وهذا حلال الله من عندياته فهو كذاب ومفتر على الله حتى ولو أصاب الواقع، ومن قال مثل ذلك مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه، ومراعيًا للأصول والقوانين فهو مأجور حتى ولو أخطأ الواقع ﴿أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ ...﴾: ولا شيء أيسر وأهون من إطلاق اللسان حتى في إدعاء الربوبية، ولكن أسواءه وأدواءه تعود على صاحبه ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ...﴾: كل من يجحد الخالق واليوم الآخر أو يسيء إلى عيال الله ولو مثقال ذرة ? فهو ظالم، وما من ظالم على الإطلاق إلاّ ويلاقي جزاء ظلمه في الدنيا قبل الآخرة ولو ساعة الإحتضار ونزع الروح من جسده حيث يأخذ منه بالتنكيل والعذاب الوبيل، قال علي أمير المؤمنين(ع): (الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة، وفك قيود وأغلال إلى أفخر الثياب، وآنس المنازل، وهو للكافر كخلع ثياب فاخرة إلى أوسخها وأخشنها، ومن المنازل الأنيسة إلى أوحشها وأعظم العذاب).
(94): ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا﴾: بصيغة الماضي، ومعناها المستقبل أي تجيئوننا ﴿فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: أي منفردين لا مال ولا رجال ولا ما كنتم تعبدون من الله ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ﴾: للوراث، لهم النعيم والخيرات وعليكم الحساب والتبعات ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء﴾: زعمتم أن السيد المسيح (ع) أو غيره إشتركوا مع الله في خلقكم أو رزقكم، فأين هم؟ ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: تولدون يوم القيامة ولادة جديدة تمامًا كما خرجتم من بطون الأمهات مع فارق واحد، وهو أنكم في الولادة الأولى لا تسألون عن شيء، وفي الثانية تُسألون عما كنتم تقولون وتعملون.
(95): ﴿إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ﴾: بالنبات ﴿وَالنَّوَى﴾: بالشجر، ولكن بواسطة الماء والتراب والهواء ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ﴾: النبات والشجر ﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾: الحب والنوى ﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾: كما يُخرج سبحانه من الحب الجامد نباتًا ناميًا كذلك يخرج من النبات النامي حبًا جامدًا، كل ذلك يحدث بأسبابه الطبيعية، وبكلمة إن عظمة الله لا تتجلى بإيجاد الطبيعة كيف اتفق، بل وبما أودع فيها من نظام ونواميس وأسباب لا يستقيم الكون والحياة إلا بها ﴿ذَلِكُمُ﴾: الحكيم المدبر هو ﴿اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾: كيف تنصرفون عنه إلى غيره؟
(96): ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾: كناية عن النهار الذي يسعى فيه الإنسان لرزقه وتدبير شؤونه ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾: يسكن فيه الإنسان، ويستريح من عمل النهار ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾: لحساب الأوقات ومعرفتها ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾: ومن تقديره تعالى وحكمته أنه جعل الأرض في المكان تتحرك فيه تلقائيًا وآليًا حركتين: حركة تتم في 24 ساعة، وعليها مدار حساب الأيام، وحركة تتم في سنة وبها توجد الفصول الربعة، وعليها مدار حساب السنة.
(97): ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾: والمراد بالنجوم هنا ما عدا الشمس والقمر من النيرات، وهي من أهم العلامات التي يهتدي بها الملاح في سفينته، والراكب في سيارته، والمرتحل على راحلته.
(98): ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾: لم تلد عبدًا ولا أمة، بل الحياة الإجتماعية هي التي أولدت العبيد حيث لا آلة إلا الأيدي وكفى، وتكلمنا عن ذلك مفصلاً في بعض مؤلفاتنا. ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾: في الرحم ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾: في الصلب وعن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قسم الإيمان إلى مستقر راسخ حتى الموت، ولا يكون هذا إلا في قلب من تتفق أقواله مع أفعاله، وإيمان مستودع متزلزل في قلب من تخالف أقواله أفعاله.
(99): ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾: لولا الماء العذب لكانت الأرض صحراء جرداء، ولم يكن للحياة عليها من أثر، وأسند سبحانه إليه إنزال الماء والإنبات، لأنه مسبب الأسباب، من قدرته تبتدئ، وإلى إرادته تنتهي مهما امتدت الحلقات ﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا﴾: ضمير منه يعود إلى النبات، والمراد بالخضر الغض والطراوة، أي تشعب من النبات أغصان غضة طرية ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا﴾: ضمير منه يعود إلى الخضر، أي يخرج من الأرض سنابل القمح ونحوها كثمر الرمان الذي يركب بعضه حبوبه بعضًا ﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾: الطلع أول ما يخرج من النخلة في أكمامه، وقنوان جمع قنو، وهو العنقود من الثمر، ودانية قريبة من الأرض سهلة التناول. ﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾: وخصّ سبحانه هذه الأصناف الثلاثة بالذكر لشيوعها وإلا فنعمه كعجائبه لا حد لها ولا عد ﴿انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾: أي ونضجه والمعنى انظروا بعيونكم، وفكروا بعقولكم في صنع الله ومخلوقاته، ولا تمروا بها مرور البهائم والسوائم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾: نشير إلى هذه الآيات والظواهر البينات لكي تؤمنوا بالله وحكمته عن حس وعقل لا عن تقليد أعمى، وأيضًا كي تقيم الحجة على كل جاحد ومعاند.
