الآيات 17-18

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ﴿17﴾ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿18﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر ﴿يوقدون﴾ بالياء والباقون بالتاء.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ بالتاء فلما قبله من الخطاب وهو قوله ﴿قل أ فاتخذتم﴾ ويجوز أن يكون خطابا عاما يراد به الكافة كان المعنى ومما توقدون عليه أيها الموقدون زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل ومن قرأ بالياء فلأن ذكر الغيبة قد تقدم في قوله ﴿أم جعلوا لله شركاء﴾ ويجوز أن يراد به جميع الناس ويقوي ذلك قوله ﴿وأما ما ينفع الناس﴾ فكما أن الناس يعم المؤمنين والكافرين كذلك الضمير في يوقدون وقال ﴿ومما يوقدون عليه في النار﴾ فجعل الظرف متعلقا بيوقدون لأنه قد يوقد على ما ليس في النار كقوله فأوقد لي يا هامان على الطين فهذا إيقاد يقال على ما ليس في النار وإن كان يلحقه وهجها ولهبها.

اللغة:

الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ومنه اشتقاق الدية لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل والقدر اقتران الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان والوزن يزيد وينقص فإذا كان مساويا فهو القدر وقرأ الحسن بقدرها بسكون الدال وهما لغتان يقال أعطى قدر شبر وقدر شبر والمصدر بالتخفيف لا غير وهم يختصمون في القدر معا بالسكون والحركة قال:

ألا يا لقوم للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري والاحتمال رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له ويقال علا صوته على فلان فاحتمله ولم يغضبه والزبد وضر الغليان وهو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل والجفاء ممدود مثل الغثاء وأصله الهمز يقال جفا الوادي جفاء قال أبو زيد : يقال جفأت الرجل إذا صرعته وأجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها قال الفراء : كل شيء ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجيء على فعال مثل الحطام والقماش والغثاء والجفاء والإيقاد إلقاء الحطب في النار واستوقدت النار واتقدت وتوقدت والمتاع ما تمتعت به والمكث الكون في المكان على مرور الزمان يقال مكث ومكث وتمكث أي تلبث.

الإعراب:

قال جامع العلوم البصير قوله ﴿في النار﴾ متعلق بمحذوف في موضع الحال من الضمير المجرور بقوله ﴿عليه﴾ أي ومما توقدون عليه ثابتا في النار ﴿ابتغاء حلية﴾ أي مبتغين حلية فهو مصدر في موضع الحال من الضمير في يوقدون ولا يجوز أن يكون قوله ﴿في النار﴾ من صلة يوقدون لأن المعنى ليس على ذلك فالمعنى أنهم يوقدون على الذهب في حال كونه في النار فافهمه من كلام أبي علي ولم يهتد إليه غيره وقوله ﴿زبد﴾ مبتدأ ومثله نعت له والظرف الذي هو قوله ﴿مما يوقدون﴾ خبره على قول سيبويه وهو مرتفع بالظرف على قول الأخفش وموضع جفاء نصب على الحال أي يذهب على هذه الحالة قال الشاعر:

إذا أكلت سمكا وفرضا

ذهبت طولا وذهبت عرضا

أي ذهبت على هذه الحالة والفرض نوع من التمر.

المعنى:

