سورة آل عمران
(1): ﴿الم﴾: تقدم في أول البقرة.
(2): ﴿اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾: لا ثالث ثلاثة ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾: لم يصلب، تعالى الله عمّا يصفون.
(3): ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿الْكِتَابَ﴾: القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾: بكل ما يحويه ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: من الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين ﴿وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ﴾: كلمة عبرانية بمعنى الشريعة ﴿وَالإِنجِيل﴾: من كلمة يونانية وهي أونجيلون بمعنى البشارة.
(4): ﴿مِن قَبْلُ﴾: القرآن ﴿هُدًى﴾: بيان ﴿لِّلنَّاسِ﴾: قوم موسى وعيسى (ع) ﴿وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾: قال الإمام الصادق (ع)، هو كل آية محكمة في الكتاب ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: المنزلة ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ...﴾: وكل بلاء دون النار عافية كما قال الإمام (ع).
(5): ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾: ونستغفره مما علمه منّا، وأحصاه علينا.
(6): ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾: من مني يمنى كما صورنا نحن أو من غير نطفة ومني كما صور آدم وعيسى.
(7): ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾: بيّنات واضحات، لا تحتمل تأويلاً ولا تخصصًا ولا نسخًا. ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾: أصله ومعظمه، وبهنّ تفسّر غيرهن من الآيات. ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾: محتملات لأكثر من معنى. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾: إنحراف وأهواء ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾: يتجاهلون الكلام الواضح. ويتشبَّثون بالمجمل يفسّرون بما يشتهون﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾: يفسدون عقول الناس وقلوبهم، ليبتعدوا عن الحق وأهله ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾: بما تشتهي أنفسهم ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾: والتأويل: التفسير، أما الراسخون في العلم فهم الذين لا يقولون إلا عن علم، ويعترفون صراحة بالعجز عن فهم ما حجب الله علمه عنهم ولا يتعمقون ويتعسفون فيما لم يكلفهم الله بالبحث عن كنهه. كما جاء في الخطبة 98 من نهج البلاغة ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾: أي بالمتشابه، وفوّضنا أمره إلى الله حتى نلقى من هو أعلم منا وأرسخ بما أراد الله ﴿كُلٌّ﴾: من المحكم والمتشابه ﴿مِّنْ عِندِ رَبِّنَاوَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الألْبَابِ﴾: هذا مدح للراسخين بحسن التأمل والتفكر.
(8): ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾: لا تبتلينا بمصائب تزيغ فيها القلوب ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾: إلى الحق بتوفيقك وعنايتك ﴿وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾: وبالخصوص نعمة التوفيق ﴿إِنّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾: بلا عوض.
(9): ﴿ربّنا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾: إلا من دام عماه عن الحق.
(10): ﴿إ ِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: بالله وبالعدل والحق والإنسان وحقوقه ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ﴾: رحمة ﴿اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾: أبدًا لا جاه ولا مال ولا أولاد ورجال ولا شيء يمجد إلّا العمل الصالح والقلب السليم.
(11): ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾: كدأب خبر لمبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾: كقوم نوح وعاد وثمود ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾: وهي النذير المبين ﴿فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾: أخذًا وبيلاً.
(12): ﴿قُل: يا محمد ﴿لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ﴾: لأنكم على ضلال، ولأن للحق سلاحًا لا تراه الأعين ﴿وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ: والقرار.
(13): ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾: واضحة الدلالة على صدق محمد (ص) وهي ﴿فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾: إشارة إلى وقعة بدر ﴿يَرَوْنَهُم﴾: المشركون يرون المسلمين ﴿مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾: أي مثلي المشركين في العدد، وكان هؤلاء قريبًا من ألف، والمسلمون ثلاثمئة وبضعة عشر حقيقة وواقعًا، ولكنهم في أعين المشركين قريبًا من ألفين ﴿وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ﴾: فليست العبرة بالقلة أو الكثرة، بل بالثبات والإخلاص من العبد والتوفيق من الله ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾: في الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ﴿لَعِبْرَةً﴾: لعظة ﴿لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾: الأبرار.
(14): ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾: للإنسان عقل وضمير، وله كذلك رغبات ومطامح إلى أشياء كثيرة أشارة سبحانه إلى أهمها بقوله: ﴿مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ﴾: وليست كل زوجة ريحانة ولا كل ولد قرّة عين ولكن المسألة هي طبع وغريزة وكفى ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾: والقناطير كناية عن الكثرة، والذهب والفضة هنا، لكل النقود بشتى أنواعها ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾: المعلمة أو المرعبة أما اليوم فسيارات (وموديلات) ﴿وَالأَنْعَامِ﴾: الإبل والبقر والغنم، ﴿وَالْحَرْثِ﴾: الزرع، والمراد بهما كل وسائل الإنتاج دون استثناء ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: وهو خير وكمال وقوة وجمال إلا أن يكون على حساب الآخرين، فإنه نار وجحيم ﴿وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾: ونعوذ به من سوء المرجع.
(15) ?
(16): ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ﴾: النساء والمال والأولاد﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾: وأحسنوا ﴿عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾: من الجهل المميت والخلق المقيت لا من الحدث والخبث فقط ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ﴾: أكبر وأعظم.
(17): ﴿اَلصَّابِرِينَ﴾: على الكفاح في سبيل الحق والعيال ﴿وَالصَّادِقِينَ﴾: في الأقوال والأفعال ﴿وَالْقَانِتِينَ﴾: المطيعين ﴿وَالْمُنفِقِينَ﴾: من كدحهم ولا يعيشون كلًا على الآخرين ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾: لأنها أبعد عن شبهة الرياء علمًا بأن خدمة الإنسان لأخيه أفضل من عامة الصلاة والصيام وتلاوة القرآن الكريم بكرةً وعشيًا.
(18): ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾: شهد سبحانه بذاته لذاته على أنه الخالق الوحيد بصنعه وآثاره، وشهد محمد بذاته على نبوته برسالته وسيرته وسنته، وهكذا كل مبدأ ودين وعالم وعظيم، يشهد لنفسه بنفسه بما يترك للناس من ثمار وآثار ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ﴾: تؤمن بالله فطرة وطبيعة ﴿وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ﴾: يؤمنون ويدعون إلى الإيمان بالحجة الكافية الوافية ﴿قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾: بالعدل في الدين والشريعة وسنن الطبيعة.
(19): ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾: حتى الدين الذي أُوحيَ إلى نوح والنبيين من بعده، لأن الإسلام يقرّ كل وحي سابق ويعترف به، ومعنى هذا أن دين محمد ينطوي على كل الأديان السماوية وزيادة ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ﴾: من اليهود والنصارى ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾: بلسان موسى وعيسى ﴿بَغْيًا﴾: طلبًا لحطام الدنيا ﴿بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾: والويل لمن خفت موازينه.
(20): ﴿فإنْ حَآجُّوكَ﴾: في دين الله ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾: اقطع النقاش مع الجهلة، السفلة، وقل: أدين بالواحد الأحد ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ﴾: المشركين الذين لا كتاب لهم. ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾: بعد أن جائتكم البينات ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوا﴾ْ: حيث لاشيء بعد الإسلام إلا الضلال ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾: وبه تتم الحجة، وتنتهي وضيفتك.
(21): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: لا لشيء إلا لأنها حق ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾: بل قتلوهم لأنهم على حق ﴿وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾: وهذا هو ذنبهم الوحيد، وهو ذنب الكامل عند السافل والمحق عند المبطل.
(22): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾: ملعونون في الدنيا على كل لسان، ومعاقبون في الآخرة بمقطعات النيران.
(23): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ﴾: هم أحبار اليهود، والكتاب هو التوراة ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ﴾: دعاهم محمد (ص) إلى التوراة ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾: هل جاء في التوراة ذكر محمد (ص) بالاسم والصفات ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾: مدبرين هاربين ﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾: عن الحق.
(24): ﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾: تقدم في الآية 80 من سورة البقرة، ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾: على الله في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه.
(25): ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾: أي كيف يصنعون يوم الجزاء والحساب؟ ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾: هذا هو دين الحق لا شعب مختار عند الله ولا أبناء له، ولا أي شيء لأي إنسان كائنًا من كان إلا ما سعى.
(26): ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾: ولماذا يملك سبحانه وهو الغني في ذاته وصفاته عن كل شيء؟ الجواب ليس المعنى أنه يحتاج إلى الملك بل معناه أنه يخلق الملك ويمنحه ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ﴾: لا أحد يملك شيئًا إلا أن يملكه الله إياه ﴿وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾: تسترده بعد العطاء ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَاء﴾: بالتوفيق والعناية ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَاء﴾: بالخذلان والتخلي ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾: ويده تعالى قدرته، وكل ما ينتفع الناس به هو خير.
(27): ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ﴾: تدور الأرض حول الشمس بالسنن التي أودعها الله في الطبيعة، فتتعدد الفصول ويأخد الليل من النهار في فصل حتى يصير 15 ساعة والنهار 9 ساعات ﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾: وفي فصل آخر يأخد النهار من الليل حتى يصير 15 ساعة والليل 9 ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾: كخروج الشجرة من النواة ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾: كخروج النواة من الشجرة، وفيه إيماء لصراع الأضداد بمعنى تحول الشيء إلى ضده لا بمعنى الجمع بين الضدين ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: ولكن مع السبب الموجب، لأن الله تعالى أبى أن يجري الأمور إلا على أسبابها.
