الآيات 41-43

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿41﴾ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴿42﴾ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴿43﴾

القراءة:

قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وسيعلم الكافر على لفظ الواحد والباقون ﴿الكفار﴾ على الجمع وفي الشواذ قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وابن أبي إسحاق والضحاك والحكم بن عيينة ومن عنده علم الكتاب بكسر الميم والدال وقراءة علي والحسن وابن السميفع ومن عنده علم الكتاب.

الحجة:

قال أبو علي العلم في قوله ﴿وسيعلم الكفار﴾ هو المتعدي إلى مفعولين بدلالة تعليقه ووقوع الاستفهام بعده تقول علمت لمن الغلام فتعلقه مع الجار كما تعلقه مع غيره في نحو فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار وموضع الجار مع المجرور نصب من حيث سد الكلام الذي هو فيه مسد المفعولين لا من حيث حكمت في نحو مررت بزيد بأن موضعه نصب ولكن اللام الجارة كانت متعلقة في الأصل بفعل فكان مثل علمت بمن تمر في أن الجار يتعلق بالمرور والجملة التي هي منها في موضع نصب وقد علق الفعل عنها فأما من قرأ الكافر فإنه جعل الكافر اسما شائعا كالإنسان في قوله ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾ وزعموا أن لا ألف فيه وهذا الحذف إنما يقع في كل فاعل نحو خالد وصالح ولا يكاد الحذف في فعال وزعموا أن في بعض الحروف وسيعلم الذين كفروا فهذا يقوي الجمع وقد جاء فاعل يراد به اسم الجنس أنشد أبو زيد:

إن تبخلي يا جمل أو تعتلي

وتصبحي في الظاعن المولى فهذا إنما يكون في الكسرة وليس المراد على كل كافر واحد والجمع الذي هو الكفار المراد في الآية لا إشكال فيه فأما من قرأ ومن عنده علم الكتاب فمعناه ومن فضله ولطفه أم الكتاب ومن قرأ من عنده علم الكتاب فالمعنى مثل ذلك إلا أن الجار هاهنا يتعلق بعلم وفي الأول بمحذوف وعلم الكتاب مبتدأ ومرفوع بالظرف على ما تقدم ذكره في قوله ﴿ومنهم أميون﴾.

اللغة:

النقص أخذ الشيء من الجملة ثم يستعمل في نقصان المنزلة والطرف منتهى الشيء وهو موضع من الشيء ليس وراءه ما هو منه وأطراف الأرض نواحيها والتعقيب رد الشيء بعد فصله ومنه عقب العقاب على صيده إذا رد الكرور عليه بعد فصله عنه ومنه قول لبيد:

طلب المعقب حقه المظلوم والمكر الفتل عن البغية بطريق الحيلة والشهيد والشاهد واحد إلا أن في شهيد مبالغة والشهادة البينة على صحة المعنى من طريق المشاهدة.

الإعراب:

