الآيات 19-25

وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴿19﴾ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ﴿20﴾ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴿21﴾ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴿22﴾ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ﴿23﴾ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴿24﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿25﴾

القراءة:

قرأ حمزة وحده الريح لواقح والباقون ﴿الرياح لواقح﴾.

الحجة:

قال أبو عبيدة لا أعرف لذلك وجها إلا أن يريد أن الريح تأتي مختلفة من كل وجه فكانت بمنزلة الرياح وحكى الكسائي أرض إغفال وأرض سباسب قال المبرد يجوز ذلك على أن يجعل الريح جنسا وليس بجيد لأن الرياح ينفصل بعضها عن بعض ومعرفة كل واحدة منها والأرض ليست كذلك لأنها بساط واحد.

اللغة:

الرواسي الثوابت واحدها راسية والمراسي ما يثبت به والوزن وضع أحد الشيئين بإزاء الآخر على ما يظهر به مساواته في المقدار وزيادته والمعايش جمع معيشة وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة وقد يطلبها الإنسان لنفسه بالتصرف والتكسب وقد يطلب له فإن أتاه أسباب الرزق من غير طلب فذلك العيش الهنيء واللواقح الرياح التي تلقح السحاب حتى يحمل الماء أي يلقي إليه ما يحمل به الماء يقال لقحت الناقة إذا حملت وألقحها الفحل فاللواقح في معنى الملقحات وقيل في علة ذلك قولان (أحدهما) أنه في معنى ذات لقاح ومثله هم ناصب أي ذو نصب قال النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

أي منصب وقال نهشل بن جري:

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

أي المطاوح (والآخر) أن الرياح لاقحة بحملها الماء ملقحة بإلقائها إياه إلى السحاب ويقال سقيته فيما يشربه بشفته واستقيته بالألف فيما تشربه أرضه قال علي بن عيسى وقد يجيء أحدهما بمعنى الآخر كقوله نسقيكم مما في بطونه وقال ذو الرمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه

تكلمني أحجاره وملاعبه.

الإعراب:

﴿والأرض﴾ منصوب بفعل مضمر تقديره ومددنا الأرض ﴿مددناها﴾ كقوله والقمر قدرناه أي وقدرنا القمر قدرناه ﴿ومن لستم له برازقين﴾ من في موضع نصب عطفا على معايش والمراد به العبيد والإماء والأنعام والدواب عن مجاهد وقال الفراء العرب لا تكاد تجعل من إلا في الناس خاصة فإن كان مع الدواب العبيد حسن حينئذ قال وقد يجوز أن يكون من في موضع جر عطفا على الكاف والميم في لكم وقال المبرد والظاهر المخفوض لا يعطف على المضمر المخفوض نحو مررت بك وزيد إلا أن يضطر شاعر وأنشد الفراء:

نعلق في مثل السواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف فرد الكعب على الهاء في بينها وقال:

هلا سألت بذي الجماجم عنهم

وأبي نعيم ذي اللواء المحرق فرد أبا نعيم على هم في عنهم قال ويجوز أن يكون من في موضع رفع لأن الكلام قد تم ويكون التقدير على قوله ولكم فيها من لستم له برازقين قال الزجاج والأجود من الأقوال الأول وجاز أن يكون عطفا على تأويل لكم لأن معنى قوله ﴿لكم فيها معايش﴾ أعشناكم ﴿ومن لستم له برازقين﴾ أي رزقناكم ومن لستم له برازقين ﴿وإن من شيء﴾ من مزيدة وشيء مبتدأ وعندنا خبر له وخزائنه مرفوع بالظرف لأن الظرف جرى خبرا على المبتدأ لا خلاف في هذا بين سيبويه والأخفش.

المعنى:

لما تقدم ذكر السماء وما فيها من الأدلة والنعم أتبعه بذكر الأرض فقال ﴿والأرض مددناها﴾ أي بسطناها وجعلنا لها طولا وعرضا ﴿وألقينا فيها رواسي﴾ أي طرحنا فيها جبالا ثابتة ﴿وأنبتنا فيها﴾ أي في الأرض ﴿من كل شيء موزون﴾ أي مقدر معلوم عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقيل من كل شيء يوزن في العادة كالذهب والفضة والصفر والنحاس ونحوها عن الحسن وقيل يعني بذلك كل ما تخرجه الأرض عن أبي مسلم قال وإنما خص الموزون بالذكر دون المكيل لوجهين (أحدهما) أن غاية المكيل تنتهي إلى الوزن لأن جميع المكيلات إذا صار طعاما دخل في الوزن فالوزن أهم (والآخر) أن في الوزن معنى الكيل لأن الوزن هو طلب المساواة وهذا المعنى ثابت في الكيل فخص الوزن بالذكر لاشتماله على معنى الكيل ورد عليه السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه فقال ظاهر لفظ الآية يشهد بغير ما قاله فإن المراد بالموزون المقدار الواقع بحسب الحاجة فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرة داخلة في باب العبث ونظير ذلك قولهم كلام فلان موزون وأفعاله موزونة والمراد ما ذكرناه وعلى هذا المعنى تأول المفسرون ذكر الموازين في القرآن على أحد التأويلين وأنها التعديل والمساواة بين الثواب والعقاب ﴿وجعلنا لكم فيها معايش﴾ أي خلقنا لكم في الأرض معايش من زرع أو نبات عن ابن عباس والحسن وقيل معايش أي مطاعم ومشارب تعيشون بهما وقيل هي التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة ﴿ومن لستم له برازقين﴾ يعني العبيد والدواب يرزقهم الله ولا ترزقونهم ومعناه يدور على ما تقدم ذكره في الإعراب وأتى بلفظة من دون لفظة ما لأنه غلب العقلاء على غيرهم ﴿وإن من شيء﴾ أي وليس من شيء ينزل من السماء وينبت من الأرض ﴿إلا عندنا خزائنه﴾ معناه إلا ونحن مالكوه والقادرون عليه وخزائن الله سبحانه مقدوراته لأنه تعالى يقدر أن يوجد ما شاء من جميع الأجناس ويقدر من كل جنس على ما لا نهاية له وقيل المراد به الماء الذي منه النبات وهو مخزون عنده إلى أن ينزله ونبات الأرض وثمارها إنما تنبت بماء السماء وقال الحسن المطر خزائن كل شيء ﴿وما ننزله﴾ أي وما ننزل المطر ﴿إلا بقدر معلوم﴾ تقتضيه الحكمة وقيل إنه سبحانه استعار الخزائن للقدرة على إيجاد الأشياء وعبر عن الإيجاد بالإنزال لأن الإنزال في معنى الإعطاء والرزق والمعنى أن الخير كله من عند الله لا يوجد ولا يعطي إلا بحسب المصلحة والحاجة ثم بين سبحانه كيفية الإنزال فقال ﴿وأرسلنا الرياح لواقح﴾ أي أجرينا الرياح لواقح أي ملقحة للسحاب محملة بالمطر ﴿فأنزلنا من السماء ماء﴾ أي مطرا ﴿فأسقيناكموه﴾ أي فأسقيناكم ذلك الماء ومكناكم منه ﴿وما أنتم له بخازنين﴾ أي وما أنتم أيها الناس له بحافظين ولا محرزين بل الله يحفظه ثم يرسله من السماء ثم يحفظه في الأرض ثم يخرجه من العيون بقدر الحاجة ولا يقدر أحد على إحراز ما يحتاج إليه من الماء في موضع ﴿وإنا لنحن نحيي ونميت﴾ أخبر سبحانه أنه يحيي الخلق إذا شاء ويميتهم إذا أراد ﴿ونحن الوارثون﴾ الأرض ومن عليها أخبر أنه يرث الأرض لأنه إذا أفنى الخلق ولم يبق أحد كانت الأشياء كلها راجعة إليه يتفرد بالتصرف فيها ﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) أن معناه ولقد علمنا الماضين منكم ولقد علمنا الباقين عن مجاهد والضحاك وقتادة (وثانيها) علمنا الأولين منكم والآخرين عن الشعبي (وثالثها) علمنا المستقدمين في صفوف الحرب والمتأخرين عنها عن سعيد بن المسيب (ورابعها) علمنا المتقدمين في الخير والمبطئين عنه عن الحسن (وخامسها) علمنا المتقدمين إلى الصف الأول في الصلاة والمتأخرين عنه فإنه كان يتقدم بعضهم إلى الصف الأول ليدركوا فضيلته وكان يتأخر بعضهم لينظروا إلى أعجاز النساء فنزلت الآية فيهم عن ابن عباس (وسادسها) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حث الناس على الصف الأول في الصلاة وقال خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن الله وملائكته يصلون على الصف المتقدم فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا لنبيعن دورنا ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت هذه الآية عن الربيع بن أنس فعلى هذا يكون المعنى إنا نجازي الناس على نياتهم ﴿وإن ربك هو يحشرهم﴾ معناه إن ربك يا محمد أو أيها السامع هو الذي يجمعهم يوم القيامة ويبعثهم بعد إماتتهم للمجازاة والمحاسبة ﴿إنه حكيم﴾ في أفعاله ﴿عليم﴾ بما استحق كل منهم.

النظم:

إنما اتصل قوله ﴿وإنا لنحن نحيي ونميت﴾ وما بعده بما ذكره فيما قبل من أنواع النعم فبين سبحانه أنه يرثهم كل ما خولهم من ذلك تزهيدا في الدنيا وترغيبا في الآخرة عن أبي مسلم وقيل إنه لما بين أنواع نعمه عرفهم بعد أنه لم يخلق ذلك للبقاء وإنما أنعم به عليهم ليكون طريقا إلى نعم الآخرة عن القاضي وقيل إنه لما ذكرهم نعم الدنيا نبه بالإحياء والإماتة وعلمه بجميع الأشياء وحشر الخلق على وجوب الانقطاع إليه والعبادة والطاعة له.