(28): ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: والذي نفهمه من الولاية هنا الصداقة الصادقة ومن الكافرين كل من كان عدوًا للإسلام والمسلمين، والقرينة على هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ﴾: أي أن صداقة المسلم للكافر معناها قطع الصلات بالكامل مع الله، قال الإمام أمير المؤمنين (ع) صديق عدوك عدوك ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾: هذه رخصة بالمداراة عن الخوف فقط، ثم أكد سبحانه ذلك بهذا التحذير: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾: تهديد بالعذاب الشديد لمن يتولى قومًا طاغين مجرمين.
(29): ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ....﴾: لا تخفى عليه خافيه.
(30): ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾: لن يفوز بالخير ? غدًا- إلا عامله، ولا يجزى جزاء الشر إلا فاعله ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾: وكل مفرط نادم لا محال، ومرة ثانية ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾: عسى أن ينفع هذا التحذير.
(31): ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾: كل من يدعي الإيمان بالله والإخلاص له، يلزمه حتمًا الإيمان بأنبيائه والإخلاص لهم وإلا فهو كاذب في دعواه بحكم البديهة ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾: بشرط أن تؤمنوا بالله ورسوله معًا.
(32): ﴿قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ﴾: ومعصيته معصية لله بالذات ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾: وفيه دلالة واضحة على أن الإيمان بالله دون الرسول كفر تمامًا كالجحود بالله.
(33): ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾: وآدم أبو البشر الأول ونوح أبو البشر الثاني، لأن جميع أهل الأرض من نسله ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾: أي إبراهيم وأولاده إسماعيل وإسحق وأولادهما ومنهم محمد وآل محمد (ص) ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾: موسى وهارون ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: ومن اصطفاه الله واختاره على العالمين من خلقه يجب أن يكون معصومًا، ومعنى هذا أن المراد بالآل هنا من كان نبيًا أو إمامًا، وليس مطلق الآل.
(34): ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾: المعصوم اللاحق ينتهي في نسبة إلى المعصوم السابق.
(35): ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾: بن ماثان، وهو جد المسيح (ع)، وبين عمران أب موسى وعمران أب مريم 1800 سنة ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾: معتقًا لخدمة بيت المقدس ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾: نذري.
(36): ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى﴾: تحسرًا وتلهفًا على ما فاتها من النذر ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾: وله فيه سر عظيم ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾: في خدمة المعابد ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾: قال الطبرسي في جوامع الجامع: ومريم في لغتهم هي العابدة. وفي قاموس الكتاب المقدس: مريم اسم عبري معناه: عصيان ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾: أجيرها بحفظك ﴿وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾: فإنه يطمع كثيرًا بأولاد الأتقياء والعلماء.
(37): ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾: قبل سبحانه النذر مع الأجر ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾: كناية عن صلاح التربية والإستقامة ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾: زوج خالتها ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾: موضع العبادة ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾: لا يشبه أرزاق الدنيا ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾: وما من أحد يراك غيري؟ ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾: فلا تستبعد ﴿إنَّ اللّهَ يَرْز ُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: بغير عد ووزن، وأيضًا من غير إحتساب وترقب.
(38): ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾: لما رأى ما رأى من آيات ربه في مريم على صغر سنها تحركت في نفسه عاطفة الأبوية، ورجا أن يكون له مثلها في الكرامة عن الله و ﴿قَالَ﴾: زكريا على شيخوخته وعقم امرأته لم ييأس من رحمة الله ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾: وهل في الكون كله من ثروة أعظم من نعمة الذرية الزاكية المباركة؟ أبدًا إلا مرضاة الله سبحانه.
(39): ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَآئِكَةُ﴾: والأصل ملائك فزيدت التاء للمبالغة أو على معنى الجماعة ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾: صلاة خاشع متضرع ﴿أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾: اسم سماه الله به قبل أن يولد، اختاره له إشعارًا بأن الله يحي الأرحام والعظام بعد موتها ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ﴾: وهي عيسى ﴿وَسَيِّدًا﴾: يسود قومه علمًا وخلقًا ﴿وَحَصُورًا﴾: لا يأتي النساء وإنها لرحمة يخص بها الله من يشاء ﴿وَنَبِيًّا مِّنَ: آبائه ﴿الصَّالِحِينَ﴾.
(40): ﴿قال رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾: أي عظمت قدرتك التي تخطت السنن والعادات بالمعجزات؟ ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾: قيل كانت له 99 سنة وقيل 120 ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾: لا تلد، قيل: لها98 سنة ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾: ولا راد لمشيئته.
(41): ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً﴾: علامة أعرف بها وقت الحمل ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾: يعجز، عن النطق معهم دون النطق بذكر الله ﴿ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا﴾: إشارة تمامًا كالأخرس ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾: أيام عجزك عن النطق.
(42): ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ﴾: خصك من دون نساء العالمين إطلاقًا بالحمل والولادة من غير أب.
(43): ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾: تعبدي لله ﴿وَاسْجُدِي﴾: قدم السجود على الركوع لا بقصد الترتيب كما يبدو لأنه واو العاطفة لمطلق الجمع سابقًا أو لاحقًا أو مصاحبًا ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾: صلّي جماعة ومستقلة، وفيه إيماء إلى جواز الجمع بين الرجال والنساء في العبادة والمعابد.
(44): ﴿ذَلِكَ﴾: إشارة إلى ما سبق من نبأ مريم وزكريا ويحيى ﴿مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾: نلقنك إياه ليكون حجة لنبوتك على من أنكرها ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ﴾: وهي السهام التي يستعملونها للقرعة. ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾: لما كانت مريم منذورة لخدمة بيت المقدس اختلف الكهنة في كفالتها، وأخيرًا اقترعوا فيما بينهم فخرج قلم زكريا زوج خالتها، فتركوها له وبعد حين من الدهر جاءتها البشارة من الله تعالى.
(45): ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾: والكلمة هذه إشارة إلى قوله تعالى: (كن فيكون) بلا أب ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾: ولقب بالمسيح لأنه إذا مسح المريض شفاه الله من دائه ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا﴾: بتقديس الناس وتعظيمهم له وفي ﴿وَالآخِرَةِ﴾: بعلو الدرجات ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾: تعبير ثان عن قوله تعالى: (ورافعك إلي).
(46): ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾: مقر الصبي حين رضاعه، وكان الهدف الأول من ذلك براءة أمه ﴿وَكَهْلاً﴾: أي يكلم الناس كهلا بكلام الأنبياء.
(47): ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾: وأنت بذلك أدرى واعلم ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾: بسبب طبيعي أو بمجرد الإرادة وكلمة(كن فيكون) تمامًا كالخلق الأول.
(48): ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾: كل كتاب منزل أو أن المراد بالكتاب هنا الكتابة باليد لمكان قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾: والحكمة: وضع الشيء في موضعه.
(49): ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: بالخصوص دون غيرهم ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم﴾: الخطاب لقومه الإسرائيلين ﴿بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾: أي أصور شيئًا مثل صورة الطير ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ﴾: لا بقدرتي ﴿وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ﴾: من يولد أعمى ﴿والأَبْرَصَ﴾: الذي في جلدة بياض منفر ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ﴾: بقدرته وأمره، وكرر ليسد الباب على كل متقول بغير الحق ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾: وهذا الإخبار بالغيب ليس من عند عيسى(ع) بل بوحي من الله إلي ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾: إشارة إلى المعجزات المذكورة ﴿لَآيَةً لَّكُمْ﴾: واضحة على نبوتي ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾: أي تريدون أن تؤمنوا بالحق لوجه الحق.
(50): ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾: أؤمن بها كما تؤمنون ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾: كالشحم ولحم الإبل وبعض أنواع السمك ﴿وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾: كرر للتأكيد بأن الذي يقوله ويفعله ليس من عنده بل من عند الله، وإن هو إلا عبد مأمور.
(51): ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾: فلا تنسبوني إلى الربوبية ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾: ولا تعبدوني ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾: دون سواه.
(52): ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾: والإصرار عليه ﴿قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ﴾: أين المؤمنون الذين يناصرون دين الله، ويحامون عنه؟ ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾: حواري الرجل صفوته وخاصته ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾: هذا دليل على أن إسلام القرآن هو دين الله منذ وجد وإلى ما لا نهاية.
(53): ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾: في كتابك وعلى رسلك ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾: عيسى ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾: لك بالوحدانية ولرسلك بالصدق.
(54): ﴿وَمَكَرُواْ﴾: صمم أعداء عيسى من بني إسرائيل على اغتيال عيسى وقتله حيث لا حيلة ولا وسيله للخلاص منه إلا بهذا السبيل ﴿وَمَكَرَ اللّهُ﴾: أي وأبطل الله مكر هؤلاء وعاقبهم بعقاب الماكرين المحتالين، وجعل عيسى بمنجاة من مكرهم ﴿وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾: أي خير من يعاقب الماكر الغادر بما يستحق.
(55): ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾: وفاة طبيعية وعادية كسائر الناس، وعاصمك من القتل جهرة وغيلة ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾: أي إلى ما أعددته لك من حسن المآب والثواب ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: وأُريحك من سوء معاملتهم وخبث نياتهم ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾: وما من شك أن الذين اتبعوا السيد المسيح (ع) حقًا وواقعًا هم الذين قالوا: أنه نبي معصوم، وليس إلهًا يخلق ويرزق، ولا مشعوذًا يحتال ويضلل ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: بحقيقتك وطبيعتك الإنسانية المعصومة ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: أما جهة التفوق، وإنها الحجة القوية أو السلطان وما أشبهة فقد سكت عنها القرآن الكريم، وما لنا أن نتناول من عندنا كما فعل أكثر المفسرين ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾: يا أرباب الأديان ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُم ْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾: وأذن علام الجدال والنقاش في الدين؟ أليس الأفضل أن نتعاون على مصلحة الجميع؟.
