سورة المائدة
(1): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾: جمع عقد، وهو في اللغة الربط، وفي اصطلاح الفقهاء: ارتباط إيجاب بالقبول على وجه مشروط، يثبت أثره في محله بمقتضى طبيعته ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾: والبهيمة: ذات أربع من ذوات البر والبحر، والانعام: الإبل والبقر والغنم، وهذه الأصناف الثلاثة حلال ولا يحرم منها ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾: وقد تلا سبحانه علينا في الآية 173 من البقرة: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله) وأيضًا يتلو علينا من المحرمات قوله سبحانه: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾: أي محرمون في مكة المكرمة، والمعنى أن كل ما يصطاده المحرم فلا يحل أكله سواء أكان من الأنعام أم من غيرها.
(2): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ﴾: وهي أحكام دينه، ومن أظهرها وأكملها مناسك الحج والعمرة ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ﴿وَلاَ الْهَدْيَ﴾: ما يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام ﴿وَلاَ الْقَلآئِدَ﴾: ما يقلد به الهدي من نعل وغيره لكي يعرف لكي يعرف فلا يتعرض له أحد ﴿وَلا آمِّينَ﴾: ولا قاصدين ﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾: لا تتعرضوا لأحد منهم بسوء حتى ولو قاصدًا للتجارة وما أشبه ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾: وكل ما لم يرد فيه نهي من الله فهو فضل منه تعالى ورضوان له. ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾: من إحرامكم ﴿فَاصْطَادُواْ﴾: إن شئتم، ولكن في غير أرض الحرم ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾: يحملنكم ﴿شَنَآنُ﴾: كراهية ﴿قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: يشير سبحانه بهذا إلى ما حدث للنبيّ (ص) والصحابة سنة ست للهجرة، مع المشركين يوم الحديبية، وتأتي القصة في سورة الفتح ﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾: لا تحملنكم عداوة المشركين على الإعتداء عليهم ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾: وموضوع هذه الآية التكافل الإجتماعي، وإن القوي مسؤول عن الضعيف، والغني عن الفقير.، والعالم عن الجاهل، وأولي الشأن عن إصلاح ذات البين.
(3): ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ﴾: هذه المحرمات الأربعة تقدمت في الآية 173 من البقرة ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾: التي تموت خنقًا ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾: والمضروبة بعصا أو حجر أو ما أشبه ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾: الساقطة إلى أسفل ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾: نطحتها بهيمة أخرى ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾: أي ما تبقى من فريسة الحيوان أسدًا كان أم ثعلبًا أو غيرهما. ثم استثنى سبحانه من الخمسة الأخيرة ما ندركه حيًا، فإنه يحل لنا بالذبح الشرعي، وإليه أشار سبحانه بقوله ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾: وتأتي الإشارة إلى كلب الصيد ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾: عطف على المحرمات، والنصب أحجار نصبها أهل الجاهلية حول البيت الحرام، ويذبحون لها، ويشرحون عليه اللحم، ويغطونها به ﴿وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾: جمع زلم بضم الزاي وفتحها، والزلم قطعة من خشب على هيئة السهم، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر كتب على الزلم أمرني ربي، وعلى ثان نهاني ربي، وأهمل الكتابة على الثالث، ثم يقترع ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾: حرام محرم، والإشارة تشمل الجميع ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾: أي الآن وبعد أن أعز الله سلطان المسلمين فقد يئس الأعداء من زوال الإسلام أو تحريفه لأن قوة الدين من قوة أهله، ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾: لأنكم أقوى منهم ﴿وَاخْشَوْنِ﴾: وإلا نزعت منكم السلطان، وسلطت عليكم أعداءكم، كما هو شأن المسلمين في العصر الراهن ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾: اتفق المسلمون بشتى فرقهم ومذاهبهم على أن هذه الآية دون سائر آيات المائدة نزلت في مكة السنة العاشرة للهجرة التي حج فيها رسول الله (ص) حجة الوداع وأنه لما رجع إلى المدينة وبلغ في طريقه إليها غدير خم. جمع الناس، وخطب فيهم خطبته الشهيرة التي ذكر فيها علي بن أبي طالب من دون الصحابة وأمر المسلمين بموالاته، وللشيعة كلام طويل حول ولاية علي وخلافته والنص عليها كتابًا وسنة علمًا بأن سيرة علي وخلاله الطبيعية الجلى هي التي تنص عليه بالذات ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾: إلى شيء من المحرمات المنصوص عليها ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾: مجاعة ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾: منحرف إلى البغي ومتعد حدود الله ﴿فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: أي يسوغ للمضطر أن يتناول من المحرمات بمقدار الضرورة لأنها تقدر بقدرها، والزائد حرام.
(4): ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: يا محمد ﴿مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾: من المآكل والمشارب ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾: وهي غير المنصوص على تحريمها، ومن المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية هذا المبدأ: كل شيء لك حلال حتى يثبت أنه حرام ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾: عطف على الطيبات، والمراد بالجوارح هنا الكلاب فقط دون البازات ونحوها بدليل قوله تعالى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾: مشتق من كلبت الكلب أي علمته الصيد ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ﴾: وفي العصر الحديث أساتذة وكتب علمية في عملية التعلم عند الحيوان وتدريبه على سلوك خاص، والكلب المعلم على الصيد هو الذي إذا أمره صاحبه يأتمر، وإذا نهاه ينتهي، وتفصيل الشروط لتحليل ما يصطاده الكلب في كتب الفقه الإسلامي ﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾: ضمير أمسكن للكلاب وعليكم أي أن الكلاب أوالجوارح تحوز الصيد لكم لا لأنفسها، هذا إذا أدركت الصيد حيًا ومات بسبب الإمساك ولو أدركته ميتًا لم يحل ﴿وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ﴾: ويشترط أيضًا للتحليل أن يسمى الصائد عند إرسال الكلب إلى الصيد فيقول اذهب على اسم الله وما أشبه. ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾: لا تقربوا شيئًا مما نهاكم عنه.
(5): ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ﴾: قال الشيخ علي ابن الحسين بن محيي الدين العاملي في (الوجيز في تفسير القرآن العزيز) وهو يفسر هذه الآية ? ما نصه بالحرف الواحد: (ظاهره) يعم ذبائحهم وغيرها وعليه فقهاء الجمهور وجماعته منا ? أي من الشيعة ? ويعضده أخبار) ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾: أي ولكم أن تتزوجوا بالعفيفات من المسلمات، أيضًا ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾: وهذه الدلالة واضحة في إباحة زواج المسلم بالنصرانية واليهودية حربية كانت أو غير حربية دوامً وانقطاعًا ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾: مهورهن الثابتة لهن بالزواج الشرعي لا أُجورهن على الزنا ﴿مُحْصِنِينَ﴾: تنكحوهن وأنتم في حصن حصين من العفاف والدين ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾: غير زانيين ﴿وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾: جمع خدن، وهو الصديق أي لا تقربوهن سرًا ولا علنًا إلا على كتاب الله وسنة نبيه ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ﴾: بأحكام الله سبحانه ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾: أي بطل (وقدمنا إلى ما عملوا فجعلناه هباء منثورا22 الفرقان.
