الآيات 6-18

وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴿6﴾ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿7﴾ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ﴿8﴾ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿9﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ ﴿10﴾ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ﴿11﴾ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿12﴾ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴿13﴾ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ﴿14﴾ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴿15﴾ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴿16﴾ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴿17﴾ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴿18﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر ﴿ما ننزل﴾ بنونين ﴿الملائكة﴾ بالنصب وقرأ أبو بكر عن عاصم ما تنزل بضم التاء الملائكة بالرفع وقرأ الباقون ما تنزل بفتح التاء والزاي الملائكة بالرفع وقرأ ابن كثير سكرت بالتخفيف والباقون بالتشديد وفي الشواذ قراءة الزهري سكرت.

الحجة:

قال أبو علي: حجة من قرأ تنزل قوله تنزل الملائكة والروح فيها وحجة من قرأ تنزل قوله ونزل الملائكة تنزيلا وحجة من قرأ ﴿ننزل﴾ قوله ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ووجه التثقيل في ﴿سكرت﴾ أن الفعل مسند إلى جماعة فهو مثل مفتحة لهم الأبواب ووجه التخفيف أن هذا النحو من الفعل المسند إلى جماعة قد يخفف قال: ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها.

اللغة:

الشيع الفرق عن الزجاج وكل فرقة شيعة وأصله من المشايعة وهي المتابعة يقال شايع فلان فلانا على أمره أي تابعه عليه ومنه شيعة علي (عليه السلام) وهم الذين تابعوه على أمره ودانوا بإمامته وفي حديث أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة وسلك وأسلك بمعنى والمصدر السلك والسلوك قال عدي بن زيد:

وكنت لزاز خصمك لم أعرد

وقد سلكوك في يوم عصيب وقال آخر:

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلا كما تطرد الجمالة الشردا والعروج الصعود في الدرج والمضارع يعرج ويعرج أبو عبيدة ﴿سكرت أبصارنا﴾ غشيت قال أبو علي: فكان معناه لا ينفذ نورها ولا يدرك الأشياء على حقيقتها ومعنى الكلمة انقطاع الشيء عن سننه الجاري فمن ذلك سكر الماء وهو رده عن سننه في الجري وقالوا التسكير في الرأي قبل أن يعزم على الشيء وإذا عزم على أمر ذهب التسكير ومنه السكر في الشراب إنما هو أن ينقطع عما هو عليه من المصافي حال الصحو فلا ينفذ رأيه ونظره على حد نفاذه في صحوه وقالوا سكران لا يثبت فعبروا عن هذا المعنى فيه قال الزجاج : فسروا سكرت أغشيت وسكرت تحيرت وسكنت عن أن تنظر والعرب تقول سكرت الريح سكنت وكذلك سكر الحر قال الشاعر:

جاء الشتاء واجثأل القبر

وجعلت عين الحرور تسكر والبرج أصله الظهور ومنه البرج من بروج السماء وبرج الحصن ويقال تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها والرجيم المرجوم والرجم الرمي بالشيء بالاعتماد من غير آلة مهياة للإصابة فإن القوس يرمي عنها ولا يرجم بها ورجمته شتمته والشهاب القطعة من النار قال الزجاج : والشهب المنقضة من آيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والدليل على أنها كانت بعد مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن شعراء العرب الذين كانوا يمثلون في السرعة بالبرق وبالسيل وبالأشياء المسرعة لم يوجد في أشعارهم بيت واحد فيه ذكر الكواكب المنقضة فلما حدثت بعد مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) استعملت الشعراء ذكرها قال ذو الرمة:

كأنه كوكب في إثر عفرية

مسوم في سواد الليل منقضب

الإعراب:

لو ما دعاء إلى الفعل وتحريض عليه وهو بمعنى لو لا وهلا وقد جاءت لو ما في معنى لو لا التي لها جواب قال ابن مقبل:

لو ما الحياء ولو لا الدين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري ﴿إلا من استرق السمع﴾ استثناء منقطع والمعنى لكن من استرق السمع يتبعه شهاب وقال الفراء: هو استثناء صحيح لأن الله تعالى لم يحفظ السماء ممن يصعد إليها ليسترق السمع لكن إذا سمعه وأداه إلى الكهنة أتبعه شهاب.