(56) ?
(57): ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ...﴾: المعنى واضح، وتقدم أكثر من مرة، ويأتي أيضًا، والمقصد أن لا نخشى إلا الله.
(58): ﴿ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾: قرآن، والمعنى تلونا عليك يا محمد أنباء عيسى لتكون حجة على من يخاصمك فيه.
(59): ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾: قال النصارى: عيسى رب لأنه بلا أب. فنقض سبحانه دليلهم هذا بقوله: آدم أيضًا بلا أب وأم، فلماذا لا تقولون: إنه رب؟ ﴿ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾: أن السبب الأول والأساس للخلق والإيجاد وإرادته تعالى التي عبر عنها بـ ( كن فيكون) سواء أكان الخلق بسبب طبيعي أم بلا سبب.
(60): ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾: هذا الذي أنزلناه عليك في أمر عيسى هو الحق ﴿فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ﴾: ومحال أن يشك النبي (ص) في ما أخبر الله به، ولكن التكليف يعم الجميع حتى المعصومين- مثلا- النهي عن الخمر يشمل من يستقبحه بطبعه تمامًا كما يشمل من يستحسنه.
(61): ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ﴾: في عيسى ﴿مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾: أي البينات الموجبة للعلم ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ﴾: .. جاء في كتب السيرة النبوية والتفاسير والأحاديث للسنة والشيعة، أن رؤساء الكنيسة في نجران اليمن ناظروا النبي محمدًا (ص) في الدين فأفحمهم ولما أصروا على العناد نزلت هذه الآية، وتسمى آية المباهلة، وقال البيضاوي السني الأشعري في تفسيرها ما نصه بالحرف الواحد: (غدا النبي محتضنًا الحسين، وآخذًا بيد الحسن، وتمشي فاطمة خلفه، وعلي خلفها، والنبي يقول:( أي لعلي وفاطمة والحسن والحسين) إذا دعوت فأمنوا أي قولوا آمين فقال أسقف النصارى: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهًا لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا فأذعنوا لرسول الله (ص) وبذلوا له الجزية، فقال الرسول (ص): والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ولا ضطرم عليهم الوادي نارًا).
(62): ﴿إِنَّ هَذَا﴾: الذي أخبرناك به يا محمد عن عيسى ومريم وغيرهما ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾: الحديث الصدق ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ﴾: أبدًا، واحد أحد لا أب لا ابن لا صاحب لا شريك.
(63): ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾: وأبوا إلا الشرك ﴿فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾: ولا شيء أفسد من الفساد إلا الشرك.
(64): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: اليهود والنصارى ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾: أي نحن وأنتم متفقون عليها ولا نشك فيها إطلاقًا، لأنها نزلت في القرآن والتوراة والإنجيل، وهي ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ﴾: فهل من يهودي أو نصراني يعترض على عبادة الله؟ وإذًا لماذا الصوامع والبيع؟ ﴿وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾: وهل يرضى يهودي أو نصراني أن يقال له يا مشرك؟ ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾: وأيضًا أي عاقل على وجه الأرض يؤله ويربّب إنسانًا مثله؟ ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾: وأبوا إلّا الشرك والعناد ﴿فَقُولُواْ﴾: أيها اليهود والنصارى ﴿اشْهَدُواْ﴾: هذا تكرار وتوكيد لقولوا تمامًا مثل قول من قال لآخر: اشهد واعترف ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾: بأنا مسلمون موحدون من دونكم أنتم أيها اليهود والنصارى.
(65): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾: قال اليهود: كان إبراهيم يهوديًا. وقال النصارى: بل كان نصرانيًا، فكذبهم سبحانه بنطق العقل والبديهة حيث قال: ﴿وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾: نزلت التوراة على موسى بعد إبراهيم بألف سنة، ونزل الإنجيل على عيسى بعد إبراهيم بألفي سنة، فكيف يكون إبراهيم توراتيًا أو إنجيليًا؟ فأين الفهم والعقل؟.
(66): ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ﴾: أي جادلتم في المسيحية واليهودية كما هي في علمكم وإعتقادكم ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾: وهو دين إبراهيم، مالكم ولإبراهيم وما كان عليه؟ تكلموا عن أنفسكم وما تدينون، واتركوا الحديث عن غيركم لأهل العلم والمعرفة.
(67): ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا﴾: لأنه سبق ملّت اليهود والنصارى بأمد طويل ﴿وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا﴾: بعيدًا عن كل عقيدة زائفة محرفة ﴿مُّسْلِمًا﴾: منقادًا لله ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: فمن ادعى أنه على ملته فليقل: لا إله إلا الله على المنابر والمآذن، إن كان من الصادقين.
(68): ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾: أحقهم بالانتساب إلى دينه ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾: واستجابوا لدعوته في زمانه وبعده ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾: محمد (ص) ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾: برسالته، وفي نهج البلاغة: إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به ﴿وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾: الذين يلجأون إليه في كشف الضر وطلب النفع.
(69): ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾: يردونكم عن دينكم إلى دينهم كما يفعل المبشرون في هذا العصر ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ﴾: يحملون أثقالا مع أثقالهم، لأن من سنة سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ: أنهم لا يضلون إلا أنفسهم.
(70): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: وهي الدلائل على نبوة محمد (ص) وصدق القرآن ﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾: وتعلمون بأن محمدًا نبي، ولكن تكتمون.
(71): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ﴾: تجعلون الحق باطلا، والباطل حقًا ﴿بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ: بغيًا ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: بأنكم كاذبون ومضللون.
(72): ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ﴾: أي على المسلمين ﴿وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾: تشير الآية بظاهرها إلى خدعة تواطأ عليها جماعة من رؤساء أهل الكتاب أن يظهروا الإسلام أول النهار، ويرتدوا عنه في آخره، عسى أن يقع بعض ضعاف العقول من المسلمين في الشك والبلبة.
(73) -
(74): ﴿وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾: قال بعض أهل الكتاب لبعضهم: لا تفشوا أسراركم لأمثالكم، ولا تركنوا لأحد إلا إذا كان على دينكم، وهذا شأن الباطنية، أما المسلمون السنة منهم والشيعة الإمامية فيعلنون الإسلام في الكتب والصحف ومن على المنابر والآذن وشتى وسائل الإعلان ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ﴾: المراد بهدى الله الإيمان الصحيح الراسخ، ومن هداه الله إلى هذا الإيمان فلن يرتد عنه حتى ولو قطع بالمناشير، بل لا يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا ﴿أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾: هذه الجملة تتصل بقول بعض أهل الكتاب لبعضهم: ولا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم، وجملة أن الهدى هدى الله معترضة، ويكون المعنى لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تقروا بأن أحدًا غيركم يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتب المنزلة، وإن أقررتم انه يمكن أن ينزل الكتاب من الله على غير اليهود والنصارى احتج عليكم المسلمون في الدنيا ﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ﴾: في الآخرة أو فيهما معًا ومعلوم أن ( أو) تأتي للإباحة كجالس الحسن أو ابن سيرين ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾: فيختار لنبوته ورسالته من هو جدير بها وكفء لها سواء أكان إسرائيليًا أو عربيًا.
(75): ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ ...﴾: أهل الكتاب على قسمين: وفيّ لا يستهين بأمانة، وينزهه نفسه عن الخيانة، وخائن لا يترك حرامًا، ولا يؤدي واجبًا ولا دينًا ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا﴾: مطالبًا ترافعًا وتقاضيًا وأيضًا مقاتلا. وتسأل: كل الناس قسمان: خائن وأمين وصادق وكاذب، ورب ملحد أو كتابي أوفى ذمة من مسلم صائم وراكع ساجد؟ وأجاب سبحانه عن هذا السؤال بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾: أي أن أهل الكتاب الذين لا يؤدون الأمانة يزعمون- من دون الناس- أن الله أحل لهم أموال الأميين وهم الذين ليسوا على دينهم ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾: أنهم يكذبون ويفترون.
(76): ﴿بَلَى﴾: هم مسؤولون ومعاقبون على الاستهانة بالأمانة وغيرها من الحقوق سواء أكانت لأمي أملي كتابي ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾: مع كل الناس ﴿وَاتَّقَى﴾: المعاصي ﴿فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾: ويكره الخائنين.
(77): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ﴾: يشترون: يستبدلون، وعهد الله، كل ما أمر الله به، وفي الحديث: لا دين لمن لا عهد له ﴿وَأَيْمَانِهِمْ﴾: اليمين لغة: القسم، وشرعًا: القسم بالله وأسمائه الحسنى ﴿ثَمَنًا قَلِيلاً﴾: متاع الحياة الدنيا من جاه ومال أ﴿ُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ﴾: لا نصيب ﴿لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: أي يهملهم ويعرض عنهم ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ﴾: كناية عن غضبه وسخطه الذي صرح به تعالى بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
(78): ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ﴾: ينطقون به محرفا ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾: الهاء تعود على المحرف المفهوم من (يلون) ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: المنزل على موسى (ع) ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾: التوراة ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾: والتكرار لتوكيد الكذب والافتراء.
(79): ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ ...﴾: محال في حق النبي أن يدعو الناس لعبادته من دون الله، كيف اختاره سبحانه على علم بأنه الصادق الأمين؟ وهذا رد على من يعبد السيد المسيح (ع) ﴿وَلَكِن﴾: يقول الناس: ﴿كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ﴾: عالمين وعاملين بأمر الله ﴿بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾: إن أهل الله حقًا هم الذين يتعلمون ويعلمون ويعملون بما علموا.
