في الآيات لف ونشر مرتَّب

ومن جهة أخرى: فإن الله عز وجل قد ذكر في هذه الآية شياطين الجنة قبل شياطين الناس، على عكس ما ذكره في الآية التي سبقتها، حين تحدث أولاً عن الوسواسية، ثم الخناسية، وربما كان سبب ذلك هو أن الوسوسة تعني الخفاء بحسب طبعها.

أما الخناسية فهي إقدام، ثم إحجام. أي أن الشيطان يقدم على الإغواء، حتى إذا شعر بأن أمره قد ظهر، فانه يخنس ويتراجع، مترصداً الفرصة ليعود من جديد حين يشعر بعدم الإلتفات إليه، أو يطمئن بأنه قد تمكن من أن يخفي نفسه من جديد.

فالخناسية تستبطن تكلّف الاستتار والإخفاء. وهذا يتناسب مع كون الخناسية هي من الناس الذين يحتاجون إلى التكلف في ستر محاولاتهم. أما الوسواسية فهي تناسب شياطين الجن، فظهر أنه يوجد لف ونشر مرتب، لوحظ فيه نوع من التناسب بين الآيتين: ﴿من مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾، ثم قال: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ..﴾ التي تناسب الوسواسية ﴿..والنَّاسِ﴾ التي تناسب الخناسية، وإن كان الإنسان قد يلتفت إلى وسوسة الجن فيضطره إلى التراجع والتخفي؛ ليأتيه بمظهر جديد، فيتعامل بطريقة الخناسية.

ويؤيد ذلك ويؤكده: أن الروايات قد عبرت عن الشيطان بـ ﴿الْخَنَّاسِ﴾، مع أن الشيطان مخفي بطبيعته، لا يظهر بصورة صريحة، ولكن بما أن الوسوسة قد تظهره لمن يوسوس له حين يلتفت إلى أن ثمة وسوسة شيطانية، فإنه يضطر إلي أن يخنس ويتراجع، ليأتيه من طرف خفي، ليستطيع أن يضله، فالوسواسية والخناسية كلاهما إذن قد تكونان معاً من فعل شياطين الجنة.

غير أن الحديث في الآيات قد جاء وفق الحالة الطبيعية والعفوية، التي ظهر منها وجود لف ونشر مرتب في الآيات كما قلنا، لأن الخفاء في الوسواس اكثر منه في الخناس. والخفاء أيضاً في الجنة اكثر منه في الناس.

وفي الخناسية يحتاج إلى الظهور والخفاء، فهو يتراجع بعد أن يظهر ليصدق عليه أنه خناس.

ومصداق هذا ظاهر في مجالات التعامل مع شياطين الإنس الذين يأتون بصورة ظاهرة في بادئ الأمر، ويتكلمون مع من يريدون إغواءه، بطريقة خاصة يحاولون من خلالها إخفاء شيطنتهم، حيث يظهر أحدهم نفسه بصورة الناصح والغيور على المصلحة، والمحب والودود، فإذا ظهرت خدعته، وعرفت نواياه يخنس ويتراجع، ثم يعود بصورة أخرى، يحاول فيها أن يغلف كلامه بما يمنع من افتضاح أمره. وهذه هي الخناسية، فشياطين الإنس أقرب إلى الخناسية منهم إلى الوسواسية؛ ولكن الخناسية تستبطن الوسوسة؛ لأنهم يزرعون فكرتهم في الصدور بصورة ذكية؛ ليندفع الإنسان إلى ما يريد هذا الوسواس أن يدفعه إليه.