(6): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ﴾: هذه الآية تحدد أعضاء الوضوء وصورته غسلاً ومسحًا واتفقت المذاهب الإسلامية قولاً واحدًا على أن أعضاء الوضوء أربعة: الوجه واليدان والرأس والرجلان، واختلفوا في صورة الوضوء فقال الشيعة: هي غسلتان للوجه واليدين ومسحتان للرأس والرجلين. وقال السنة: هي ثلاث غسلات للوجه واليدين والرجلين، ومسحة الرأس، ومعنى هذا أن الخلاف في الرجلين فقط مسحًا عند الشيعة وغسلاً عند السنة، وأنه لا خلاف في غسل الوجه واليدين ولا في مسح الرأس كمبدأ أو فكرة، ودليل الجميع قوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾: بالإتفاق، ولا خلاف إطلاقًا في أصل الغسل للوجه واليدين ولا في المسح للرأس كما أشرنا ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾: وهنا محل الخلاف، ومصدره أن الأرجل قرئت بالنصب وبالخفض، فقال السنة يجب غسل الأرجل على القرائتين، أما على النصب فلعطف الأرجل على الأيدي المنصوبة لفظًا ومحلاً، وأما على الخفض فلمجاوزة الأرجل للرؤوس المجرورة تمامًا كقول العرب: (حجر ضب خرب). وقال الشيعة يجب مسح الرجلين على القرائتين، أما على الخفض فلعطف الأرجل على الرؤوس المجرورة بالباء، وأما على النصب، فللعطف أيضًا على الرؤوس محلاً لا لفظًا، لأن كل مجرور لفظًا منصوب محلاً ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ﴾: بالاغتسال ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾: تقدم بالحرف في الآية 43 من النساء ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾: استنتج جميع فقهاء الإسلام من هذه الآية قاعدة كلية، واعتبروها ركنًا من أركان الشريعة الإسلامية، ويسميها فقهاء الشيعة قاعدة نفي الحرج وفقهاء السنة قاعدة التيسير، ومعناها ما شرع الله حكمًا لعباده، فيه شائبة الضيق والمشقة عليهم فضلاً عن الضرر والإضرار ﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ﴾: أبداً، كل أحكام الله سبحانه هي وسيلة لطهارة الأخلاق، وصالح الأعمال، وإخلاص النوايا والمقاصد ... حتى الإيمان بالله إيمان بالعدل والرحمة والإنسانية، والإيمان بالنشر والحشر إيمان بأن عاقبة الغادر الفاجر عذاب النار وسوء الدار، والإيمان برسالة محمد (ص) إيمان بالعلم والإنسان والأخلاق والأديان التي جاء بها إبراهيم وموسى وعيسى.
(7): ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾: والخطاب في واثقكم وضمير المتكلم في سمعنا وأطعنا هما لكل مسلم قال ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا القول هو بذاته ودلالته العهد والميثاق المسلم لله بأنه لا يعبد ولا يستعين بسواه، ومعنى هذا أن أي مسلم يعصي الله في أمر أو نهي فقد نقض عهد الله وميثاقه، وأكذب نفسه بنفسه.
(8): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ﴾: تقدم هذا النداء منه تعالى للمؤمنين، في 135 من سورة النساء، والقصد من التكرار هو الحث والتأكيد على أن نكون أقوياء في جانب الحق والعدل لا ضعفاء مهزولين، نلتمس المبررات والمعاذير لجبننا وتخاذلنا، قد دلتنا المشاهدة وكتب التاريخ أن الإيمان الراسخ لا يقف في وجهه أي حاجز وأن الشهداء هم شهداء الإيمان والعقيدة ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾: لا يحملنكم البغض لأعدائكم المشركين وغيرهم ﴿عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾: على أن تظلموا الأعداء لمجرد الكره والتشفي ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾: من الاندفاع مع البغض والشنآن إلا أن يكون البغض في الله والغضب للحق لا لغرض شخصي أو دنيوي.
(9) ? (10): ﴿وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ...﴾: كرر سبحانه وعده بالثواب لمن آمن وأخلص ليزداد جهادًا أو إيمانًا، وكرر وعيده بالعقاب لمن خان وبغى لعله يذكر أو يخشى.
(11): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ﴾: خص الله سبحانه محمدًا (ص) ومن آمن معه بالعديد من نعمه، وأهمها جميعًا هذه النعمة التي أشار إليها بقوله: ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾: تحالف المشركون واليهود والمنافقون ضد المسلمين، فصد الله عنهم قوى الشر والبغي، وأظهر دينه تعالى على رغم كل حاقد ومعاند.
(12): ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾: أن لا يتجاوزوا حدود الله والحق وَبَعَثْنَا ﴿مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾: بعدد الأسباط ، لكل سبط نقيب أي قائد يدبر أمور جماعته ومرؤوسيه ﴿وَقَالَ اللّهُ﴾: لبني إسرائيل ﴿إِنِّي مَعَكُمْ﴾: أنصركم ولا أخذلكم بهذه الشروط: الأول ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلوةَ﴾: على أصولها، الثاني ﴿وَآتَيْتُمُ الزَّكَوةَ﴾: كاملة، الثالث ﴿وَآمَنتُم بِرُسُلِي﴾: جميعًا دون استثناء، الرابع ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾: عظمتموهم ونصرتموهم، الخامس، ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾: وأيضًا تنفقون مع الزكاة قسمًا آخر من أموالكم في سبيل الله، وجزاء القيام بهذه الخمسة شيئان: الأول ﴿لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾: العفو عن السيئات (أن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين-114 هود) الثاني ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾: هذا الجزاء عند الله سبحانه: العفو والجنة لمن سمع وأطاع ﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ﴾: الإفضال والإنعام منه تعالى وأخذ الميثاق بالشكر والطاعة ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾: انحرف وجار عن الطريق القويم.
(13): ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ﴾: هذا هو دين اليهود ودينهم: نقض العهود ونشر الشرور والسموم، وجزاؤهم من الله سبحانه اللعنات الدائمة ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾: وليس المراد بالجعل هنا الخلق والتكوين وإلا لم يستحقوا ذمًا ولا عقابًا ، وإنما المراد أن الله سبحانه تركهم وشأنهم دون أن يتدخل بإرادته الشخصية، ويمنعهم بالجبر والقهر عن الجرائم والرذائل ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾: تقدم بالحرف في سورة النساء الآية 46 ﴿وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾: كانت التوراة لليهود كنزًا وعزًا، فحرفوا، وما حرفوا بذلك إلا أنفسهم كما قال سبحانه: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون 102 البقرة) ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾: شعار اليهود الخيانة، ولا يروي عطشهم إلاَّ الكيد والمكر ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾: ثبتوا على العهد والميثاق ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾: إن كفوا عنك شرهم وضرهم (فإن انتهوا فلا عدوان إلاَّ على الظالمين ? 193 البقرة).
(14): ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى﴾: سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله، قالوا: نحن أنصار الله ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾: بأن يسيروا على سنة السيد المسيح (ع) ولا يقولوا: الله ثالث ثلاثة ﴿فَنَسُواْ حَظًّا﴾: نصيبهم من الثواب عند الله لو سمعوا وأطاعوا ﴿مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾: وهو الإنجيل الذي حرفوه، ولو بقي كما أُنزل عل عيسى، والتوراة كما أُوحي بها إلى موسى ? لكان الدين واحدًا في شرق الأرض وغربها ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾: أي ألصقنا بهم ﴿الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾: لبعضهم البعض ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: ومن أراد أن يسبر غور هذه العداوة والبغضاء فليرجع إلى كتاب الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده وكتاب محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبي زهرة.
(15) ? (16): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: نداء لليهود والنصارى ﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا﴾: محمد ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾: أخفى النصارى التوحيد، وأخفى اليهود تحريم الربا وغير ذلك، ومما أخفوه معًا البشارة بنبوة محمد ﴿وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾: من الذين أساؤا إليه من رؤسائكم. ﴿قَدْ جَاءكُم﴾: أيها اليهود والنصارى ﴿مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: يهدي للتي هي أقوم دنيا وآخرة، فأبيتم إلاَّ العناد والفساد، فقامت عليكم الحجة، وانقطعت منكم كل معذرة.
(17): ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾: كل من وصف المخلوق بشيء من صفات الخالق كالخلق. والرزق فما هو بمسلم، ولا يختلف في ذلك اثنان من المسلمين، وأيضًا نطق القرآن الكريم بصراحة أنه لا حساب على الآراء والمعتقدات إلا لله وحده، ومن ذلك قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليك إلا البلاغ ?48 الشورى) ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: لأن الله سبحانه إذا ملك القدرة على هلاك المسيح فمعنى هذا أن المسيح ليس بإله، وإن عجز عن هلاك المسيح فمعنى هذا أن الله ليس بإله وعليه فالجمع بين ألهين محال، فكيف بالثلاثة؟
(18): ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾: وإن قال قائل: كل أهل دين يقول مثل هذا؟ قلنا في جوابه: إن الإسلام يقرر مبدأ المساواة بين الناس أجمعين كتابًا وسنة وعقلاً، فمن الكتاب: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ? النساء.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم ? 13 الحجرات). ومن السنة النبوية: (أيها الناس إن ربكم واحد، وكلكم من آدم، وآدم من تراب.. خير الناس أنفع الناس للناس) وفي الآية 6 من فصلت (إنما أنا بشر مثلكم). أما العقل فهو الأساس والأصل الأصيل لعقيدة الإسلام وميزان العدل لشريعته. ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾: لو كنتم أبناء الله لكنتم معصومين بالكامل، وأنتم لا تدعون ذلك، وكل مذنب يستحق العقاب والعذاب بحكم البديهة ﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾: ليس في خلق الرحمن من تفاوت، فعلام هذا التعالي والغرور؟ وهل من شيء أضر وأخطر على الشعوب والأمم والإنسانية من ادعاء بعضها أو بعض أبنائها بأن لهم مزايا طبيعية ليست لأحد من الناس غيرهم؟
(19): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾: الحق ﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾: بعد انقطاع الوحي أمدًا من الوقت ﴿أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾: وهو محمد (ص) أبدًا لا عذر إطلاقًا لمن يتكاسل ويهمل البحث عن الحق، وهو عليه قادر، وهذا كتاب الله وشروحه وعلومه، وتلك سنة نبيه في مئات الكتب وهؤلاء علماء الإسلام في شرق الأرض وغربها يعدون بالألوف فليبحث باحث، وليسأل سائل تفقهًا لا تعنتًا.