(80): ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ﴾: النبي ﴿أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا﴾: لأنه نبي التوحيد وعدو الشرك ﴿أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾: النبي يخرج الناس من الكفر إلى الإيمان، فهل من المعقول أن يردهم بعد هذا الإسلام والإيمان إلى الكفر؟.
(81): ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ...﴾: أي أخذ الله ميثاق على النبيين أن يبشروا أقوامهم بمحمد (ص) وفي الآية 6 من سورة الصف أن عيسى قال من جملة ما قال: (ومبشرًا بنبي يأتي من بعدي اسمه أحمد) وأوضح تفسير لهذه الآية ما روى عن الإمام علي(ع): ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه العهد في محمد (ص) وأمره أن يأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به، ويناصروه إذا أدركوا زمانه. ﴿قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾: أي عهد على أممكم؟ ﴿قَالُواْ﴾: الأنبياء: ﴿أَقْرَرْنَا﴾: بما أمرتنا: أي قال الله للنبيين: أقررتم بمحمد وأخذتم على ذلك ﴿قَالَ﴾: الله ﴿فَاشْهَدُواْ﴾: على أممكم ﴿وَ أَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾: الله وملائكته وأنبياؤه ويشهدون على أخذ هذا العهد والميثاق على رؤساء الأديان، ومع ذلك خالف وحرف أحبار اليهود والنصارى.
(82): ﴿فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾: المتمردون من الكفار.
(83): ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا﴾: وهم العلماء ﴿وَكَرْهًا﴾: أي من حيث لا يشعرون وهم المقلدون للأجداد والآباء، وما من شك أن هؤلاء هم الكثرة الكاثرة، وكلا وعد الله الحسنى، وفضل العلماء أجرًا عظيمًا.
(84): ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾: تقدمت بالحرف الواحد في الآية 136 من سورة البقرة، إضافة إلى وضوحها.
(85): ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾: لسبب واحد بسيط وهو أن الله واحد، والإسلام دين التوحيد، وشعاره لا إله إلا الله، ومحمد (ص) جاهد في سبيله، وضحى بالكثير من أجله، فمن تبرأ منه فقد انسلخ عن دين الله ﴿وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾: لأنه ذهب إلى ربه من غير دين.
(86): ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾: المراد بالقوم أحبار اليهود والنصارى، وبالرسول محمد (ص)، وقد آمنوا وشهدوا وبشروا به كما هو في التوراة والإنجيل قبل أن يبعث، ولما بعث أنكروه وحاربوه.
(87): ﴿أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ﴾: بعذابه ﴿وَالْمَلَآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾: ولعنة هؤلاء معناها الدعاء على الكافرين أن يزيدهم عذابًا على عذاب.
(88): ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾: في جهنم ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾: أي لا ينظر الله إليهم غدًا نظرة الرضوان والمغفرة.
(89): ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ﴾: ندموا ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ﴾: النوايا والأعمال.
(90): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾: اليهود وكفروا بعيسى بعد إيمانهم بموسى ﴿ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا﴾: بمحمد ﴿لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾: إذ أعلنوها نفاقًا وتضليلا كما يومئ إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ﴾: أما إذا تابوا توبة خالصة مخلصة فإنها تقبل لا محالة، لأن الإسلام يجب ما قبله، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له.
(91): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾: أي لا فدية يوم القيامة بشيء من الأشياء، وقوله تعالى: (وماتوا وهم كفار) دليل آخر على أن المراد من (لن تقبل توبتهم) إن تك زائفة.
(92): ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ﴾: ثواب الله أو لن ترافقوا غذًا الأبرار الأطهار ﴿حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾: من أنفسكم وجاهكم وأموالكم في نصرة الحق وإغاثة الملهوف وخدمة الإنسان، كل إنسان ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾: وكريم لا يبالي كم أعطى، وإذا طلب من غيره لا يرضى.
(93): ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: وهو يعقوب بن إسحق، ولهذه الآية قصة تتلخص بأن اليهود كانوا يعتقدون جهلا بأن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة في دين إبراهيم ومن جاء بعده من أنبياء بني إسرائيل، ولما رأوا محمدًا (ص) يحللها أذاعوا وأشاعوا بأن محمدًا يحلل ما حرمته الأنبياء، فرد الله عليهم بقوله: ( كل الطعام) ومنه لحوم الإبل وأبانها كان حلًا لبني إسرائيل ﴿إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾: كان يعقوب قد امتنع عن بعض الأطعمة من تلقاء نفسه لا بتحريم من الله، بل لسبب يعود إليه خاصة حيث لا زبور ولا توراة، في عهده. ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾: هذا تحد صارخ لليهود الذين زعموا أن لحم الإبل محرم بنص التوراة، فبهت اليهود وتواروا خاسئين.
(94): ﴿فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾: أي بعد ظهور الحجة ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: بمعاندة الحق والإصرار على الباطل.
(95): ﴿قُلْ صَدَقَ اللّهُ﴾: في أن كل الطعام كان حلًا لبني إسرائيل ﴿فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾: في استباحة لحوم الإبل وألبانها ﴿حَنِيفًا﴾: مستقيمًا على دين الحق. ويأتي في سورة النساء والأنعام أن الله سبحانه حرم على بني إسرائيل بعض الأطعمة بعد التوراة تحريمًا طارئًا لا أصيلا وبالعنوان الثاني دون الأول.
(96): ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾: لتعبدهم وطاعتهم ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾: أي البيت الذي ببكة، لغة في مكة ﴿مُبَارَكًا﴾: كثير الخير والبركة ﴿وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾: يذكر بالله واليوم الآخر.
(97): ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾: على أن إبراهيم الخليل هو الذي بناه، ومن هذه الآيات البينات ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾: فهو موجود حتى الآن، والناس يتناقلون ذلك بالتواتر أبًا عن جد تمامًا كما يتناقلون بأن بيت المقدس بناه سليمان بن داوود ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾: لا ريب أن من حج إليه مخلصًا لله وحده تائبًا من خطيئته فهو في أمن وأمان من عذاب الله يوم القيامة ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾: فيه أنواع من التوكيد والتشديد على أن الحج حق واجب في رقاب الناس لا يخرجون عن عهدته إلا بالوفاء والأداء ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾: من ترك الحج جاحدًا بوجوبه فهو كافر، ومن تركه متهاونًا فهو فاسق، وفي كلا الحالين فهو شبيه بمن كفر من حيث الاستغناء عن بيت الله الحرام.
(98): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: البينات على صدق محمد (ص) في رسالته؟ ﴿وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾: من ضلال وصد عن الإسلام ونبيه.
(99): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾: عن الإسلام ﴿مَنْ آمَنَ﴾: كانوا يغرون المسلم بالارتداد عن دينه ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾: بتهييج الشر والفتنة بين المسلمين ﴿وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ﴾: بأن ما تصدون عنه هو سبيل الله والحق ظاهرًا وباطنًا.
(100): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا ...﴾: بعد أن هدد سبحانه أهل الكتاب على معاندة الحق والصد عن سبيله- حذر المسلمين من الإصغاء إليهم والثقة بهم حيث لا هم لهم ولا هدف إلا إضلال المؤمنين وردهم عن دين الحق إلى شر الدين.
(101): ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾: أي لا ينبغي أن تكفروا ﴿وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ﴾: القرآن ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾: محمد يبشر وينذر ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ﴾: يتمسك بدينه تعالى ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: إلى الإسلام والقرآن الذي يهدي إلى التي هي أقوم.
(102): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: قال الإمام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية: أن يطاع الله فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
(103): ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾: لا أدري: هل تشمل هذه الآية المسلمين بالإسم والهيئة أو تختص بالأولين؟ وفي نهج البلاغة سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾: كانوا في الكفر مشتتين فأصبحوا بنعمة الإسلام إخوانا، واليوم العكس هو الصحيح ﴿وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ﴾: على حرفها وحافتها ﴿فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾: بالإسلام، ونحن الآن في أعماق هذه الحفرة، ومع ذلك ندعي الإسلام! كيف والإسلام نجاة من التهلكة؟.
(104): ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾: لتكن أمر يدل على الوجوب، ومن في (منكم) للتبعيض إشارة إلى أن هذا الأمر من فروض الكفايات، والخير عام لما يجب فعله وما يجوز تركه. ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾: والمراد بالمعروف هنا ما يجب فعله بقرينة وجوب الأمر به، والمراد بالمنكر ما يجب تركه بقرينة وجوب النهي عنه، وتجدر الإشارة إلى أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة دينية عند المسلمين يُستدل بها، ولا يستدل عليها ﴿وَأُوْلَئِكَ﴾: الذين يأمرون بالمعروف ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: المنتصرون دنيا وآخرة.
(105): ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ﴾: وهم اليهود والنصارى ﴿مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾: الموجبة للاتفاق والائتلاف، وقبيح بنا نحن المسلمين أن نتمرد على هذه الآية، ثم نعلنها على الملأ في مكبرات الصوت! أليست هذه فضيحة؟.
(106): ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾: الذين تعاونوا على البر والتقوى ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾: الذين تعاونوا على الإثم والعدوان ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ﴾: وهم الذين فرقهم خبث السرائر وسوء الضمائر يقال لهم غدًا: ﴿أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾: بالله ورسوله واليوم الآخر ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾: وإطلاق الكفر هنا يشمل كفر الجحود وكفر المعصية مع الإيمان بالتكليف.
(107): ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾: وهم اللذين يتواصون بالحق وبه يعملون ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ﴾: ونعمته ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
(108) ?
(109): ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿بِالْحَقِّ﴾: الذي لا ينكره إلا مكابر ومعاند.