(100): ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ﴾: هذا الظاهر واضح الدلالة على أن قومًا من خلق الله تعالى يعبدون الجن، ولم يبين من هم هؤلاء القوم، ونحن نسكت عمن سكت الله عنه، وفي شتى الأحوال فقد رد سبحانه على هؤلاء بكلمة واحدة، هي ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾: كيف يكون لله شركاء، وهو خالق كل شيء ﴿وَخَرَقُواْ﴾: اختلقوا وابتدعوا ﴿لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾:قال بعض المشركين من العرب الملائكة بنات الله، وقالت طائفة ثانية عزير ابن الله، وثالثة: المسيح ابن الله رجمًا بالغيب، وأيضًا يُروى عن النملة أن لله شاربين أشبه بشاربيها، أما قصة العابد الزاهد وحمار الله فهي مسجلة في كتب الحديث!.
(101) ? (102): ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾: والولادة من صفات الأجسام، وخالق الأجسام ليس بجسم ﴿وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ﴾: ولا ولادة بلا زوجة وصاحبة ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾: ومن كان بهذه الصفة فهو غني عن كل شيء، وإليه يفتقر كل شيء، وفي هذا الاحتجاج وأُسلوبه من الله تعالى درس بليغ ومفيد للدعاة إلى الإيمان والعمل الصالح، وأن عليهم أن ينزلوا إلى مستوى الجاحد، تواضعًا، ويخاطبوه بالحكمة ومنطق العقل لا بالرعونة والحمق، لأن الغرض الأول من التبليغ والإرشاد الإقناع والتيشير لا الصراع والتنفير.
(103): ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾: لأنه غير متحيز في جهة ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾: وغيرها ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾: بعباده ﴿ْخَبِيرُ﴾: بأعمالهم ومقاصدهم.
(104): ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ﴾: دلائل وبينات ﴿مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ﴾: الحق وعمل به ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾: أحسن ﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾: عن الحق أو تهاون ﴿فَعَلَيْهَا﴾: وحدها يقع الضرر ﴿وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾: بل بشير ونذير.
(105): ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ﴾: أي أنزلنا عليك يا محمد آيات القرآن في أساليب شتى، ليهتدي بها المشركون والضالون، ولكنهم تمردوا وعاندوا، وقالوا من جملة ما قالوا: إن آيات القرآن ليست من عند الله، بل درستها أنت وتعلمتها يا محمد من اليهود وغير اليهود ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ﴾: أي نبين القرآن ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾: أنه من عند الله لا من عند محمد (ص).
(106): ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾: أمضِ يا محمد في سبيل التبليغ والدعوة إلى الحق والتوحيد، ولا تبال بالقيل والقال.
(107): ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ﴾: لا يريد الله أن يؤمنوا به مقهورين بل مختارين ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾: أي ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾: وهاتان الجملتان تفسير وتوكيد لقوله تعالى: (وأعرض عن المشركين) والهدف الأول من هذا التوكيد هو تحديد مهمة النبي وغيره من الدعاة، وأنها التبليغ دون التنفيذ.
(108): ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ﴾: أي لا تسبوا أصنام المشركين ﴿فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا﴾: أي ظلمًا وعدوانًا ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: بعظمة الله وجلاله، وفيه دلالة على النهي عن المنكر إذا أدى إلى زيادته ينقلب معصية ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾: الشيطان هو الذي يزين القبيح لفاعله، وليس الرحمن، قُدست اسماؤه، وأسند سبحانه التزيين إليه لمجرد الإشارة أنه قادر على ردعهم عن القبيح قسرًا وجبرًا، ولكنه لا يريد أن يسلب الإنسان حريته وإرادته ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: وإذن فلندع الحساب على الدين لله وحده ما دام صاحبه يكف عن الأذى والعدوان للآخرين.
(109): ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: المشركون حلفوا بالله مجتهدين ﴿لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ﴾: لئن أتاهم محمد (ص) بمعجزة من النوع الذي فرضوه وعينوه ﴿لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾: وبمحمد ﴿قُلْ﴾: لهم يا محمد ﴿إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ﴾: لا عندي أنا، وهو يُنزل منها ما تقوم به الحجة الكافية على الجميع، وما زاد فينزله أو يمنعه تبعًا للحكمة، ولكن الصحابة تمنوا أن يستجيب الله لطلب الكافرين رغبة منهم في إسلامهم، فخاطبهم سبحانه بقوله: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾: ما يدريكم ﴿أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ﴾: المعجزة التي اقترحوها ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: بها ولا بمحمد، وتقدم نظير ذلك في الآية 37 من هذه السورة.