(20): ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾: اليهود: ﴿يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ﴾: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكم- 49 البقرة). ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء﴾: (ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون ? 87 البقرة) ﴿وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا﴾: أي جعل منكم ملوكًا كداود وسليمان ﴿وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾: لا لشيء إلا للمبالغة في تثبيت الحجة عليهم وتوكيدها وإلزامهم بها، لقسوتهم ورسوخهم في الضلال والمعاندة والمكابرة، فقد نصرهم سبحانه على فرعون بلا قتال، وأطعمهم المن والسلوى بلا كفاح، وسقاهم الماء بلا جفر آبار وشق أقنية ومع ذلك كله تمردوا على المنعم بدلاً من أن يشكروه، وقتلوا أنبيائه ورسله، والرسول لا يقتل عند جميع الدول.
(21): ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾: هاجر موسى وقومه العبرانيون من مصر، يشقون طريقهم إلى سيناء، ولما بلغوها حاروا إلى أين يذهبون، فقال لهم موسى: هلموا إلى فلسطين ﴿الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ﴾: أن تعيشوا مع أهلها الحفيين والكنعانيين في أمن وسلام ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾: حيث لا تجدون بلدًا أقرب من هذه الأرض.
(22): ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾: أراد موسى أن يتعايش العبرانيون مع أهل الأرض معايشة الأخوان المتعاونين، فرفضوا إلا طرد الكنعانيين من ديارهم وتشتيتهم في الأرض أيدي سبا كما فعل اليهود سنة 1948م وما أعقبها من ويلات.
(23): ﴿قَالَ رَجُلاَنِ﴾: هما يوشع وكالب، وجاء اسم الأول في التوراة سفر العدد الإصحاح 13 بلفظ هوشع، واسم الثاني في سفر أخبار الإصحاح 2 ﴿مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَك﴾: الله ﴿أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا﴾: الإيمان ﴿ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾: أي باب قريتهم أو مدينتهم.
(24): ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾: أبدلاً، ل بد من تشريد أهل الديار وأخذها منهم غصبًا ونهبًا، أما القتال ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾: اذهب أنت ومن أرسلك بكل تعال وترفع حتى على الله ورسوله! وهذه هي بالذات غطرسة إسرائيل وجبلتها الخبيثة، ومهما شككت فلم أشك إطلاقًا أن من سار على هذي السبيل فأُمه هاوية، وما أدراك ما هيه.
(25): ﴿قَالَ﴾: موسى شاكيًا إلى الله من القوم المجهولين على البغي والفساد. ﴿رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾: وإذا كان موسى على نبوته وعصمته فقد الصبر والتصبر على العيش مع قومه فكيف يمكن التعايش مع الصهاينة على أساس الحق والعدل.
(26): ﴿قَالَ﴾: سبحانه لموسى: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾: الضمير في (أنها) يعود إلى الأرض المقدسة وفي (عليهم) إلى الذين قالوا: لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها، وهكذا كان، فإن الذين نطقوا بذلك لم يروا الأرض المقدسة على الإطلاق تصديقًا لكلمة الله العليا: (فإنها محرمة عليهم) وإنما الذين دخلوها بعد أربعين سنة مع يوشع هم جيل جديد بعد أن مات كل من قال: إنا لن ندخلها... ﴿يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾: وفي الروايات أن موسى وهارون كانا معهم في أرض التيه، ومات هارون وبعده بسنة مات موسى في التيه ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾: الذين زكوا أنفسهم وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقد أمات الله فريقًا منهم في التيه، وفريقًا مسخهم قردة وخنازير، وألصق اللعنة بهم جميعًا إلى يوم الدين.
(27): ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾: وهما قابيل وهابيل. دب الخلاف بينهما كما في الروايات ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾: ليفصل بين المحق والمبطل ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا﴾: هابيل ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾: قابيل ﴿قَالَ﴾: قابيل لهابيل ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾: لا لشيء إلا لأنك عند الله خير مني وأفضل! وهذا هو ذنب الطاهر عند الفاجر العاهر ﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾: لا شيء يجدي من غير تقوى. وفي نهج البلاغة: لا يقل عمل مع التقوى فكيف يقل ما يتقبل؟
(28): ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾: ظلمًا وعدوانًا ﴿مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ﴾: بل أبسطها للدفاع عن نفسي.
(29): ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ﴾: ترجع إلى ربك ﴿بِإِثْمِي﴾: ﴿قتلي وَإِثْمِكَ﴾: وهو خبثك الذي كان السبب الموجب لرفض قربانك.
(30): ﴿فَطَوَّعَتْ﴾: سهلت ﴿لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾: بلا جرم جره على مخلوق، وهما من نطفة واحدة ورحم واحد! فهل بعد هذا المثال والشاهد القرآني يقال: أخاك أخاك أو صديقك صديقك؟ المحرك الأول هو المصلحة والعاطفة إلا أن تكون هنا مناعة من عقل رصين أو دين متين.
(31): ﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ﴾: عرف ابن آدم كيف يقتل أخاه بحقده، وجهل أن يدسه في التراب بعقله، وهكذا يختفي العقل والدين إذا طغت العاطفة ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ﴾: عورة، وخُصت بالذكر، لأنها أحق بالستر ﴿أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي﴾: وكلنا قد يقف به العجز والجهل عن أتفه الأمور ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾: وهكذا الإنسان يخطئ ثم يندم، ولكنه يعود، والسر قوله تعالى: (وخلق الإنسان ضعيفًا ? 28 النساء).
(32): ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾: من أجل جريمة القتل وأنها جريمة الجرائم ﴿كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: وخصهم بالذكر علمًا بأن الحكم أعم وأشمل، لأنهم أجرأ العالمين على الفساد في الأرض ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾: فكيف بالذين يتسابقون إلى أسلحة الموت والقتل بالجملة، فمن القنبلة الذرية إلى الهيدروجينية، ومنها إلى قنبلة النيوترون وصواريخ (اس- اس) ذات الرؤوس النووية المتعددة؟ ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾: أي من أعطى حياة الناس نموًا وآمالاً، وتقدمًا وكمالاً، لا من صلى وصام وكفى لأن العبادة لله وحده، وموضوع الآية النفس وليس خالقها لأنه تعالى مصدر الحياة ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾: بشق الأنهر والطرقات وبناء المدارس والمستشفيات المجانية، وإيجاد العمل للسواعد التي تبحث عنها... إلى غير ذلك مما ينتفع به الناس بجهة من الجهات، ويمكث في الأرض، ولا يذهب مع الريح ﴿وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ: اليهود ﴿رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ﴾: بحلال الله وحرامه ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ﴾: بعد قيام الحجة عليهم ﴿فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾: في سفك الدماء وانتهاك الحرمات.
(33): ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾: بالبغي والعدوان على عباد الله وعياله ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾: بحمل السلاح للإخلال بالأمن وترويع الناس وإخافة السابلة والتمرد على حكم العدل وإراقة الدماء ونهب الأموال وهتك الأعراض... إلى غير ذلك ﴿أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ﴾: جزاء قاطع الطريق إن قتل أن يُقتل أو يصلب على كل حال حتى ولو عفا عنه ولي المقتول أو أخذ الدية ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ﴾: وإن أخذ قاطع الطريق المال ولم يقتل فجزاؤه أن تُقطع يده لنهب المال ورجله أيضًا لقطع الطريق وإخافة الناس، ومعنى (من خلاف) أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾: وإن لم يقتل قاطع الطريق ولم يأخذ مالاً فجزاؤه النفي إلى بلد ناء، ومن أراد زيادة في البيان فليرجع إلى كتب الفقه. ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾: ولغيرهم دروس وعبرة، أما عذاب الآخرة فأعظم وأشد تنكيلاً.