(110): ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾: طال الكلام حول هذه الآية حتى تجاوزت غايته ونهايته، والذي نراه أن الله سبحانه أعطى الأفضلية لأمة محمد (ص) بشروط ثلاثة الأول أن يحرصوا على عقيدة التوحيد. الثاني أن يعملوا بموجب هذه العقيدة من إطاعة الله سبحانه في حلاله وحرامه، وأشار سبحانه إلى هذين الشرطين بقوله: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾: الثالث أن يواصلوا نشر الدعوة إلى دين الله وشريعته بالحكمة وبكل وسيلة من وسائل الإعلام في شرق الأرض وغربها، ومتى توافرت هذه العناصر الثلاثة في المسلمين كانت لهم القيادة والسيادة على سائر الأمم، وإن اختل واحد منها فلا خير فيهم ولا فضل وفضيلة. ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾: النصارى واليهود بمحمد ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم﴾: وللإنسانية جمعاء حيث تصبح الطوائف الثلاث طائفة واحدة، ومع الأيام تذوب باقي الطوائف، ويكون أهل الأرض كلهم على دين واحد ﴿مِّنْهُمُ﴾: من أهل الكتاب ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي واتباعه من النصارى ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾: الرافضون دين الإسلام.
(111): ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ﴾: واو الغائبين لأهل الكتاب والمشركين، وكاف المخاطبين للنبي (ص) والصحابة ﴿إِلاَّ أَذًى﴾: إلا كلام يذهب مع الريح ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ﴾: منهزمين، وقد حدث هذا بالفعل حيث نصر الله دين الحق على الدين كله يوم كان لدين الحق أهل بحق ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾: أي أعداء الحق لا ينصرهم الله إلا على المتخاذلين.
(112): ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ﴾: اتفق المفسرون على أن هذه الآية نزلت في اليهود، وكانوا مشتتين في شرق الأرض وغربها محكومين وتابعين. ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ﴾: إلا أن يتوبوا من ضلالهم، ويعتصموا بحبل الله وحده ﴿وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ﴾: كحبل الولايات المتحدة التي تمد إسرائيل اليوم بالمال والسلاح، ولو تخلت عنها يومًا واحدًا لم يكن لها عين ولا أثر ﴿وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾: على منطق (ما ظفر من ظفر الإثم به، والغالب بالشر مغلوب) وفسره الشيخ محمد عبده في نهج البلاغة بقوله: ( إذا كانت الوسيلة لظفرك بخصمك ركوب اثم واقتراف معصية، فإنك لم تظفر حيث ظفرت بك المعصية) والآثام ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: وما زالوا يتمادون في الطغيان، لا لشيء إلا بالعدوان من حيث هو عدوان ﴿وَيَقْتُلُونَ﴾: أي اليهود ﴿الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾: لأنهم على حق وكفى بذلك جرمًا عند اليهود ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾: وان دل هذا التكرار والتوكيد على شيء فإنه يدل على أن اليهود لا شيء فيهم وعندهم إلا الجرائم والمآثم. قال قائل: إني أطلت وأطنبت في تفسير الكاشف في رذائل اليهود ومثالبهم! ونسي أني أُفسر آي الذكر الحكيم، ولو تأملها قليلا لرأى أني أوجزت وقصرت في ذلك.
(113) ?
(114): ﴿لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الخ... ﴾: ليس كل أهل الكتاب في فساد وضلال بل منهم قوم طيبون صالحون، يأمرون بالمعروف، وبه يأتمرون، وينهون عن المنكر، وعنه ينتهون.
(115): ﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ﴾: لن يحرموا جزاءه، كيف وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
(116): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا﴾: كل من خالف الحق وعصى أحكام الله سبحانه، لا ينفعه مال ولا بنون كافرًا كان أو مسلمًا، وعليه فالمراد بالكفر هنا ما يعم الجحود والعصيان بعد الإيمان.
(117): ﴿مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: لمجرد الجاه والثناء أو الخوف من الذم والهجاء ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ﴾ٌ: أي برد شديد يهلك الزرع، ويتلف الثمار ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ﴾: زرع ﴿قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾: بمعصية الله ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾: تاء التأنيث للريح، وهاء الغائب للحرث ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾: لأنهم اندفعوا وراء الشهوات والأهواء.
(118): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾: بطانة الرجل صفيه الذي يستبطن أسراره، أخذًا من بطانة الثوب، قال سبحانه: (ما ظهر منها وما بطن) والمعنى لا تستخلصوا أعداء الإسلام والمسلمين، وبين تعالى السبب الموجب للنهي بقوله: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾: لا يقصرون في مضرتكم وإفساد أموركم ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾: يتمنون أن تقعوا في أشد الشدائد ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾: كالطعن في الإسلام ونبيه وكتابه ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾: مما بدا على ألسنتهم ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ﴾: علامات الذين يعضون عليكم الأنامل من الغيظ.
(119): ﴿هَاأَنتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾: الخطاب في (أنتم) للخونة العملة الذين باعوا دينهم للشيطان ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّه﴾ِ: أي بكل كتاب أنزله الله وهم لا يؤمنون بقرآنكم ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا﴾: كذبًا ونفاقًا ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾: كان هذا أيام زمان حيث كان المسلمون أقوياء بالأخوة والكلمة لواحدة.
(120): ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾: كالوقوف صفًا واحدًا ضد العدو المشترك ﴿تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾: كالشتات والفرقة ﴿يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ﴾: على نصرة الحق وجهاد أعداء الله وأعدائكم ﴿وَتَتَّقُواْ﴾: موالاة الأعداء والركون إليهم ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾: وينصركم الله عليهم لا محالة ﴿إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾: خيرًا كان أم شرًا.
(121): ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾: نزلت هذه الآية في غزوة أُحد، والغدوة والغداة: مابين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وتبوئ: تهيئ وتدبر، والمقاعد: جمع مقعد وهو مكان القعود.
(122): ﴿إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ﴾: هما بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي عسكر رسول الله في أُحد ﴿أَن تَفْشَلاَ﴾: أن تؤثر فيهما فتنة المنافق عبد الله بن أُبي، فيجبنا ويضعفا ﴿وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا﴾: تولى أمر الطائفتين بعنايته، وأبعد الفشل عنهما ﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: لا على المنافقين وأعداء الدين، وإن ملكوا الأموال والسلاح.
(123): ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ﴾: هذا تذكير منه تعالى للمسلمين بيوم بدر ليثبت قلوبهم ﴿وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾: كنتم آنذاك في قلة من العدد وغير منعة من العدة.
(124): ﴿إِذْ تَقُولُ﴾: يا محمد، وكان صاحب رايتك وراية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ﴾: نازلين من السماء، ينصرونكم على الأعداء.
(125): ﴿بَلَى﴾: يكفيكم هذا الإمداد ﴿إِن تَصْبِرُواْ﴾: على الجهاد ﴿وَتَتَّقُواْ﴾: الخيانة والخذلان يمددكم الله بأكثر من هذا العدد ﴿وَيَأْتُوكُم﴾: أي المشركون ﴿مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا﴾: من هذا الحين ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾: أي لهم علامة تدل عليهم.
(126): ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ﴾: هاء الغيب في (جعله) يعود على غير مذكور بلفظة، بل بمعناه وهو الإمداد المفهوم من (يمدكم) ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ﴾: أي بالإمداد.
(127): ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: ليهلك طائفة ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾: يخزيهم بالهزيمة ﴿فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾: خاسرين.
(128): ﴿لَيْسَ لَكَ﴾: يا محمد ﴿مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾: القصد من هذا وأمثاله أن لا يغالي المسلمون بمحمد (ص) كما غالى المسيحيون بالسيد المسيح (ع) ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾: على المشركين إن اسلموا ﴿أَوْ يُعَذَّبَهُمْ﴾: إن أصروا على الكفر.
(129): ﴿وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء﴾: لحكمة هو بها أعلم ﴿وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: أي أن جانب الرحمة والمغفرة فيه تعالى هو الغالب تفضلًا منه وكرمًا.
(130): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً﴾: الربا حرام محرم قليلًا كان أم كثيرًا، وقوله تعالى: (أضعافًا) ليس قيدًا للنهي، لا إشارة إلى ما كان عليه المرابون في الجاهلية حيث كان الربا في بعض الحالات يستغرق أموال المديون بالكامل، ويبقى رأس المال في عنقه ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾: في أكل الربا ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: وتفوزون بالبركات الواسعة.
(131) ?
(132): ﴿وَاتَّقُواْ﴾: أيها المسلمون ﴿النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾: فيه إيماء إلى أن العذاب على بعض الكبائر تمامًا كالعذاب على الشرك والإلحاد.
(133): ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾: أي سارعوا إلى خدمة الإنسان، كل إنسان لوجه الله والإنسانية تستوجبوا من الله سبحانه الرحمة والمغفرة ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾: كناية عن السعة في إفهام الناس ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
(134): ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء﴾: في اليسر والرخاء ﴿وَالضَّرَّاء﴾: العسر والبأساء ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾: إن لم تكن حليمًا فتحلم كما قال الإمام (ع) ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾: والعافين عطف على الكاظمين، وهؤلاء عطف على اللذين ينفقون، وهؤلاء وصف للمتقين ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾: اللذين يتصفون بالتقوى والإنفاق وكظم الغيظ والعفو.
(135): ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾: سيئة كبرى بالاعتداء على الناس وأموالهم وأعراضهم ﴿أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾: أساؤوا إليها دون أن يسيئوا إلى الآخرين، كما لو تركوا الصلاة الصيام ﴿ذَكَرُواْ اللّهَ﴾: لجأوا إليه تعالى بإخلاص ﴿فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾: طلبوا منه جل وعز أن يغفرها نادمين على فعلها وعازمين ألا يعودوا إلى مثلها، فإنه يغفرها لا محالة ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ﴾: يوم الحساب والجزاء ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾: ومعنى هذا أن من يرتكب الحرام عن غفلة أو جهل مع العجز عن التعلم، فهو معذور.