(110): ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾: كناية عن علم الله بحقيقتهم وإصرارهم على الضلال حتى ولو جاءتهم ألف آية وآية ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: أبدًا لا يؤمنون بمحمد في حال من الأحوال حقدًا وعنادًا، وموقفهم معه بعد أن يأتيهم بالمعجزات تمامًا كموقفهم من قبل ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾: اختاروا لأنفسهم العمى والضلال، فهم وما يختارون في الحياة الدنيا، ولهم في الآخرة سوء العذاب.
(111): ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾: مقابلة وجهًا لوجه ﴿مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾: تصوير ليس له من نظير: الموتى بالكامل يخرجون من بطن الأرض وجميع الملائكة ينزلون من السماء ومعهم الكواكب والطيور بشتى أنواعها، وكل الأسماك وجميع الأحياء في الأنهار والبحار تخرج إلى اليابسة ومعها كل الحشرات وكذا الرمال والأحجار والتراب والأشجار، وغير ذلك من الكائنات والمخلوقات، وكلها تقول بصوت واحد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومع هذا وفوق هذا لا تلين قلوب المعاندين حتى كأن لم يكن شيء!. ولماذا؟ لسبب واضح وبسيط، وهو أن قلوبهم وعقولهم وعواطفهم وميولهم استحالت بكاملها إلى الحرص على مصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية، ومن أجل هذا لا يجدي معهم أي منطق أو أية لغة إلا لغة القوة التي أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ﴾: إكراههم وقسرهم ﴿وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾: أنهم القوم الطاغون الذين لا يستمعون إلا للغة السيف والقوة.
(112): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾: كل من يغري الناس بالباطل على أنه حق فهو من شياطين الإنس، أما شيطان الجن فهو من غيب الله، وتؤمن به لأن النص أثبته والعقل لا ينفيه ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾: أي إغراء بالرذائل والقبائح، وزخرف القول كلام ظاهره الرحمة وباطنه العذاب ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ﴾: يا محمد لردعهم بالقوة ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾: أي ما فعلوا شيئًا يغضب الله سبحانه
(113): ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾: أي يوحي الأشرار بعضهم إلى بعض زخرف القول ليستمع إليه الكفار ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾: بعد الإستماع إليه ﴿وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾: من المعاصي والآثام.
(114): ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾: قل لهم يا محمد: هل أطلب غير الله حاكمًا يكم بيني وبينكم، ويميز الحق منا من المبطل؟ ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً﴾:مبينًا فيه الحلال والحرام والكفر والإيمان والشهادة لي بالصدق وعليكم بالكذب والإفتراء ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ﴾: تقدم في الآية 146 من سورة البقرة ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾: لا تشكن يا محمد أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن حق وأنك محق في رسالتك.
(115): ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: وكلمته تعالى دينه وقرآنه ﴿صِدْقًا﴾: في جميع أقواله ﴿وَعَدْلاً﴾: في جميع أفعاله ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ﴾: لأنها تقول للشيء (كن فيكون) ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾: لما يقولون ﴿الْعَلِيمُ﴾: بما يضمرون ويفعلون.
(116) ? (117): ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾: ولماذا؟ الجواب: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ﴾: يحكمون بالتهمة، ويجزمون باللمحة الخاطفة بلا يحث وأساس ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾: يكذبون ويعدون أنفسهم مع الصادقين وبكلمة يكذبون على أنفسهم بأنفسهم. ولو لم يكن للإسلام وفي القرآن إلا هذه الآية لكفى بها دليلاً على فضل الإسلام وعظمته حيث رفعت من شأن العلم، وجعلت كلمته فوق كلمة أهل الأرض أن أُخذوا بالجهل والوهم، على عكس الأديان التي ترى نفسها فوق العلم والعقل.
(118): ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾: كان أهل الجاهلية يذكرون على ذبائحهم أسماء أصنامهم، فنهى سبحانه عن ذلك، وأمر أن يذكر اسمه دون سواه.
(119): ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾: يظهر أن هناك شبهة عرضت للبعض، وهي كيف يمكن الجمع بين الذبح عن عمد وبين اسم الله، فنبه سبحانه أن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرمه، وهو الذي أمر بذكر اسمه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾: ومن ذلك الميتة وما أُهل لغير الله به ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾: من الميتة وغيرها، لأن الضرورات تبيح المحظورات، وتقدم نظيره في الآية 173 من البقرة ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ﴾: الناس: فيحللون ويحرمون ﴿بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: ولا هدى ولا كتاب منير.
