مثال ونظير

وهذا نظير شخصٍ يجلس إلى طاولة القمار، ليلعب بآلات القمار؛ فإنه بمجرد جلوسه إلى طاولة اللعب يتبلور لديه شعور بذاته، وأن له مساحة معينة، عليه أن يدافع عنها، ثم هو في نفس الوقت يشعر شعوراً خفياً أن لا حرمة للطرف الآخر، بل لابد له أن يخترق الحواجز إليه، وأن يحدث ثغرة في كيانه؛ وأن يعتدي على حرمته، ويبذل الجهد من أجل أن يذلّه، وينتقص من شأنه وقدره، وأن ينزل به الخسائر والأضرار، وطبيعي أنه إذا استمر هذا الشعور لديه؛ فان كرامة وهيبة الطرف الآخر ستسقط في نفسه، ولسوف تتنامى حالة الأنانية في داخله، وبذلك يصبح إنساناً شرساً، معتدياً، لا قيمة عنده لكرامة الإنسان ولا لمشاعره.. وتسقط القيم حينئذٍ لديه، حتى ولو لم يكن ثمة رهان مالي يسعى من خلاله لأن يأكل أموال الناس بالباطل.

إنه ليس فقط لا يتألم لألمه، بل هو يحب له أن يتألم، بل هو يسعى لإيلامه، وإلى أن يوقعه في الخسائر، ويتسبب له بالمشاكل والمتاعب، ومن المؤكد أن هذا الشعور سيتنامى لديه تجاه الطرف الآخر إذا شعر أن هذا الآخر يحمل في داخله أيضاً هذا الشعور تجاهه. وعندئذ سيشعر كل طرف منهما أنه مستهدف بشخصه. ولأجل ذلك قلنا: إنه إذا شعر هذا الإنسان بوحدته، وأنه المستهدف بشخصه، وأن هناك سعياً لإلحاق الضرر به، والإنقاص منه، والاعتداء على كمالاته وإفقاده ما هو واجد له منها، إذا شعر بذلك فسيستنفر كل قواه ليدافع عن كيانه ووجوده، وحفظ ما لديه من كمالات.

إن جميع ما تقدم يبيّن لنا السبب في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ولم يقل: "قولوا نعوذ، كما أن كلمة رب - كما قلنا - تستبطن بالإضافة إلى ما أشرنا إليه : أن هناك علاقة وعناية.. فيما بين هذا المربوب وربه؛ ليست هي علاقة اللامبالاة، أو المصلحة، أو العداء، وإنما علاقة الحرص على الطرف الآخر، ليِّرُبِّيه من موقع التدبيرعلى أساس من العقل، والحكمة، لأن التربية تعني وجود رقابة على هذا الوجود الذي يريد له أن ينمو، ويتكامل، ويحفظ من اليبس، والجفاف، والالتواء.. الخ بحكمة، ورويَّة، وأناة.

فكلمة "رب" إذن تستبطن التدبير الذي يحتاج إلى الحكمة في التعامل مع المربوب والإحاطة بكل حالاته وشؤونه.. والرقابة الدقيقة.. والحرص على تكامله، وتستبطن أيضاً وجود علاقة حميمة ومحبة من قبل الرب من جهة ومن قبل العبد من جهة أخرى. فكما أن الله سبحانه وتعالى يحبنا ويرأف بنا، كذلك فإنه لابد أن نرتبط نحن به من خلال علاقة حميمة أيضاً، نحمل معها مشاعر، وأحاسيس. لكنها أحاسيس محبة وتعلق، فنحن مأمورون بأن نحب الله سبحانه وتعالى حباً حقيقياً.

قال تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ (البقرة/165)، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة/24).