(136): ﴿أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ...﴾: قال الشيخ الطبرسي: ومن هذه الآيات يتبين أن المؤمنين بالله ثلاث فئات: المتقون، والتائبون، والمصرون، وإن للمتقين والتائبين الجنة والمغفرة. وسكت الشيخ عن المصرين، لأن ربهم بهم يوم إذ لخبير..
(137): ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾: الخطاب في قبلكم للصحابة، وسنن جمع سُنة وهي الطريقة، والمعنى أطيعوا النبي أيها الصحابة، ولا تخالفوا له أمرًا وإلا نزل بكم العذاب في الدنيا قبل الآخرة تمامًا كما نزل بالذين عاكسوا أنبيائهم من الأمم الخالية، وإن كنتم في ريب من ذلك ﴿فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ﴾: أي تتبعوا أخبار الماضين من أهل الأرض وتاريخهم ﴿فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾: لأنبيائهم وإلى أينوع انتهوا من الهلع، والعاقل من اتعظ بغيره..
(138): ﴿هَذَا بَيَانٌ﴾: ناصع ﴿لِّلنَّاسِ﴾: كافة ﴿وَهُدًى﴾: إلى دين الحق ﴿وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾: أي من أراد أن يكون من المتقين الصالحين.
(139): ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا﴾: ثقوا أيها المسلمون بالله وبأنفسكم، وامضوا على عزيمة الإيمان بالنصر ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾: بدينكم ونبيكم ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾: حقًا وصدقًا.
(140): ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾: إن نال منكم العدو يوم أُحد، فقد نلتم منه يوم بدر. ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾: المراد بالأيام القوة وأنها تارة تكون لهؤلاء، وتارة لأولئك ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾: إنه تعالى أعلم بالمؤمنين والكافرين من أنفسهم، ولكن يبتليهم بالأمر والنهي لتظهر أفعالهم للعيان، ويتميز الخبيث من الطيب، ويجزي كل بما كسب ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾: وفي الشهادة كل السعادة والكرامة، فهل إليها من سبيل؟ عسى ولعل.
(141): ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾: ويمحص: يطهر والمعنى أن الله سبحانه يطهر بعد عباده بالاستشهاد ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾: يهلكهم.
(142): ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾: هذا هو ثمن الجنة عند الله: جهاد، وإخلاص، وصبر، وثبات، وما عدا ذلك فليس بشيء إلا أن يكون وسيلة لعمل يجلب للناس نفعًا أو يدفع عنهم ضرًا.
(143): ﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ﴾: الخطاب لبعض الصحابة اللذين لم يشهدوا بدرًا مع رسول الله وكانوا يتمنون أن يشهدوا غزوةً ليفوزوا بالشهادة، ولما شهدوا أُحدًا وجد الجد ولوا الأدبار لا يلوون على شيء.
(144): ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾: أبدًا كل من عليها فان نبيًا كان أم شقيًا، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، وسبب هذه الآية أن صائحًا صرخ بملء فيه يوم أحد: قتل محمد، فانقلبوا على أعقابهم إلا قليلا منهم، وتركوا النبي في قلب المعركة مع نفر يسير، وعلى رأسهم أبي طالب، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله موبخًا المنهزمين ﴿أَفَإِن مَّاتَ﴾: رفعه الله إليه ﴿أَوْ قُتِلَ﴾: قتله الكافرون ﴿انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾: عدتم إلى الكفر بعد الإيمان ﴿وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ﴾: يرتد عن دينه ﴿فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا﴾: بل يضر نفسه وحدها ﴿وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾: الثابتين على دينهم قولا وعملا.
(145): ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾: ليس هذا إخبارًا، بل حثًا وترغيبًا في الجهاد، وأن الإنسان لن يموت إلا بحضور أجله ﴿كِتَابًا مُّؤَجَّلاً﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف أي كتب الموت كتابًا مؤقتًا ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾: قد يحكم على الخاص بلفظ عام، ويبقى اللفظ على شموله للمحكوم عليه وغيره، وقد يكون اللفظ عامًا في الظاهر، والمراد خاصًا في الواقع، ولفظ الآية هنا عام، والمراد بع خصوص الجهاد والمعنى من جاهد وقاتل للغنيمة لا لله وقتل فقد خر الدنيا والآخرة، وإن سلم فله حظه من الغنيمة ولا شيء له عند الله، ومن جاهد لله وقتل فله عند الله فوق ما يتصور، وإن سلم أحرز الحظين معًا، وملك الدارين جميعًا.
(146): ﴿وَكَأَيِّن﴾: كلمة مرادفة لكم الخبرية في الدلالة على تكثير العدد ﴿مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾: لقلد قاتل وقتل كثير من العلماء العاملين مع الأنبياء السابقين، وكان الأليق بكم أيها الذين فروا يوم أُحد أن تقتدوا بهؤلاء العلماء الأصفياء. ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾: فما فروا من الموت كما فررتم، بل ثبتوا حتى استشهدوا طاعة لله ورسوله ﴿وَمَا ضَعُفُواْ﴾: وما جبنوا عن القتال ﴿وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾: وما خضعوا للعدو.
(147): ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا...﴾: قتلوا في سبيل الله ليغفر ذنوبهم، ويصفح عن تقصيرهم، ويقدمون عليه تعالى بإيمان ثابت وراسخ، هذا وهم النخبة والصفوة، وهكذا كل رباني وروحاني.
(148): ﴿فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾: تقديسًا وتعظيمًا ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ﴾: علوًا ونعيمًا.
(149): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ﴾: قال شيخ الأزهر المراغي في تفسير هذه الآية، فقرة المفردات ما نصه بالحرف: (المراد بالذين كفروا أبو سفيان لأنه شجرة الفتنة).
(150): ﴿بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾: ومن كان الله ناصره فلا يفتقر إلى ولي ولا نصير.
(151): ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾: أي لا تخافوا أيها المسلمون من المشركين لأنهم هزموكم في أُحد، فإن الله سبحانه سيطبع على قلوبهم بالخوف لأنهم جعلوا لله شركاء بوحي من الشيطان لا بالحجة والبرهان ﴿وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾: المأوى والمثوى بمعنى واحد وهو المقر والمنزل.
(152): ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ﴾: وعد سبحانه المسلمين بلسان نبيه أن ينصرم على المشركين في وقعة أحد بشرط أن لا يعصوا للنبي أمرًا ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ﴾: أي تقتلوا المشركين في بداية المعركة ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾:ضعفتم وجبنتم ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾: أمر النبي الرماة يوم أُحد أن يثبتوا في مكانهم ولا يتركوه، فوقع النزاع فيما بينهم، فامتثل بعضهم، وعصى آخرون ﴿وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ﴾: من هزيمة المشركين وما تركوا وراءهم من غنائم في أول المعركة ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾: وهم الرماة الذين أخلوا مكانهم للعدو طمعًا في الغنيمة ﴿وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾: وهم الرماة الذين ثبتوا في مكانهم وقتلوا ولم يعصوا الرسول. ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾: ردكم عن الكفار بعد أن أمكنكم منهم بسبب معصيتكم أمر النبي ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾: أي ابتلاكم بذلك ليظهر ثباتكم على الإيمان وصبركم على الشدائد ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ﴾: بعد أن ندمتم وتبتم.
(153): ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾: تذهبون ﴿وَلاَ تَلْوُونَ﴾: لا تلتفتون ﴿عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾: يناديكم من ورائكم: إليّ عباد الله. أنا رسول الله ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾: جازاكم الله ﴿غُمَّاً بِغَمٍّ﴾: أذقتم الرسول غمًا بمعصيتكم له، فأذاقكم الله غمًا بالهزيمة واحدة بواحدة جزاء وفاقًا ﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾: من المنافع ﴿وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ﴾: من المضار والقصد من كل ما حدث أن تتعظوا به ولا تعودوا إلى مثله.
(154): ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا﴾: النوم عند المحنة يخفف الكثير من وقع المصائب ﴿يَغْشَى﴾: أخذ النوم ﴿طَآئِفَةً مِّنكُمْ﴾: وهي الثابتة على الإيمان ﴿وَطَآئِفَةٌ﴾: وهي المنافقة ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾: وما عداها فإلى داهية دهياء. ﴿يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾: في أنه يفعل ما لا ينبغي فعله، تعالى الله عما يصفون ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾: بدل من غير الحق ﴿يَقُولُونَ﴾: أي المنافقون يسألون رسول الله: ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ﴾: النصر والظفر ﴿مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾: يعز من يشاء ويذل من يريد ﴿يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم﴾: التكذيب والنفاق ﴿مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ﴾: شأن العدو الجبان ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾:لو كانت قيادة الحرب لنا ﴿مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾: في هذه المعركة ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾: أبدًا لا ينجو من القدر هارب ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾: فالحكمة من المحن والمصائب أنها المحك الذي يميز بين الطيب والخبيث وتظهر كلا على حقيقته للناس لا لله سبحانه، لأنه عليم بذات الصدور.
(155): ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ﴾: انهزموا خوفًا وجبنًا ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾: في أحد، وكانوا سببًا مباشرًا لغلبة المشركين على المسلمين ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾: طمع فيهم الشيطان حيث أطاعوه من قبل ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ﴾: لأنهم تابوا.