(120): ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ﴾: ارتكاب الحرام علنًا ﴿وَبَاطِنَهُ﴾: ارتكابه سرًا.
(121): ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾: الضمير في إنه يعود إلى مصدر الفعل أي الأكل، والفسق المعصية، ويكفي مجرد اسم الجلالة مثل الله أو الحمد لله أو باسم الله والله أكبر، وأجمع فقهاء المذاهب ما عدا الشافعية على أن الذابح إذا ترك التسمية عامدًا حرمت الذبيحة، واختلفوا في ترك التسمية سهوًا، فقال الجعفرية والحنفية والحنابلة لا تحرم الذبيحة ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾: المراد بالشياطين أبالسة الإنس، كانوا يعلمون بعض أذنابهم أن يقولوا للمسلمين: كيف تأكلون الحيوان الذي ذبحتموه بأيديكم، ولا تأكلون الحيوان الذي أماته الله! أليس قتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم؟ فقال سبحانه لضعاف العقول من المسلمين: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾: أي من أحل أكل الميتة كما أحلها المشركون فهو في حكمهم.
(122): ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا﴾: بالجهل والإلحاد ﴿فَأَحْيَيْنَاهُ﴾: بالعلم والإيمان ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾: سميعً بصيرًا ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾: أي لا يهتدي إلى سبيل النجاة مدى الحياة وأيضًا يحشر يوم القيامة أعمى كم قال سبحانه: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً -72 الإسراء) ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: وكل جاهل بجهله يرى الخير شرًا وبالعكس.
(123): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾: مجتمع من الناس قلّ أو كثر ﴿أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾: أي تركناهم وشأنهم ولم نردعهم من المنكر بالقوة، وخص الأكابر بالذكر لأنهم أصل البلاء والداء العياء ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
(124): ﴿وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ﴾: قال بعض الذين حسدوا محمدًا على ما آتاه الله من فضله: لا نؤمن حتى ينزل علينا الوحي تمامًا كما نزل على محمد (ص) لأنه ليس بأفضل منا وأكرم، فرد عليهم سبحانه بقوله: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾: إن الله لا يصطفي لرسالته إلا عن علم بأن المصطفى كفؤ لها ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ﴾: والصغار الذل والهوان، وهو جزاء من تكبر وتعاظم.
(125): ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾: بعد أن ذكر سبحانه أنه يصطفي لرسالته من هو أهل لها عظمة وكمالاً، أشار أن الإسلام الذي هو دين الله الحق لا يختاره ويدين به إلا من ينسجم معه طهرًا وصفاء، ومن يك على هذا الوصف، ويهتدي إلى الإسلام يأخذ الله بيده، ويوفقه لكل خير، ومعنى هذا أن الخيار في النبوة لله وحده أما الخيار في الإسلام فلعباده بالكامل، والله في عون من يختاره لنفسه ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾: أي من يختار الضلال لنفسه فلا يمنعه الله عنه بالقهر والإكراه، بل يتركه راسبًا في غيه كم قال سبحانه: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ? 5 الصف.. والذين اهتدوا زادهم هدى ? 17 محمد) ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾: من يختار لنفسه الباطل والضلال يضيق بالهدى والحق حين يدعى إليه تمامًا كما لو طلب منه أن يصعد على القمر بلا وسيلة ترفعه وتحمله ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ﴾: الخذلان والعذاب ﴿عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: يضيقون ويتبرمون من الحق ودعوته.
(126): ﴿وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾: هكذا جرت سنته تعالى مع خلقه أن لا يتدخل بإرادته التكوينية أو الشخصية في أفعال الإنسان وما يختاره لنفسه، بل يدعه وشأنه (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فنيسره للعسرى- 10 الليل).
(127): ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ﴾: ضمير (لهم) يعود إلى الذين يسلكون الصراط المستقيم، ودار السلام هي الجنة، لأنها سالمة من كل آفة وبلية. ﴿عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: كل من آمن بالله، وعمل صالحًا لوجه الله وقع أجره على الله، وفاز بتوفيقه ورعايته.
(128): ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾: أي الإنس والجن، ويقول سبحانه: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ﴾: أي اسكثرتم من تضليلهم وإغرائهم بالرذائل ﴿وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ﴾: أي أن الإنس الذين أطاعوا الجن، يقولون غدًا ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾: وانتفع الجن بالأنس حيث أطاعوهم ﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا﴾: ما زال الكلام للإنس، والمعنى أن استمتاع بعضنا ببعض كان إلى أجل معين في الحياة الدنيا، والآن نحن بيْنَ يديك، فاحكم بما تشاء ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ﴾: هذا هو الحكم الفصل والجزاء العدل.
(129): ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾: المجرمون في الدنيا حلفاء متعاضدون، وفي الآخرة شركاء في العذاب الأليم.