المعنى:

﴿وقالوا﴾ أي قال المشركون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿يا أيها الذي نزل عليه الذكر﴾ أي القرآن في زعمه ودعواه ﴿إنك لمجنون﴾ في دعواك أنه نزل عليك وفي توهمك أنا نتبعك ونؤمن بك ﴿لو ما تأتينا بالملائكة﴾ يشهدون لك على صدق قولك ﴿إن كنت من الصادقين﴾ فيما تدعيه عن ابن عباس والحسن ثم أجابهم سبحانه بالجواب المقنع فقال ﴿ما ننزل الملائكة إلا بالحق﴾ أي لا ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت لا يقع فيه تقديم وتأخير فيقبض أرواحهم عن ابن عباس وقيل لا ينزلون إلا بعذاب الاستئصال إن لم يؤمنوا عن الحسن ومجاهد والجبائي وقيل ما ينزلون في الدنيا إلا بالرسالة عن مجاهد ﴿وما كانوا إذا﴾ أي حين ننزل الملائكة ﴿منظرين﴾ مؤخرين ممهلين أي لا يمهلون ساعة ثم زاد سبحانه في البيان فقال ﴿إنا نحن نزلنا الذكر﴾ أي القرآن ﴿وإنا له لحافظون﴾ عن الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير عن قتادة وابن عباس ومثله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقيل معناه متكفل بحفظه إلى آخر الدهر على ما هو عليه فتنقله الأمة وتحفظه عصرا بعد عصر إلى يوم القيامة لقيام الحجة به على الجماعة من كل من لزمته دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الحسن وقيل يحفظه من كيد المشركين ولا يمكنهم إبطاله ولا يندرس ولا ينسى عن الجبائي وقال الفراء يجوز أن يكون الهاء في له كناية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فكأنه قال إنا نزلنا القرآن وإنا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لحافظون وفي هذه الآية دلالة على أن القرآن محدث إذ المنزل والمحفوظ لا يكون إلا محدثا ﴿ولقد أرسلنا من قبلك﴾ يا محمد رسلا عن ابن عباس فحذف المفعول لدلالة الإرسال عليه ﴿في شيع الأولين﴾ أي في فرق الأولين عن الحسن والكلبي وقيل في الأمم الأولين عن عطا عن ابن عباس ﴿وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون﴾ وهذا تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذ أخبره أن كل رسول كان مبتلى بقومه واستهزاؤهم بالرسل إنما حملهم على ذلك استبعادهم ما دعوهم إليه واستيحاشهم منه واستنكارهم له حتى توهموا أنه مما لا يكون ولا يصح مع مخالفته لما وجدوا عليه أسلافهم ﴿كذلك نسلكه في قلوب المجرمين﴾ فيه قولان (أحدهما) أن معناه أن نسلك الذكر الذي هو القرآن في قلوب الكفار بإخطاره عليها وإلقائه فيها وبأن نفهمهم إياه وأنهم مع ذلك ﴿لا يؤمنون به﴾ ماضين على سنة من تقدمهم في تكذيب الرسل كما سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الأمم عن البلخي والجبائي والمراد أن إعراضهم عن القرآن لا يمنعنا من أن ندخله في قلوبهم تأكيدا للحجة عليهم (الآخر) أن المعنى نسلك الاستهزاء في قلوبهم عقوبة لهم على كفرهم والأول هو الصحيح وقد رووا عن جماعة من المفسرين أن المراد نسلك الشرك في قلوب الكفار وذلك لا يصح لأنه لم يجر للشرك ذكر وقد جرى ذكر الذكر وهو القرآن ولأنه قال ﴿لا يؤمنون به﴾ ولو عاد الضمير في قوله به إلى الشرك لكان الكفار محمودين إذا