(34): ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾: إذا تاب قاطع الطريق من تلقائه وقبل القبض عليه سقطت عنه العقوبة المعبر عنها بحق الله أو الحق العام، أما الحق الخاص بالإنسان فهو منوط بإرادة صاحبه.
(35): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: في ترك المعاصي، وتوسلوا إليه بالإخلاص والعمل الصالح.
(36): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: يصاب المرء باليسير من الألم في جسمه فيفاديه بكل ما يستطيع فكيف بسرابيل القطران ومقطعات النيران؟ ﴿مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾: أبدًا لا شيء يجدي غدًا إلا القلب السليم والخلق الكريم.
(37): ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ﴾: ولو بعد حين طويل ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾: إلى أبد الآبدين، وساءت مستقرًا ومقامًا، ولن أشك في أن هذا يعم ويشمل كل خائن ومراء ومعتد وكل من يتمنى للناس الأسى والأذى.
(38): ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾: أي يمنى كل منهما، ولهذا القطع شروط منها أن يكون المسروق في حرز، وأن لا تكون السرقة في عام المجاعة، وأن يكون السارق بالغًا عاقلاً وليس أبًا لصاحب المال المسروق، وأن يكون المال المسروق بمقدار ربع دينار، ولا أعرف بالضبط، كم قيمة هذا الربع، وفي ظني أنها لا تزيد على ثلاث دولارات، ولا تنقص عن دولارين ? نحن الآن في سنة 1978 ﴿جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ﴾: أي عقوبة رادعة.
(39): ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾: لنفسه بالسرقة، وقبل أن تثبت السرقة عليه عند الحاكم فلا تقطع يده وَأَصْلَحَ: برد المال المسروق إلى مالكه ﴿فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾: لأن من تاب من الذنب كمن لا ذنب له.
(40): ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: إنه تعالى يعذب أو يعفو لحكمة بالغة، قد تفطن إليها، وقد ينبو عنها إدراكنا وعلينا قبل أن نفلسف حكمته تعالى أن لا ننسى أن نسبة الحكمة عندنا إلى نسبة الحكمة عنده تعالى تمامًا كنسبة إدراكنا إلى علمه، جلت كلمته.
(41): ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾: السبب الموجب لحزن الرسول (ص) هو عصيان الخلق للحق، ومن هؤلاء العصاة الذين أشار إليهم سبحانه بقوله ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾: وهم المنافقون الذين يظهرون الود ويضمرون الحقد. وأيضًا ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ﴾: اليهود ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾: يرحبون بكل افتراء، ويذيعونه مؤيدين ومروجين بكل وسيلة ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾: يا محمد، كل أحبار اليهود يبتعدون عن النبي (ص) ولكن يجتمعون سرًا مع المنافقين، ويستمعون إليهم، ويلقنونهم دروسًا في الكيد والنفاق ﴿يُحَرِّفُون َ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾: تقدم في البقرة 75 والنساء 46 ﴿يَقُولُونَ﴾: يقول أحبار اليهود لأذنابهم ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾: ان أفتاكم محمد بالمحرف المزيف ﴿فَخُذُوهُ﴾: واعملوا به ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ﴾: وإن أفتاكم بالحق والصدق ﴿فَاحْذَرُواْ﴾: وارفضوا ﴿وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ﴾: أي عذابه لأنه من معاني الفتنة كما في القواميس ﴿فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا﴾: لا راد لما أراد ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾: لأنهم لا يريدون التطهير، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ? 11 الرعد).
(42): ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾: ومر تلو المرة اليهود يكرهون الصدق، ويتعمدون الكذب على الله والناس والشياطين وعلى أنفسهم ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾: المال الحرام بشتى أنواعه ﴿فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾: إذا ترافع لدى الحاكم المسلم خصمان من غير المسلمين فهو مخير بين الحكم والرفض ﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾: أي فلست مسؤولاً أمام الله ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾: أي بشريعة الإسلام لا بما يدينون، وإذا كان أحد المتخاصمين مسلمًا، والآخر غير مسلم فعلى الحاكم أن يحكم بما يدين ويعتقد بطريقة أولى.
(43): ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾: كيف يترافع اليهود عندك يا محمد ﴿وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾: تحاكم اليهود في أمر الزاني عند النبي (ص) ولما حكم بينهم بالحق تولوا مدبرين علمًا منهم ويقينًا بأنه بنفس الحكم الموجود بتوراة موسى ولا عجب! ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: إلا بأهوائهم وميولهم.
(44): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ: على موسى ﴿فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾: يستضيء به من ينشد الحق والعدل ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾: من بعد موسى (ع) ﴿الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾: أخلصوا لله ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾: متعلق بيحكم ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ﴾: عطف على (النبيون) ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ﴾: كُلفوا بحفظه والعمل به ﴿مِن كِتَابِ اللّهِ﴾: توراة موسى ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾: رقباء كيلا يحرف ويُزيف ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ﴾: أيها العلماء بالدين ﴿وَاخْشَوْنِ﴾: ومن يخش الله فأولئك هم الفائزون ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾: لا تبيعوا دينكم للشيطان، فإنه يأخذ منكم الآخرة، ويعطيكم الدنيا الزائلة، يأخذ الجد والإخلاص والأمانة، ويعطيكم اللهو واللعب والكذب والخيانة ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ﴾: وهو على علم اليقين بأنه حكم الله وخالفه عامدًا ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾
(45): ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ﴾: اليهود ﴿فِيهَا﴾: في التوراة، وكذلك الفرض في القرآن ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾: العقوبات في الشريعة الإسلامية على أنواع: الحد وهو الذي قدره الشارع ونص عليه، وليس للمجتهد فيه رأي كحد السرقة والزنا والسكر، وعقوبة التعزير هو الذي ترك الشارع أمره إلى المجتهد وتقديره، كالعقوبة على القبلة المحرمة، والدية هي عقوبة مالية، والقصاص هو عقاب الجاني على جريمة القتل أو القطع ونحوه أو الجرح عمدًا بمثلها إن أمكن، والآية التي نحن بصددها تدخل في باب القصاص، وذكرت النفس ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾: وغير ذلك كاليد والرجل. ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾: أي كل الجروح توجب القصاص بشرط إمكان المماثلة والمساواة وإلا تتحول العقوبة من القصاص إلى الدية، والتفصيل في كتب الفقه ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ﴾: بالقصاص ﴿فَهُو﴾َ: أي التصدق ﴿كَفَّارَةٌ﴾: تمحو الذنب ﴿لَّهُ﴾: للمتصدق.
(46): ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾: وعقبنا بعيسى نبيًا بعد النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾: وأيضًا عيسى كان يحكم بتوراة موسى ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾: شأنه في ذلك شأن الكتب السماوية ﴿وَمُصَدِّقًا﴾: متممًا ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾: وكرر سبحانه ذلك لتكون عل يقين بأن هدف الأنبياء المرسلة والكتب المنزلة واحد، هو هداية الناس وسعادته دنيًا وآخرة.
(47): ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ﴾: ولو حكم كل أهل الكتاب بما فيه حقًا بلا تزييف وتحريف لفتح الله عليهم وعلى الناس، كل الناس، بركات السماء والأرض وعاشوا اخوانًا في الدين و غير الدين.
(48): ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿الْكِتَابَ﴾: القرآن ﴿بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾: كل ما أُنزل من السماء بلا استثناء ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾: أي رقيبًا على ما سبق القرآن من الكتب السماوية ومميزًا بين ما ينسب إلى الله تعالى حقًا وصدقًا وما ينسب إليه كذبًا وافتراء ﴿فَاحْكُم﴾: يا محمد ﴿بَيْنَهُم﴾: بين أهل الكتاب، لأن القرآن يحتوي على كل الأديان السماوية، ولا شيء منها يحتوي على كل ما في القرآن ﴿بِمَا أَنزَلَ اللّهُ﴾: وبالخصوص توحيد الله والتكاتف والتآلف بين عباده وعياله ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ﴾: والنبي لا يتبع الهوى وإلا لم يكن نبيًا والنهي عن المحرم يسوغ عقلاً وعرفًا حتى مع العلم بعدم وقوعه لمجرد البيان بأنه من المحرمات، هذا إلى أن الخطاب من العالي لا يُلحظ فيه منزلة المخاطب ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً﴾: شريعة في الفروع لا في الأصول والعقيدة ﴿وَمِنْهَاجًا﴾: طريقًا واضحًا يجري عليه ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: وعندئذ نكون كالبهائم والأنعام، والله سبحانه لا يريدنا كذلك، بل يريد أن نؤمن عن حرية وقناعة، وأن نطيعه عن علم ومعرفة وإلا كانت عظمته تعالى محجوبة عن الإنسان ﴿وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم﴾: أبى الله سبحانه إلا أن يهب للإنسان عقلاً به يميز، وقدرة بها يفعل أو يترك، وحرية كافية بها يختار، ليعمل كل على هويته وشاكلته ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾: لا الأحقاد والمشاحنات ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾: من الآراء والمعتقدات والأعمال والتصرفات.
