الوسواس الخناس

وحين تحدثت الآية عن صفات الشيطان: ﴿الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾، فلكي تسجل تحذيراً مستنداً إلى الدليل من أن الشيطان لا يواجه الإنسان مباشرة، وإنما يأتيه بصورة وسواس خناس في عمل دائب، نذر له كل وجوده، يهدف إلى تقويض سعادته بطريق الخداع والتزيين، بعد أن أدرك أنه لا يملك أن يجبره على فعل ما يريد. فلجأ إلى طريقة الإلقاء في خاطر الإنسان وفي روعه أمراً يزينه له ويشوقه إليه. وذلك بأن يجعل ذلك الخاطر الذي ألقاه إليه بين الخيارات الأخرى، ثم هو من خلال الزينة التي ألقاها عليه يـرجحه عليها، ثم يشتاق إليه الإنسان، ثم يتحرك نحوه.

فإحداث الخاطر في النفس هو في حد ذاته عدوان وشر شيطاني، قد صان الله الأنبياء والأوصياء عن أن يحدث في نفوسهم، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ..﴾ (النحل/99) وقوله تعالى عن لسان إبليس: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ..﴾ (ص/83)، والمخلص هو الصافي الذي لا تشوبه شائبة، فعباد الله لا مجال لأن تمر هذه الخواطر في أوهامهم، ولا تجد لها سبيلاً إلى قلوبهم وعقولهم.

وهذا يعطينا صورة عن عصمة الأنبياء.. والأوصياء الذين تنفر طباعهم، وتأبى عقولهم مقاربة الشرور والأهواء، بصورة قاطعة ونهائية، فإذا قال الله تعالى عن الغيبة: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات/12)، فإن النبي أو الولي المعصوم يكره الغيبة كما يكره وينفر من أكل لحم أخيه ميتاً.

بل إن هذا الإنسان المؤمن العادي الذي ليس بنبي ولا وصي، يمتلك درجة العصمة عن ارتكاب جملة من الأمور فهو معصوم عن أن يقتل نفسه، وعن أن يقتل ولده أو أخاه، وعن أكل الجيف، وعن أكل لحم الخنزير، أو الديدان. والمؤمن معصوم عن ترك الصلاة، والصيام، وعن الكذب، والنميمة، والخيانة، والسرقة، وما إلى ذلك، بـل هو يبغض ذلك وينفر منه، ولا يفكر فيه. بل هو -عادة- لا يسمح لها أن تدخل في وهمه وخياله، حتى إذا خطرت بعض مفرداتها على باله، فإن ذلك ينعكس سلباً على حالته الجسدية إلى درجة أنه يتقيأ ما في أحشائه لشدة كراهيته لها، مع أنه مجرد تخيل لا واقع وراءه، وكذلك الحال حين تخطر عـلى باله بعض الأمور المحبوبة له، فإن ذلك سيحدث تغيرات جسدية من نوع آخر، وفي الاتجاه المعاكس.

والخلاصة : إننا نجد هذا الإنسان يقف موقف الممانعة والرفض لبعض الخواطر، حتى إذا جاءت قسراً فإنه يـرفضها حتى جسدياً. بل هـو يكاد يصعق أو يتقيأ لو سمع بها، ولأجل ذلك: نجد الإسلام يحظِّر على الإنسان بعض الخواطر. كما أنه يوجب عليه أنواعاً منها. وأمثلة هذا وذاك واضحة تكاد لا تخفى، ومن كل ذلك: نعرف سرّ عصمة الأنبياء والأولياء عن ممارسة كل الشرور، بل هم معصومون حتى عن التفكير فيها، ما دام انهم واقفون على درجة قبحها وسوئها، وإن كانت تخفى على الإنسان العادي.

فهي عندهم كأكل الميتة بالنسبة للناس العاديين. فكما ينفر الإنسان من ذلك كذلك الأنبياء والأولياء بالنسبة لجميع الشرور. ولأجل ذلك لا يمر خاطرها في ذهن النبي، ولا تدخل على قلبه أو عقله، ولا يحدِّث نفسه بإرتكابها إطلاقاً، فاتضح أن دخول الشيطان، ولو بدرجة أن يحدث خاطراً للنبي أو الوصي المعصوم غير ممكن ولا معقول.

لكن ذلك لا يعني أن المعصوم لا يتمكن من تصور الشرور في سياق الزجر للناس عنها، وبيان سلبيات ارتكابها، فإن النبي والولي والمؤمن لا يتخيل السوء ليكون جزءاً من تفكيره، أو ليدخل في خواطره، ومشاعره، وأحاسيسه. أو ليصبح جزءً من شخصيته، فيرسم له حركته، ويؤثر على مشاعره، الأمر الذي يستتبع تزيين الشيطان له، وتبرير ارتكابه لها، والموازنة بينها وبين الخيارات الأخرى، ثم الترجيح، ثم الشوق، والحركة نحو تذليل الموانع، وتهيئة أجواء ارتكاب الحرام، وإنما يتصورها كمفهوم يـريد ‎أن يجعله في قوالبه اللفظية ليعبّر عنه؛ ولأجل ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد تحدث عن الكافرين، وعن الكفر والضلال، وعن قتل النفس، والغيبة وغير ذلك.