كانوا لا يؤمنون بالشرك ولا خلاف أن الآية وردت على سبيل الذم لهم ولو كان الله سبحانه قد سلك الكفر في قلوبهم لسقط عنهم الذم ولما جاز أن يقول لهم كيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وكيف ينكر عليهم هذا الإنكار وهو الواضع لذلك في قلوبهم وكيف يأمرهم بإخراجه من حيث وضعه فيه تعالى وتقدس عن ذلك ﴿وقد خلت سنة الأولين﴾ أي مضت طريقة الأمم المتقدمة بأن كانت رسلهم تدعوهم إلى كتب الله المنزلة ثم لا يؤمنون وقيل مضت سنة الأولين بأن عوجلوا بعذاب الاستئصال عند الإتيان بالآيات المقترحة مع إصرارهم على الكفر عن أبي مسلم وقيل مضت سنتهم في التكذيب كما أن قومك كذبوك عن ابن عباس ثم قال بعد ما تقدم ذكر اقتراحهم للآيات ﴿ولو فتحنا عليهم﴾ أي على هؤلاء المشركين ﴿بابا من السماء﴾ ينظرون إليه ﴿فظلوا فيه يعرجون﴾ أي فظلت الملائكة تصعد وتنزل في ذلك الباب عن ابن عباس وقتادة وقيل فظل هؤلاء المشركون يعرجون إلى السماء من ذلك الباب وشاهدوا ملكوت السماوات عن الحسن والجبائي وأبي مسلم ﴿لقالوا إنما سكرت أبصارنا﴾ أي سدت وغطيت عن مجاهد وقيل أغشيت وعميت عن ابن عباس والكلبي وأبي عمرو والكسائي وقيل تحيرت وسكنت عن أن تنظر ﴿بل نحن قوم مسحورون﴾ سحرنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلا ننظر ببصر ويخيل الأشياء إلينا على خلاف حقيقتها ثم ذكر سبحانه دلالات التوحيد فقال سبحانه ﴿ولقد جعلنا﴾ أي خلقنا وهيأنا ﴿في السماء بروجا﴾ أي منازل الشمس والقمر ﴿وزيناها للناظرين﴾ بالكواكب النيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهي اثنا عشر برجا وقيل البروج النجوم عن ابن عباس والحسن وقتادة ﴿وحفظناها﴾ أي وحفظنا السماء ﴿من كل شيطان رجيم﴾ أي مرجوم مرمي بالشهب عن أبي علي الجبائي وأبي مسلم وقيل رجيم ملعون مشئوم عن ابن عباس وحفظ الشيء جعله على ما ينفي عنه الضياع فمن ذلك حفظ القرآن بدرسه حتى لا ينسى وحفظ المال بإحرازه حتى لا يضيع وحفظ السماء من الشيطان بالمنع حتى لا يدخلها ولا يبلغ إلى موضع يتمكن فيه من استراق السمع بما أعد له من الشهاب ﴿إلا من استرق السمع﴾ والسرقة عند العرب أن يأتي الإنسان إلى حرز خفية فيأخذ ما ليس له والمراد بالسمع هنا المسموع والمعنى إلا من حاول أخذ المسموع من السماء في خفية ﴿فأتبعه﴾ أي لحقه ﴿شهاب مبين﴾ أي شعلة نار ظاهر لأهل الأرض بين لمن رآه ونحن في رأي العين نرى كأنهم يرمون بالنجوم والشهاب عمود من نور يضيء ضياء النار لشدة ضيائه وروي عن ابن عباس أنه قال كان في الجاهلية كهنة ومع كل واحد شيطان فكان يقعد من السماء مقاعد للسمع فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض فينزل ويخبر به الكاهن فيفشيه الكاهن إلى الناس فلما بعث الله عيسى (عليه السلام) منعوا من ثلاث سماوات ولما بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) منعوا من السماوات كلها وحرست السماء بالنجوم فالشهاب من معجزات نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه لم ير قبل زمانه وقيل إن الشهاب يحرق الشياطين ويقتلهم عن الحسن وقيل إنه يخبل ويحرق ولا يقتل عن ابن عباس.