(49): ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾: ويومئ هذا التكرار والتوكيد إلى أن النبي (ص) غير مقصود بالخطاب، وإن وُجه بظاهره إليه، لأنه ليس بحاجة إلى شيء من ذلك كما هو معلوم بالبديهة، وأيضًا ليس المقصود المستضعفين حيث لا نقش بلا عرش، فتعين أن المقصود بالذات كل حاكم وكل قائد له قوة وسلطان ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾: لأهل الحكم والسلطان ذنوب كثيرة، والحكم بغير ما أُنزل بعض ذنوبهم لا كلها، وإن ربك لهم بالمرصاد.
(50): ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾: وحكم الجاهلية خير وأفضل ألف مرة من حكام عصر الكهرباء والذرة ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾: يؤمنون بالله، وفيه إيماء إلى أن من يحكم بغير الحق عامدًَا هو والكافر عند الله بمنزلة سواء.
(51): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء﴾: أصدقاء إذا نصبوا لكم العداء، وكانوا حربًا عليكم، ودليلنا على هذا القيد سماحة الإسلام المنصوص عليها في الآية 8 و9 من سورة الممتحنة، والقرآن ينطق بعضه ببعض، وقال الفيلسوف الشهير رسل في كتاب المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة ص 193 طبعة سنة 1960: (تسامح المسلمون الأول مع أهل الكتاب على نقيض المسيحيين) ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾: اليهودي لا ينصر إلا يهوديًا، والمسيحي لا ينصر إلا مسيحيًا، أجل قد تجتمع قوتهم معًا ضد المسلمين، كما حدث في عهدنا سنة 1975 م ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾: أي يتولى اليهود والنصارى الذين، نصبوا العداء للمسلمين فهو عند الله بحكم أعداء الإسلام، يحاسب حسابهم ويعذب عذابهم.
(52): ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾: وهم الذين يتمنون إلى الإسلام في الظاهر ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ: في معاونتهم ﴿يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾: بعض الين يتسمون بسمة الإسلام يوالون أعداءه وأعداء المسلمين لا لشيء ألاَّ حرصًا على الدنيا ووجاهتها وحلاوتها حتى إذا دالت الدائرة على المسلمين كان اللعين في مكان مكين عند أعداء الله والدين. ﴿فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾: فينصر المحقين على المبطلين ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾: يفتضح به كل انتهازي منافق ﴿فَيُصْبِحُواْ﴾: المنافقون ﴿عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾: من الغدر والنفاق ﴿نَادِمِينَ﴾: حيث لا تغني الندامة والفخامة.
(53): ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾: حين يفتضح المنافقون ويظهرون على حقيقتهم، يقول بعض المؤمنين لبعض: أهؤلاء بالذات الذين كانوا يحلفون بالأمس أغلظ الأيمان إنهم منا ولنا ومعنا؟ وإلى هذا الحد بلغ بهم الغش والرياء؟ وكفى بذلك عارًا وشنارًا ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ﴾: وخسر هنالك المبطلون.
(54): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾: والنهي عن الارتداد بعد النهي عن موالاة أعداء الدين يشعر بأن هذه الموالاة قد تؤدي إلى الارتداد عن الإسلام، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾: وحبه تعالى لعبده أن يرفع غدًا من شأنه، أما حب العبد لله فهو أن يسدي لعياله معروفًا، أو ينفس عنهم كربة أو يقضي لهم حاجة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون عياله ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: لأن التواضع للمؤمن الحق طاعة وإخلاص لله بالذات لا لشخص المؤمن من حيث هو ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾: لأن الاستعلاء على أهل الباطل استعلاء على الباطل بالذات ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾: هذا هو شعار المؤمنين بالله وبالحق: (إن لم يكن بك ? يا الله ? غضب علي فلا أُبالي) بكيد الكائدين وبغي المجرمين، ولا ضير على المخلص إن أخطأ الحق ما دام قد جد واجتهد بحثًا عنه، لأن الإخلاص من حيث هو فضيلة وسبيل إلى النجاة (إلا من أتى الله بقلب سليم ? 89 الشعراء)
(55): ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ﴾: بعد أن نهى سبحانه عن اتخاذ أعداء الدين أولياء بيّن ، عظمت كلمته، من الذي يجب اتخاذه وليًا بقوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾: ولا يختلف اثنان في أن المراد بولاية الله ورسوله التصرف في الأمور تمامًا كقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ? 6 الأحزاب) أما المراد بالمؤمنين المصلَّين المزكَّين وهم راكعون، فقد جاء في العديد من التفاسير أنه علي بن أبي طالب بالخصوص. وننقل منها عبارة الرازي بالحرف الواحد: (روي عن أبي ذر رضوان الله عليه أنه قال صليت مع رسول الله (ص) يومًا صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد ، وعلي كان راكعًا، فأومأ إليه بخنصره اليمنى، وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى من النبي، فقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري إلى قوله: فاشركه في أمري، فأنزلت قرآنًا ناطقًا سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانًا، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرًا من أهلي عليًا أشدد به أزري قال أبو ذر: فوالله ما أتم النبي كلامه حتى نزل جبريل، فقال: يا محمد إقرأ (إنما وليكم الله ورسوله إلى آخر الآية).
(56): ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾: وهذه الآية التي جاءت بلا فاصل هي نص صريح على أن المراد بولاية المؤمنين عين ولاية الرسول، وإن من حافظ على هذه الولاية ولم يفرق بين محمد وعلي فهو من حزب الله.
(57) ? (58): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا... ﴾: ومرة أُخرى نهى سبحانه عن اتخاذ أعدائه أولياء، لأنهم لم يخالفوكم في الدين وكفى، بل يُعَدَّوا ظالمين مستهزئين بكم وبدينكم وصلاتكم ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾: عظمة الإسلام وحكمة الصلاة.
(59): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾: أنتم تدعون الإيمان بالله ونحن نؤمن به من الأعماق، وأيضًا تدعون الأيمان بتوراة موسى وإنجيل عيسى، ونحن نشهد بصدقهما شهادة إيمان وإيقان، وإذن فذنبنا عندكم هو ذنب المنصف عند المنحرف والأتقى عند الاشقى.
(60): ﴿قُلْ﴾: يا محمد ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُم﴾: أيها الساخرون من المسلمين الزاعمون بأنكم أهل كتاب ودين ﴿بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ﴾: أي بشر أهل الأديان جميعًا ﴿مَثُوبَةً﴾: جزاء ﴿عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾: وهذان الوصفان لليهود والملحدين والمشركين وكل من سعى في الأرض بالفساد ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾: خاص باليهود بنص الآية 65 من البقرة ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾: وهو كل معبود من دون الله مالاً كان أو منصبًا أو امرأة أو أي شيء من زخرف الحياة الدنيا وزينتها، والراكعون الساجدون لهذا المعبود يُعدون بالملايين من أهل الكتاب والمسلمين وأهل الإلحاد والمشركين ﴿أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً﴾: منزلة عند الله، وبالخصوص عبدة الطاغوت، وبصورة أخص اليهود لأن فيهم هذه الأوصاف مجتمعة وزيادة حيث لا هدف لهم إلا إبادة الإنسانية جمعاء إلا الصهيونية.
(61): ﴿وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا﴾: كذبًا ومينًا ﴿وَقَد دَّخَلُواْ﴾: عليكم ﴿بِالْكُفْرِ﴾: كافرين ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾: أي بالكفر، فإنه الصفة الراسية الراسخة في نفوسهم لا تحول ولا تزول.
(62): ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾: يتنافسون على السلب والنهب وتدمير البشرية ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾: المال الحرام، فهو وحده عندهم مقياس الفضل والفضيلة.