(130): ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ...﴾: يقول سبحانه غدًا لكل ضال ومجرم. لقد طغيت وبغيت عن علم وعمد وحذرت وزجرت، فأعرضت ونأيت، واليوم تجزى عذاب الهون بما سعيت وكسبت ﴿قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا﴾: ولكن بعد أن وضعت الأغلال في أعناقهم ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾: وأعمتهم بزينتها عن الحساب والجزاء، ولو عملوا فيها للآخرة لأحرزوا الحظين معًا، وملكوا الدارين جميعًا.
(131): ﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى إرسال الرسل مبشرين ومنذرين ﴿أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾: أبدًا لا جريمة بلا نص ولا عقاب إلا بعد البيان وإلقاء الحجة.
(132): ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾: لكل حساب عمله كيفًا لا كمًا، فرب درهم ينفق في سبيل الله لوجه الله خير من مليون ينفق رياءً أو توصلاً لرياسة أو نيابة كالأموال التي تبذل على مشاريع الخير أيام الانتخابات.
(133) ? (134): ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ﴾: في ذاته وصفاته ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾: بعفوه وفضله ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾: لأنه في غنى عنكم ﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء﴾: قومًا صالحين مطيعين ﴿كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾: أنتم خلف لمن كان قبلكم، فيأتي سبحانه يخلف لكم خير منكم وأتقى إن شاء، والقصد من ذلك مجرد التهديد.
(135): ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾: كل ما تمكنتم من معصية الله ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾: كل ما أتمكن من طاعة الله ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ﴾: الراضية المرضية ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: وإن طال بهم الأمد ليستكملوا الخزي ويستوجبوا أشد العذاب.
(136): ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا﴾: جعل المشركون القدامى ﴿فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾: أي لأصنامهم، كانوا يعينون شيئًا من زرعهم وثمارهم وأنعامهم لله، وشيئًا لأصنامهم يأخذه سدنة الأصنام وحراسها ﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ﴾: كانوا إذا أجدب ما عينوه لله، وأخصب ما عينوه للأصنام ? أبقوا لكل نصيبه، وإذا كان العكس جعلوا المخصب للأصنام، وقالوا: هي فقيرة لا شيء لها، ولله كل شيء، وهكذا يجمع العقل البدائي بين المتناقضات فالصنم أو الحجر الذي ليس بشيء هو في نفس الوقت شريك لخالق كل شيء ﴿سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾: في الجمع بين من يقول للشيء (كن فيكون) وبين الحجر الأصم ولا غرابة فإن أكثر الناس يجمعون بين الإيمان بالله (بزعمهم) وبين عبادة المال والحطام.
(137): ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾: والمراد بهؤلاء الشركاء الكهنة وخدمة الأصنام وغيرهم من الرؤساء، والمعنى أن المشركين كما جعلوا لله في أموالهم نصيبًا، ومثله للأصنام كذلك زين لهم الكهنة والسدنة قتل أولادهم خوف الفقر أو العار. ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾: من الردى، وهو الهلاك ﴿وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾: وليس الشيء جعله مشتبهًا بغيره، واللام للعاقبة والمعنى أن الكهنة زينوا للمشركين القبائح والمنكرات، فكانت النتيجة هلاك المشركين ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ﴾: أن يردعهم عن ذلك قهرًا وجبرًا ﴿مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾: ومثله تمامًا (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ? 40 فصلت).
(138): ﴿وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ﴾: الحجر الحرام، أي أن المشركين كانوا يقتطعون قسمًا من زرعهم وثمارهم وماشيتهم، ويحرمون التصرف فيه إلا على من يختارون ﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾: يحرمون ركوبها والحمل عليها، وتقدم ذكرها في الآية 103 من المائدة ﴿وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ﴾: في الذبح بل اسم الأصنام، وتقدم في الآية 121 من هذه السورة وهذه الآيات إخبار عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما هي بأقل افتراء على الله من الأمم الحاضرة، وان اختلف الشكل والأسلوب، وربما كان الخلف أكثر ظلالاً وأسوء حالاً.
(139): ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا﴾: كانوا يقولون ما يولد حيًا من بطون بعض الحيوانات يأكل منه الذكور فقط ﴿وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾: أي الإناث ﴿وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء﴾: وإن سقط الجنين من بطن الحيوان ميتًا أكل منه الذكور والإناث على السواء ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾: سيعاقبهم سبحانه هلى هذا الإفتراء تحليلاً وتحريمًا.
(140): ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: وأي شيء أكثر سفاهة وخسارة من إقدام الوالد على ذبح ولده أو دفنه حيًا، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على حياة البؤس والإملاق كما نطقت الآية الآتية 151: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) وبهذا نجد تفسير قول الرسول الأعظم (ص): (كاد الفقر يكون كفرًا) ﴿وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ﴾: من الطيبات كما أحلوا بعض المحرمات كأكل الميتة ﴿افْتِرَاء عَلَى اللّهِ﴾: لأن التحريم منهم، وليس منه تعالى، فقد كذب الناس وما زالوا يكذبون على الله وملائكته ورسله، وعلى بعضهم البعض، وعلى أنفسهم ﴿قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾: ولن يهتدوا إلاَّ قليلاً.