(156): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: باطنًا لا ظاهرًا ﴿وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ﴾: في النفاق ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ﴾: سافروا فيها وأبعدوا ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾: جمع غاز ﴿لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ﴾: أسند المنافقون موت المسافر أو الغازي على السفر أو الغزو، فنهى سبحانه المؤمنين عن هذا القول الجاهل الباطل ﴿لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾: أي أن الله سبحانه أمر المؤمنين أن يبتعدوا عن المنافقين ولا يشتبهوا بهم في قول أو فعل، لأن ذلك يورثهم حسرة وكآبة ﴿وَاللّه ُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾: فإن شاء أمات القاعد والمقيم، وإن شاء أحيا العظام وهي رميم، ولا تأثير لحرب أو سفر.
(157): ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾: كل من يقتل أو يموت مدافعًا عن الحق أو مكافحًا من اجل العيش والعيال أو لخدمة أخيه الإنسان فهو شهيد أو في حكمه، وله عند الله خير مما طلعت عليه الشمس.
(158): ﴿وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾: كل السبل تنتهي على الوقوف بين يديه تعالى لنقاش الحساب سوا أكانت تلك السبل موتًا على الفراش أم قتلا بحد السيوف.
(159): ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾: الخطاب لصاحب الرسالة، وما أدراك ما صاحب الرسالة؟ إنه رؤوف رحيم بنص الآية128 من التوبة، أما الآية التي نحن بصددها فإنها تقول: لولا خلق محمد ما آمن أحد برسالة، ومعنى أنه لولا خلقه لا عين ولا أثر للإسلام حيث لا إسلام بلا مسلمين ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾: فيما يعود إلى حقك الخاص ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾: فيما يعود لحقوق الله. ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾: مما لم ينزل عليك وحي فيه حيث لا اجتهاد في قبال النص ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾: عزيمة الإيمان بالحق والخير فامض على إيمانك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾: وحده ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾: الذين يملكون القوة في الصبر والإيمان والإرادة.
(160): ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾: ونصره تعالى إنما يكون مع مراعاة الأسباب التي جعلها هو سبحانه مؤدية للنصر ﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ﴾: وهو، عظمت عدالته وحكمته ولا يخذل إلا المتخاذلين الذين لا تجتمع كلمتهم على الخير وطاعة الله تعالى.
(161): ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ﴾: كيف والغل رذيلة يتنزه النبي عنها؟ ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: من يعمل سوءًا يجز به إلا أن يتوب.
(162): ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ﴾: ورضوانه أمان ورحمة، ولكن لا سبيل إليه إلا الإخلاص والعمل الصالح، ﴿كَمَن بَاء﴾: رجع ﴿بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ﴾: وأعظم ما يشتد هذا الغضب حين العبد رضا المخلوق بسخط الخالق.
(163): ﴿هُمْ﴾: يعود على من اتبع رضوانه تعالى ومن باء بسخطه معًا ﴿دَرَجَاتٌ﴾: متفاوتات ومنازل مختلفات ﴿عِندَ اللّهِ﴾: ثوابًا وعقابًا.
(164): ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً...﴾: تقدم مثله في الآية 129 من البقرة، والخلاصة أن رسالة محمد (ص) هي رسالة العلم والأمن والعدل والمساواة فأية نعمة على الإنسانية جمعاء أعظم من هذه النعمة؟.
(165): ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ﴾: يوم أُحد حيث قتل منكم أيها المسلمون سبعون رجلا ﴿قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا﴾: يوم بدر حيث قتلتم من المشركين سبعين وأسرتم سبعين، كيف نسيتم نعمة بدر وذكرتم نكبة أُحد؟ وقلتم فيما: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾: الفشل والخسران؟ وفينا رسول الله ونحن مسلمون وهم مشركون ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾: ليست المسألة مسألة إسلام وصلوات ووجود النبي ودعوات، وإنما المسألة إعداد العدة وأسباب محكمات، لأن الله سبحانه لا يجري الأمور إلا على أسبابها، ويم أُحد قصرتم في حق أنفسكم.
(166): ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾: في أُحد ﴿فَبِإِذْنِ اللّهِ﴾: أي بالتخلي عنكم أو بعلمه تعالى أنكم ستخالفون النبي وتجبنون ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾: الله ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾.
(167): ﴿وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ﴾: أي ليظهر أفعال المعلومين عنده تعالى بالإيمان والنفاق، ويحاسب كلًا منهما على أعمالهم ومقاصدهم ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾: للمنافقين ﴿تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾: إن كان لكم دين ﴿أَوِ ادْفَعُواْ﴾: عن أنفسكم وأهلكم وأموالكم إن لم يكن لكم دين ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾: أي قال المنافقون للمؤمنين: لو كنا على علم اليقين بأن الحرب واقعة بينكم وبين المشركين لقاتلنا معكم، ولكن الأمر سينتهي عند المناورات وعرض العضلات وكفى ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾: أي أن تصرفات المنافقين بشتى أنواعها هي لمصلحة الكفر والكافرين، ولا شيء منها لمصلحة الإسلام والمؤمنين على رغم ادعائهم الإيمان والتظاهر بالإسلام. ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾: وهذا أجمع تحديد لكل منافق، ومثله تمامًا ما في نهج البلاغة: قولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء أي أعيى الأطباء.
(168): ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا﴾ْ: أي قال المنافقون انفعالا من أجل أرحامهم الذين قتلوا في أُحد: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾: نهيناهم عن الخروج للحرب مع محمد فلم ينتهوا، ولو انتهوا لسلموا من القتل كما سلمنا ﴿قُلْ﴾: لهم يا محمد: ﴿فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾: إن للموت أسبابًا عديدة ومنها القتل، وكلها بيد الله تعالى، ومن لم يمت بالقتل مات بغيره، ومن أنكر هذه الحقيقة فليدفع الموت عن نفسه.
(169): ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا﴾: أنصار الباطل هم والباطل عند الله بمنزلة سواء، كل منهما إلى زوال واضمحلال بنص القرآن(إن الباطل كان زهوقا) أما أنصار الحق فهم عند الله وأهل الله تمامًا كالحق ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾: كما كانوا في الحياة الدنيا مع الفارق بأنهم عند الله لا يمسهم نصب ولا تعب.
(170): ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾: ولا يوازي فضله فضل ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾: فرح الشهداء بحظهم الأوفر عند الله، وأيضًا فرحوا لإخوانهم المجاهدين الذين سيقتلون من بعدهم، وينالون من الله ما نالوه من السعادة القائمة والنعمة الدائمة ﴿أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾: للشهداء ثلاث فرحات: الفرحة الأولى لأنفسهم، وإليها الإشارة بقولة تعالى: فرحين... والفرحة الثانية لإخوانهم، وإليها أشار سبحانه بقوله: ويستبشرون... والفرحة الثالثة لكل مؤمن مخلص، وأشار إليها جل وعز بقوله:
(171): ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ﴾: والنعمة أجر على عمل، والفضل تفضل زائد.
(172): ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾: بفتح القاف: الجرح، نزلت هذه الآية في الذين أصابتهم جراحات شديدة في أُحد، فصبروا وتجلدوا وأمرهم النبي(ص) وهم على هذه الحال أن يتهيأوا للجهاد ويعيدوا الكرة، فاستجابوا وأقبلوا على الموت بلا جزع وهلع، فوصفهم سبحانه بالمحسنين والمتقين، ووعدهم بالأجر العظيم في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾: وهذا هو الفوز المبين.
(173): ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾: قال بعض الخونة المرتزقة للمؤمنين يثبطهم عن الجهاد: ﴿إِنَّ النَّاسَ﴾: أي المشركين ﴿قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾: وحشدوا الجيوش ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾: ولا تحاربوهم ﴿فَزَادَهُمْ﴾: هذا التخويف والتثبيط ﴿إِيمَاناً﴾: على إيمان وعزمًا على عزم ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾: إن ثقتنا بالله لا يزعزعها بشيء.
(174): ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾: أي الذين استجابوا لدعوة الجهاد من الله والرسول على ما بهم من الجراح والقراح- رجعوا إلى بيوتهم بنعمة السلامة والذكر الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة، لأن العدو لما رأى الصدق منهم والإخلاص والجد والعزم على حربه والتضحية بكل عزيز، ولّى مدبرًا بشره وخيبته.
(175): ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ﴾: من كل خير ويغريهم بكل شر، وفي التسهيل لمحمد بن أحمد الكلبي: ( المراد بالشيطان هنا أبو سفيان أو نعيم الذي أرسله أبو سفيان) أو إبليس ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾: وكرر سبحانه هذه الجملة: (إن كنتم مؤمنين.. إن كنتم صادقين... إن كنتم مسلمين...) للتوكيد في أن مسألة جهاد الباطل ليست مسألة جبن أو عجز وكفى، وإنما هي مسألة إيمان وإخلاص وعزم وثبات.
(176): ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ... ﴾: لا تشغل نفسك يا محمد بتصرفات المنافقين وإسراعهم إلى الكفر ومضيهم في التآمر والخيانة، فإن كيدهم يعود إلى نحورهم ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: وهكذا مصير الطغاة وأذنابهم الحشرات.
(177): ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ...﴾: واضح، وتقدم في 16 و175 من البقرة.
(178): ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾: أي نمهلهم، و (إنما) أن للتوكيد و (ما) اسمها و ﴿خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ﴾: خبر (أن) ﴿إِنَّمَا﴾: إن هنا للتوكيد أيضًا و(ما) كافة العمل ﴿نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا﴾: واللام في (ليزدادوا) للعاقبة مثلها لدوا للموت، ومعنى الآية بجملتها أن الله سبحانه يمهل الإنسان في هذه الحياة كي يختار لنفه خيرًا أو شرًا، وطول الأجل لأهل الخير خير، ولأهل الشر شر حيث يزداد المحسن إحسانًا، والمسيء شرًا وطغيانًا.
