لماذا في صدور الناس؟

ثم إن الذي يوسوس للناس لا يقتصر على الهمس لهم بالأمر بصورة خفية، بل هو يوسوس في صدورهم. وهذا ادعى إلى الإحساس بالخطر المتمثل فيه. وأدعى إلى التحرز منه والابتعاد عنه، لأنه يلامس منطقة الخطر الحقيقية في كيان الإنسان.

فهي ليست وسوسة خارجية عابرة قد يستمع إليها الإنسان وقد لا يستمع، وقد يستجيب لها وقد لا يستجيب، بل هو يدخل في عمق وجوده، ليصل إلى أعز موقع، وأخطر مكان، الأمر الذي يحتّم عليه أن يلتمس معاذاً ليحفظ نفسه منه، مادام أنه يستهدفه في الصميم، وفي النقطة المحورية في وسط صدره، وهو عمق كيانه..

إضافة الصدور إلى الناس لا إلى ياء المتكلم:

ونلاحظ هنا أنه تعالى: أضاف الصدور إلى الناس ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ ولم يضفها إلى ياء المتكلم، فلم يقل: في صدري، مع أنه هو المناسب لكلمة ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، التي هي حديث عن الفرد المتكلم، وقد يكون ذلك عائداً إلى أن هذا الأمر ليس مما قد يعرض للفرد اتفاقاً، ويسلم منه من عداه، بل هو أمر عام يستهدف جميع الناس، ويلاحقهم بإلحاح بالغ، أشد من الوباء، وهو يتطلب السبل، ويلتمس الحيل للدخول في صميم وجودهم، وإلى صدورهم، ليوسوس فيها، فلا غرو أن يطلب التعوذ منه.

وإذا كانت الوسوسة التي تحمل الشر إلى الناس أشد من الوباء الشامل، الذي يستهدف جميع الناس؛ فإن ذلك يجعل الإنسان أشد حرصاً على طلب المعاذ، وأكثر إخلاصاً في ذلك، لأن درجة الخوف عنده تتنامى وتزداد حين يجد نفسه غير قادر على الاعتصام منه، والاحتراز عنه، ولا يجد ذلك لدى أحد من الناس، مهما بلغوا من العظمة، والقوة والسلطان، وأياً كانت أوضاعهم، وحالاتهم، وانتماءاتهم، وميزاتهم، وقدراتهم، بل هو يجدهم مثله واقعين في معرض الابتلاء بهذا البلاء، ويعانون ربما أشد مما يعاني من هذا الداء.