(141): ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ﴾: بعد، أن أشار سبحانه إلى تحريم ما أحل ذكر طرفًا من نعمه على العباد ومنها حدائق وبساتين من الكروم مرفوعة كروعها على دعائم ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾: متروكة على الطبيعة ممتدة على الأرض ﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾: عطف على جنات ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾: فالحبوب أصناف، والفواكة أشكال، والبقول ألوان شكلاً وطعمًا متشابه وغير متشابه فالرمان والليمون يشبه بعضه بعضًا، ولكن بعضه حلو، وبعضه حامض ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾: تصدقوا منه عند نضجه على أهل الفقر والمسكنة ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾: سواء أكان الإسراف في الإنفاق على النفس أم في البدن والصدقة على المعوزين.
(142): ﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا﴾: تحملكم وأثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وأيضًا جعل لكم من جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتًا وأثاثًا ولباسًا وفراشًا ﴿كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ﴾: كهذه الأنعام وغيرها، واشكروه على فضله ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾: بتحليل ما حرم الله، وتحليل ما أحل، ولا بالتبذير أو التقتير.
(143): ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾: كلمة الزوج تطلق على كل واحد له قرين كأحد الزوجين وأحد النعلين ﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾: من الغنم الكبش والنعجة ﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾: التيس والمعزاة ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾: الذكر من الضأن والذكر من المعز ﴿أَمِ الأُنثَيَيْنِ﴾: من الضأن والمعز ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ﴾: أم حرم الأجنة من بطن الأنثى من الضأن وبطن الأنثى من المعز.
(144): ﴿وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ﴾: الجمل والناقة ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾: الثور والبقرة ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾: من الإبل والبقر ﴿أَمِ الأُنثَيَيْنِ﴾: منهما ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ﴾: أم الأجنة من بطن الناقة وبطن البقرة ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا﴾: من أين علمتم أن الله حرم ما حرمتم؟ ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾: قيل: إن الذي ابتدع هذه الأحكام، ونسبها إلى الله تعالى رجل يُدعى عمرو بن الحي ﴿لِيُضِلَّ النَّاسَ﴾: عن الحق ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: عن جهل وعمد. وتجدر الإشارة إلى أن الله سبحانه خاطب هؤلاء القوم من واقع حياتهم وعلى قدر عقولهم..
(145): ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ﴾: في القرآن الكريم حيث ثبت في السنة النبوية العديد من المحرمات لم يذكرها القرآن، ومنها السنور وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ﴿مُحَرَّمًا﴾: أي طعام محرمًا ﴿عَلَى طَاعِمٍ﴾: آكل ﴿يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً﴾: وهي ضد التذكية الشرعية ﴿أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا﴾: مصبوبًا كدم العروق لا كالكبد أو المختلط باللحم لا يمكن فصله عنه ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾: قذر ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِه﴾: ذُبح على غير اسم اللهِ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾: دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾: لا يطلب أكل الميتة ولحم الخنزير وهو يجد غيرهما ﴿وَلاَ عَادٍ﴾: لا يتعدى حد الضرورة وسد الحاجة ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: بالجائع المضطر، وتقدم في الآية 173 من البقرة.
(146): ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ﴾: اليهود ﴿حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾: كل ما له اصبع من دابة أو طائر ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾: دون اللحم الأحمر، واستثنى من الشحوم ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾: وهو الشحم الملتصق بالظهر ﴿أَوِ الْحَوَايَا﴾: المصارين والأمعاء، والمراد أن الشحوم المتصلة بها غير محرمة ﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾: وهو شحم الإلية ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ﴾: هذا بيان للسبب الموجب لتحريم هذه الأشياء على اليهود، وأنه البغي والتمرد على أوامر الله ونواهيه.
(147): ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾: الخطاب لرسول الله (ص) وما من شك في أن من كذَّبه فهو كافر حتى ولو آمن بالله واليوم الآخر، ومع هذا أمر نبيه الكريم أ، يتلطف مع الكافرين، ويقول لهم: (ربكم ذو رحمة واسعة) لأمرين: الأول الترغيب في رحمة الله والحث على نوالها. الثاني على المرشد والمعلم أن يتوصل إلى قلوب الناس وعقولهم باللطف واللين وإلا استحال عليه أن ينقلهم من الظلمات إلى النور، وفي المقصد الأقصى للغزالي: (إذا جفي الله سبحانه عاتب وما استقصى).