﴿ننقصها من أطرافها﴾ جملة منصوبة الموضع على الحال وكذلك قوله ﴿لا معقب لحكمه﴾ والباء في قوله ﴿كفى بالله﴾ زائدة قال علي بن عيسى دخلت لتحقيق الإضافة من وجهين جهة الفاعل وجهة حرف الإضافة وذلك أن الفعل لما جاز أن يضاف إلى غير فاعله بمعنى أنه أمر به أزيل هذا الاحتمال بهذا التأكيد ونظيره في تأكيد الإضافة قوله ﴿لما خلقت بيدي﴾.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه ما يكون للكفار كالبينة على الاعتبار فقال ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها﴾ أي نقصدها ﴿من أطرافها﴾ واختلف في معناه على أقوال (أحدها) أولم ير هؤلاء الكفار أنا ننقص أطراف الأرض بإماتة أهلها ومجازه ننقص أهلها من أطرافها كقوله ﴿وأسأل القرية﴾ أي أفلا يخافون أن نفعل مثل ذلك بهم عن ابن عباس وقتادة وعكرمة (وثانيها) ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها وخيار أهلها عن عطا ومجاهد والبلخي وروي نحو ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال عبد الله بن مسعود موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار (وثالثها) أن المراد نقصد الأرض ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين معناه فننقص من أهل الكفر ونزيد في المسلمين يعني ما دخل في الإسلام من بلاد الشرك عن الحسن والضحاك ومقاتل قال الضحاك أولم ير أهل مكة أنا نفتح لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما حولها من القرى وقال الزجاج: علم الله تعالى أن بيان ما وعد المشركون من قهرهم قد ظهر أي أفلا يخافون أن نفتح لمحمد أرضهم كما فتحنا له غيرها وقد روي ذلك أيضا عن ابن عباس قال القاضي وهذا القول أصح لأنه يتصل بما وعده من إظهار دينه ونصرته (ورابعها) أن معناه أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الخراب بعد العمارة والموت بعد الحياة والنقصان بعد الزيادة عن الجبائي ﴿والله يحكم﴾ أي يفصل الأمر ﴿لا معقب لحكمه﴾ ولا راد لقضائه عن ابن عباس ومعناه لا يعقب أحد حكمه بالرد والنقض ﴿وهو سريع الحساب﴾ أي سريع المجازاة على أفعال العباد على الطاعات بالثواب وعلى المعاصي بالعقاب ثم بين سبحانه أن مكرهم يضمحل عند نزول العذاب بهم فقال ﴿وقد مكر الذين من قبلهم﴾ يريد أن الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء قد مكروا بالمؤمنين واحتالوا في كفرهم ودبروا في تكذيب الرسل بما في وسعهم فأبطل الله مكرهم كذلك يبطل مكر هؤلاء ﴿فلله المكر جميعا﴾ أي له الأمر والتدبير جميعا فيرد عليهم مكرهم بنصب الحجج لعباده وقيل معناه فالله يملك الجزاء على المكر عن أبي مسلم وقيل يريد بالمكر ما يفعل الله تعالى بهم من المكروه عن الجبائي ﴿يعلم ما تكسب كل نفس﴾ فلا يخفى عليه ما يكسبه الإنسان من خير وشر لأنه عالم بجميع المعلومات وقيل يعلم ما يمكرونه في أمر الرسول فيبطل أمرهم ويظهر أمره ودينه ﴿وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار﴾ هذا تهديد لهم بأنهم سوف يعلمون من تكون له عاقبة الجنة حين يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار وقيل معناه وسيعلمون لمن العاقبة المحمودة لكم أم لهم إذا أظهر الله دينه ﴿ويقول الذين كفروا﴾ لك يا محمد ﴿لست مرسلا﴾ من جهة الله تعالى إلينا ﴿قل﴾ لهم ﴿كفى بالله شهيدا بيني وبينكم﴾ أي كفى الله شاهدا بيني وبينكم بما أظهر من الآيات وأبان من الدلالات على نبوتي ﴿ومن عنده علم الكتاب﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) أن من عنده علم الكتاب هو الله عن الحسن والضحاك وسعيد بن جبير واختاره الزجاج قال ويدل عليه قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب (والثاني) إن المراد به مؤمنوا أهل الكتاب منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري عن ابن عباس وقتادة ومجاهد واختاره الجبائي وأنكر الأولون هذا القول بأن قالوا السورة مكية وهؤلاء أسلموا بعد الهجرة (والثالث) إن المراد به علي بن أبي طالب وأئمة الهدى (عليهم السلام) عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وروي عن بريد بن معاوية عن أبي عبد الله أنه قال إيانا عنى وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وروى عنه عبد الله بن كثير أنه وضع يده على صدره ثم قال عندنا والله علم الكتاب كملا ويؤيد ذلك ما روي عن الشعبي أنه قال ما أحد أعلم بكتاب الله بعد النبي من علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومن الصالحين من أولاده وروي عن عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي قال ما رأيت أحدا أقرأ من علي بن أبي طالب (عليه السلام) للقرآن وروى أبو عبد الرحمن أيضا عن عبد الله بن مسعود قال لو كنت أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني لأتيته قال فقلت له فعلي وقال أولم آته.