(64): ﴿وقاَلَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾: هذا المنطق ينقض نفسه بنفسه لأن الإعتراف بالله معناه الإعتراف بقوة مطلقة، يفتقر إليها كل شيء، فكيف انعكست الآية؟ ونعوذ بالله من أن نفتقر إلى سواه ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ﴾: ليس هذا دعاء على اليهود، بل إخبارًا من الله سبحانه بأنهم في آخر الزمان سيكونون أذلاء ملعونين مخذولين بشهادة التوراة، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح 28 فقرة 15 وما بعدها أن الرب خاطب الشعب اليهودي بقوله: (إن لم تسمع لصوت الرب إلهك ... يرسل عليك اللعن والإضطراب والزجر في كل ما تمد إليه يدك لتعلمه حتى تهلك وتفنى سريعًا من أجل سوء أفعالك) وفي الفقرة 63 من هذا الإصحاح: (يسلط الرب عليك ? أيها الشعب اليهودي حتى تهلك ... لأنك لم تسمع لصوت الرب إلهك). ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾: فيبطش البطشة الكبرى من يجرؤ على قدسه وجلاله، وأيضًا ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾: بغير حساب ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾: كلما نزلت عليك يا محمد آية من القرآن الكريم ازداد اليهود كفرًا بالله وحسدًا لك وحقدًا عليك. ولا حد ولا عد لمساوئ اليهود، تقدم منها كثير، والآتي أكثر ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: وقد عمَّ وشمل هذا العذاب والغضب من الله سبحانه المسلمين والعرب في عصرنا الراهن حتى المشردين منا واللاجئين، وما ربك بظلام للعبيد ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ﴾: وهذه نتيجة حتمية للانشقاق والنزاع (ولا تنازعوا فتفشلوا ? 46 الأنفال) ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فسادًا﴾: والفساد يعم وبشمل شتى أنواع الجرائم، وأعظمها العدوان على العباد.
(65): ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: قيل في تفسير هذه الآية: إنها دعوة من القرآن لأهل الكتاب أن يسلموا، وهذا هو الظاهر، أما الواقع فإن القرآن يدعوا أهل الكتاب وغيرهم أن يدرسوا الإسلام حتى يعلموا امانيه ومراميه، ويعملوا بما علموا.
(66): ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ﴾: على جميع الأنبياء بما فيهم محمد (ص) ﴿لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: كناية عن رغد العيش وسعة الرزق، وليس من شك أن اليهود والنصارى لو آمنوا بمحمد كما آمنوا المسلمون بموسى وعيسى، وعاشوا إخوانًا متحابين ? لكانوا جميعًا في غنى عن الجدال والقتال، ولتوجه الإنتاج بالكامل إلى السلم وسد الحاجات، لا إلى الحرب والمقاتلات بحكم البديهة والطبيعة، وعندئذ يعم الرغد والرخاء الجميع على السواء، ويصبح ثمن الدار أقل من ثمن السيارة الآن، وهذه بثمن الساعة، والساعة كالقلم، والقلم كالدبوس، وهكذا سائر السلع بشتى أنواعها. ﴿مِّنْهُمْ﴾: من أهل الكتاب ﴿أُمَّةٌ﴾: جماعة ﴿مُّقْتَصِدَةٌ﴾: معتدلة حيث آمنت بمحمد كما آمن المسلمون أجمعين بموسى وعيسى ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾: بإصرارهم على الضلال.
(67): ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾: يدل أُسلوب الخطاب مع النبي (ص) أن الله سبحانه قد أمره بتبليغ أمر مهم للغاية، وأن النبي قد ضاق به ذرعًا، لأنه ثقيل على أنفس جماعة من الصحابة، وذكر الرازي في سبب نزول هذه الآية وجوهًا، منها: (أنها نزلت في فضل علي بن أبي طالب (ع)، ولما نزلت هذه الآية أخذ النبي بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. فلقيه عمر فقال: هنيئًا لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنه، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي بن الحسين (ع).
(68): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾: من دين الحق ﴿حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾: تقدم قبل لحظة في الآية 65 و66.
(69): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ﴾: تقدم في الآية 62 من البقرة. (70): ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ﴾: تقدم في الآية 12 من هذه السورة ﴿فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾: القتل أولاً إن أمكن وإلا فالتكذيب والتعذيب.
(71): ﴿وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾: أي ظن اليهود أنه لا غالب لهم إطلاقًا لأنهم شعب الله المختار ﴿فَعَمُواْ﴾: عن الحق ﴿وَصَمُّواْ﴾: عن دعوته ﴿ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ﴾: لما تابوا ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾: وكثير بدل من واو الجماعة يتمردون إن استطاعوا، ويخضعون عند العجز، وهكذا دواليك.
(72): ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾: جاء في قاموس الكتاب المقدس طبعة عام 1964م صفحة 108 وما بعدها: (أن التثليث أمر بين واضح في الأناجيل. والمسيح بما أنه ابن الله فهو إله بكل الكمالات غير محدودة التي للجوهري) ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ﴾: الإسرائيلي لقومه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾: أنا وأنتم من عباده ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾: فقالوا: كلا، أنت ابن الله وشريكه، ولست عبدًا.
(73): ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾: أبدًا لا فرق عند الله بين من كفر بالله من الأساس ومن جعل له شريكًا ، لأن هذا الوصف يشعر بالنقص والعجز إضافة إلى الأسواء والأضرار التي يتركها في حياة الناس العملية ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: ومعنى الإله الواحد عقلاً وبديهة أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد وإلا لم يكن إلهًا ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ﴾: بأن الله ثالث ثلاثة ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾: أي الذين استمروا وأصروا على الكفر ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
(74): ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ﴾: قبل أن يأتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
(75): ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾: فمن أين جاءته الربوبية؟ ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾: صدقت بكلام ربها، وعملت بموجبها ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾: لسد الجوع المهلك وتسكين المعدة التي تضطرب وتخرخر وإذا كان هذا حال المعبود فكيف بحال العبد؟ ﴿انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ﴾: الواضحات من أن الإله لا يرضع ويشرب ولا يأكل ويصلب ﴿ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: يعرضون عن الحق على الرغم من شهادة الحجج الدامغة البالغة؟.
(76): ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا﴾: بل ولا لنفسه أيضًا، والشرط الأساس في الإله أن يملك النفع والضر.
(77): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾: تقدم في النساء الآية 171 والغلو كفر لا محرم فقط، وإذا أعطى المسلم للمخلوق صفة واحدة من صفات الخالق فقد ارتد عن الإسلام ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ﴾: وهم رؤساء الدين ﴿قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ﴾: أهلكوا ﴿كَثِيرًا﴾: من الناس: وتحملوا مسؤولية كل قاصر وجاهل لا يعرف حقًا ولا باطلاً إلا تلقينًا وتقليدًا، أما هو ففي أمن وأمان من عذاب الله، ما في ذلك ريب.
(78): ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ﴾: كل نبي وتقي.
(79): ﴿كَانُواْ﴾: اليهود وما زالوا ﴿لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾: أي ابتدعوه ودبروه بدقة لا تبارى.
(80): ﴿تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ﴾: من اليهود ﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: يهتمون كثيرًا في امتلاك قلوب حكام الجور حيث يجدونهم حماة لجشعهم وجرائمهم، وفي هذه الآية وغيرها من الآيات التي تحدثت عن طبيعة اليهود ? يكمن سر الإعجاز في كتاب الله ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾: من غضب الله والناس أجمعين.
(81): ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾: اليهود ﴿يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ﴾: موسى كما يزعمون ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ﴾: في التوراة ﴿مَا اتَّخَذُوهُمْ﴾: أي ما اتخذ اليهود أهل الضلال والفساد والطغاة الأوغاد ﴿أَوْلِيَاء﴾: من دون الطيبين الصالحين.