(148): ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾: هذا هو التعليل العليل الذي يتذرع به المشركون والمجرمون حين تدور عليهم دائرة السوء وهكذا كل مجرم وفاشل يلقي التبعة والمسئولية على الحظ أو الظرف أو القضاء والقدر أو أي شيء آخر حتى كأنه بلا حرية وإرادة تمامًا كريشة في مهب الرياح! ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا﴾: كذب مشركوا العرب محمدًا (ص) والأمم الماضية كذبت أنبياء الله ورسله، ولا شيء أكثر من الكذب ولا أظهر من الباطل، ولا بد من يوم يعض الكاذب والمجرم على يديه ويقول: ليتني لم أك شيئاً ﴿قُلْ﴾: يا محمد: ﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾: زعمتم أن الشرك من الله، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾: واضح، وتقدم في الآية 116 من هذه السورة.
(149): ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾: من القوة ما يقطع بها كل عذر ﴿فَلَوْ شَاء﴾: سبحانه أن يعاملكم بالقوة وإرادة التكوين ﴿لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾: ولكن شاءت رحمته أن يعامل عباده بالنصح والأمر والنهي.
(150): ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا﴾: أروني واحدًا يقول: إن الله أوحى إليه بأنه تعالى حرم ما حرمتم، وفيه تهديد شديد لمن يفتي الناس بالخيال والإحتمال ﴿فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾: أي كذبهم بالحجة ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ...﴾: هم يتبعون الأهواء والشهوات، وعليك يا محمد أن تنهاهم عن المنكرات، ولا تسكت عنهم بحال.
(151): ﴿قُلْ﴾: يا محمد: ﴿تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾: ليس الحرام ما حرمتم أنتم ولا غيركم أيها المشركون و إنما الحرام ما حرم الله تعالى، وأنا أتلوه عليكم ﴿أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾: التوحيد هو أصل الأصول في دين الله ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾: قرن سبحانه بر الوالدين بالتوحيد إشعارًا بأن حقهما على الولد عظيم ووحيد في بابه ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾: وتقدم في الآية 137 من هذه السورة ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ﴾: المعاصي والقبائح ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾: اتركوها سرًا وعلانية ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾: كالقصاص ونحوه، وكل الشرائع السماوية والأرضية تحرم القتل إلا بالحق، ولكن ما من شريعة قالت: (من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ? 32 المائدة) إلا شريعة الإسلام، أجل جاء في النصوص اليهودية: (الذي يصرع يهوديًا إنما يصرع البشرية لأن اليهود وحدهم هم شعب الله المختار)
(152): ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾: كصيانته وتنميته وتثميره ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾: بالرشد والبلوغ ﴿وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾: بيعًا وشراءً وقرضًا ووفاء ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾: أي إن افترضت ما يكال أو يوزن فعليك الوفاء بالمعروف لا بالدقة الواقعية بحيث لا تنقص مثقال حبة من خردل، لأن ذلك متعذر ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ﴾: المقول له أو عليه ﴿ذَا قُرْبَى﴾: من القائل، هذا هو المحك أن تنجو للحق، وتنصف الناس من نفسك وذويك تمامًا كما تطلب منهم أن ينصفوك ﴿وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ﴾: والوفاء بعهده تعالى أن نأتمر بما أمر، وننتهي عما نهى.
(153): ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾: هذا هو دين الله: التوحيد والعدل والكف عن الأذى والرذائل والوفاء بالعهد وبر الوالدين، وبالتالي التآلف والتعاطف الذي أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ﴾: سيروا جميعًا في طريق واحد لا في طرق متعددة متشعبة ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾: أي فتميل السبلُ العديدة بكم عن سبيل الله وصراطه المستقيم.
(154): ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾: أنزلنا عليه التوراة ﴿تَمَامًا﴾: مفعول من أجله ﴿عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ﴾: وهو موسى، والمعنى آتينا موسى التوراة لتتم عليه نعمة الله، لأنه من المحسنين ﴿وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾: كانت توراة موسى كافية وافية لقومه وغيرهم في عهده وعصره.
(155): ﴿وَهَـذَا كِتَابٌ﴾: القرآن ﴿أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾: صفة للكتاب لأنه كثير الخير والنفع ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾: اعملوا بأحكامه وتعاليمه ﴿وَاتَّقُواْ﴾: هجره ومعصيته ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: ولكن هجرنا القرآن، وعصينا الرحمن، فأغلق دوننا أبواب رحمته وعنايته.
(156): ﴿أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ﴾: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل ﴿عَلَى طَآئِفَتَيْنِ﴾: اليهود والنصارى ﴿مِن قَبْلِنَا وَإِن﴾: أي وأنه ﴿كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ﴾: لليهود والنصارى ﴿لَغَافِلِينَ﴾: والمعنى أنزلنا القرآن بلسانكم أيها العرب وعلى رجل منكم وفيكم لئلا تعتذروا عن جهلكم وشرككم بأنه لم ينزل كتاب من السماء بلسانكم كما نزل على اليهود والنصارى ونحن كنا غافلين عن دراسة كتابهم وجاهلين بتعاليمه لأن لسانهم غير لساننا.