ثم ضرب سبحانه مثلين للحق والباطل (أحدهما) الماء وما يعلوه من الزبد (والآخر) ما توقد عليه النار من الذهب والفضة وغيرهما وما يعلوه من الزبد على ما رتبه فقال ﴿أنزل من السماء ماء﴾ أي مطرا ﴿فسالت أودية بقدرها﴾ يعني فاحتمل الأنهار الماء كل نهر بقدره الصغير على قدر صغره والكبير على قدر كبره فسالت كل نهر بقدره عن الحسن وقتادة والجبائي وقيل بقدرها بما قدر لها من مائها عن الزجاج ﴿فاحتمل السيل زبدا رابيا﴾ أي طافيا عاليا فوق الماء شبه سبحانه الحق والإسلام بالماء الصافي النافع للخلق والباطل بالزبد الذاهب باطلا وقيل إنه مثل القرآن النازل من السماء ثم تحتمل القلوب حظها من اليقين والشك على قدرها فالماء مثل اليقين والزبد مثل الشك عن ابن عباس ثم ذكر المثل الآخر فقال ﴿ومما يوقدون عليه في النار﴾ وهو الذهب والفضة والرصاص وغيره مما يذاب ﴿ابتغاء حلية﴾ أي طلب زينة يتخذ منه كالذهب والفضة ﴿أو متاع﴾ معناه أو ابتغاء متاع ينتفع به وهو مثل جواهر الأرض يتخذ منها الأواني وغيرها ﴿زبد مثله﴾ أي مثل زبد الماء فإن هذه الأشياء التي تستخرج من المعادن وتوقد عليها النار ليتميز الخالص من الخبيث لها أيضا زبد وهو خبثها ﴿كذلك يضرب الله الحق والباطل﴾ أي مثل الحق والباطل وضرب المثل تسييره في البلاد حتى يتمثل به في الناس ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء﴾ أي باطلا متفرقا بحيث لا ينتفع به ﴿وأما ما ينفع الناس﴾ هو الماء الصافي والأعيان التي ينتفع لها ﴿فيمكث في الأرض﴾ فينتفع به الناس فمثل المؤمن واعتقاده كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء به وكمثل نفع الذهب والفضة وسائر الأعيان المنتفع بها ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزبد الذي يذهب جفاء وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الذهب والفضة الذي لا ينتفع به ﴿كذلك يضرب الله الأمثال﴾ للناس في أمر دينهم قال قتادة هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد شبه نزول القرآن بالماء الذي ينزل من السماء وشبه القلوب بالأودية والأنهار فمن استقصى في تدبره وتفكر في معانيه أخذ حظا عظيما منه كالنهر الكبير الذي يأخذ الماء الكثير ومن رضي بها أداه إلى التصديق بالحق على الجملة كان أقل خطأ منه كالنهر الصغير فهذا مثل ثم شبه الخطوات ووساوس الشيطان بالزبد يعلو على الماء وذلك من خبث التربة لا عين الماء كذلك ما يقع في النفس من الشكوك فمن ذاتها لا من ذات الحق يقول فكما يذهب الزبد باطلا ويبقى صفوة الماء كذلك يذهب مخايل الشك هباء باطلا ويبقى الحق فهذا مثل ثان والمثل الثالث قوله ﴿ومما يوقدون عليه في النار﴾ إلى آخره فالكفر مثل هذا الخبث الذي لا ينتفع به والإيمان مثل الماء الصافي الذي ينتفع به وتم الكلام عند قوله ﴿يضرب الله الأمثال﴾ ثم استأنف بقوله ﴿للذين استجابوا لربهم الحسنى﴾ عن الحسن والبلخي وقيل بل يتصل بما قبله لأن معناه أن الذي يبقى مثل الذين استجابوا لربهم والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب والمراد به للذين استجابوا دعوة الله وآمنوا به وأطاعوه الحسنى وهي الجنة عن الحسن والجبائي وقيل معناه الخصلة الحسنى والحالة الحسنى وهي صفة الثواب والجنة أيضا عن أبي مسلم ﴿والذين لم يستجيبوا له﴾ أي لله فلم يؤمنوا به ﴿لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به﴾ أي جعلوا ذلك فدية أنفسهم من العذاب لم يقبل ذلك منهم ﴿أولئك لهم سوء الحساب﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) أن سوء الحساب أخذهم بذنوبهم كلها من دون أن يغفر لهم شيء منها عن إبراهيم النخعي ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث ومن نوقش الحساب عذب فيكون سوء الحساب المناقشة (والثاني) هو أن يحاسبوا للتقريع والتوبيخ فإن الكافر يحاسب على هذا الوجه والمؤمن يحاسب ليسر بما أعد الله تعالى له عن الجبائي (والثالث) هو أن لا يقبل لهم حسنة ولا يغفر لهم سيئة عن الزجاج وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) (والرابع) أن سوء الحساب هو سوء الجزاء فسمي الجزاء حسابا لأن فيه إعطاء المستحق حقه ﴿ومأواهم جهنم﴾ أي مصيرهم إلى جهنم ﴿وبئس المهاد﴾ أي وبئس ما مهدوا لأنفسهم والمهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه وتسمى النار مهادا لأنها موضع المهاد لهم.