(82): ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ﴾: ولكل طيب ومخلص ﴿الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾: يشير سبحانه بهذا إلى تحالف اليهود مع المشركين ضد محمد (ص) وتأليبهم عليه وإيذائهم له بألسنتهم وأيديهم وشتى ما يملكون من سلاح ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى﴾: ليس في هذه الآية وما يتصل بها تصريح أو تلويح بأن النصارى يحبون المسلمين أو يكرهون اليهود أكثر من كرههم لمن أسلم كلا، إنها بعيدة عن ذلك، وإنما تدل على أن الأفكار الدينية المسيحية هي من حيث الإنسانية أقرب منها إلى الإسلام وإنسانيته من الأفكار الدينية اليهودية، وكل من قرأ التوراة والإنجيل ينتهي إلى العلم بهذه الحقيقة ? مثلاً ? إله الإنجيل هو إله المحبة والرحمة للبشرية جمعاء بنص كلماته تمامًا كما جاء في القرآن، أما إله التوراة فإنه مرتبط باليهود وحدهم، وهم شعبه الخاص، ولا يعنيه من أمر الخلائق شيئًا إلا أن تكون أداة لمصلحة اليهود! ولا أدري كيف جمع النصارى بين الإيمان بإله التوراة المتعصب والإيمان بإله الإنجيل الذي وسعت رحمته كل شيء؟ ﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى الأفكار الدينية المسيحية ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ﴾: علماء ﴿وَرُهْبَانًا﴾: عبادًا ﴿وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾: على أحد من عباد الله وعياله.
(83): ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا﴾: هذه واقعة خاصة لا يقاس عليها كل راهب وقسيس، ولذا نكَّر سبحانه ولم يقل القسيسين والرهبان والواقعة هي أن جعفر ابن أبي طالب تلا للنجاشي بعض ما نزل في عيسى وأُمه من القرآن فبكى ومن حضر من قومه.
(84): ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾: قال هذا النجاشي ومن معه.
(85): ﴿فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ﴾: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
(86): ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾: وهكذا لا يستوي عند العدالة الإلهية المسيء والمحسن وإذا سلم المجرم من عقاب الناس فلا مفر له من عذاب الله0
(87): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ﴾: جاء في الروايات أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة غلب عليهم الخوف من الله، فحرموا على أنفسهم النساء والطيبات، وانقطعوا إلى العبادة، فنهاهم النبي (ص) وقال لهم فيما قال : أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾: إن الذين يعملون للآخرة وينسون الدنيا، أو للدنيا وينسون الآخرة.
(88): ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا﴾: اعملوا وكلوا من عمل أيديكم، فإن الأيدي الخشنة العاملة أفضل عند الله من الجباه السود الساجدة.
(89): ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾: يمين اللغو ما يدور على اللسان من غير قصد وروية، ووجوده كعدمه ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ﴾: يمين الشرع ما يؤتى بها عن قصد وروية، ويجب الوفاء بها ويؤاخذ الحالف على حنثها ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾:من حلف اليمين الشرعية وخالفها، وجبت عليه الكفارة مخيرًا بين ثلاث خصال (1) أن يطعم عشرة مساكين بالجمع بينهم أو التفريق (2) أن يكسو كل واحد منهم ما يسمى كسوة في العرف (3) أن يعتق عبدًا، ولا عبيد اليوم ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾: عجز عن الخصال الثلاث ﴿فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾: وإن عجز عن صومها استغفر الله ورجا عفوه.
(90): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِر﴾: تقدم الكلام عنهما في تفسير الآية 219 من البقرةُ ﴿وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ﴾: أيضًا تكلمنا عنهما عند تفسير الآية 3 من هذه السورة أي المائدة ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾: ولا شيء أقوى في الدلالة على تحريم الخمرة من هذه الآيية أولاً: للمساواة بينها وبين عبادة الأصنام. ثانيًا: إنها رجس من عمل الشيطان. ثالثًا: للأمر بالاجتناب عنها. وهو يدل على الوجوب إضافة إلى السنة المتواترة والإجماع مدى الزمان، وكفى بالضرورة الدينية حجة ودليلاً.
(91): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ﴾: أي عن طاعته بعامة ﴿وَعَنِ الصَّلاَةِ﴾: بخاصة، بعد النهي عن الخمر والميسر بين سبحانه ما فيهما من مفسدة، وهي العداوة بين الخاسر والرابح في القمار، والسب والقذف من السكران المؤدي إلى البغض والكراهية، والوقوع في معصية الله سبحانه، وترك العبادة ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾: عن هذه المساوئ والرذائل، وهذا الزجر عند أهل الفهم أرهب وأبلغ من صيغة انتهوا.
(92): ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾: في ترك الخمر والميسر وكل حرام ﴿وَاحْذَرُواْ﴾: عذاب الله وغضبه، أبعد كل هذا يقال: لا نهي عن الخمر في القرآن؟ ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾: عصيتم ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾: وعلى الله الحساب، ولمن خالف العذاب.
(93): ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ﴾: ماعدا المنهي عنه من الأطعمة والأشربة، ومن هنا اتفق الفقهاء على أن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وفي الشرائع الوضعية: لا جريمة بلا نص ﴿إِذَا مَا اتَّقَواْ﴾: فيما بينهم وبين الله من الإخلاص له في العبادة ﴿وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ﴾: فيما بينهم وبين الناس من حسن السيرة والمعاملة ﴿وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ﴾: ثبتوا واستمروا على التقوى الأولى والثانية ﴿وَّأَحْسَنُواْ﴾: والإحسان تقوى وزيادة لأن التقوى أن لا تترك واجبًا ولا تفعل محرمًا، والإحسان أن تفعل المستحب، وتترك ما يكره.
(94): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ﴾: أي أن الله سبحانه يميز العاصي عن المطيع بأشياء منها ما يوجبه عليه في حال الإحرام فقط من ترك بعض الصيد، وهو صيد البر دون البحر ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾: كناية عن الصيد بلا مشقة ﴿لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾: أي لتظهر أفعالنا للعيان التي نستحق عليها الثواب والعقاب، وقوله بالغيب إشارة إلى أن المؤمن حقًا هو الذي يترك الحرام في السر والعلانية.
(95): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾: محرمين ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا﴾: ولا شيء على الناسي والمخطئ ﴿فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾: أي على الصائد فدية من الحيوان الأهلي تشبه الحيوان البري الذي اصطاده ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾: ينظران إلى أشبه الحيوانات بالصيد ويحكمان به ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾: تذبح الفدية في الحرم ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾: أي أن الصائد مخير بين أن يذبح مثل الصيد وبين أن يقوّم مثله بدراهم يشتري بها طعامًا للمساكين ﴿أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾: يصوم عن إطعام كل مسكين يومًا واحدًا، وتجدر الإشارة إلى أن الصيد كان في صدر الإسلام من مقومات الحياة والمعاش ومستعملاً عند العرب بكثرة، فاقتضى البيان المفصل، أمل الآن فالناس في غنى عن صيد البر إلا للهو، والحاج يذهب إلى الحرم الشريف عابدًا لا لاهيًا.
(96): ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾: حتى ولو كنتم محرمين ﴿وَطَعَامُهُ﴾: أي يحل صيده وأكله ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾: إدامًا للحاضرين والمسافرين ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾: حرم سبحانه أولاً أصل الصيد حال الإحرام في قوله (لا تقتلوا الصيد) وفي هذه الآية حرم الأكل منه تمامًا كالميتة ....
(97)- (99): ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾: محلاً تعبد الناس فيه رب العالمين ﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾: جنس يشمل الأشهر الأربعة، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ﴿وَالْهَدْيَ﴾: ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ﴿وَالْقَلاَئِدَ﴾: الهدي الذي وضعت في عنقه علامة تدل على أنه للكعبة ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ... ﴾: بيّن سبحانه حلاله وحرامه ما صغر منه وما كبر حتى (القلائد) لنكون على علم اليقين بأن ما من شيء إلا وفيه كتاب وسنة كيلا يترك مجالاً لأي إنسان أن يفتي ويحكم برأيه.
(100): ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ﴾: وهو كل ما نهى الله عنه من قول أو فعل، ومن الناس كل من عصى حكمًا من أحكام الله ﴿وَالطَّيِّبُ﴾: وهو ما لم يرد فيه نهي قولاً كان أو فعلاً، ومن الناس من أطاع الله في جميع أحكامه ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾: والكثرة هنا كناية عن بهجة الدنيا وزينتها ومتاعها وحلاوتها، والمعنى الرجل الفاضل الطيب من يسارع إلى الخيرات لا من يأكل الطيبات ويُشبع الشهوات.
(101): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾: ما لكم وللسؤال عما لا يسألكم الله عنه غدًا، ولا صلة له من حياتكم من قريب أو بعيد، وقد يكون في الجواب عنه ما تكرهون ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾: اسألوا عن أحكام ما تمارسونه بالفعل، واسكتوا عما عدا ذلك حتى ينزل به الوحي على الرسول، فإن نزل الوحي واقتضى الشرح والتوضيح سألتم النبي (ص)، فيبين لكم.