(179): ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾: إندس في صفوف المسلمين منافقون لمجرد الهدم والتخريب، وقد فرض سبحانه على النبي والمسلمين أن يعاملوا كل من نطق بكلمة الإسلام معاملة المسلمين، ومن أجل هذا حار رسول الله (ص) في أمر المنافقين، وضاق بهم ذرعًا، كيف يرفضهم وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ وكيف يقبلهم وهم يفسدون ويعاكسون؟ فقال سبحانه للنبي والمسلمين: مهلا سأُسلط عليهم الأضواء حتى يفتضحوا أمام الناس، ولا يبقى لهم منفذ للكيد والإفساد، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: (حتى يميز الخبيث بالطيب) ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾: أي ليس من الحكمة أن يخبركم مباشرة أيها المسلمون عما في قلوب المنافقين، بل أنتم تكتشفون ذلك مع الأيام ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء﴾: ويطلعه على ما أراد من غيبه. ﴿فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ﴾: واتقوا المعاصي والموبقات، ولا يضركم من ضل إن اهتديتم.
(180): ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾: لو كان البخل خيرًا لكان الجود شرًا، والمقصود بهذه الآية خصوص الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم بدليل قوله تعالى بلا فاصل: ﴿بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: والظاهر من هذه الآية أن أطواق النار غدًا تلتحم بأعناق الذين يمنعون الزكوات والأخماس عن الفقراء سواء في ذلك أصحاب الأموال، والذين يقبضون هذه الحقوق الإلهية، ويمسكونها عن المستحقين ﴿وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: له تعالى كل الأرزاق والخيرات، وقد جعلها لكل الخلق عن سواء، فلماذا تحتكرها فئة دون فئة؟
(181): ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾: نطق اليهود بهذا القول إما إعتقادًا، وإما عنادً، وأيهما كان فهو كفر صراح ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾: أي نعاقبهم عليه ﴿وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾: أبدًا لا فرق بين قول اليهود: الله فقير وقتلهم الأنبياء، وليس هذا بأول ما ارتكبوه.
(182): ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾: وخص سبحانه الأيدي بالذكر، لأنها الأداة الطيعة لأكثر الأعمال.
(183): ﴿الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾: اليهود الذين قتلوا الأنبياء، وقالوا أن الله فقير ونحن الأغنياء هم بالذات قالوا لمحمد (ص): قد أمرنا الله أن لا نصدق مدعي النبوة أيا كان إلا إذا ظهرت على يده هذه المعجزة، وهي أن تلتهم صدقاتنا نار تنزل من السماء ﴿قُلْ﴾: يا محمد لهؤلاء اليهود ﴿قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾: إن أسلافكم اقترحوا على الأنبياء هذه المعجزة التي قد اقترحتموها عليه، وأظهرها الله هي وغيرها من المعجزات على أيدي الأنبياء ومع ذلك قتلوهم ولم يؤمنوا بهم، وشأنكم شأنهم في العتو والعناد.
(184): ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾: يا محمد ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾: المعجزات الدالة على صدقهم ﴿وَالزُّبُرِ﴾: بضم الزاي جمع زبور، وهو كل كتاب فيه حكمة ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾: هو التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى والغرض من هذه الآية مجرد التسلية وتأسي النبي الأطهر بمن سبقه من الأنبياء.
(185): ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾: نبيًا كان أم شقيًا صاحبها ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: لا في الحياة الدنيا، لأن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾: بل من فاز بالنجاة من النار وكفى فهو من الفائزين على منطق من حدد اللذة بدرء الألم والسعادة بعدم الشقاء.
(186): ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾: هذا خطاب لكل محق ومن ينشد الحق ويناصره، وإن عليه أن يدفع ثمن الحق من نفسه وماله وعرضه حيث لا هوادة بين أهل الحق وأهل الباطل، ومن الذي يعلم منك بأنك تعلم بما هو عليه من الجهل أو الكذب أو الرياء وما إلى ذلك من الرذائل ثم لا يشن عليك حربًا شعواء لا لشيء إلا لأنك تعرف من هو وكفى. ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾: أيها المسلمون المحقون في دينكم ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾: المبطلين في دينهم ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾: إشارة إلى أن التوراة والإنجيل أسبق نزولا من القرآن ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا﴾: وذنبكم الوحيد هو ذنب المحق عند المبطل والأمين عند الخائن ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾: إصبروا على مرارة الحق وثقله، فإن ذلك من دلائل الشجاعة والبطولة.
(187): ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾: هذه الهاء تعود إلى الكتاب، والمراد به كل كتاب منزل من عند الله، بل لا يبعد أن يكون كناية عن الحق والمعنى: على كل من علم الحق أن يعلنه على الناس وإلا فهو شيطان أخرس كما قال الرسول (ص). ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ﴾: واو الجماعة في (نبذوه) لعلماء السوء والهاء وميثاق الله وعهده أن يعلنوا الحق ولا يكتمونه ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾: كتموا الحق بعد أن باعوا دينهم للشيطان، وقبضوا أبخس الأثمان.
(188) ?
(189): ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ﴾: المفازة اسم لمكان الفوز والنجاة، وقوله تعالى(فلا تحسبنهم) بعد قوله (لا تحسبن) لمجرد التوكيد وعمد الالتباس مع طول الكلام، والمعنى الظاهر من هذه الآية يعم ويشمل كل مراء ومنافق وكل من يدعي ما ليس فيه، وطلب أمرًا ما هو من أهله ومعدنه.
(190): ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...﴾: تقدم في الآية 164 من سورة البقرة ويتلخص المعنى بأنه لا بناء من غير بان.
(191): ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾: ليس المراد بالذكر مجرد التسبيح والتهليل بل الإنقياد للحق لا للباطل، ولا بالقيام والقعود مجرد الركوع والسجود بل العمل الصالح، أما المراد بـ (على جنوبهم) فهو أن المؤمنين المخلصين حقًا حين يستلقون في الفراش، يفكرون في فعل ما هو الأفضل عند الله والأنفع لخدمة عباده وعياله ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: وما فيها من صنع منظم وتدبير محكم، فيقولون قول العاقل العالم بمعجزة الوجود ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً﴾: ذلك ظن الذين كفروا بالله وقدرته وبالإنسان وقيمه وبالعقل وأحكامه.
(192): ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾: ونحن نستجير بك ونفر إليك من هذا العذاب والخزي.
(193) ?
(194): ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ﴾: بالحق والعدل والمساواة بين الخلق ﴿أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾: وهذا هو شأن من طلب الحق لوجه الحق، يفتح قلبه لدعوته أيًا كان الهادي والمنادي ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ ...﴾: سألوا الله سبحانه العفو والمغفرة، والتكفير عن السيئات والرضا عنهم عند الوفاة، ومرضاة الله سبحانه عند الموت هي الأمنية الكبرى للأبرار والأخيار.
(195): ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾: ولماذا استجاب؟ وإليك الجواب ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾: فالعبرة عند الله بالأعمال لا بالمال والرجال، وبالإخلاص لا بهتاف الناس ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾: الذكر ابن الأنثى، والأنثى بنت الذكر، والتماثل في المصدر يستدعي التماثل في الحكم والأثر ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾: بيتك حجره عظمك، وطينه لحمك، وماؤه دمك، وفيه نفسك وطعامك وشرابك وزوجك وأبنائك، تطرد منه على غفلة، وتصبح في الفضاء أنت والنساء والأبناء... ربي كما خلقتني! فهل من ظلم أفحش وعدوان أفظع من هذا؟ ﴿وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي﴾: بأشد أنواع التنكيل ﴿وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ﴾: لا لشيء إلا دفاعًا عن الحق والنفس ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ...﴾: أبدًا لا أمن وأمان من عذاب الله، ولاحظ لأحد من ثوابه إلا لمن جاهد وضحى، فصبر واتقى، وثبت على الحق حتى ولو قطع عضوًا عضوا، أولئك لهم عند الله المقام الأسمى والدرجات العلى.
(196): ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ﴾: أي تحكموا بأهلها، ونهبوا الأقوات والأرزاق.
(197): ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾: أي ذاك التحكم والظلم يتطعمه الطغاة قليلا، ثم يلفظونه جملة ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾: ومعنى الآية بمجموعها: قد يظن الظان أن الدنيا (للأقدر الأقذر) الذي يملك السلاح الأكثر فتكًا وتدميرًا!؟ كلا، فإن وراء قوى الشر قوة عليا تراقب وتحاسب لا تغفل ولا تغلب، وتدمر كل باغية وطاغية.
(198): ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾:ومن يعاقب المجرمين يثيب المتقين، ما في ذلك ريب ﴿نُزُلاً﴾: حال من جنات، لأن النزل والنزول ما يهيأ للنازل من طعام وشراب وما أشبه.
(199): ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾: القرآن ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ﴾: توراة موسى وإنجيل عيسى ﴿خَاشِعِينَ لِلّهِ﴾: وللحق فهو ضالتهم وبغيتهم أينما وجودوه اعتنقوه ﴿لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾: لا يحرفون الحق أو يخفونه طمعًا بالحطام الزائد.
(200): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ﴾: على جهاد العدو وقتاله ﴿وَصَابِرُواْ﴾: اغلبوا العدو في تحمل الشدائد ﴿وَرَابِطُواْ﴾: وأعدوا له ما استطعتم من قوة ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: اتقوا الله في المحافظة على الجهاد، فلا فلاح بل لا وجود لكم إلا به، فهو طريق الحياة وباب الحرية والكرامة.