(157): ﴿أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾: قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الآية تكرار للآية التي قبلها، وبالتأمل نعرف أن معنى الأولى كراهية أن تقولوا: نزل الكتاب على غيرنا لا علينا، ومعنى هذه الآية كراهية أن تقولوا لو نزل علينا الكتاب لكنا أفضل من الذين نزل عليهم، ولكن ماذا نصنع ولا كتاب عندنا ﴿فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ﴾: القرآن الكريم ﴿مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾: فيه الدلائل على نبوة محمد (ص) والتعاليم التي تخرجكم من الظلمات إلى النور ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: وقرآنه ونبيه ﴿وَصَدَفَ﴾: أعرض ﴿عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ﴾: والحجة لله عليهم ولا حجة لهم عليه تعالى.
(158): ﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾: ينتظرون ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ﴾: تقبض أرواحهم ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾: أي عذابه وانتقامه ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾: وهي ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾: يوم تقوم القيامة العلامات الدالة على قيام القيامة ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾: قوام الإيمان الرضا التام، ومجرد التسليم رعبًا ورهبًا ليس من الإيمان في شيء حتى الإيمان عن قناعة وإيقان لا يجدي شيئًا إلا مع العمل الصالح، لأن الإيمان الحق عمل كله ولا إيمان بلا عمل ﴿قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾: وكل آت قريب.
(159): ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ﴾: جعلوه فرقًا وطوائف ﴿وَكَانُواْ شِيَعًا﴾: كل فرقة وطائفة تتشيع لإمام ﴿لَّسْتَ مِنْهُمْ﴾: يا محمد ﴿فِي شَيْءٍ﴾: ولم هم منك في شيء، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ﴾: فوحده يتولى عقاب من يثير العداوة والبغضاء بين أهل الدين الواحد، والذين لا توحدهم عقيدة التوحيد فهم من حزب الشيطان وأعوانه.
(160): ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾: أي عشر حسنات، وفي الحديث الشريف: (الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو عفو، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره). ورب سيئة واحدة كالإلحاد والعدوان على العباد ? تمحو ألوف الحسنات ﴿وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾: العدل أن لا تظلم مثقال ذرة حتى من ظلمك تقدر عقوبته بقدرها، والإحسان أن تعفو عن المسيء، أو تزيد في جزاء المحسن، والله سبحانه عادل ومحسن.
(161): ﴿قُلْ﴾: يا محمد: ﴿إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي﴾: بالفطرة الصافية والعقل السليم والوحي من عنده ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: يبتعد بي عن الباطل، ويوصلني إلى الحق ﴿دِينًا قِيَمًا﴾: قائمًا دائمًا بالدعوة إلى القسط والحق ﴿مِّلَّةَ﴾: دين ﴿إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾: تاركًا الباطل إلى الحق ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: بل من أعدى أعداء الشرك وأهله.
(162): ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي﴾: الواجب منها والمستحب ﴿وَنُسُكِي﴾: من حج وصوم وخمس وزكاة ﴿وَمَحْيَايَ﴾: أعمالي في الحياة الدنيا ﴿وَمَمَاتِي﴾: وما أموت عليه من الإيمان والولاء للنبي وأهل بيته، كل ذلك خالصًا ﴿لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
(163): ﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾: في عقيدتي وجميع أعمالي، لأن الشرك جهل ورجس ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾: عقلاً وشرعًا.
(164): ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾: وإذن فغيره مثلي مربوب، فكيف أعبده؟ ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا﴾: لكل جزاء عمله خيرًا كان أم شرًا. ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾: النفس الوازرة الآثمة هي وحدها تؤخذ بما أسلفت وكسبت من حرام وآثام، ولا أحد يحمل جرمها وجريرتها، وبهذا يتبين أن نسبة قول من قال: (يُعذب الميت ببكاء أهله) إلى رسول الله (ص) ? مجرد افتراء لأنه مخالف لكتاب الله، وفي التوراة سفر خزقيال الإصحاح 18 فقرة 2 قال الرب: (أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست.
(165): ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ﴾: يخلف أهل العصر اللاحق أهل العصر السابق، كلما مضى قرن خلفه قرن في انتظام واتساق إلى يوم يبعثون وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾: في المؤهلات العلمية والعقلية والجسمية ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾: من مواهب، هل تستعملونها في الاستغلال والإحتكار واختراع الأسلحة الجهنمية وإثارة النعرات الطائفية، وما إلى ذلك من الفساد في الأرض، أو في إنشاء المعامل والمصانع التي تنتج الغذاء والكساء والدواء، وكل ما ينفع الناس بجهة من الجهات ويسد حاجة من حاجاتهم الضرورية أو الكمالية ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ﴾: بمن استغل وبغى، وكفر وطغى ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: بمن أخلص وعمل صالحًا وكف أذاه عن عيال الناس.