(102): ﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾: الضمير للأشياء التي جوابها يسوء السائل ﴿قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ﴾: في الروايات أن بني إسرائيل كانوا يسألون أنبيائهم، فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا.
(103): ﴿مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ﴾: إذا أنجبت الناقة خمسة أبطن شقوا أذنها وحرموا ركوبها ﴿وَلاَ سَآئِبَةٍ﴾: كان الجاهلي يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، فتكون تمامًا كالبحيرة ﴿وَلاَ وَصِيلَةٍ﴾: كانوا إذا ولدت الناقة ذكرًا وأُنثى في بطن واحد قالوا وصلت أخاها، ولم يذبحوا الذكر لأجلها ﴿وَلاَ حَامٍ﴾: كانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا قد حمى ظهره، فلا يُركب ولا يُحمل عليه. وهذه الحكام ذهبت مع وقتها، ولا جدوى وراء التطويل والتحليل.
(104): ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾: تعالوا إلى الإيمان بالحق والعمل به والتعاون على إقامته ﴿قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾: إن دين الحق عندهم هو دين الآباء والأجداد لا دين العقل والوحي والفطرة ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾: ونفهم من هذا أن التقليد من حيث هو لا يوصف بخير ولا بشر، وإنما حكمه حكم ما يؤدي إليه تمامًا كالوسيلة والمقدمة، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
(105): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾: تختلف واجبات الإنسان تبعًا لطاقته وأهليته، وعليه أن يقوم بها كاملة ولا يقصر، فواجب الوالي أن يقوم بحق الرعية مخلصًا، وعلى الجندي أن يسمع لقائده مطيعًا، وعلى المرشد أن يبلغ ناصحًا ﴿لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾: كل إنسان يؤخذ بعمله لا بعمل الآخرين ﴿إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: ولا عذر لمن قصر وأهمل.
(106): ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ﴾: شهادة مبتدأ، واثنان خبر، والمعنى من أحس بدنو أجله في السفر كم يدل قوله: إن ضربتم في الأرض ? وأراد أن يوصي فليُشهد عدلين من المسلمين ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾: من غير المسلمين ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾: كنتم مسافرين ﴿فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾: ظهرت دلائله ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾: ضمير المثنى للشاهدين من غير المسلمين ﴿مِن بَعْدِ الصَّلوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ﴾: إذا أوصى رجل في السفر، ولا أحد عنده من المسلمين، فله أن يشهد اثنين من أهل الكتاب، على أن يُستحلفا بعد الصلاة بين جمع من الناس إنهما ما خانا ولا كتما حقًا ولا أخذا رشوة، وعندئذ تقبل شهادتهما، ولا تجب اليمين على أحدهما إلا مع الشك في صدقها لقوله تعالى: (إن ارتبتم).
(107): ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾: إذا دلت الدلائل على أن الشاهدين قد كذبا في الشهادة، ومع ذلك بقيا مصرين على صدقهما ﴿فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا﴾: أي اثنان من أولياء الميت يقومان مقام الشاهدين اللذين استحقا إثمًا ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾: أي جنى عليهم وهم الورثة ﴿الأَوْلَيَانِ﴾: أي الأحقان بالشهادة لقرابتهما من الميت ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا﴾: يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أصح وأصدق من شهادة الأولين اللذين ظهرت خيانتهما ﴿وَمَا اعْتَدَيْنَا: ما تجاوزنا الحق والصدق ﴿إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾: لأنفسنا والمفترين على غيرنا.
(108): ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾: من غير خيانة وتحريف ﴿أَوْ يَخَافُواْ﴾: الضمير لشهود الذين حلفوا على أنهم صادقون في شهادتهم ﴿أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: أي أن ترد اليمين على الورثة الذين ادعوا أن الشهود خانوا وكذبوا في شهادتهم وفي يمينهم، ومتى حلف الورثة هذه اليمين يفتضح الشهود بظهور خيانتهم ويمينهم الكاذبة، وأنهم جمعوا بين الرذيلتين.
(109): ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾: يقول سبحانه غدًا لرسله من باب إلقاء الحجة على قومهم: لقد بلغتم رسالتي، ما في ذلك سؤال، ولكن هل استجاب لكم قومكم؟ ﴿قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا﴾: علمنا قاصر إلى جانب علمك ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾: حتى بما تكن القلوب.
(110): ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾: ولماذا يذكّر بنعمته سبحانه عباده التقي منهم والشقي؟ الجواب: يذكّر الشقي ليرتدع، ويذكر التقي ليكون على علم اليقين بأنه في عين الله ورعايته دنيا وآخرة ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾: جبريل ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾: تنزيهًا لأمك من كل شبهة ﴿وَكَهْلاً﴾: أي أن كلام السيد المسيح طفلاً يضاهي كلامه كهلاً ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ﴾: الكتابة ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾: الشريعة، ﴿وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ... ﴾: تقدم في الآية 49 من آل عمران، وكرر سبحانه (بإذني) دفعًا لشبهة الشرك والغلو.
(111): ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾: ألهمتهم وهديتهم ﴿أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾: عيسى ﴿قَالُوَاْ آمَنَّا﴾: بك وبه ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾: مخلصون في إيماننا وأعمالنا.
(112): ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء﴾: لا شك عند الحواريين في عظمة الله وقدرته، وعليه يكون المعنى هل يفعل سبحانه ذلك بمجرد مسألتك إياه؟ ﴿قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾: ولا تقترحوا عليه ما تشتهون.
(113): ﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا﴾: وأنها لأكلة لا كالأكلات ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾: ما من شك في أن الحواريين كانوا مؤمنين بنبوة عيسى حين طلبوا ذلك بشهادة الله سبحانه حيث قال: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا) ولكن كان إيمانهم هذا بالوحي والإلهام، فأرادوا أن يضيفوا إليه إيمان الحس والعيان وهذا موجود في آية من كتاب الله، منها الآية 260 من البقرة حكاية عن إبراهيم (ع) والآية 41 من آل عمران حكاية عن زكريا (ع).
(114): ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء... ﴾: لما رأى عيسى (ع) الإصرار من الحواريين، وعلم أنهم لا يقصدون العنت والتعجيز، دعا الله سبحانه بدعاء العبد الخاضع المتضرع.
(115): ﴿قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ : استجاب سبحانه لتضرع عبده عيسى ليزداد أصحابه ثقة به وإيمانًا بنبوته، وبذلك تلزمهم الحجة البالغة إن عاكسوا وشاكسوا.
(116): ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ﴾: ليس هذا سؤالاً لعيسى، وإنما هو حجة قاطعة على من ادعى لعيسى وأمه هذه الدعوة الكاذبة الكافرة ﴿قَال﴾َ: عيسى ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾: أنا من العارفين بجلالك وكمالك والأمين على وحيك والمجاهدين في الدعوة إلى عبادتك هذا ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي و َلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾: تعلم ما أعلم ، ولا أعلم ما تعلم.
(117): ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾: المصدر المنسبك من أن اعبدوا بدل من ضمير (به) ولا يجوز أن تكون (أن) مفسرة لأن حروف القول لا تفسر وثانيًا لأن الله لا يقول: اعبدوا الله ربي وربكم ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾: أي كنت أراقبهم بدقة، وأمنعهم من الكفر والمغالاة ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾: أديت وظيفتي من غير تقصير في ظل طاعتك، والذي حدث من بعدي علمه عندك وأمره لك وحدك لا شريك لك.
(118): ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾: وأنت وحدك صاحب هذا الحق ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ﴾: الغني عن عذابهم ﴿الْحَكِيمُ﴾: الحليم الذي يشاهد العصاة لأمره ولا يعاجلهم بالعقوبة، ويومئ هذا القول من عيسى إلى أنه يطلب من الله العفو عن المذنبين، ولا غرابة، فهذا هو شأن الأنبياء والأوصياء، فقد عانى محمد (ص) الكثير من قومه ومع ذلك قال: اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون. وقال إبراهيم أبو الأنبياء: (ومن عصاني فإنك غفور رحيم ? 36 إبراهيم).
(119): ﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾: أبدًا لا نجاة إلا لمن صدق في نيته وأخلص في عمله ﴿رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ﴾: لأنهم اهتدوا به ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾: بما أتاهم من فضله ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾: وفي المقابل غضبه تعالى هو الخسران المبين.